بين سؤال الموت ولعبة الحياة تفاصيل كثيرة، لكن السر الأساسي الذي تميز بالحضور غيابيا، هو العلاقة التي تربط بين الإثنين، والتي عادة ما يتم تصنيفها ووضعها موضع نقيضين ومتضادين، فنقول من حيث لا ندري بأن الموت نقيض الحياة والعكس صحيح. فَحْوى هذا السر هو أن الحياة لم نكن لنحس بها لولا وجود الموت، إن الحياة هي التي تقتل نفسها كي تتحول لِموتٍ ما، وإلا فلماذا نقتل الآخر كي نحيا نحن على أنقاضه؟ قد يكون هذا القتل رمزيا، مثلما يكون ماديا وهو ما يحصل في الحروب، حيث يصبح المنطق الحاكم هو : أقتل خصمك كي تضمن لنفسك استمرارا في الحياة، وهو ما يؤسس لحياة جديدة ــ كادت أن تكون موتا ــ على حساب موت الآخر، أي أن الموت تنحدر من الحياة دون أن تُناقِضها. لكن ثمة في هذا الأمر خَطبًا آخر غريبا كل الغرابة، حتى يكاد المرء لا يختلف مع نظيره بأن الإنسان كائن مجنون، أو حيوان مريض بلغة نيتشه، فحوى هذه الغرابة هو محاولة زرع الإنسان للحياة مرة أخرى داخل مجال الموت، والحال أن الإسكاتولوجيا تثبت شِقّاً مما ذكرناه الآن، حيث سنأخذ طقوس الدفن على سبيل المثال، إذ بعدما كان الميت يُرمى في البحر، وبعدما أصبح يوضع وراء النهر لأن الأرواح الشريرة لا تستطيع عبور الأنهار، أصبح الإنسان، أو قُل جسد الإنسان، يُحنّطُ بغية إدخاله الحياة، لكن الأمر الأخطر التي تتحدث عنه الإسكاتولوجيا هو أن وضع جثة الإنسان في الأرض، هو بمثابة عملية زرع البذرة كي تنبث مرة أخرى، وهذا ما كان يعتقده الإنسان قديما، إلى أن صُدِمَ أنطولوجيا عندما لم تنجح محاولته هذه في إخراج الحياة من الموت، ومن ثمة فإن موت أحدهم أصبح يعني فقدانه للأبد، لكن وبما أن الإنسان كائن مقاوم للمستحيل، فقد أنشأ لنفسه عوضا عن ذلك شيئا جديدا الغرض منه درءُ النسيان، وإضفاء طابع الخلود عن الغائب، أي حضور الغائب ليس كنسيان، بل كتذكر، وما وضع الميت في الأرض، ووضع علامة أو رمز على لَحدِهِ إلا طريقة لحضوره كغياب.
صحيح أن الطقوس تختلف من شعب لآخر، ومن معتقد لآخر أيضا، لكن الجامع المانع بين هذا الاختلاف هو محاولة تحقيق الحضور للغائب، وطريقة لرسم معنى جديد للحضور، إنه حضور المنسي بما هو غير منسي، وتذكر لهذا المنسي بما أنه حاضر بيننا كغائب، إنه تأسيس للغياب كحضور، وإدراك للنسيان كتذكر، ومن ثمة ينقلب منطق الأشياء فيستحيل الحضور غيابا والعكس صحيح، ويلبس التذكر النسيان، مثلما يرتدي النسيان ثوب التذكر...
منذ أمدٍ ليس بالقريب وإلى يومنا هذا وقف الانسان وقفة اندهاش وانبهار أمام فعل الموت، هذا وقد يتخذ عدة أوجه، بين موت يعتبره أغلب الناس طبيعيا بفعل السن، وموت تتدخل فيه أطراف أخرى باسم القانون وهو الذي يرتدي معطف الإعدام، وآخر خاضع لمنطق الحروب التي لا تُبقي ولا تَذَر، ورابع يكون طوعيا ويمثله فعل الإنتحار، إلى غير ذلك من الأوجه. عندما نتأمل لحد الساعة في هذا الفعل، نرى بأنه شيء ممقوت ومرفوض، إما باسم المجتمع، أو القانون، أو الإنسانية، أو الأديان... لكن الغريب في الأمر هو أن فعل الموت وإن كان يهدد غريزة البشر وكل الكائنات، ألا وهي غريزة البقاء، فإنه يحمل بين طياته طابعا آخر غير الذي نظنه، وهو ما يكمن مثلا في طريقة النظر للميت والموت بصفة عامة، وذلك من خلال إضفاء بعد جمالي محض، فلنتأمل الأسلحة مثلا، تُصنع بدقة كبيرة حيث يلعب فيها المظهر الخارجي دورا إشهاريا، كما أنها تخضع لمساطر دقيقة سواء في التسويق التجاري، أو في التدرب على استعمالها وهلم جرا، وكل ذلك من أجل التأسيس لقتل رسمي لا يعاقبنا عليه القانون، بل إنه يُنفَذّ باسمه وتحت يافطته وانطلاقا من بنوذه، وعليه فإن فعل القتل المرادف للموت يصبح واجبا ودَيْدَناً لا مفر من قبضته، إنه ترجمة لدواخل الإنسان التي تتأرجح بين القيام بالفعل ونقيضه، لكن مع ذلك يبقى سؤال الموت مبهما حتى على أكثر الناس عاقلية وأبلغهم معرفة، ما دمنا لم نتجرأ لحد الساعة على طرح أسئلة أكثر جرأة على سؤال الموت لأنه وبكل بساطة إعلان لنهاية التفكير وهاجس طرح السؤال، وبداية لفناء وعدم لا وراء وراءه...