الحلم والملحمة الشخصية
تمثل رواية الخيميائي لباولو كويلو1 عملا فنيا رائعا تنقل القارئ إلى عوالم يتداخل فيها الأسطوري باليومي والفلسفي بالديني والحيقيقى بالوهمي والواقعي بالمتخيل إلى درجة أن القارئ العادي تحتويه تلك العوالم وتختلط عليه الحدود الجغرافية والفواصل الحضارية وتلتبس معها الحدود الزمنية. ويرجع ذلك أساسا إلى عنصر يشكل أساس ونواة العمل عند صاحبها يتمثل في اللغة الكونية التي تخترق الكون والشخصيات ولسان حال الوجود والتي تجعل الكل واحدا ومن خلالها وعبرها يمكن للذوات أن تحقق ملحمتها الشخصية شريطة أن تعرف الذات ما تريد وان تعرف من تكون "فحيثما يوجد قلبك ثمة كنزك وحيثما كنزك تم قلبك". يمتطي سنتياغو بطل الرواية لغة الحلم حيث يحمله بعيدا ويدفع به إلى حدود المستحيل متجاوزا الحدود الجغرافية ومتوغلا في الأسطوري وسائح في أرجاء الكون اذ يتحول العالم إلى كتاب مفتوح فما عليه إلا أن يصغي وينصت للإشارات والعلامات وان يتحرر من الخوف وما من شانه أن يحول دون تحقيق حلمه وملحمته الشخصية "مادام حلم تحقيق الملحمة الشخصية يمثل الغاية القصوى لكل الذوات الإنسانية". فكل واحد منا منشغل بذلك سواء استحضره أو نسيه أو تناساه بفعل انشغالات الحياة اليومية والاكراهات الاجتماعية.
ومن حيث كنا أطفالا لانزال نحمل بداخلنا أحلاما أو ما يشكل ملحمتنا الشخصية بيد أننا لم نتعود ان ننصت لقلبنا، و نتيجة للخوف من الفشل نحيد عن الطريق ولا نستطيع فهم اللغة الكونية التي تنطقها الطبيعة والحياة. يجسد سنتياغو بطل الرواية تلك المغامرة المثيرة من اجل تجسيد ملحمته الشخصية. لقد أراد له والده في البدء ان يكون رجل دين كما تجري الأعراف في قبيلته وان يكون مصدر شرف ولكن حلمه الطفولي وقدره اختارا الترحال والسفر لذلك اعتبر الرعي فرصته للسياحة واقتفاء اثر النجوم. وبالرغم من بساطة تجربة الرعي ومحدودية افق الراعي فإنها قد تحولت عند سنتياغو إلى تجربة وجودية فريدة تعجز الكتب عن نقلها أو تفسيرها لايدركها إلا من أوتي مفاتيح اللغة الكونية ومن أوتي المقدرة على الإنصات للأشياء البسيطة والعابرة. ولعل الحلم الذي ظل يراوده والمتمثل في الظفر بكنز مدفون في عمق الأهرامات المصرية يجسد الأفق الذي ينبغي على الذات ان تنشده وتطلبه. بغض النظر عن الرمزية التاريخية والحضارية للأهرامات فان الشكل الهندسي للهرم يحيل على السمو والارتقاء والحرص على بلوغ القمة وبذل الجهد واجتياز مختلف الابتلاءات والامتحانات في سبيل تحقيق المراد. لذلك "فالكون برمته قد هب وتضافر من اجل تحقيق تلك الغاية" بالرغم من حالات التردد ولحظات اليأس التي تملكت سنتياعو في رحلته، كان يكفيه ان يحافظ على قطيعه ويتزوج ابنة التاجر أو يوقف رحلته بطنجة بعدما الم به وبعدما جمع ثروة من خلال مساعدته للزجاجي تمكنه من مضاعفة قطيعه ولكن ذلك لم يزده إلا عزيمة وحرصا على مواصلة المسير وخاصة آن النداء الباطني للحلم ما يفتآ يحتويه ويتردد صداه بدءا من العجوز وملك سالم وانتهاء بالزجاجي والانجليزي الباحث عن حجر الفلاسفة والحامل لحلم تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب وأحجار كريمة.
هكذا سيتمثل سنتياغومن كل ما عناه وعاينه ومن خلال كل المؤشرات وما صادفه في رحلته حقيقة لاينتابه الشك فيها لحظة مفادها أن الناس صنفان:
الأول يحلم ويعرف انه يحلم ويعتقد ويثق في حلمه إلى درجة يصير فيها حلمه قدرا ومكتوبا ويلقي به حلمه إلى أقاصي المستحيل ويتماهى في حلمه مع روح العالم ويصبح لسان حال الوجود وتنكشف أمامه حقائق الأشياء "قد يجعل صاحبه يتحول إلى ريح إن أراد" ويكشف"منطق الطير" مثلما هو الحال مع سنتياغو نفسه أو حال الخيميائي أو الانجليزي المغامراو قصة النبي يوسف وقدرته على اختراق الغيب وقراءة وتأويل الإشارات والعلامات. لذلك فان سعادة هذا الصنف رهينة بتفعيل ذلك الحلم والدفع به إلى حدوده القصوى.
أما الصنف الثاني فانه يحلم وقد يعرف انه يحلم إلا أن علاقته بحلمه لاتصل إلى حد التماهي وقد يجعله حلمه يحقق انجازات في حياته مثلما أن الحلم بالحج قد يدفع بصاحبه إلى جمع ثروة ولكن مع مرور الزمن يبدأ حلمه في التلاشي إلى أن يصبح مجرد لمحة أو ذكرى تستحضر عند الحاجة. وبالتالي يلف الحلم النسيان وذلك ما حصل مع الزجاجي وحلمه بالسفر لأداء فريضة الحج أو مع بائع الخبز وحلمه بالتطواف في العالم الذي أضحى طللا. لذلك فان كل من ينسى أو يتناسى ويتجاهل حلمه فان مصيره الاقتلاع والاجتثاث من العالم ويتغرب عن روح الأشياء والعالم ويشقى.
من خلال هذا الملمح يبدو جليا كيف سمح الحلم للكاتب أن يشكل معالم عالمه الفني ويخترق منطق التاريخ ملامسا أعماقه الميثية والرمزية وان تتقمص شخصياته أشكالا بطولية خارقة مستلهمة من النصوص الدينية كالإنجيل (حيث تخترق العمل نصوص حكمية واستشهادات مثل "حيثما قلبك تم كنزك" والقران(قصة النبي يوسف) أو أسطورية فلسفية كالبحث عن الخلود وإكسير الحياة،وحلم تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة وما إلى ذلك من حكايا تراثية تتداولها الحضارات والقبائل الرحالة . مثلما تنمحي الفواصل التاريخية وتتقاطع المعالم الزمنية في عالم الحلم وتفقد اللغات قواعدها وأنظمتها فانه كذلك يخترق عالم القارئ ويحمله في عوالمه ويدفعه إلى النبش في سريته وحميميته لعله يعثر على كنز مقبور وحلم منسي قد يضفي معنى ويفتح أفقا ما او قد يشكل ملاذاَ.
نخلص إلى أن عالم الحلم يخترق الوجود الإنساني وسره ولغزه ويمثل مأوى الكائنات والأشياء وافقها ويضفي عليها المعنى والحياة واصل علاقتنا بذاتنا وبالعالم ويتخذ تأصل الحلم في الوجود أبعادا وأشكالا.
الحلم والانفجار التاريخي
نحيا اليوم في عصر يشهد انفجارا وغليانا وفورانا على كافة المستويات،تدفقا رهيبا للمعلومات، وتراكما مثيرا للمقتنيات، وانفجارا مرعبا للغرائز والنزوات، وتصادما شرسا بين مختلف أشكال التمثلات والرؤى وانبعاثا مخيفا للأحلام التي راكمتها البشرية طيلة عهود. يمكن اعتبار الحلم مأوى تلك الانجازات وفضاءها وافقها اللامتناهي، لقد شكل على الدوام متكأ للبشرية ونقطة ارتكاز للانفتاح على العالم وصياغة أبجدياته وتحديد معالمه ورسم خرائطه وقد لا نحتاج الى الكثير من العناء للتدليل على ذلك يكفي الحفر في تصورات الإنسان للكون ولذاته كما تداولها الفكر الأسطوري ولعل ذلك ما دفع بنتشه إلى القول" إن اصل كل ميتافيزيقا هو كون الإنسان، في الأزمنة الأولى لحضارة لما تزل بدائية قد اعتقد انه اكتشف في الحلم عالما حقيقيا ثانيا. لولا الحلم لما وجد الناس أدنى سبب لتقسيم العالم إلى قسمين. ان انفصال الروح والجسد يرتبط هو كذلك بأقدم تصور للحلم تماما مثل فرضية صورية جسدية للروح، كما يرتبط به إجمالا اصل كل اعتقاد في الأرواح، وربما حتى اصل الإيمان بالآلهة. إن الميت يظهر للأحياء في الحلم هذا هو الاستدلال الذي ساد منذ ألفيات"2. منذ أن وجد الإنسان وما يفتأ يصوغ عوالم من الأحلام ويعيد صناعتها، يبعث أحلاما ويعدمها، يرممها ويقدسها تارة ويزيفها ويدنسها تارة، إلى درجة قد نتيه وسط عوالمها إذا ما سعينا إلى تصنيفها وتبويبها من حيث انتماءاتها الحضارية بحيث يمكن القول أن لكل مجتمع أحلامه ولكل حضارة أحلامها او تقطيعها وفق مسطحات مجالية من قبيل آن لكل مجال معرفي وتداولي أحلامه ،للقديسين والأنبياء أحلامهم ولمحترفي العلم وفرسان التقنية أحلامهم وللملوك والساسة أحلامهم وللسينمائيين ورجال الفن أحلامهم. لقد كان فيما مضى يلهم القديس بأحلامه ونبوءاته ويقلب جغرافية القفار صداه ويزلزل عرش أركان أحلام قائمة ويطيح بآلهتها ويقيم قواعد ممالك أحلام جديدة. كما تزخر المدونات السياسية بأحلام ملوك حملتهم خارج حدود المعقول والممكن وجعلتهم يتحولون إلى كائنات خالدة،كحلم الاسكندر بملك بابل وبفتح العالم، أو حلم المأمون الذي يتردد في متون الأدبيات التراثية، إذ يروي ابن النديم في الفهرست(ص 243) "إن المأمون رأى في منامه كان رجلا ابيض اللون مشربا حمرة واسع الجبهة مقرون الحاجب،اجلح الرأس،اشهل العينين،حسن الشمائل،جالس على سريره، قال المأمون: كأني بين يديه قد ملئت هيبة، فقلت من أنت؟ قال أنا أرسطو طاليس، فحزرت به وقلت: أيها الحكيم أسالك؟ قال: سل. قلت ما الحسن؟ قال ما حسن في العقل. قلت ثم ماذا ؟ قال ما حسن في العقل. قلت ثم ماذا ؟ قال ما حسن في الشرع. قلت ثم ماذا ؟ قال ما حسن عند الجمهور. قلت ثم ماذا؟ ثم لا ثم لا". ولما لا يمكن بالدفع بالحلم إلى حدوده القصوى والقول إن لكل ذات حلمها بل قد تحمل الذات الواحدة ما لانهاية من الأحلام باختلاف مقامها ووضعها وتقلباتها الحياتية، فأحلامي وأنا طفل صغير تختلف عن أحلام المراهقة وعن أحلام الشباب، الأمر الذي دفع البعض الى الحديث عن ظاهرة أفول الأحلام الجماعية المشتركة كالمفكر الأمريكي تود ايجلتون في كتابه " أفول الأحلام المشتركة" . كما يميز نتشه بين حلم الليل وحلم النهار فالأول فردي يستيقظ عليه الإنسان كل يوم بينما الثاني حلم حضاري لا تستيقظ عليه الحضارات إلا بعد قرون وآلاف السنين، ومثلما يصعب على الفرد أن يهجر أحلامه فكذلك بالنسبة للحضارة فإنها لا تتخلى عن أحلامها إلا بكيفية درامية ودموية.
والحال آن القرن الذي نعيشه يعرف انفجارا في هذا الجانب لم تشهد البشرية له نظيرا وتعجز العقول عن الإحاطة به ويمكن تلمس ذلك من خلال شذرة نتشه بالرغم من أن صاحبها لم يشهد هذا الانفجار وربما تلمسه حدسه من خلال المؤشرات الدالة، يكتب نتشه " يكتسب قرن مثل هذا القرن أهميته من كون تصورات الناس للعالم، من كون التقاليد والحضارات، يمكن أن تتم فيه مقارنتها وتجربتها جنبا إلى جنب، وهو شئ لم يكن ممكنا فيما مضى لما كان لكل حضارة طابعها المحلي بسبب ذلك الرابط الذي كان يربط أنواع الفن وأساليبها بمكان واحد وبمصر واحد. في وقتنا الراهن سيكون تكثيف الحس الجمالي من سيحسم نهائيا بين الأشكال المعروضة للمقارنة، سيدع معظمها يموت، تحديدا تلك التي سيرفضها هذا الحس. إننا نشهد اليوم كذلك اختبارا لأشكال وتقاليد الأخلاق السامية الذي هدفها هو اختفاء الأخلاقيات الدنيا. انه قرن المقارنة. ثمة فخره- لكن ثمة كذلك وبكل إنصاف، معاناته "3. حتى وان كان الحس الجمالي يمثل مطلبا ورهانا ملحا للفصل بين مختلف المنظورات فانه يظل مثالا خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الشروط الموضوعية والتحولات الكمية والكيفية التي راكمتها البشرية خلال قرنين بحيث آن الرأسمالية لم تتمكن فقط من ابتلاع الأحلام السابقة والراهنة(أحلام المسيحية وأحلام الحضارات الأخرى وأحلام محترفي العلم وممارسي الفن) والعمل على ترويضها وتدجينها وتوجيها وتوظيفها والتحكم فيها بل الأهم من ذلك هو امتلاكها المقدرة على صناعتها وفبركتها وتحويلها إلى مؤسسات تسهر على برمجتها وترويجها وتسليعها وتبضيعها وتلميعها وتزييفها وإحيائها وإفنائها لحظة ما تشاء وكيفما تشاء، فمثلا يمكن في لحظة من اللحظات صناعة الحلم السياسي والمثال السياسي والزعيم السياسي وتسويقه والدعاية له عند الحاجة ويمكن الإطاحة به لحظة انتهاء الصلاحية وقس على ذلك باقي القطاعات في الفنون والعلوم والدين وفي أنماط الحياة والسلوك. فلا غرابة إن شهد هذا العصر اضطرابات في منظومات قيمية تداولنها البشرية واندحارا واختفاء لبعضها داخل هذه اللعبة ووسط أسواق وحقول صناعة الأوهام والأحلام. وتلعب الطفرة الرقمية دورا حاسما في خلخلخة الحدود الجغرافية وفي قلب مفاهيم الزمان وفي طمس معالم الواقع وخلق عوالم افتراضية وشخصيات افتراضية وأحلاما افتراضية وسياسات افتراضية .............إلا أنها اشد واقعية من الواقع نفسه واشد حضورا وحميمية من حضور الحبيبة.
1-باولو كويلو كاتب وروائي برازيلي مشهور ولد سنة 1947بالبرازيل له اعمال عديدة وقد لقت اقبالا خاصة روايته الخيميائي والتي تمثل باكورة اعماله.
2-فردريك نتشه "انسان مفرط في انسانيته" ج2 ص 19 ترجمة محمد الناجي ، افريقيا الشرق 2002
3- نفس المرجع ص31