" يستطيع قضاة هذه الدولة أن يدينونا من أجل ما فعلنا، و لكن التاريخ الذي يجسد حقيقة أسمى سيمزق ذات يوم هذا الحكم، و يحلّنا جميعا من خطيئة لم نرتكبها."
نعم، هي الحقيقة التي تتكرر في كل مناسبة، في كل لحظة حاسمة، في كلّ عنوان مميّز، في كل عقيدة ذات مصداقية، و الأدهى في كلّ هذا أنها رغم تكررها المستمر فهي ما تزال مجهولة، غائبة عن الإدراك و التعريف، و هنا يمكن أن نطرح التالـي الذي يبدوا غريبا بعد كل ما تمّ من التنظير و البحث فيه، مـا هي الحقيقة؟
الحقيقة لم و لن تكون الحرباء التي تبدل لونها بحسب المنتمي إليه، إنها شفافة لدرجة أنها لا تخفي شيئا وراءها، و قاسية لدرجة أنها لا تترك منفذا لغيرها، و عذبة لتروي كل عطشى التفكير و البحث، لأنها الطرح و الحجة، و هي البلاغة و البرهان، إنها الصدق الكاذب، و العلم المجهول، بالإضافة إلى كلّ المنمقات الممزوجة بالصراحة و الصرامة و الاحترام المكنون لكل ما هو جدّيٌ و مرح، لدى فالحقيقة مطلوبة في كل الاتجاهات، و عند كلّ الشخصيات و الأشخاص كما المؤسسات و الأنظمة. إنها الحق و الصحيح الذي يكرهه الظالمون. فالرجل الميّت ما يزال يبحث عن حقيقة الحقائق، و التي تمثل بالنسبة إليه ذلك السنجاب الذهبي، و التائه معظم الوقت بين الأزمنة و الأماكن.
قال إمبراطور العالم عندما دخل السنجاب الذهبي إلى المكتب الإمبراطوري: "دعنا نرتاح". تحرّك الإمبراطور الظالم باتجاه المقعد المفضل لديه، قرب الموقد الموضوع بين واحدة من المجموعتيْن من الأريكات و الكراسي في المكتب ذا الأبعاد المعروفة.
جلس الإمبراطور الظالم على الكرسي المواجه للساعة حيث يجلس الزعماء و القادة عادة، و جلس السنجاب الذهبي في النهاية القريبة للأريكة الصغيرة المجاورة ذات اللون المزركش حيث يجلس الحق عندما يكون، مجرد زائر منفرد. لقد سبق و أن كان هناك عدّة مرات و عرف قواعد الجلوس المعقدة، و بعدما اجتاز كل هذا عاد تفكيره بسرعة إلى حديث له مع الإمبراطور قبل لحظات من المؤتمر الصحفي في منتصف الماضي حيث أعلن الإمبراطور تنصيبه....
نعم ربما كانت هناك كلمة "الرجل الميّت" بين التي نادت عدّة مرات "السنجاب الذهبي". و لكن السنجاب الذهبي لم يفكر شيئا حول ذلك. لم يكن يعرف في ذلك الوقت تحمّس الإمبراطور الغريب للألقاب التحببية.
لقد عرف الآن. و جلس على الأريكة... و هويته كانت: رجل عجوز في العقد الأخير من العمر يدعى الرجل الميّت. قال بصوت ينبح مهتما بالعمل فقط: " إذًا ماذا لديك؟".
كان بعد ظهر يوم المصير، الثامن و الخمسون من شهر الموت، اليوم الثامن لسلطة الإمبراطور الذي يقوم بالدعوة للاجتماعات. إنه بروتوكول تقليدي.
قد يقترح السنجاب الذهبي الحاجة للدعوة إلى اجتماع على شخص مثل الرجل الميّت أو العذراء القاتلة و الذي سيقوم بتمرير الدعوة بعد ذلك، و لكنّ الإمبراطور هو الذي يصدر الاستدعاء.
حصل الإمبراطور على مذكرة السنجاب الذهبي، و قد تصوّر هذا الأخير أنهما سيناقشانها، ثمّ سيطرحان كل ما عرض على بساط البحث. قال له العرّاب في وقت سابق إنّه ربما يكون مفيدا للإمبراطور الظالم أن يقوم بمثل هذه الاجتماعات في بداية عهدته، لكي يكون على دراية بما يجري. اختير السنجاب الذهبي كونه وزيرا ليكون الموجّه الأوّل للإمبراطور فيما يتعلق بالرهانات الزهرية، فقدّم بحثا مطوّلا استغرق ثمانية عشرة دقيقة كما اعتبره الرأي المتشكل. و قال إنهم في المراحل الأولى لركود معنويّ معتدل ظاهريا أو لهبوط واضح في النشاط الفلسفي للوقائع. كان المبدأ الأساسي هو البقاء هادئين، و مراقبة الأفكار. قال إننا إذا بدونا قلقين و تكلمنا كثيرا عن هذا الركود فذلك سيضعف العزائم، و يشجع انكماشا في النشاط الذهنيّ. فسّر السنجاب الذهبي أنّ المشكلة الكبرى لم تكن "ضياع التصريح بالحقيقة" – فهناك الكثير منها، و التي لا تستطيع أن تجد مكانا مريحا لنفسها. تكمن المشكلة في جهة الاستقبال. و أكّد للإمبراطور أنّ الحقيقة تؤيّد الكآبة لدى بعض "الباحثين المثاليين" أشار السنجاب الذهبي إلى بعض مفردات مذكرته. يجب أن تكون الأولوية لتخفيضات الأوهام الهامشية إن أمكن تحمّل نتائجها. قال إنّ خطة تخفيض التشاؤم، و مع أيّ تعديل قد تمّ اقتراحه حتى الآن، لن تؤمن حافزا يقاس في الأمد القريب، و الأمر الذي سيحدث آثارا شعورية ايجابية هو "الشعور بأنّه تمت المحافظة على الكرامة" – شيء يدعم مناطق الإحساس العادية و يبقي نسب كراهية صفات الحق الطويلة الأمد تحت المراقبة. كلّ ذلك ليستجيب لخفض الأكاذيب من المستقبل الذي يبدوا مشوّها. كانت هناك الكثير من الأسئلة التي توقع السنجاب الذهبي أن يسأله إياها الإمبراطور الظالم. و كان مستعدا للإجابة. كم كان حجم الراحة من وجهة نظر السنجاب الذهبي، و كم كان قريبا من الواقع؟ كيف يمكن تنظيم الاقتطاع الإيماني؟ ماذا عن إصلاح الحب و الرعاية العاطفية الذيْن يكسران القلوب؟ كيف سنعلم ما إذا تبدل الإحساس؟ ... لم يسأل الإمبراطور الظالم شيئا، و نظر إلى السنجاب الذهبي دون أن يغيّر تعابير وجهه. و دون أن يُظهر أي ردات فعل، ايجابية كانت أو سلبية. لهذا قرر السنجاب الذهبي الانتقال إلى موضوع ذي صلة. "التصريح بالحقائق" ، كانت هذه قضية مثيرة للجلبة – فقد تأذت الصراحة في بلاد العرب الجدد و طالبت بالحماية. قال السنجاب الذهبي: "لقد كنت واضحا خلال حملتك الانتخابية حول موقفك الداعم للنقاش الحر بشكل مثير للإعجاب – إنه الموقف الوحيد الذي يمكننا اتخاذه، و ليست هناك إمكانية لجعله خاضعا للقيود". اقترح كونه وزيرا جمع كلّ المبادئ و إنشاء نظام من العقليات و التنازلات المشتركة سيجنبنا خوض حرب القيود. لقد سبق و حاول القيام بالبعض من هذا ليحصل على نتائج جيّدة في إدراك الهناء. لم يقل الإمبراطور الظالم شيئا. لم يطرأ أيّ تغيير عن تعابيره. الموضوع التـالي... يختلف أسلوب كل إمبراطور عن الآخر بالتأكيد. و لكن كان السنجاب الذهبي يستند إلى المقارنة بشكل أساسي. الإمبراطور الكئيب، و الحالم، و المتوحش و الحاقد الذي التقى به أربع أو خمس مرات خلال فترة حكمه في جلسات طويلة لمناقشة قضايا التفكير. و في كلّ مرة كان يصل و هو على أهبة الاستعداد للنزاع و الاشتباك. سوف تحل الأمر. كان مشهورا بذلك الشيء. كان ذلك سبب استدعائك إلى المكتب الإمبراطوري. لقد التقيت بالإمبراطور الظالم لتجيب عن الأسئلة. تذكر السنجاب الذهبي: "تساءلتُ منذ البداية عما إذا كان الإمبراطور الظالم يعرف الأسئلة التي عليه أن يسألها، أم هل عرف و لم يرغب بمعرفة الإجابة؟ أو هل تتضمن إستراتيجيته عدم إظهار رأيه؟ لكن يمكنك أن تسأل أسئلة و تجمع معلومات و لا تكشف عن نياتك بالضرورة. كان ذلك غريبا". بقيت مسألة الإفصاح عن الحقيقة معلقة، و هزّ السنجاب الذهبي رأسه – فإذا كانت هذه مناجاة للنفس فمن الأفضل أن يحوّلها إلى أغنية. لقد كانا في مؤتمر الأخلاق منذ ثمانين سنة، لذا فقد بدأ: "لا يجب أن نتخلى عن أي كذبة، يعجبني هذا، و لكن الفكرة التي تجعلنا نتقدم إلى الأمام حقا – خطة يقين فعليّ – هي كذبة واحدة كل مرّة". كانت هذه فكرة اختبرها لسنين مع مملكة الأخلاق حيث نحتاج إلى تفويض مخصص يقيّم فيه المعتقد باستمرار، "كل كذبة على حدة" للمساعدة في إنشاء إستراتيجية تعلّم ذهنية ملء الفجوات و تطوير الإمكانيات العقلية. "إنها إعادة التفكير بما هو غير ممكن يا سيدي الإمبراطور. فلا شيء يفوق أهمية تعزيز إمكانياتنا البشرية كأمّة – إنّ مستقبلنا يعتمد على ذلك". غيّر الإمبراطور وضعيته في الكرسي المفضل لديه و قال: "طبعا، هذا هو مبدأ التفكيك" – و هو مصطلح يستخدمه العارفون بالأمور ليحللوا علامات التدقيق – "أنـا ملمّ بذلك". تساءل السنجاب الذهبي عما إذا كان عليه أن يشير للإمبراطور أنه يمكن قد أخطأ في استعمال المصطلح و لكنه غيّر رأيه. بدل ذلك تكلّم عن الحاجة إلى أن نقيّم بدقة كيف يتم الإفصاح عن ما هو دفين في مناطق رئيسية، و كيف نستفيد من كلّ ابتسامة و نستعملها في المساعدة عبر السنوات... ماذا كانت الأهداف من هذه التضحيات، و ما كانت النتائج. ما إن نحصل على تلك العلامة سيكون من المناسب أن نفحص ما إذا كانت مؤسسات مثل القلب و العقل تحتاج إلى إعادة تنظيم. بدا أنّ الإمبراطور أومأ بإيجاب، و لكن السنجاب الذهبي لم يكن متأكدا تماما من ذلك. عرض السنجاب الذهبي مستخدما المثال ذاته بنيةً لتقدير دور الحقيقة في الأزمات الروحية. لم يعد السنجاب الذهبي ينتظر أيّ إجابة. ناقش السبل لتطبيق "تحليل القيم" على إصلاح العواطف الداخلية للرعاية المعنوية، و هذا مجال اعتبر فيه من قبل الكثيرين واحدا من أفضل المفكرين المبدعين في النفس. ثمّ قدّم بنية تحليلية مماثلة ليقدم اقتراحا لحلّ كوارث الهيجان، و وضع دور مناسب للعقل. أخذ السنجاب الذهبي نفسا عميقا. في المكتب الإمبراطوري كانت ساعة الحائط العائدة للقرن الثامن عشر بطول ثمان أمتار و عرض متر تقريبا و المصنوعة من الخشب مواجهة لظهره. نظر بسرعة إلى الساعة، إنه يتكلم منذ مدّة تزيد عن الثمانين دقيقة. كان الموعد محددا لثماني ساعات. "حسنا سيدي الإمبراطور، لننه حديثنا بالتكلم عن تغيّر المزاج البشريّ". أرسل السنجاب الذهبي، مع مذكرته عن إستراتيجية الاقتطاع الإيماني، كتيبا أصدرته شركة الإحساس في العام الثامن و الثمانين مع نص لخطاب شامل ألقاه – تحليل كامل للقضية، ما تمّ التوصل إلى معرفته و ما يزال مجهولا، و مبادئ لتوجيه العمليات العقلية. بدا الإمبراطور أنّه يشير بإيماءة من رأسه إلى أنه قرأ ذلك. و لكن السنجاب الذهبي لم يكن واثقا مرّة أخرى. تابع السنجاب الذهبي كلامه، مضيفا آراءه الحالية عما قد يمكن أن يفعله الإمبراطور في تلك القضية – نقطة وميض للشعور الايجابي. حدد الأخطاء في اتفاقية الحقيقة المطلقة و قدم أفكارا عن طريقة تصحيحها. كلا منهما دقيقان، و انتهت المدّة. وقفا في نفس اللحظة ليتصافحا. "أحضر لي خطة عن الإقرار بالحقيقة" أومأ السنجاب الذهبي مندهشا قليلا. قال الإمبراطور ذلك مرّة ثانية: "أحضر لي الخطة" قال السنجاب الذهبي: "نعم، جيّد، سأضع الخطة.". ثمّ انسل من المكتب الإمبراطوري متسائلا عما إذا كان ذلك يعني أنّ عليه الاتصال بمديرة وكالة حماية الأخلاق، و هي الشخص المختص للتعامل مع ذلك المجال – أم ألا يتصل بها. إذا كانت الأكاذيب قد فرضت على عامة الشعب، فقد بقي لهم الخيط الرفيع الذي يقود إلى الحقيقة، ينسخ ظلامهم بمدد سخيّ من الوعي. فعلى هدي ذلك النور، سرى الشعب في ليله المظلم، محققا وجوده الحر، و من ذلك المنبع الصافي، نهل الشعب مبدأه، و هو يستجمع قواه ليرفض الظلام و يرجم الرداءة. و في مدرسة الحياة، تلقي الشعب الشحنة العاطفية، في هدي ما وعى من الحقيقة النقية، يتلوها الإنسان مصبحا و ممسي، تعلمه الحكمة، و تفرض عليه سلوك طريق الحق، أن يهبّ رافضا العبودية، و يسعى إلى سعادة البشرية الحقيقية. "...فالقانون لا يتضمن معيارا للحقيقة، و إنما يتضمن أمرا بما يجب أن تعدّ به الحقيقة".
تنظر في أعماق النفس، فلا تجد للنفس من أغوار، لها مباني شاهقة، لها ثقوب كثيرة، و لها معاني تقترب من المستحيل، تجتمع حينا، و تأخذ من الأشلاء صيغة واضحة، في كثير من الأوقات. لعبة هي، يكاد الإنسان يخسرها، و لكنها في ذاتها ملكا له، يلعبها عند ضجره من مخلفاتها، و يتركها عندما يصرّ على ذلك، لعبة الخاسر فيها يربح نفسه، ذاته و مصيره، و الـرابح فيها يُخبئها في صناديق الخزانة السوداء، لعبة أدخلت الفرح إلى قلوب البشر، لكنها أدمعت عيونهم في الوقت نفسه، فقد تبدأ بمعاني الشيطان، و تنتهي بهمسات الصالحين، بالقدر تُنعت، و بالمجهول تُسمى، لكنها طريق لا يعلم أحد اتجاهه، أو طوله، و على الرغم من كل ما يُحكى و يُعرف عنه إلاّ أنّ الجميع يسير فيه. سلام على بيان، أين يضيع اليقين، سلام أخذ من البرهان وهما حقيقيا، وُصف بالجلالة و عمّه الصدق في كلّ الأطراف بينما الاستعلاء لقنه دروس الممسك بخيوط الخلاص. عيناه تترجمان اللغة الجاهزة، بينما قلبه يحفظ الأشعار القوية الدلالة. لعنة الماضي تلاحقه، لكنها لا تعرف أثرا له، و لماذا هي في أثره تكدح. سموّ فوق سمو، تغرد كوحش أليف، يحبّ الشراسة على من هم يبجلون اللطف، إنها لم تُعرف بعد، و لكنها باقية ما بقي حيّ على هذه الصخرة الزرقاء الصغيرة. لأنّ الإنسانية هي التي تفوز دائما و أبدا.
إذا كانت الحقيقة في المجتمعات المتقدمة كيانا انفعاليا، يجد مراجعه في جدلية المصالح النفسية، نتيجة لصيرورة عاطفية و بناء معنوي، أدّت إلى إحداث القطيعة مع الماضي و اتخاذ النهج العقلاني سبيلا لإدراك المتغيرات، فإنها عندنا هي وليدة مسار عنيف من التصادم و الانشطار. الشيء الذي يُظهر الدين و العادات و التقاليد، و كأنها الإطار العام الثقافي و المجتمعي لانبعاث الأمّة، مما جعل سلطة التقليد تتدخل بصفة جذرية لصياغة الطريق العربي، إن لم نقل خلقه من جديد. في سياق إخضاع أمل الفرد العربي و إعادة صياغته ليتماشى مع الإيديولوجية العالمية في بلورة تبعية الأمم، أضفت السياسة المتبعة من النخب العربية إلى بناء سلطة جاذبة و غير قوية، بمعزل عن مؤسسات القيم و المبادئ، التي أضحت هياكل بدون مضامين. إنّ الجمود الحضاري المصاحب للممارسة عند العقلية المتخلفة، راجع إلى ملابسات تاريخية حالت دون انتقال الوعي العربي إلى الممارسة الفعلية، المبنية على الإنسانية و مؤسسة المبادئ المتغيّرة نحو الأفضل. إنّ إخفاق المشروع الحياتي العصري في مناطق العرب، يرجع إلى غياب شروط تجسيد الإنسانية الحقيقية، إنّ الأيام بيّنت بأنّ الشعوب العربية لم تعمل على بعث روح الهناءة و الحب، بالإضافة إلى القبول بالآخر على أنّه مختلف عنّا، أمّا العرب الجدد فقد استغلوا هذا الشعار للاستفادة من مشروعية منطقية قديمة. إنّ استمرار منطق المشروعية الأخلاقية المزيّفة، من شأنه أن يُبقي العيش تحت ظلال الإنسانية الحقيقية للوطن العربي في حكم المؤجل، لأنه يؤدي إلى نهاية كل صيغ الحل الحقيقي لأزمة النفسية العربية المتأزمة جوهريا.
إنّ المبادئ السامية كالحقيقة، العدالة و الحرية هي ركائز يُسعى إليها، فهي لا تظهر من تلقاء نفسها، و هذا السعي يجب أن يكون شريفا، صادقا يقترب من النزاهة كثيرا و إلاّ خاب الساعي، و هنا مصبّ الآليات العملية للحصول على المراد الأسمى. إنّ الذي يعيش عصر الانفتاح بقلب الانغلاق فاشل منذ البداية، و عليه ينكفت فشله، فالحياة لا تنتظر الخاملين، و لا تقدّر أو تعترف بالعدم، أيّ أنّ على الساعين إلى الوجودية بمعناها الجاف أن يراجعوا حسابهم القديم، خاصة عندما نجد في الألفية الجديدة الفيلسوف العربي يؤمن بهذه التي تُسمى "الوجودية" قولا و يئدها فعلا، إنها عدّة هزات ارتدادية للذهن بعد خروجه من الهزّة الرئيسية كما يراها جيولوجيو التفكير العربي الجديد، فليكن واضحا أنّ الصدق هو أوّل الانطلاقات، و على كل فرد إصلاح أناه، و إلاّ ما فائدة تجميع الفساد في بيدق واحد؟ إنّ لمن السهل نقد الآخرين، أو على الأحرى انتقادهم، و إظهار عيوبهم، لكن من الصعب جدا انتقاد النفس القريبة منك، لدى علينا أكل أنفسنا قبل أن يأتي من يأكلنا، و كم هي عسيرة بعد استبداد ذواتنا و استمرار سلطتها علينا نحن العرب الجدد. إنّ إيجاد منهج حياة ملائم في الطبيعة و العلم لمن الأمور التي تنال اهتماما رئيسيا في أيامنا هذه لأننا نعيش أكبر ثورة علمية منذ القرن السابع عشر، فالمفاهيم و المناهج المتضمنة في الطرق الفعلية لسير الدنيا قد تغيرت تغيّرا أساسيا، و معرفتنا الفلسفية بأنماط سير الوقائع و وظيفتها هي شاملة لحدّ أنّها ذات مفاهيم العقل و الإيمان، التي بنيت عليها طريقة حياتنا الراهنة بكاملها لم تعد قادرة على الصمود. فالفلسفات الوجودية بصيغها الميّتة تبدوا منقسمة على قضايا هامشية، و في النهاية على السؤال عن المنطق العربي الجديد الذي يُعتمد عليه لتقييم المناهج و المقولات. الحياة التي ترتبط بالنظام المنظم لمسارها تعتبر التركيب المنطقي للمسؤوليات هو الشيء الأساسي. فهذا هو المبدأ الذي اتخذه الناجحون من الشعوب الرائدة أساسا تُقاس عليه كلّ الأحداث، خاصة تلك المرتبطة بشكل حاسم بنتائج الإفرازات اليومية، خلال ما تكوّن من أساسات تأخذ من الثقافة الدافع و الحافز للاستمرار بالتحرك نحو الأمام إنهم "العظماء الشجعان المتواضعين الذين يعيشون بيننا أمثلة حية على أن القيادة خيار و ليست منصبا" إنهم القادة الحقيقيون للأمّة، و الذين دفعهم الظلم إلى العمل من وراء الستار، هم على عكس العادة شباب في مقتبل العمر، يدفعون بأيام قوتهم ثمنا لإنقاذ هذه الأمّة، إنفاذها من نفسها إن صح التعبير. فلم يتوقف حماسهم عن النبض، و عجلاتهم تقدم التفكير العلمي السليم سوى عقيدة "العامية" السقيمة التي سادت في عهود تكميم العقول قبل الأفواه، و التي لا تزال في نظر كثيرين عقيدة أساسية في الحياة. استمعوا أيضا إلى الفلاسفة يتكلمون عن الحياة فيما بينهم، و سيتكوّن لديكم انطباع سريع عن كون أرنست ماخ (Mach) لا تعزوه الحيلة، و هو يرد على قول وليم جيمس (James): "لكل عالم فلسفته" أي و بعد التعمّق قليلا : "لكلّ فيلسوف طريقته و نظرته إلى الحياة" بشكل أوسع، فلا مناص لتحليل عام لحالنا اليوم من النظر الدقيق في كلّ التفاصيل. و بهذا الشرط نتوصل إلى نظرية خاصة بنا سليمة فعلا و دينامكية حقا، مشبّعة بالإنسانية الفعلية.