قصة الخليقة
سجل المعلم على اللوح الأسود بالطبشور الأبيض، بعد مؤشر الزمن والتاريخ، عنوانا عريضا: الفلسفة والعلم أية علاقة؟
تردد في احد أركان الفصل صوت مألوف: الفلسفة أم العلوم يا أستاذ! استحسن المعلم الرد بحركة رأسه المعتادة، وتذكر فجأة أن جل الوصايا والتعاليم التربوية التي لقنها وتشربها تستحثه على عدم الركون لهذه المعلومة المستهلكة وان عليه أن يستفز افهام ناشئته ويشحذها ويدفعها للتفكير والمساءلة وينمي قدراتهم ومهاراتهم على التفكير السليم بدل من شحنهم وتسمينهم بالمعلومات والأفكار إلى حد الترهل.
لكي يخترق حجب الصمت ويخلف ثقوبا في فضاء الفصل أطلق عنان حنجرته: جميل إذن العلوم من صلب الفلسفة أو بلغتنا اليومية هم أبناؤها، فمن يكون الأب؟ هل يعقل أن تلد الأم (الفلسفة) العلوم بدون أب؟ ولماذا الاعتراف بالأم وحدها وبالمقابل تم نكران وطمس للأبوة؟ ألا يشكل ذلك استبطان للنزوع الاوديبي كرغبة في قتل الأب واستئصاله؟
انصبت همم الفصل إلى اختبار كل دعوى على حدا باستقصاء بنيتها الحجاجية من خلال سبر قوة وعمق الأدلة والحجج الداعمة لها أو بالقفز عليها أحيانا سخرية والنيل من هوامشها. لذلك تم اطراح الأسطورة بحجة أنها أنثى ولا يجوز زواج الأنثى بالأنثى ، إي زواج الفلسفة بالأسطورة، وحتى إن تزوجا قسرا فإنه يستبعد إنجابهما! كما تم استبعاد كل من الرياضيات والفلك بحجة أسبقية الأمومة على البنوة وإلا فان التسليم بصلاحية الفرضية سيجرفنا نحو متاهة لعبة الدجاجة والبيضة وأيهما اسبق! بقيت الفرضية الأخيرة أي الدين الأشد هشاشة والتي لا احد يراهن عليها بحكم الصراع المرير والدموي بين العلم والدين من جهة وطابع التنافر والتنازع والإقصاء الذي وسم ولازم علاقة الدين بالفلسفة من جهة ثانية. ولكن متى اعتبرت خصائص الصراع والنزاع والشد والجذب نوافي أو موانع لقيام علاقات الزوجية خاصة والعلاقات القرابية عموما.
إذا تبث ذلك فلا يستبعد حصول زواج بين الدين والفلسفة، وانه نجم عن هذا الزواج إنجاب تركيبات وطبقات من المعارف والعلوم والتي ستشكل نواة السلالة الآدمية وقصة الخليقة. ثمة سيناريوهات متصورة لهذا اللقاء المستحيل ولتلك العلاقات الشائكة بين الاقانيم الثلاث الدين – الفلسفة – العلم أرجحها:
في البدء كان الدين! يعمر الأكوان، وحده يجوب الأرض طولا وعرضا، حينما تطأ قدماه مكانا يصير مباركا ومقدسا، وإذا ما حطت أبصاره أو لمست أياديه الطاهرة شجرا أو حجرا أو طائرا لفته القداسة واستحالت رمزيته قيمة تمجيد وتعظيم من قبل باقي الكائنات الأخرى ومزارا وملاذا...ومن أشاح عنه بوجهه أو ببصره يصبح ملعونا ومنبوذا. ظل على حاله تلك قرونا يقضي النهار سائحا متدبرا والليل عابدا متنسكا غير آبه بمرور الزمن حتى بدأ الملل يتسرب إلى محرابه. وبينما هو في احد الليالي بين النوم واليقظة رأى عين اليقين مخلوقة عجيبة لم ترد مخيلته من قبل، افتتن بها، سألها من تكون؟
أجابته في غنج ودلال: صوفيا محبة الحكمة وصديقة الحكماء، منذ زمن وأنا معجبة بحكمتك، وها انذا اطلب وصالك وقربك وانسك! لم يدرك الدين سبب تردده في قبول دعوتها التي طالما انتظرها، هل خوفا من جرأتها وسلاطة لسانها؟ أم خشية من افتقاد تدينه وكشف عورته؟
بعد تردد رضخ للقدر المحتوم وتم القران بين الفلسفة والدين وباركت السموات والأرض والكائنات هذا الزواج المقدس وصلت لأجلهما . كباقي الآباء ظل الدين يمارس أبويته ويداوم طقوسه والفلسفة تنصت لنبضه وهمسه وتدرك يوما بعد يوم أسرار قداسته ومكامن قوته وضعفه من خلال اندهاشها المستمر واستفساراتها اللامنتهية. وسيتأجج صراعهما الأبدي مع مولودهما الجديد الذي أطلقت عليه الفلسفة اسم العلم مما أدى إلى انفصالهما.
شد(العلم) عن الطوق وهو لا يزال في المهد، لا حدود لفضوله الجامح،ولا سلطة تحول بينه وبين مطلوبه ولا يعرف المستحيل،ويهوى اللعب بالنار.لذلك أول ما تجند له هو الرغبة في طمس معالم وجه والده الدين من الوجود، احرق وصاياه وتعاليمه،سفه أحلامه، وما كان مقدسا ومحرما أصبح مدنسا ومبخسا، وأوغل في أعماق غريزة التقديس ينبش في تضاريسها ويكشف عن أسرارها وأوهامها ولا يزال يتعقب مكامنها. هكذا قلب منظومة قيم والده، محلا غريزة التدنيس محل غريزة التقديس، وقيمة التبخيس مقام قيمة التمجيد،ومن منظومة والدته الفلسفية احل غريزة الاستنطاق والمحاكمة مقام غريزة الاندهاش والاستقصاء، وقيمة النجوع والفعالية محل قيمة التنزه والتجردية.
أمام هذا المآل تعددت السبل بكل من الدين والفلسفة ومضى كل منهما في دروبه ولا تزال الخليقة تحت رحمة نزاعات وصراعات مساراتهما وتقاطعاتهما وتمفصلاتهما وانعراجاتهما خاصة بعدما ركب العلم قطار التقنية مخترقا فضاءات الإمكان الرقمية ومخلفا شروخا في بنيتي الكون والكائن،وحده فيلسوف فنان على شاكلة زرادشت أو من طينة الحكماء السبعة " تتردد في داخله كل أصوات الكون ويخرجها في صيغة مفاهيم، تأملي كالرسام، وشغوف مثل رجل الدين، ومترصد للنهايات والمسببات مثل رجل العلم"1 في مكنته الإمساك بنواة التيه الجاثم وبانتزاع الكينونة الضائعة.
فردريك نتشه "الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي" ص49 تعريب د سهيل القش
المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر الطبعة الثانية1983.