يحدد ماركس للفلسفة مهمة جديدة، هي تغيير العالم.و موقفه هو موقف مادية الممارسة* التي تفكر في كل الأشياء انطلاقا من النشاط الذي يبذله البشر.
ما مصدر هذا التردد الذي ينتاب البعض في اعتبار ماركس فيلسوفا بالمعنى التام للكلمة؟ لماذا لا ينظر إليه كواحد من أكبر الفلاسفة وعلى قدر كبير من الأهمية مثل أفلاطون وديكارت وسبينوزا وكانط وهيجل أو نيتشه؟ هل لأن أعماله هي في الوقت ذاته، أعمال عالم الاقتصاد وعالم الاجتماع والمؤرخ ولأنه مؤسس ومنظم الحركة العمالية؟
ينبغي أن نبحث عن أسباب ذلك، أولا في مؤلفاته ، ثم في الانتقادات التي وجهها إلى الفلسفة. وإذا كان قد انتقد الفلسفة، فهل لأنه لا يتصور نفسه كفيلسوف؟ إن المسألة تكمن في معرفة من هم الفلاسفة وأنماط الفلسفة التي انتقد؟ هل هم المثاليون؟ من المؤكد أنه يعتبر نفسه فيلسوفا ماديا...لكن الأمر ليس بهذه البساطة ؛ لنأخذ مخطوط ًالأطروحات حول فيورباخ ً، خاصة الأطروحة الشهيرة : ً لم يعمل الفلاسفة سوى على تفسير العالم ، في حين أن ما ينبغي فعله هو تغييره ً...يظهر ماركس هنا منتقدا للفلاسفة المثاليين : يؤاخذ عليهم كونهم نحتوا مفاهيم مجردة ( مثل ً الروحً عند هيجل ) واعتبروها محركا للتاريخ. أما هو فيرى، أن الفاعلين الحقيقيين هم البشر كما هم في الواقع ، برغباتهم الواقعية التي من أجل تحقيقها يشتغلون ويدخلون في علاقات تبادل متنوعة. غير أن ماركس هو أيضا ناقد للفلاسفة الماديين: فهؤلاء بدورهم، ورغم المظاهر، ذوو نزعة تجريدية كالمثاليين، لكن ليس لنفس الأسباب.إن طريقتهم في تصور الأشياء مجردة، لأنهم يتركون جانبا بعد الفاعلية activité، و لا يرون في كل مكان إلا المادة الجامدة.
و قد كان لبعض الفلاسفة المثاليين، على الأقل، أمثال كانط وفيخته وشيلنغ أو هيجل، فضل توخي التفكير في الفعالية وتناولها، سواء كانت نشاط الطبيعة أو فعالية البشر ، باعتبارهما محركين للتاريخ. وإن لم تكن لهم القدرة على التفكير في النشاط الواقعي للبشر- الإنتاج والاستهلاك والتبادل – و الذي نسبوه إلى ذات مفكرة ( ًالأنا ً عند فيخته و ً الروح ً عند هيجل )وليس إلى أفراد أحياء يشتغلون. غير أن تفكيرهؤلاء الفلاسفة في موضوع الفاعلية أفضل بكثير من نظرية الماديين السكونية fixisme . تكمن ميزة المثاليين ، حسب ماركس، في كونهم فكروا في الفاعلية وبالتالي في الممارسة، في الوقت الذي بقي فيه الماديون ( وبخاصة فيورباخ ) مستغرقين في التأمل و مانحين الأولوية للنظرية .
نرى إذن ، أن ماركس بانتقاده لسابقيه ، لا يقصي الفلسفة بما هي كذلك: إن ما يبحث عنه ، هو تنصيب موقف جديد في الفلسفة، موقف مادية الممارسة ، التي تأخذ على عاتقها التفكير في كل شيء انطلاقا من وفي علاقة بالفعالية التي يقوم بها البشر من حيث هم كائنات طبيعية واجتماعية.
هل هي قطيعة مع الفلسفة ؟
لكن، قد يعترض معترض قائلا إن ماركس اعتبر بأن الأمر يتعلق من الآن فصاعدا بتغيير العالم وليس بتفسيره: فإذا لم يكن هذا الموقف إعلانا عن قطيعة مع الفلسفة فماذا سيكون؟ هنا أيضا ينبغي أن ننظر إلى هذه المسألة عن قرب. إن ماركس لاينتقد عملية تفسير العالم في ذاتها، بل ينتقد من يكتفي بالتفسير الخالص للعالم ويجعل منه غاية في ذاته. والنتيجة التي تتمخض عن الأولوية التي يعطيها للممارسة، هي أن التفسير ينبغي أن يستهدف العمل: عملية التفسير هي بالتأكيد ضرورية، لكن، فقط كلحظة أو وسيلة تكون غايتها هي الفعل، وبعبارة أدق، هي التغيير العملي للعالم.
لهذا السبب، إذا كان ماركس يتصدى لممثلي ما يسميه ً الحزب النظري ً ، فهو يعارض أيضا وبشدة ً الحزب العملي ً الذي يريد الانتقال مباشرة إلى العمل و ً يدير ممثلوه ظهورهم للفلسفة مهمهمين اتجاهها، ببعض الجمل المتذمرة والتافهة ً. إن هؤلاء يريدون نفي الفلسفة وماركس يعارضهم بالقول إن نفيها ليس له من معنى إلا إذا كان من أجل أن نجعل منها المحرك المفكر لتغيير واقعي للمجتمع.
لكن، قد ُيعترض على هذه الاعتبارات التي سقتها، بأنها تستند على نصوص ماركس الشباب. وأن القطيعة مع الفلسفة، ربما حدثت في مرحلة متأخرة، خاصة عندما افتتح ماركس، حوالي سنة 1857، الورش النظري الذي قاد بعد عشر سنوات من هذا التاريخ ، إلى نشرالجزء الأول من كتاب الرأسمال؟ إذ حينئذ أمكنه أن يصبح عالم اقتصاد. إن عقولا عظيمة مثل ألتوسير ذهبت في هذا الاتجاه. غير أن هذا التأويل يبدو لي خاطئا : إن كتاب الرأسمال هو كتاب في الفلسفة .ما الذي يسمح لي بتأكيد ذلك؟ هناك ، أولا، مجرد القراءة البسيطة للعنوان الفرعي للكتاب؛ فماركس لا يتوخى كتابة نسق جديد للاقتصاد السياسي ، ينافس نسقي آدام سميت و ريكاردو. ولم يكتب أبدا ً اقتصادا سياسيا نقديا ً، ونصا يعلق على النصوص السابقة بغرض سد ثغراتها و تطويرها. لا، إن ما كتبه ماركس، يبينه العنوان الفرعي لكتاب الرأسمال ويسميه كما يلي : ً نقد الاقتصاد السياسي ً .والحال أن هذا المشروع، لايمكن أن يكون إلا مشروع فيلسوف.إنه يقوم لا على نقد الاقتصاد السياسي السائد، بل على نقد الاقتصاد السياسي بما هو كذلك. يسائله ويطرح عليه أسئلة الفيلسوف، وعلى رأسها سؤال الحقيقة ذاته.
يصوغ علماء الاقتصاد مفاهيم لفهم المجتمع والاقتصاد، لكنهم لا يقحمون نشاطهم النظري الخاص ضمن التقسيم الاجتماعي للعمل، وبالتالي لا يمكنهم الوعي بالوظيفة الاجتماعية ذاتها، للمفاهيم التي يبلورونها. من الأكيد أن هذه المفاهيم تقول شيئا ما عن المجتمع و الاقتصاد، وتملك بالتالي، كما قال ماركس،نوعا من الواقعية الموضوعية، غير أنها مفاهيم غير مفكر فيها، ولم يتم ربطها بالشروط الاقتصادية والاجتماعية التي سمحت لها أن تكون مفاهيم موضوعية.
المسألة النقدية
يشعر عالم الاقتصاد والاجتماع بالرضا ( وهما على صواب في ذلك) عندما ينحتان مفاهيم تمكن من الإمساك بالواقع الاقتصادي والاجتماعي. لكن الفيلسوف بصفة عامة وماركس خاصة غير راض: إنه يريد معرفة شروط الإمكان، ويطرح ما أصبح يسمى انطلاقا من كانط ، بالمسألة النقدية. لقد اعتبر أن ما جعل علم الاقتصاد السياسي ذاته ممكنا، هووجود نمط اجتماعي خاص جدا: مجتمع مؤسس على القيمة. من هنا يأتي ذلك السؤال ذو الطبيعة الفلسفية البحثة الذي يبتدئ به كتاب الرأسمال : ما الشيء الذي يمتلك قيمة؟ أي ما ًالبضاعة ً؟
*يرادف هذا الموقف ما يسمى في القاموس الماركسي بالبراكسيس . المترجم
MARX
Le Point. Hors-Serie. N : 3.
Juin – juillet 2009. pp 88– 89.