تقــديم:
يتميز درس الفلسفة من جملة ما يتميز به، بكونه يضع نفسه دائنا على دوام البداية، و هو وضع يجعل منه درسا متجددا باستمرار، تتملكه حركة دؤوبة تقوده ـ على حد قول ميرلوبونتي ـ من الجهل إلى المعرفة، و من المعرفة إلى الجهل.
درس الفلسفة درس يكشف عن اشتغال العقل في معالجته للإشكالات الفلسفية الكبرى، و في مواجهته للقضايا الشائكة التي تطرح على الإنسان في علاقته بالعالم،و الآخرين و الذات. يقودنا فعل الفلسفة إلى صلب هذه القضايا و جوهرها، واضعاً إيانا أمام الإجابات التي قدمها الفلاسفة عبر التاريخ، و على اختلاف الحقب و الثقافات. من هنا تكون العودة لنصوص الفلاسفة و كتاباتهم مناسبة بامتياز لولوج عالم الفلسفة. هذا العالم الذي اكتشفه الإغريق، و حلت به شعوب و حضارات تاركة إرثها الحضاري، علامات على انخراطها في هذا الموروث، و كأن لسان حالها يقول: « لقد مررنا من هنا ».
لا يتعلق الأمر هنا بالتفكير في قضايا سبق التفكير فيها، بل هو أبسط من ذلك، و قد يكون أعقد، بحيث طُـلب من فلاسفة الحلول محل التلاميذ، بالإجابة ضمن شروط تربوية شبيهة بتلك التي تجرى فيها الامتحانات، عن أسئلة فلسفية هي في الأصل موضوعات سبق للتلاميذ مواجهتها في امتحانات الباكالوريا. نحن إذن أمام كتابة فلسفية على نحو آخر، كتابة تقوم على مساءلة السؤال في حد ذاته، و على تفكيك عناصره، لا من أجل تقديم الإجابة الجاهزة، بل بغية تبيان حركية الفكر و كيفية اشتغاله، إنها كتابة تستمد خصوصيتها بحكم انتمائها لفضاءين متميزين، فضاء المؤسسة بحكم خصوصيته، و فضاء الفكر الفلسفي في تميزه و شساعته.
أنجز هذا العمل، مجموعة من المفكرين و الفلاسفة، من بينهم:
بيير هادو Pierre Hadot فيلسوف، أستاذ بكوليج دو فرانس، متخصص في الفلسفة اليونانية و الرومانية. يدافع عن الفلسفة بوصفها فن العيش، و نمط في الحياة. اهتم بالتجارب الروحية في الفلسفة اليونانية، من مؤلفاته مدخل لدراسة فكر مارك أوريل ( 1992 )، ما الفلسفة اليونانية؟ التجارب الروحية و الفلسفة اليونانية ( 1987 ).
جاك رونسييـر Jacques Rancière فيلسوف يدرس علم الجمال بجامعة باريس 8. شارك ألتوسير قراءة الرأسمال. تمركزت أشغاله حول الرهانات الفلسفية و السياسية للإنعتاق الثقافي، و حق الشعب في التفكير، من خلال تحليل للمكانة المتميزة التي يشغلها المثقف في المجتمع، بدء من أفلاطون وصولا لبيير بورديـو ( الفيلسوف و فقراؤه 1983 )، و التفكير في الديمقراطية و الطابع الاستثنائي للمساواة ( على حافة السياسة 1990 ).
هل الفلسفـــــــة تـرف؟
بييـــر هادو
هل الفلسفة ترف؟ يُعد كل ما هو ترف مكلفاً و عديم الجدوى. سأتطرق في عجالة لما أعتبره البعد الاقتصادي لهذا السؤال؛ أي الشروط المادية الضرورية للتفلسف في عالمنا المعاصر، و هي مسألة تفضي بنا لا محالة لتقصي المشكل الاجتماعي العام المرتبط بتفاوت فرص الشغل. إن ما سأركز عليه هنا، هو فائدة الفلسفة و جدواها. كما أن طبيعة السؤال المطروح تدفعنا فعلا لمساءلة تعريف الفلسفة، و هو مسعى يقودنا لا محالة نحو مأساة الوضع البشري.
يعتبر عامة الناس لغة الفلسفة لغة عويصة، و خطابا مجردا، فهمه و إدراكه وقف على نخبة من المختصين الذين جعلوا من قضايا الفلسفة، و أسئلتها الشائكة و المعقدة، انشغالا يزاوله البعض ممن انخرطوا في هذا النشاط إما لثروتهم، أو لضرب من ضروب الحظ السعيد.
علينا الاغتراف مبدئيا أن ترشيح تلميذ واحد لامتحانات الباكالوريا، و إدراكه مقام الكتابة الفلسفية، أمر يتطلب نفقات مالية مكلفة يتحملها أولياؤه و كل المساهمين في هذه العملية. ففي ماذا تفيده فعلا « في الحياة » كتابة تمرين إنشائي؟ و في أي شيء تنفعه مناقشة قضايا فلسفية، كالعلاقة بين الحقيقة و الذاتية، أو الضرورة و العرض، أو الشك المنهجي الديكارتي...، في عالم تهيمن عليه التقنية العلمية و الصناعية، و يُقـوّم فيه كل شيء تبعا للمردودية و الربح التجاري؟
لم تكن الفلسفة غائبة تماما عن العالم الخارجي، عن شاشات التلفزة مثلا. ذلك أن الإنسان المعاصر لا يتملكه إحساس بإدراك العالم إلا حين معاينته له على هذه الشاشات المربعة. نشاهد من حين لآخر في هذا البرنامج التلفزي أو ذاك، فلاسفة يأسرون الجمهور بفنهم في القول، نقتني على التو كتبهم، نتفحصها، لكن سرعان ما نطرحها جانبا، إذ ينتابنا إحساس بالضجر من لغة معقدة و عصية عن الفهم، و كأن الأمر يتعلق فقط بانشغالات بعض المحظوظين و ترفهم، ممن لا تأثير لهم على الاختيارات الكبرى في الحياة.
يكمن مجد الفلسفة، كما يجيب بعض الفلاسفة، في كونها ترف، و خطاب غير مفيد. لا محالة أن هذا العالم قد يخنقنا، إن وجد فيه فقط ما هو مفيد. الشعر و الموسيقى و الرسم هي أيضا أمور غير مفيدة، فهي لا تطور الإنتاج لكنها مع ذلك ضرورية للحياة، إنها تحررنا من إلحاحية النافع، و طابعه الإستعجالي. هو ذا حال الفلسفة أيضا. كان سقراط في محاورات أفلاطون يلفت انتباه محاوريه إلى أن لديهم الوقت الكافي للمناقشة و لا شيء يستعجلهم. فعلا قضايا كهذه تتطلب وقتا حرا، شأنها شأن نظم الشعر، و تركيب الموسيقى، و مزاولة الرسم.
هل بالإمكان، و الحالة هذه، تعريف الفلسفة من حيث هي خطاب نظري؟ يصعب فعلا العثور على قاسم مشترك بين مختلف الاتجاهات الفلسفية. كل ما بوسعنا قوله، إن ما هو مشترك بين البنيويين و التحليليين، كاتجاهين فلسفيين على قدر كبير من الأهمية هو بلورة خطاب تأملي حول كل ضروب الخطاب الإنساني، علميا كان أم تقنيا، أم سياسيا، أم شعريا، أم فلسفيا. و هكذا تغدو الفلسفة إذن خطابا واصفا للخطابات! لا يكتفي فقط بوصف الخطابات الإنسانية بل ينتقدها باسم ما ندعوه « مقتضيات العقل »، و إن كان مفهوم العقل هو ذاته موضوع تساؤل جل هذه الخطابات التأملية. مع ذلك لا بد من الاعتراف، أن هذا الخطاب حول الخطابات، قد شكل منذ سقراط إحدى السمات المميزة للفلسفة.
مع ذلك يتعذر فعلا الشعور بالرضى تجاه حل كهذا. إن اعتبر جل الناس الفلسفة ترفا، فلكونها تبدو لهم بعيدة كل البعد عما يشكل جوهر حياتهم، انشغالاتهم و معاناتهم، قلقهم، هاجس الموت الذي يسكنهم. يغدو الخطاب الفلسفي في نظرهم و أمام واقع الحياة المر محض كلام تافه، مبتذل وترف سخيف، « كلام في كلام في كلام» كما قال هاملت. أخيرا ما الذي بنفع الإنسان بما هو إنسان، هل الإفاضة في الكلام عن اللغة، أم عن الوجود و العدم؟ أم أن الأمر يتعلق بالأحرى بتعلم كيف ننعم بالحياة على نحو إنساني؟
تطرقنا من قبل، لخطابات سقراط بوصفها خطاب حول خطابات الآخرين، لا يتوخى منها سقراط تشييد معمار مفاهيمي أو خطاب نظري صرف، بل هي حوار ينبض بالحياة، حوار وثيق الصلة بالحياة اليومية. سقراط رجل الشارع، يحاور الجميع، يجوب الأسواق وقاعات الرياضة، و معامل الفنانين، و حوانيت التجار، يلاحظ و يناقش، و لايدعي قط امتلاك المعرفة، يتساءل فقط، و يدفع بمحاوريه لمساءلة ذواتهم، و إعادة النظر في سلوكاتهم، و البداهات التي تسكنهم.
لا يشكل الخطاب الفلسفي من هذا المنظور غاية في ذاته، لكنه في خدمة الحياة الفلسفية. قوام الفلسفة ليس هو الخطاب، بل الحياة و الفعل. اعترف الإغريق بسقراط كفيلسوف لا من خلال خطاباته، بل انطلاقا من نمط حياته، و طريقة موته. لقد ظلت الفلسفة اليونانية سقراطية بوصفها نمط حياة أكثر مما هي خطاب نظري.
ليس الفيلسوف أستاذا أو كاتبا، بل هو إنسان اختار طريقة في العيش، و نمط حياة على نحو أبيقوري أو رواقي على سبيل المثال. يلعب الخطاب من دون شك دورا رئيسيا في هذه الحياة الفلسفية، يتجلى نمط الحياة في « المعتقدات» و في رؤية العالم، و يستمر في الحضور بفضل خطاب جواني لفيلسوف يستحضر على الدوام المعتقدات الأساسية. خطاب مشدود إلى الحياة و الفعل.
هكذا ينكشف ضرب من الفلسفة يتماهى إن صح القول، مع حياة الإنسان، حياة إنسان واع بانتمائه للإنسانية و العالَم. بهذا تغدو عبارة أفلاطون الشهيرة « يعلمنا التفلسف كيف نواجه الموت» إحدى أهم تعريفات الفلسفة، بل أشدها مطابقة. تبدو عندئذ كل لحظة في استشراف الموت كحظ خارق، و غير متوقع، و سنشعر عند كل نظرة نلقيها على العالم و كأننا نراه لأول مرة، إن لم تكن آخر مرة. نحس آنذاك بالسر الخفي لانبثاق العالم. يفضي بنا الاعتراف بهذا الطابع المقدس نوعا ما للحياة و الوجود، لإدراك مسؤوليتنا تجاه الآخرين و تجاه ذواتنا. لقد وجد الإغريق في وعي من هذا القبيل، و في موقف تجاه الحياة بهذا الشكل، السكينة و طمأنينة الروح، و الحرية الجوانية، و حب الغير، و ثبات العزيمة، و لعلنا نلحظ لدى بعض فلاسفة القرن العشرين كبرجسون، و لافيل، و فوكو، على سبيل المثال لا الحصر رغبة في العودة لهذا التصور اليوناني عن الفلسفة.
فلسفة كهذه، لن تكون بأي حال من الأحوال، ترفا ما دامت مشدودة إلى الحياة، وثيقة الصلة بها، ستغدو فضلا عن ذلك حاجة أولية للإنسان. من هنا حضور البعد الكوني في بعض الفلسفات كالرواقية و الأبيقورية؛ فهي تخاطب كل الكائنات البشرية من عبيد و نساء و غرباء، تعلمهم كيف ينعموا بوصفهم بشرا بالحياة، كانت فلسفات تبشيرية، فلسفات تنشد هداية عامة الناس.
يكشف الوعي الفلسفي للإنسان العجائب الفياضة للكون، و يمده بالإدراك الثاقب و يفتحه على غنى المبادلات مع الآخرين، و يدعوه للتصرف بروية. إلا أن مشاغل الحياة اليومية، و مستلزماتها، و تفاهاتها، تحول دونه و الانخراط بكل ما لديه من إمكانيات، في هذه الحياة الواعية. ما السبيل إذن لكي نوحد على نحو منسجم بين الحياة اليومية و المسعى الفلسفي؟ لن يكون الأمر إلا مغامرة هشة مهددة عل الدوام. « كل ما هو جميل شاق، و نادر في نفس الآن » بهذه العبارة ختم سبينوزا كتاب الأخلاق.
كيف يتسنى إذن لملايين البشر ممن يعيشون تحت وطأة البؤس و الحرمان بلوغ هذا الوعي؟ أليس الفيلسوف إذن هو من يعاني هذا التوحد، و هذا الامتياز، و هذا الترف، مستحضرا في ذهنه على الدوام هذه المأساة الإنسانية؟.
هل بإمكان التمرد أن يكون حقاً ؟
جاك رونسييـر
هل بإمكان التمرد أن تكون حقا؟ إن صياغة السؤال على هذا النحو تتضمن مفهومين متعارضين. تحيل فكرة الحق، بادئ ذي بدء، على القاعدة المشتركة التي تسوغ تعايش الأفراد داخل المجتمع، نقضها يعدّ بمثابة إدانة لهذا التعايش. يتجلى التمرد كرفض لهذه القاعدة: يرفض الفرد المعيار المشترك، و تتحدى الجماعة المتمردة القانون. كيف يتسنى إذن للقانون القبول بالتمرد، بل الإقرار به، دون السقوط في التناقض، و تقويض الغاية التي جُعل لها؟ رغم ذلك فإن الحركات الاجتماعية و السياسية و القومية في العصر الحديث،عودتنا على علاقة وثيقة بين هذين المفهومين، المطالبة بالحق هي ما يحدد التمرد، و يميزه عن ضروب العنف الأخرى.
الفتن و القلاقل هي ردود فعل تجاه وضع معين، أو حدث ما؛ قد يكون الجوع مثلا، أو تدخل السلطة. اللجوء للقوة عملية مضبوطة الرهان فيها هو السلطة. لكن العنصر الأساسي في التمرد هو الكلام الذي يطالب بالحق، و يتشبث به باسم شريحة اجتماعية جُحدت في حقها هذا. هكذا تتعارض مظاهر الجوع مع تمرد عمال الحرير بمدينة ليون الفرنسية باسم شعار رفعه العمال: « بعملنا نعيش، أو في نضالنا نموت » يقيم التمرد مقابل القانون و الحق الموجودين، حقاً مبدئياً: الحق في الحياة، حقوق الإنسان، حق الشعوب في تقرير مصيرها، جاعلا منه المعيار الذي يستند له الحق و إلا اعتُبر جائراً.
هكذا يحدث التمرد انشطارا في مفهوم الحق. إنه يقابل النظام الشرعي بالنظام المشروع، سنده في ذلك الحق الطبيعي الذي يتمتع به كل إنسان، حق يصونه المجتمع، و يرعاه. وضع يفترض بطبيعة الحالـ، ضرورة الاعتراف بهذا الحق و إلا أضحى التمرد محض حدث.
عرف الإغريق فعلا تمردات عدة للعبيد، و بحكم انتماء العبد لمجال تدبير الأسرة، فقد كان المواطن اليوناني على جهل بالحق في التمرد. فرغم الصراعات التي عرفتها فئات من المواطنين، إلا أن ذلك حدث في غياب كلي لمرجعية يتم بمقتضاها الإقرار بالتمرد أو عدم الإقرار به. لكي يوجد هذا الحق لا بد من النظر للمجتمعات السياسية بوصفها مكونة من أعضاء يتمتعون بنفس الحقوق، حقوق يمتلكونها قبل أن يصيروا أعضاء هذه المجتمعات، يحتفظون دائما بإمكانية الاعتراض عليها. هل بالإمكان تصور وضعيات كهذه بمعزل عن كل مفارقة؟ هل بالإمكان الإقرار بحق طبيعي يتمتع به الأفراد على الدوام؟
لقد كشف توماس هوبز النقاب عن هذا التناقض. يتمتع كل فرد في حالة الطبيعة، حسب هوبز، بحقه الطبيعي، حق يزول بالقوة، أو بالمكر و الدهاء، وضع يضطر معه الأفراد عندئذ للتخلي عن حقهم الطبيعي، و التنازل عنه لصالح سلطة مطلقة تضمن لكل واحد منهم، بفضل القاعدة المشتركة، و قوة النفوذ،الأمن و التمتع بالثروة. إلا أن من تنازلوا عن حقهم هذا، في أفق التمتع بهذه الضمانات، لن يحق لهم المطالبة بحقوق تخلوا عنها، و بالتالي سيحرمون من المطالبة بالحق في التمرد. السلطة مشروعة ما دامت تضمن الغايات التي جُعلت لها، ألا و هي السلم و الأمان. لا يعني هذا، و في حالة عدم ضمانها لهذه الغاية، القول بمشروعية التمرد، كل ما في الأمر أن حالة الطبيعة قد أُعيد تشكيلها فعلاً..
هكذا نقيم الدليل على أن الحق في التمرد هو محض تناقض. لكن ألا نُمارس هذا الحق مقابل الإقرار بشرعية السلطة من خلال السلطة ذاتها. لقد أراد إيمانويل كانط إضفاء الطابع الأخلاقي على مبدأ هوبز. الحالة القانونية بالنسبة لكانط هي تحقق الماهية الكونية للحرية، و ليست بأي حال من الأحوال، مساومة مصالح. هكذا يكون كانط بتأويله الأخلاقي هذا، قد أضفى على التمرد طابع الاستحالة، لا يدمر التمرد المجتمع السياسي و مكتسباته فقط، بل مبدأ التعاقد في حد ذاته، و كل إقرار بالحق في العصيان هو نفض في العمق لأي تشريع جماعي. ما بوسع الأفراد القيام به بواسطة حرية التعبير، و من خلالها، هو تذكير السلطة بمبادئ التشريع. لكن ما الذي يحدث إن أجهزت السلطة على المجال الخاص بممارسة الأفراد لحريتهم، إن دفعتهم للتصرف خلافا للمبادئ الأساسية للقانون الأخلاقي، مبادئ إن هم اعترضوا عليها جحدوا حقهم بوصفهم كائنات عاقلة.
يعترف توماس هوبز بحق المحكوم عليه بالإعدام في الصمود ، متى استطاع لذلك سبيلا، في وجه دولة تحرمه فعلا من "حقه في الحياة". لكن لا يبدو أن كانط يعترف بحق الموظف، أو الضابط في عدم الامتثال لسلطة تروم تحويله لجلاد أو معذب فظ. يغدو عندئذ الحق في العصيان أكثر تدميرا من الاعتراف به، إذ يبطل في صميمه فكرة أي تشريع كوني.
ألا ينبغي و الحالة هذه، النظر للمسألة من زاوية مغايرة. يغدو عندئذ الحق في التمرد تناقضاً، و قضية باطلة. لكن ألا تتنكر فيما يبدو إرادة العقلنة هذه للطابع العقلاني المميز للسياسة عند استنادها على ما هو إنساني، متقاسم بين الجميع. أليس الحق في العصيان هو محض تنازل ضروري، لكنه شرط وجود جماعة قائمة على فكرة المساواة في الحقوق.
يعترف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و المواطن، بحق مناهضة الظلم و الاضطهاد، كحق طبيعي للإنسان، غير قابل للتقادم شأن الحرية و المِلكية. لكن ما السبيل للتعرف على الظلم، و على درجته، و التي تغدو بمقتضاه المقاومة مشروعة؟ بوسعنا القول: هناك ظلم و جور متى تصرفت السلطة ضد القانون. لكن ألا يغدو القانون في حد ذاته جائرا و ظالماً؟
لقد سبق أن صوّت نفس الأشخاص الذين صادقوا على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و المواطن سنة 1789 لصالح دستور يميز بناء على الثروة بين المواطنين " الفاعلين" و المواطنين " عبر الفاعلين". ألم يُسوغ هؤلاء بعملهم هذا لجوء المواطنين " غير الفاعلين" لضرب آخر من الاحتجاج، ألا و هو العنف في الشارع؟ يُقال بالإمكان تغيير قانون ما دون اللجوء للعنف، إلا أن قانونا يميز أصلا بين " المؤهلين" لسن القوانين و " عديمي الأهلية" هو قانون يفيد طبعا غياب أي مبرر للتغيير، الأحرار بالنسبة لواضعي القوانين التأسيسية هم المالكين، و من اضطر لبيع قوة عمله قصد ضمان عيشه، لا يملك الحرية التي ينعم بها المواطن.
كان على العمال، لتفويض مثل هذه البداهة، أن يثبتوا أكثر من مرة قدرتهم على الامتناع عن العمل، و المخاطرة بحياتهم. و هذه بالضبط دلالة شعار " نحيا بعملنا أو نموت في نضالنا ". لقد أقدم أخيرا عمال الحرير بمدينة ليون الفرنسية، الذين رفعوا هذا الشعار على إبرام اتفاق مع أصحاب المصانع تُحدد بمقتضاه أثمنة الحرير، اتفاق لم تتأخر السلطة في نقضه بدعوى " عدم شرعيته ". هكذا أثبت العمال بحملهم السلاح، أنهم أفراد أحرار جديرين بالمساهمة في النظام المدني و السياسي، ما داموا قادرين على المخاطرة بحياتهم. لقد أبان العمال، باختيارهم هذا عن وجود شعب خصه المشرع بحقوق، في الوقت الذي لا يعترف له بها.
هل كان للعمال إذن " الحــق " في التمرد؟ نقول بتعبير آخر إنهم فعّلوا المفارقة التي يتضمنها الإعلان عن حقوق الإنسان و المواطن: إذ يؤاخذون عليه، من جهة تقصيره، و عجزه عن ضمان الاعتراف الكامل بالجميع، كما استغلوا من جهة أخرى إفراطه في الاعتراف بالحق الذي أقره إعلان 1793، و اعترف به للشعب، و كل " فئة من الشعب ".
ما المقصود بفئة من الشعب، و أين يقف التقسيم؟ لا بد هنا من النظر للأمور من زاوية أخرى: إن الذين وسّعوا من مجال مفهوم الشعب، و أدمجوا فيه فئة لم تدخل بعد في الحسبان ضمن مجتمع المساواة، هم الذين أثبتوا من هو الشعب، و من هي " فئة من الشعب ".
هل يفيد هذا كون " الحق في التمرد " حق يرتد للماضي؟ يقابل فيكتور هيغو في " البؤساء " الفتنة بالعصيان: الفتنة بالنسبة إليه هي مواجهة الجزء للكل، أما العصيان فيتمثل في مواجهة الكل للجزء. لكن أليس هذا " الكل " الذي يزعم الفرد المتمرد الانتساب إليه هو شعب لم يتشكل بعد. نطلق عندئذ اسم العصيان على كل ما ينشد التقدم، و نحدد الفتنة في ما يرتد نحو الماضي، و يتشبث به. لكن ألم يؤكد المستقبل ذاته الذي يستند إليه فيكتور هيغو، صدق الحجة التي تقر بشرعية التمرد، أو تدينه بناء على انسجامه مع مسار التاريخ أو عدم انسجامه معه.
ليس بوسعنا، و الحالة هذه، التحقق من براءة التمردات التي آلت للفشل. لا يستمد التمرد مشروعيته إلا عبر الإقرار بالأهلية القانونية. و كما قالت حنة أرندت " أول الحقوق، هو الحق في أن تكون لك حقوق ". لا يكتفي التمرد بالإبانة فقط عن ظلم " ثائر " إنه إشهاد على القدرة الإنسانية لدحض هذا الظلم و الجور. أكيد أن تجربة القرن العشرين عرفتنا فعلا بأوهام التمرد. لكن الأمر يتعلق بوهم آخر، على قدر كبير من الخطورة، وهمُ مماثلة عالم معطى بأفضل العوالم الممكنة.
المصــــدر:
Réussir la philosophie au bac.
Roger- Pol Droit et Frédérique Pascal.
Préface de Paul Ricœur.
Le Monde Editions. 1994. p 257-259 et 278-283.
هل الفلسفـــــــة تـرف؟
بييـــر هادو
هل الفلسفة ترف؟ يُعد كل ما هو ترف مكلفاً و عديم الجدوى. سأتطرق في عجالة لما أعتبره البعد الاقتصادي لهذا السؤال؛ أي الشروط المادية الضرورية للتفلسف في عالمنا المعاصر، و هي مسألة تفضي بنا لا محالة لتقصي المشكل الاجتماعي العام المرتبط بتفاوت فرص الشغل. إن ما سأركز عليه هنا، هو فائدة الفلسفة و جدواها. كما أن طبيعة السؤال المطروح تدفعنا فعلا لمساءلة تعريف الفلسفة، و هو مسعى يقودنا لا محالة نحو مأساة الوضع البشري.
يعتبر عامة الناس لغة الفلسفة لغة عويصة، و خطابا مجردا، فهمه و إدراكه وقف على نخبة من المختصين الذين جعلوا من قضايا الفلسفة، و أسئلتها الشائكة و المعقدة، انشغالا يزاوله البعض ممن انخرطوا في هذا النشاط إما لثروتهم، أو لضرب من ضروب الحظ السعيد.
علينا الاغتراف مبدئيا أن ترشيح تلميذ واحد لامتحانات الباكالوريا، و إدراكه مقام الكتابة الفلسفية، أمر يتطلب نفقات مالية مكلفة يتحملها أولياؤه و كل المساهمين في هذه العملية. ففي ماذا تفيده فعلا « في الحياة » كتابة تمرين إنشائي؟ و في أي شيء تنفعه مناقشة قضايا فلسفية، كالعلاقة بين الحقيقة و الذاتية، أو الضرورة و العرض، أو الشك المنهجي الديكارتي...، في عالم تهيمن عليه التقنية العلمية و الصناعية، و يُقـوّم فيه كل شيء تبعا للمردودية و الربح التجاري؟
لم تكن الفلسفة غائبة تماما عن العالم الخارجي، عن شاشات التلفزة مثلا. ذلك أن الإنسان المعاصر لا يتملكه إحساس بإدراك العالم إلا حين معاينته له على هذه الشاشات المربعة. نشاهد من حين لآخر في هذا البرنامج التلفزي أو ذاك، فلاسفة يأسرون الجمهور بفنهم في القول، نقتني على التو كتبهم، نتفحصها، لكن سرعان ما نطرحها جانبا، إذ ينتابنا إحساس بالضجر من لغة معقدة و عصية عن الفهم، و كأن الأمر يتعلق فقط بانشغالات بعض المحظوظين و ترفهم، ممن لا تأثير لهم على الاختيارات الكبرى في الحياة.
يكمن مجد الفلسفة، كما يجيب بعض الفلاسفة، في كونها ترف، و خطاب غير مفيد. لا محالة أن هذا العالم قد يخنقنا، إن وجد فيه فقط ما هو مفيد. الشعر و الموسيقى و الرسم هي أيضا أمور غير مفيدة، فهي لا تطور الإنتاج لكنها مع ذلك ضرورية للحياة، إنها تحررنا من إلحاحية النافع، و طابعه الإستعجالي. هو ذا حال الفلسفة أيضا. كان سقراط في محاورات أفلاطون يلفت انتباه محاوريه إلى أن لديهم الوقت الكافي للمناقشة و لا شيء يستعجلهم. فعلا قضايا كهذه تتطلب وقتا حرا، شأنها شأن نظم الشعر، و تركيب الموسيقى، و مزاولة الرسم.
هل بالإمكان، و الحالة هذه، تعريف الفلسفة من حيث هي خطاب نظري؟ يصعب فعلا العثور على قاسم مشترك بين مختلف الاتجاهات الفلسفية. كل ما بوسعنا قوله، إن ما هو مشترك بين البنيويين و التحليليين، كاتجاهين فلسفيين على قدر كبير من الأهمية هو بلورة خطاب تأملي حول كل ضروب الخطاب الإنساني، علميا كان أم تقنيا، أم سياسيا، أم شعريا، أم فلسفيا. و هكذا تغدو الفلسفة إذن خطابا واصفا للخطابات! لا يكتفي فقط بوصف الخطابات الإنسانية بل ينتقدها باسم ما ندعوه « مقتضيات العقل »، و إن كان مفهوم العقل هو ذاته موضوع تساؤل جل هذه الخطابات التأملية. مع ذلك لا بد من الاعتراف، أن هذا الخطاب حول الخطابات، قد شكل منذ سقراط إحدى السمات المميزة للفلسفة.
مع ذلك يتعذر فعلا الشعور بالرضى تجاه حل كهذا. إن اعتبر جل الناس الفلسفة ترفا، فلكونها تبدو لهم بعيدة كل البعد عما يشكل جوهر حياتهم، انشغالاتهم و معاناتهم، قلقهم، هاجس الموت الذي يسكنهم. يغدو الخطاب الفلسفي في نظرهم و أمام واقع الحياة المر محض كلام تافه، مبتذل وترف سخيف، « كلام في كلام في كلام» كما قال هاملت. أخيرا ما الذي بنفع الإنسان بما هو إنسان، هل الإفاضة في الكلام عن اللغة، أم عن الوجود و العدم؟ أم أن الأمر يتعلق بالأحرى بتعلم كيف ننعم بالحياة على نحو إنساني؟
تطرقنا من قبل، لخطابات سقراط بوصفها خطاب حول خطابات الآخرين، لا يتوخى منها سقراط تشييد معمار مفاهيمي أو خطاب نظري صرف، بل هي حوار ينبض بالحياة، حوار وثيق الصلة بالحياة اليومية. سقراط رجل الشارع، يحاور الجميع، يجوب الأسواق وقاعات الرياضة، و معامل الفنانين، و حوانيت التجار، يلاحظ و يناقش، و لايدعي قط امتلاك المعرفة، يتساءل فقط، و يدفع بمحاوريه لمساءلة ذواتهم، و إعادة النظر في سلوكاتهم، و البداهات التي تسكنهم.
لا يشكل الخطاب الفلسفي من هذا المنظور غاية في ذاته، لكنه في خدمة الحياة الفلسفية. قوام الفلسفة ليس هو الخطاب، بل الحياة و الفعل. اعترف الإغريق بسقراط كفيلسوف لا من خلال خطاباته، بل انطلاقا من نمط حياته، و طريقة موته. لقد ظلت الفلسفة اليونانية سقراطية بوصفها نمط حياة أكثر مما هي خطاب نظري.
ليس الفيلسوف أستاذا أو كاتبا، بل هو إنسان اختار طريقة في العيش، و نمط حياة على نحو أبيقوري أو رواقي على سبيل المثال. يلعب الخطاب من دون شك دورا رئيسيا في هذه الحياة الفلسفية، يتجلى نمط الحياة في « المعتقدات» و في رؤية العالم، و يستمر في الحضور بفضل خطاب جواني لفيلسوف يستحضر على الدوام المعتقدات الأساسية. خطاب مشدود إلى الحياة و الفعل.
هكذا ينكشف ضرب من الفلسفة يتماهى إن صح القول، مع حياة الإنسان، حياة إنسان واع بانتمائه للإنسانية و العالَم. بهذا تغدو عبارة أفلاطون الشهيرة « يعلمنا التفلسف كيف نواجه الموت» إحدى أهم تعريفات الفلسفة، بل أشدها مطابقة. تبدو عندئذ كل لحظة في استشراف الموت كحظ خارق، و غير متوقع، و سنشعر عند كل نظرة نلقيها على العالم و كأننا نراه لأول مرة، إن لم تكن آخر مرة. نحس آنذاك بالسر الخفي لانبثاق العالم. يفضي بنا الاعتراف بهذا الطابع المقدس نوعا ما للحياة و الوجود، لإدراك مسؤوليتنا تجاه الآخرين و تجاه ذواتنا. لقد وجد الإغريق في وعي من هذا القبيل، و في موقف تجاه الحياة بهذا الشكل، السكينة و طمأنينة الروح، و الحرية الجوانية، و حب الغير، و ثبات العزيمة، و لعلنا نلحظ لدى بعض فلاسفة القرن العشرين كبرجسون، و لافيل، و فوكو، على سبيل المثال لا الحصر رغبة في العودة لهذا التصور اليوناني عن الفلسفة.
فلسفة كهذه، لن تكون بأي حال من الأحوال، ترفا ما دامت مشدودة إلى الحياة، وثيقة الصلة بها، ستغدو فضلا عن ذلك حاجة أولية للإنسان. من هنا حضور البعد الكوني في بعض الفلسفات كالرواقية و الأبيقورية؛ فهي تخاطب كل الكائنات البشرية من عبيد و نساء و غرباء، تعلمهم كيف ينعموا بوصفهم بشرا بالحياة، كانت فلسفات تبشيرية، فلسفات تنشد هداية عامة الناس.
يكشف الوعي الفلسفي للإنسان العجائب الفياضة للكون، و يمده بالإدراك الثاقب و يفتحه على غنى المبادلات مع الآخرين، و يدعوه للتصرف بروية. إلا أن مشاغل الحياة اليومية، و مستلزماتها، و تفاهاتها، تحول دونه و الانخراط بكل ما لديه من إمكانيات، في هذه الحياة الواعية. ما السبيل إذن لكي نوحد على نحو منسجم بين الحياة اليومية و المسعى الفلسفي؟ لن يكون الأمر إلا مغامرة هشة مهددة عل الدوام. « كل ما هو جميل شاق، و نادر في نفس الآن » بهذه العبارة ختم سبينوزا كتاب الأخلاق.
كيف يتسنى إذن لملايين البشر ممن يعيشون تحت وطأة البؤس و الحرمان بلوغ هذا الوعي؟ أليس الفيلسوف إذن هو من يعاني هذا التوحد، و هذا الامتياز، و هذا الترف، مستحضرا في ذهنه على الدوام هذه المأساة الإنسانية؟.
هل بإمكان التمرد أن يكون حقاً ؟
جاك رونسييـر
هل بإمكان التمرد أن تكون حقا؟ إن صياغة السؤال على هذا النحو تتضمن مفهومين متعارضين. تحيل فكرة الحق، بادئ ذي بدء، على القاعدة المشتركة التي تسوغ تعايش الأفراد داخل المجتمع، نقضها يعدّ بمثابة إدانة لهذا التعايش. يتجلى التمرد كرفض لهذه القاعدة: يرفض الفرد المعيار المشترك، و تتحدى الجماعة المتمردة القانون. كيف يتسنى إذن للقانون القبول بالتمرد، بل الإقرار به، دون السقوط في التناقض، و تقويض الغاية التي جُعل لها؟ رغم ذلك فإن الحركات الاجتماعية و السياسية و القومية في العصر الحديث،عودتنا على علاقة وثيقة بين هذين المفهومين، المطالبة بالحق هي ما يحدد التمرد، و يميزه عن ضروب العنف الأخرى.
الفتن و القلاقل هي ردود فعل تجاه وضع معين، أو حدث ما؛ قد يكون الجوع مثلا، أو تدخل السلطة. اللجوء للقوة عملية مضبوطة الرهان فيها هو السلطة. لكن العنصر الأساسي في التمرد هو الكلام الذي يطالب بالحق، و يتشبث به باسم شريحة اجتماعية جُحدت في حقها هذا. هكذا تتعارض مظاهر الجوع مع تمرد عمال الحرير بمدينة ليون الفرنسية باسم شعار رفعه العمال: « بعملنا نعيش، أو في نضالنا نموت » يقيم التمرد مقابل القانون و الحق الموجودين، حقاً مبدئياً: الحق في الحياة، حقوق الإنسان، حق الشعوب في تقرير مصيرها، جاعلا منه المعيار الذي يستند له الحق و إلا اعتُبر جائراً.
هكذا يحدث التمرد انشطارا في مفهوم الحق. إنه يقابل النظام الشرعي بالنظام المشروع، سنده في ذلك الحق الطبيعي الذي يتمتع به كل إنسان، حق يصونه المجتمع، و يرعاه. وضع يفترض بطبيعة الحالـ، ضرورة الاعتراف بهذا الحق و إلا أضحى التمرد محض حدث.
عرف الإغريق فعلا تمردات عدة للعبيد، و بحكم انتماء العبد لمجال تدبير الأسرة، فقد كان المواطن اليوناني على جهل بالحق في التمرد. فرغم الصراعات التي عرفتها فئات من المواطنين، إلا أن ذلك حدث في غياب كلي لمرجعية يتم بمقتضاها الإقرار بالتمرد أو عدم الإقرار به. لكي يوجد هذا الحق لا بد من النظر للمجتمعات السياسية بوصفها مكونة من أعضاء يتمتعون بنفس الحقوق، حقوق يمتلكونها قبل أن يصيروا أعضاء هذه المجتمعات، يحتفظون دائما بإمكانية الاعتراض عليها. هل بالإمكان تصور وضعيات كهذه بمعزل عن كل مفارقة؟ هل بالإمكان الإقرار بحق طبيعي يتمتع به الأفراد على الدوام؟
لقد كشف توماس هوبز النقاب عن هذا التناقض. يتمتع كل فرد في حالة الطبيعة، حسب هوبز، بحقه الطبيعي، حق يزول بالقوة، أو بالمكر و الدهاء، وضع يضطر معه الأفراد عندئذ للتخلي عن حقهم الطبيعي، و التنازل عنه لصالح سلطة مطلقة تضمن لكل واحد منهم، بفضل القاعدة المشتركة، و قوة النفوذ،الأمن و التمتع بالثروة. إلا أن من تنازلوا عن حقهم هذا، في أفق التمتع بهذه الضمانات، لن يحق لهم المطالبة بحقوق تخلوا عنها، و بالتالي سيحرمون من المطالبة بالحق في التمرد. السلطة مشروعة ما دامت تضمن الغايات التي جُعلت لها، ألا و هي السلم و الأمان. لا يعني هذا، و في حالة عدم ضمانها لهذه الغاية، القول بمشروعية التمرد، كل ما في الأمر أن حالة الطبيعة قد أُعيد تشكيلها فعلاً..
هكذا نقيم الدليل على أن الحق في التمرد هو محض تناقض. لكن ألا نُمارس هذا الحق مقابل الإقرار بشرعية السلطة من خلال السلطة ذاتها. لقد أراد إيمانويل كانط إضفاء الطابع الأخلاقي على مبدأ هوبز. الحالة القانونية بالنسبة لكانط هي تحقق الماهية الكونية للحرية، و ليست بأي حال من الأحوال، مساومة مصالح. هكذا يكون كانط بتأويله الأخلاقي هذا، قد أضفى على التمرد طابع الاستحالة، لا يدمر التمرد المجتمع السياسي و مكتسباته فقط، بل مبدأ التعاقد في حد ذاته، و كل إقرار بالحق في العصيان هو نفض في العمق لأي تشريع جماعي. ما بوسع الأفراد القيام به بواسطة حرية التعبير، و من خلالها، هو تذكير السلطة بمبادئ التشريع. لكن ما الذي يحدث إن أجهزت السلطة على المجال الخاص بممارسة الأفراد لحريتهم، إن دفعتهم للتصرف خلافا للمبادئ الأساسية للقانون الأخلاقي، مبادئ إن هم اعترضوا عليها جحدوا حقهم بوصفهم كائنات عاقلة.
يعترف توماس هوبز بحق المحكوم عليه بالإعدام في الصمود ، متى استطاع لذلك سبيلا، في وجه دولة تحرمه فعلا من "حقه في الحياة". لكن لا يبدو أن كانط يعترف بحق الموظف، أو الضابط في عدم الامتثال لسلطة تروم تحويله لجلاد أو معذب فظ. يغدو عندئذ الحق في العصيان أكثر تدميرا من الاعتراف به، إذ يبطل في صميمه فكرة أي تشريع كوني.
ألا ينبغي و الحالة هذه، النظر للمسألة من زاوية مغايرة. يغدو عندئذ الحق في التمرد تناقضاً، و قضية باطلة. لكن ألا تتنكر فيما يبدو إرادة العقلنة هذه للطابع العقلاني المميز للسياسة عند استنادها على ما هو إنساني، متقاسم بين الجميع. أليس الحق في العصيان هو محض تنازل ضروري، لكنه شرط وجود جماعة قائمة على فكرة المساواة في الحقوق.
يعترف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و المواطن، بحق مناهضة الظلم و الاضطهاد، كحق طبيعي للإنسان، غير قابل للتقادم شأن الحرية و المِلكية. لكن ما السبيل للتعرف على الظلم، و على درجته، و التي تغدو بمقتضاه المقاومة مشروعة؟ بوسعنا القول: هناك ظلم و جور متى تصرفت السلطة ضد القانون. لكن ألا يغدو القانون في حد ذاته جائرا و ظالماً؟
لقد سبق أن صوّت نفس الأشخاص الذين صادقوا على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و المواطن سنة 1789 لصالح دستور يميز بناء على الثروة بين المواطنين " الفاعلين" و المواطنين " عبر الفاعلين". ألم يُسوغ هؤلاء بعملهم هذا لجوء المواطنين " غير الفاعلين" لضرب آخر من الاحتجاج، ألا و هو العنف في الشارع؟ يُقال بالإمكان تغيير قانون ما دون اللجوء للعنف، إلا أن قانونا يميز أصلا بين " المؤهلين" لسن القوانين و " عديمي الأهلية" هو قانون يفيد طبعا غياب أي مبرر للتغيير، الأحرار بالنسبة لواضعي القوانين التأسيسية هم المالكين، و من اضطر لبيع قوة عمله قصد ضمان عيشه، لا يملك الحرية التي ينعم بها المواطن.
كان على العمال، لتفويض مثل هذه البداهة، أن يثبتوا أكثر من مرة قدرتهم على الامتناع عن العمل، و المخاطرة بحياتهم. و هذه بالضبط دلالة شعار " نحيا بعملنا أو نموت في نضالنا ". لقد أقدم أخيرا عمال الحرير بمدينة ليون الفرنسية، الذين رفعوا هذا الشعار على إبرام اتفاق مع أصحاب المصانع تُحدد بمقتضاه أثمنة الحرير، اتفاق لم تتأخر السلطة في نقضه بدعوى " عدم شرعيته ". هكذا أثبت العمال بحملهم السلاح، أنهم أفراد أحرار جديرين بالمساهمة في النظام المدني و السياسي، ما داموا قادرين على المخاطرة بحياتهم. لقد أبان العمال، باختيارهم هذا عن وجود شعب خصه المشرع بحقوق، في الوقت الذي لا يعترف له بها.
هل كان للعمال إذن " الحــق " في التمرد؟ نقول بتعبير آخر إنهم فعّلوا المفارقة التي يتضمنها الإعلان عن حقوق الإنسان و المواطن: إذ يؤاخذون عليه، من جهة تقصيره، و عجزه عن ضمان الاعتراف الكامل بالجميع، كما استغلوا من جهة أخرى إفراطه في الاعتراف بالحق الذي أقره إعلان 1793، و اعترف به للشعب، و كل " فئة من الشعب ".
ما المقصود بفئة من الشعب، و أين يقف التقسيم؟ لا بد هنا من النظر للأمور من زاوية أخرى: إن الذين وسّعوا من مجال مفهوم الشعب، و أدمجوا فيه فئة لم تدخل بعد في الحسبان ضمن مجتمع المساواة، هم الذين أثبتوا من هو الشعب، و من هي " فئة من الشعب ".
هل يفيد هذا كون " الحق في التمرد " حق يرتد للماضي؟ يقابل فيكتور هيغو في " البؤساء " الفتنة بالعصيان: الفتنة بالنسبة إليه هي مواجهة الجزء للكل، أما العصيان فيتمثل في مواجهة الكل للجزء. لكن أليس هذا " الكل " الذي يزعم الفرد المتمرد الانتساب إليه هو شعب لم يتشكل بعد. نطلق عندئذ اسم العصيان على كل ما ينشد التقدم، و نحدد الفتنة في ما يرتد نحو الماضي، و يتشبث به. لكن ألم يؤكد المستقبل ذاته الذي يستند إليه فيكتور هيغو، صدق الحجة التي تقر بشرعية التمرد، أو تدينه بناء على انسجامه مع مسار التاريخ أو عدم انسجامه معه.
ليس بوسعنا، و الحالة هذه، التحقق من براءة التمردات التي آلت للفشل. لا يستمد التمرد مشروعيته إلا عبر الإقرار بالأهلية القانونية. و كما قالت حنة أرندت " أول الحقوق، هو الحق في أن تكون لك حقوق ". لا يكتفي التمرد بالإبانة فقط عن ظلم " ثائر " إنه إشهاد على القدرة الإنسانية لدحض هذا الظلم و الجور. أكيد أن تجربة القرن العشرين عرفتنا فعلا بأوهام التمرد. لكن الأمر يتعلق بوهم آخر، على قدر كبير من الخطورة، وهمُ مماثلة عالم معطى بأفضل العوالم الممكنة.
المصــــدر:
Réussir la philosophie au bac.
Roger- Pol Droit et Frédérique Pascal.
Préface de Paul Ricœur.
Le Monde Editions. 1994. p 257-259 et 278-283.