1 - الفلسفة والمنطق والشريعة؛ أيّة علاقة؟
’’ قُلِ انْظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‘‘. (يونس، 101).
يَبدأ ابن رشد كتابه " فصل المـقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال "[1] بتعريف فعل الفلسفة بأنه النّــظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصــانع، والاعتبار ليس سوى استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، وهو نفسُه القياس. وهذا الفعل هو عينُه ما دعا إليه الشرع، حيث يسوق ابن رشد آياتٍ من القرآن تؤكّد ذلك مثل ’’ فاعتبروا يا أولي الأبصار‘‘، ’’ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رُفعت‘‘... وكلها آيات تؤكد على ضرورة النظر العقلي في الموجودات، الذّي هو أتمّ أنواع النظر/القياس أي البُرهــــــان. هكذا تغدو إمكانية معرفة الله مشروطة بمعرفة البرهان، ولا يمكن معرفة البرهان إلا بالرجوع إلى أنواعه وشروطه التي لا يمكن معرفتها وضبطُها إلا بالرجوع إلى المقدمات من مقولات وعبارات، فكأن ابن رشد هنا يُشرعن المنطق بمعنى أو بآخر. وهو أيضاً، في إطار تدعيم قوله، يقابل بين مجال الفقيه ومجال العارف/ الفيلسوف، فكما يستنبطُ الفقيه المقاييس الفقهية وجب على العارف أن يستنبط المقاييس العقلية، وكلها قياسات أُحدِثَت بعد الصّدر الأول من الإسلام فلا أفضلية لأحدهما على الآخر. وبما أنه لا يمكن لفردٍ واحدٍ إدراكُ كل العلوم فوجب أن يستعين المتأخّر بالمتقدّم، أي أنّــه لمعرفة البرهان يجب العودة للمتقدّمين قبل ملة الإسلام وهم اليونان.’’
فبينٌ أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحنُ بسبيله بما قالهُ من تقدمنا في ذلك، وسواء كان ذلك الغير مشاركاً لنا أو غير مشارك في الملّة‘‘[2]. فيجب على العارف أن يضرب بيديه إلى كتبهم ويفحصها ثم يقبل الصواب ويشكُرهم عليه وينبّه على الخطأ ويعذرهم. وهذه هي الطريقة الوحيدة لإتقان الصناعة، صناعة البرهان، لمعرفة المصنــوع ومن ثم معرفة الصــانـــع. وهذا المنهج، منهج رجوع المتأخر إلى المتقدم، ليس في الفلسفة فقط بل في كل مجالات المعرفة، فالفقه مثلاً لا يمكن لفردٍ واحد أن يلم بأصوله كلها بمختلف المذاهب منذ البداية حتى الاكتمال، ولو ادّعــى ذلك لضُحك منه. ’’ فإنه ليس منها صناعةٌ يقدرُ أن يُنشئها واحدٌ بعينه، فكيف بصناعة الصنائع، وهي الحكمة‘‘[3].
هكذا يكون ابن رشد قد بيّن أن النظر في كتب القدماء/ اليونان واجبٌ بالشرع، وأن من صدّ الناس عن ذلك فقد صدّهم عن الباب الذّي دعا منه الشرع إلى معرفة الله. لكن هل الكلُّ مؤهلٌ للنظر في هذه الكتب؟ يجيب ابن رشد أن شروط النّظر اثنان وهما: ذكــاءُ الفطرة، والعدالة الشرعية والفضيلة الخُلقية. وقد يَعترضُ أحدهم، أحد الفقهاء أو رجال الدّين، عن هذا النظر في كتب القدماء بأن عدداً من المسلمين نظروا في هذه الكتب فأغوَتهُم وضَلُّـواْ السبيل. لهذا يشرح أبو الوليد هذا الاعتراض ويُـبــيّــن تهافته. فيوضّح أولا الأسباب التي قد تقود بالناظر إلى الزّلــل، فإما أن يكون ناقص الفطرة أو أن نظرُه فيها غير مُمنهجٍ وغير مرتّب أو أن شهواته غَلبت عليه أو أنه لم يجد معلّماً يُرشدهُ إلى فهم ما فيها، أو اجتماع هذه الأسباب جلّها أو كلّها. ثم يوضّح أن الضرر الذّي قد تحمله هذه الكتب هو بالعرض لا بالذات، فهو مثل قوله صلى الله عليه وسلّم: ’’ صدق الله كذب بطنُ أخيك‘‘[4]، للذّي أمره أن يسقي العسل أخاه لإسهالٍ كان فيه، فتزيّد الإسهال به لما سقاه العسل وشكا ذلك إليه. وهو مثل منعِ أحدهم من الشرب حتى مات لأن غيره شرب منه فمات، فالموتُ بالشرب أمرٌ عارض لا ذاتــيّ. هذان حديثٌ نبوي ومثالٌ واقعي يسوقهما ابن رشد موضحاً ومدافعاً عن موقفه، فما أفضل ما ساق في ذلك. وما عرض هنا يعرض لجميع الصناعات، من بينها الفلسفة، لهذا لا يجب إدانة تلك الكتب لأن شخصاً ما نظر إليها وضلّ، فالترافق لا يعني السببية. هكذا يؤكّد ابن رشد، وبشكلٍ واضح للكل، إلا من كان في قلبه مرض، أنه لا تعارض بين ما يدعو إليه الشرع وبين ما يؤدّي إليه النظر البرهاني، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يُوافقه ويشهدُ له. والنظر البرهاني لا يخرج على أن يؤدي إما إلى ما سكت عنه الشرع أو ما عرّف به، ’’ فإن كان مما سكت عنه، فلا تعارض هناك، وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي‘‘[5]. أما إن كان مما عرف به الشرع فإما أن يوافق ظاهره أو يخالفه، فإن وافقه فلا حرج هناك، أما إذا خالفه فيجب تأويله.
2 - الشريــعــةُ بين الظـــــاهرِ والبـــــــــاطن:
’’ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاس وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ‘‘. (العنكبوت، 43)
قلنا سابقا أن ابن رشد، يؤكد أنه إذا تعارض ظاهر الشريعة مع البرهان فإنه يجب تأويله. ومعنى التأويل، كما يعرفه أبو الوليد، هو’’ إخراجُ اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غيرِ أن يُخلّ في ذلك بعادة لسان العرب في التجوّز من تسمية الشيء بشبيهه، أو سببه أو لاحقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عُدّدت في تعريف أصناف الكلام المجازي‘‘[6]. والفقيهُ نفسه يفعل هذا مع كثير من الأحكام الشرعية، لكن قياس الفقيه ظني أما قياس العارف فـيقينــيّ نظرا لمعرفته بالبرهان أتمّ الأقيسة. لكن المشكلة التي تعترض ابن رشد هنا أن المسلمين اختلفوا في المؤوّل من الشريعة من غير المؤوّل منها، فمثلا، وكما يورد أبو الوليد، الأشعرية يأوّلون آية الاستواء على العرش وحديث نزول الله إلى السماء الدّنيا، أما الحنابلة فتحمل ذلك على ظاهره ولا حرج في ذلك عندهم، إذ هكذا يتصوّرون إلههم. ولما كانت فطر وطبائع الناس تختلفُ في التصديق جاء الشرع، حسب ابن رشد، ظاهراً وباطناً، والظواهر المتعارضة فيه ليست إلا لتنبيه الراسخين في العلم على التأويل الذّي يرفعُ التعارض. يسوق ابن رشد هذه الآية ليستدل على كلامه ’’ هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ‘‘ إلى قوله ’’ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا‘‘[7]. والإيمان هنا هو الذّي يكون من قبل البرهان، وهذا، حسب أبي الوليد، لا يكون إلا مع العلم بالتأويل الذّي يُــظهِرُ الحقيقة، حقيقة الشرع. يتساءل ابن رشد على لسان المعترضين؛ هل يجوزُ أن يؤدّي البرهان إلى تأويل ما أجمع المسلمون على ظاهره، أو ظاهرِ ما أجمع المسلمون على تأويله؟ ويقول إنه إذا تبث الإجماعُ بطريق يقيني فلا يجوز ذلك، لكن مادام الإجماع لا يتقرّر، بل يستحيل، في النظريات بطريق يقيني على عكس العمليات، فإنه يجوز ذلك، خاصة أن كثيراً من الصّدر الأول من الإسلام قد نُقل عنهم أنهم كانوا يرون أن للشرع ظاهراً وباطناً، وأنه ليس يجب أن يَعلمَ بالباطن من ليس من أهل العلم به ولا يقدرُ على فهمه، فقد روى الإمام البخاري عن علي، رضي الله عنه، أنه قال:’’ حدِّثُو ا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذِب الله ورسوله؟ ‘‘. وأيضا مثلما رُوي عن بعضِ السلف، فهذا الإمام جعفر الصادق، حتى وإن كان كلامُه، ربّما، بعيداً عن مقصد ابن رشد، نجدُه يقول وبشكل واضح:’’ إن في كتاب الله أُموراً أربعة: العبارات والإشارات واللطائف والحقائق. فالعبارات (ظاهر النص) للعوام، والإشارات للخواص، واللطائف (المعاني المستورة) للأولياء، والحقائق (العقائد الروحية) لأنبياء الله‘‘[8]. وبما أن طبائع الناس مختلفة، كما قلنا من قبل، فمنهم من هو من ليس من أهل التأويل وهم الخطابيون أي عامة الناس ومنهم أهل التأويل الجدلي، ولهؤلاء ضرب الله الأمثال والتشبيهات ودعاهم إلى التصديق بها، وهي ظاهر الأشياء الخفية، أما باطنها فلا يعلمه إلا الراسخون في العلم أصحاب البرهان. بل وأكثر من ذلك، يؤكد ابن رشد أن الصنف الأول حرامٌ عليه التأويل وهو في حقه كفر، لأنه يؤدي إلى الكفر، وحتى من أفشى التأويل إلى عامة الناس تلزمه صفة الكفر، فالداعي إلى الكفر كافر. وهذا لا يفيد لا الشرع ولا الحكمة. من هنا نشأت فرق الإسلام حتى كفّر بعضهم بعضاً وبدَع بعضهم بعضاَ، فمثلاً أولت المعتزلة الكثير من الآيات والأحاديث وأخبروا العامة بتأويلهم، فأوقعوا الناس في شنآنٍ وتباغضٍ وحروبٍ. ناهيكَ عن أن تأويلاتهم، حسب ابن رشد، لم يكونوا فيها لا مع العامة ولا مع الخاصة أصحاب البرهان، الشيء الذّي زاد الطين بلّة. وإخبارُ العامة بالتأويل كان من مآخذ أبي الوليد على حجة الإسلام أبو حامد الغزالي الذّي أورد هذه الأمور في غير كتب البرهان، حتى وإن قصد خيراً وأراد أن يكثُر أهل العلم، لكن للأسف انقلب السحر على الساحر وكثر بذلك الفساد بدون كثرة أهل العلم. في هذا السياق، نسوق أبياتاً عميقةً وجميلة منسوبة للإمام الرابع زين العابدين، يؤكد فيها على ضرورة كتمان جوهر/باطن العلم حفظاً لنفسه وللعامة، حيثُ يقول فيها: [9]
إني لأَكتُــــــمُ مـــن علمــــــــي جـــواهــــــــرهُ
كي لا يرى الحــق ذو جهلٍ فَــيَـــــــــفْتَـــــتِـــــنـــــاَ
وقــــد تقـــــدّم في ذلـــك أبو حــــــــســنٍ
إلى الحُسيـــنِ وأوصـــى قبلـــــهُ الحـــســـــــــــنــــــاَ
فـــــــــــرُبَّ جوهــــرِ علمٍ لو أبــــــــــــوحُ بـــــــه
لقيــــل لـــي أنــت مــمّـــن يــــعبــــدُ الـــوثَــــــــــنــــــــــــاَ
ولاستــــحــــلَّ رجـــــالٌ مسلمون دمــــي
يـــــــروْنَ أقـــبـــحَ ما يأتـــــــونـــــــه حــــــســـــــــــنـــــــــــــــاَ
أما ابن رشد فإنه يتطرق إلى هذه الأمور هنا فقط لشهرتها عند الناس ’’ ولولا شهرة ذلك عند الناس، وشُهرة هذه المسائل التي ذكرناها، لما استخرنا أن نكتب في ذلك حرفاً، ولا أن نعتذر في ذلك لأهل التأويل بعذر، لأن شأن هذه المسائل أن تُذكر في كتب البرهان‘‘[10]. ويضيفُ أبو الوليد في نفس السياق، سياق الظاهر والباطن من الشريعة، وبلغةٍ منطقيةٍ، أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق والعمل الحق، والتعليم صنفين: التصور والتصديق، كما بيّن ذلك أهل المنطق، وبما أن طرق التصديق ثلاثة: برهانية، وهي لأقل الناس، وجدلية وخطابية، وهي للعامة. وقد قصد الشرع العناية بأكثر الناس من غير إغفال تنبيه الخواص، لهذا كانت أكثر الطرق المصرّح بها في الشريعة هي الطرق المشتركة للأكثر في وقوع التصور والتصديق، وهذه الطرق في الشريعة، كما يذكرها ابن رشد، هي على أربعة أصناف: الأول أن تكون في التصور والتصديق يقينية، أي أن تكون المقدمات يقينية، أو يعرض لها أن تكون يقينية حتى وإن كانت من المشهور، والنتائج هي نفسها وليست مثالاتها. وهذا الصنف ليس له تأويل والجاحدُ له كافر. الثاني أن تكون المقدمات، رغم كونها مشهورة، يقينية. وتكون النتائج مثالات للأمور التي قصد إنتاجها. والتأويل هنا يتطرق إلى النتائج. الثالث هو أن تكون النتائج هي الأمور التي قصد إنتاجها، وتكون المقدمات غير يقينية. وقد يتطرق التأويل هنا إلى المقدمات. الرابع أن تكون المقدمات غير يقينية وتكون النتائج هي مثالات لما قصد إنتاجه. وهذه فرضُ الخواص فيها التأويل وفرضُ الجمهور إقرارها على ظاهرها. وهذا التأويل، حسب ابن رشد، هو الأمانة التي حُمّلها الإنسان فأبـــى أن يحملها وأشفق منها،’’ إِنَّــــا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهّا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً‘‘[11].
في سياق هذه المسألة، الشريعة والتأويل، يتطرق ابن رشد لما لحِق بعض المتفلسفة من التكفير لخرقهم الإجماع في التأويل، وبالضبط تكفير الإمام الغزالي لفلاسفة الإسلام المشّائين لثلاثة مسائل قالوا بها وهي: قولهم بقدم العالم، وبأن الله لا يعلم الجزئيات، وقولهم في تأويل ما جاء في حشر الأجساد وأحوال المعاد. وهي مسائل هامة لا مندوحة أن يتطرق لها أبو الوليد في كتابٍ يوفق بين الشريعة والحكمة، لأنّ هذه القضايا الثلاث هي من صلب الحكمة/الفلسفة ومن صلب الشريعة/ الدّين الإسلامي. ’’ فقد نرى أن أبا حامد قد غلط على الحكماء المشَّائين فيما نُسب إليهم‘‘[12]. ففي مسألة أن الله لا يعلمُ الجزيئات، فإنهم لم يقولوا بذلك بل قالوا إن الله يعلمها لكن بعلمٍ مختلف عن علمنا نحن، ذلك أن علم الإنسان معلولٌ للمعلوم به، فهو مُحدَثٌ بحدوثه مُتغيّر بتغيره، أما علم الله فإنه علة للمعلوم/الموجود. والذّين يقابلون/يماثلون بين العلمين فأولئك هم الجهال. وهذا لا ينطبق فقط على الجزئيات بل على الكليات أيضاً. لهذا، وكما يوضح ابن رشد، لا معنى أن نصف علم الله بالجزئي أو بالكلي فعلمه متنزّه عن ذلك، وبالتالي لا معنى للاختلاف في هذه السألة من تكفيرهم أو لا تكفيرهم. أما في مسألة قدم العالم فقد اتفق القدماء أنه هناك ثلاثة أصنافٍ من الموجودات: طرفان وواسطة بين الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا في الواسطة. فالطرف الأول هي الأجسام المادية/المحسوسة وهي موجودة من مادة وعن علة فاعلة والزمان متقدّم على وجودها؛ أي أنها مُحدثة. أما الطرف الثاني فهو موجود، لم يكن من شيء ولا عن شيء ولا تقدمه زمان؛ أي أنه قديم وهو مُدركٌ بالبرهان، وهو الله. أما الواسطة، التي اختلفوا فيها، فهي موجودة، ولم تكن من شيء ولا تقدمها زمان، لكنها موجودة عن علة فاعلة. ويرى ابن رشد أن العالم ليس مُحدثاً حقيقياً ولا قديماً حقيقياً، لأن المُحدث الحقيقي فاسد بالضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علّة. ويضيف ابن رشد أن المذاهب في العالم ليست تتباعد كلّ التباعد حتى يكفّر بعضها أو لا يكفر. وحتى وإن أخطأ الحكماء/ الفلاسفة المسلمون في هذه المسألة، مسألة طبيعة العالم، فأنهم ينطبق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم ’’ إذا اجتهد الحاكمُ فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر‘‘. وأي حاكمٍ أعظم، كما يقول أبو الوليد، من الذّي يحكم على الوجود بأنه كذا أو ليس بكذا. فهؤلاء الحكماء، أصحاب البرهان المُكلّفون بالتأويل، خطؤهم مصفوحٌ عنه في الشرع. أما مسألة صفات المعاد وأحواله، فيعتبرها ابن رشد من الصنف المختلف فيه، حتى بين أصحاب البرهان، فمنهم من قال بحملها على ظاهرها إذ لا يوجد ما يؤدي إلى استحالة ذلك من البرهان، ومنهم من يؤولها فيختلفون في تأويلها كثيراً، ومنهم الإمام أبو حامد. لهذا كانت هذه المسألة مثل سابقتها؛ المصيب مشكورٌ ومأجورٌ، والمخطئ معذورٌ، ما دام التأويل في صفات المعاد فقط لا في وجوده، لأن جحده كُـــفـــرٌ.
بالمحصلة فقد ارتأى ابن رشد في كتابه هذا، أن يُبين ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، مُسائلاً العديد من القضايا والمسائل التي تتقاطع فيها الشريعة والفلسفة، والتي بسببها حُّرمت الفلسفة وحُرّم النظر في كتب أهلها لما فيها من ضلال وكفر بالشرع. بعد فحص كل تلك المسائل واحدةً واحدةً، يستنتج أبو الوليد أن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة لها و’’ هما المُصطَحِــبتــــان بالطّــبع، المتحــابـــتـــان بالجوهر والغريـــزة‘‘[13]. وقبل أن ننهي هذه المقالة، وبكثيرٍ من المرارة، نحزن، كما حزن ابن رشد، لما لحق ومازال يلحقُ الفلسفة من أذى، خاصة من بعض المنتسبين لها والمنخرطين في مسلكها، فإن الإذاية من الصديق أشدّ من الإذاية من العدو. والله الموفق والهادي بفضله.
[1]: ابن رشد، أبو الوليد، فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، ضمن "فلسفة ابن رشد، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 1، 1978م.
[2]: المصدر نفسه، ص 16.
[3]: المصدر نفسه، ص 17.
[4]: المصدر نفسه، ص 18.
[5]: المصدر نفسه، ص 19.
[6]: المصدر نفسه، ص 19 – 20.
[7]: آل عمران، 7.
[8]: انظر: كوربان، هنري، تاريخ الفلسفة الإسلامية، تر نصير مروة وحسن قبيسي، مراجعة وتقديم الإمام موسى الصدر والأمير عارف تامر، عويدات للنشر والطباعة، بيروت، لبنان، ط 2، 1998، ص 45.
[9]: المرجع السابق، ص 85.
[10]: ابن رشد، مصدر سابق، ص 30 -31.
[11]: الأحزاب، 72.
[12]: ابن رشد، مصدر سابق، ص 23.
[13]: المصدر نفسه، 38.