هابرماس: دعوة إلى فلسفة عقلانية - يوسف أبو علفه

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

يعد الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس(1929- ) أحد أبرز الفلاسفة الغربيين الذين أسهموا في التصدي لسؤال العقل والحداثة، انطلاقًا من التأكيد على أهمية تراث التنوير؛ ذاك التراث الفكري الذي كان قد أنبنى على مقولات – الحرية والاخاء والمساواة-والذي كان قد أعلى من شأن العقل والتفكير العقلاني. حيث التقدم " هو القانون الباطني والمعنى الجوهري لتاريخ العالم، لأن الإنسان كائن عاقل، والعقل يدعوه إلى تحسين أحواله وتمكينه من الحياة السعيدة. يتجلى هذا في العلوم والفنون، وفي تهذيب الأخلاق، وفي إصلاح القوانين، وفي انتشار الصناعة والتجارة"[1] وكذلك في مختلف مناحي الحياة، التي ستنفتح مع حقبة النهضة والتنوير على عصرًا مختلفا؛ يغاير ما كانت عايشته الحضارة الغربية، منذ نشوء المدن وسيطرة الثقافة اللاهوتية على العقل الغربي. فمع عصر التنوير ستدخل المجتمعات الأوربية فضاء من التفكير يناقض ما كان سائدًا من ثقافة تتسم بالسمة الدينية واللاهوتية، لتقترب الثقافة الغربية من المعقول أو بالأحرى تتسم، بالسمة العقلانية. " إن التنوير، وعلى مر الزمن، وبالمعنى العريض تعبيرًا عن فكرة التقدم، وهدفه تحرير الإنسان من الخوف وجعله سيدًا. أما الأرض التي تنورت كليا، فهي أرض تشع بشكل يوحي بالانتصار. كان برنامج التنوير برنامجًا يهدف لفك السحر عن العالم؛ حيث أراد التحرر من الأساطير وأن يحمل للمخيلة سند العلم"[2] والتبشير بولادة زمن جديد، يقوم على عقلنة الواقع حيث أن" كل ما هو واقعي عقلي، وكل ما هو عقلي واقعي " كما كان يفترض –هيغل-في احدى مقولاته التي تشير إلى احدى معاني التنوير، وكذلك تبين مدى ثقة الثقافة الغربية بمفهوم العقل والعقلانية. إن التنوير هو ذاك الوعد الذي ستقطعه الحضارة الغربية على نفسها، لتبشر الإنسانية بالخلاص من مختلف اشكال القهر والاستبداد والتخلف، وكذلك لتجعل من الإنسان سيدًا على الطبيعية. لكن شيئًا كان يحدث في مجرى تطور العالم وحركة التاريخ، لم يكن ليجعل من معنى المعقول، هو ذلك المعيار الأمثل لحياة إنسانية أكثر سعادة.

نقد العقل أو نقد فلسفة التنوير.

لئن كانت فلسفة التنوير تمثل الهوية التاريخية والثقافية للمجتمعات الغربية. حيث اسهامها في إرساء قيم الإخاء والحرية والمساواة وكذلك اسهامها في قيام المجتمعات الديمقراطية وبناء الدولة الحديثة؛ فإن هذه الفلسفة التي كانت قد إنبنت على أساس العقل ومعنى المعقولية كمعيار للتقدم والارتقاء؛ كانت قد طالتها سهام النقد، وتعرضت مبادئها لخلخلة وهزة جذرية. فالحال أن التجربة –الاجتماعية والتاريخية، وكذلك التطورات العلمية والفكرية قد أبانت عن العديد من الإشكالات التي تعتري فلسفة التنوير، ليس أخصها تلك اللحظة التاريخية التي كانت قد تمثلت في الحرب العالمية الأولى والثانية، وظهور الأيدولوجيات والنظم السياسية الشمولية. بل كذلك الحال مع مفهوم المعرفة على العموم ومعنى المعرفة العلمية على وجه الخصوص. فالواقع أن العقل العلمي الذي انتهى إليه تراث التنوير؛ كان قد أخد ينظر إلى العالم على أنه من مجموعة من البناءات المثالية ومسلسل من القوانين الصورية وكذلك أخد يجعل من العالم مستودعًا للمواد الخام، يستغلها العقل التقني، دون الانتباه لتلك العلاقة التي تقوم بين الإنسان والعالم، ولا حتى إبقائه على تلك الأسئلة الكلية. " إن أسئلة الله والنفس والعالم، تلك أسئلة غائية وميتافزيقية والمشاكل العليا. " مشاكل الإله، مشاكل الغائية المطلقة، مشاكل الاخلاق المطلقة. إلخ وباختصار كل المشاكل الميتافزيقية يمكن حلها اجمالا، بل إنه قد تم حلها وبالتالي لنا إمكانية بناء بشرية جديدة بكيفية عقلية على الأرضية الراسخة للعقل للمستقل-لكن هذا اليقين الراسخ انكشف بوصفة سذاجة"[3] حيث تبين أنه من غير الممكن للمجتمعات التي نشدت خلاصها من خلال العقل والمعرفة العلمية أن تتخلص من تلك الأسئلة الأنطولوجية والإيتقية. " إن التنوير قد أفنى وعيه بذاته وصولاً إلى الأثر الأخير"[4] بحيث أنه لم يعد ذاك المشروع الذي يعد الإنسان بالحرية والسعادة. بل إن العكس ما كان قد تحقق وأثبتته التجارب التاريخية وكذلك أبانت عنه تلك الثقافة الرأسمالية التي أخدت تسلع مختلف مظاهر الحياة وتشيؤ الإنسان. تلك كانت وجهة نظر العديد من الفلاسفة، وبالأخص فلاسفة ما بعد الحداثة-نيتشه-هيدغر –ليوتارد –دريدا وغيرهم من الذين دعوا إلى تجاوز تراث التنوير والانفكاك من سلطة الحداثة.

نقد النقد أو دعوة إلى الحداثة والتنوير.

إذا ما كان النقد وتحديدًا نقد الحداثة الغربية هو السمة الأبرز لدي عدد من الفلاسفة الغربيين الذين انهالوا على تراث التنوير. فإن الدفاع عن مشروع الحداثة ومكتسبات العقلانية الغربية هو أخص ما يميز مشروع – يورغن هابرماس - . إن الحداثة مشروعًا لم يكتمل، يقول فيلسوف التواصل. فالحال أنها –أي – الحداثة الغربية تمثل مزيج متداخل من المكاسب التي تعبر عن نضج العقل الغربي وهي ذات دلالة كونية عابرة. وحين تواجه –الحداثة أي من الصعوبات والأزمات فإنها تتجاوزها من خلال الاستعانة بتراث الحداثة ذاتها وبالاعتماد على نفسها. يقول هابرماس: إن حداثة تنفتح على المستقبل، وتبحث بنهم عن الجدة، لا يمكنها استخلاص محاكاتها إلا من ذاتها."[5] بدا فإن موقفًا رافضًا لمختلف التيارات الفكرية والفلسفية التي تدعو إلى تجاوز الحداثة كان قد اتخذه هابرماس؛ لسبب " أننا يجب ألا نضحي بالمكاسب التي جلبتها لنا الحداثة؛ ألا وهي زيادة المعارف، والفوائد الاقتصادية، والتوسع في الحريات الفردية. إن استكمال الحداثة لا يعني فقط قبول كل ما تلقيه علينا من مستجدات. بل التخصيص الناقد للإمكانات الثقافية والتكنولوجية والاقتصادية للعالم الحديث في ضوء المثُل الإنسانية العلمانية[6]" وفي ضوء تراث التنوير الذي يتسم بالسمة العقلانية. ولكن هل يعني الوقوف على أرضية الحداثة قبول العقل الأداتي؟ إن قبول الحداثة من وجهة نظر هابرماس لا يعني القبول بثقافة العقل الأداتي، ولكن تصحيح المسار الذي اتخذته الثقافة الغربية. حيث أنه من الخطأ الاعتقاد أو الحكم على المشروع الأنواري(الحداثي) بالفشل، ذاك أنه مشروعًا ناجح، وذو فاعلية إن تمت تسويته وتصحيح مساره وتقويمه. فالمطلوب هو العمل على تأسيس عقل نقدي؛ أكثر تأصيلاً لما هو إنساني، ويتمثل من وجهة نظر –هابرماس-في مفهوم العقل التواصلي.

هابرماس من العقل الأداتي إلى العقل التواصلي.

لئن كان هابرماس ينتقد فلاسفة ما بعد الحداثة، لسبب دعوتهم إلى تجاوز مشروع التنوير واعتبارهم أنه مشروعًا قد انتهى. فإن هابرماس الذي يقف ضدًا من العقل الأداتي وكذلك الدعاوي المتطرفة لفلاسفة ما بعد الحداثة. سيدعو من أجل تجاوز معضلات الحداثة إلى الانفتاح على العقل التواصلي، الذي يتجاوز العقل المتمركز حول الذات ويتجاوز العقل الأداتي الوضعي الذي يجزئ الواقع. " إن العقل التواصلي يتجاوز العقلانية الغربية التي أعطت أولية مطلقة للعقل الغائي، والتي تهدف إلى تحقيق مصالح وغايات معينة، فهذا العقل يبنى على فعل خلاق يقوم على الاتفاق وبعيداً عن الضغط والتعسف، وهدفه بلورة إجماع يعبر عن المساواة داخل فضاء عام ينتزع فيه الفرد جانباً من ذاتيته، ويدمجها في المجهود الجماعي الذي يقوم بالتفاهم والتواصل العقلي "[7] بحيث يخلق ذلك الحوار بين الأنا-الأخر في مناخ يسوده التفاهم المشترك والتخاطب العقلاني، وكذلك يسهم في بناء مجتمع حر، يشترك جميع افراده في التواضع والاتفاق على تلك الرؤى والتصورات الفكرية والسياسية المتعلقة بحياتهم. إن العقل التواصلي هو محاولة للانفكاك عن تلك الفلسفات التي اغرفت في الذاتية منذ كوجيتو –ديكارت-وصولاً إلى سيطرة النزعة الوضعية على الثقافة الغربية. بدًا فإنه يمثل محاولة لتصحيح مسار العقلانية الغربية. فهابرماس الذي كان قد أخد ينظر بعمق لأزمات برنامج التنوير وتلك الإشكالات التي تعتري العقلانية الغربية؛ سيحاول العمل على بعث مشروع جديد يخص العقلانية من خلال تأكيده على وحدة العقل، خاصة وأن هذه الوحدة قد وضعت موضوع للشك والنقد باسم التنوع والكثرة والاختلاف. إن هذه الوحدة للعقل تكمن؛ من وجهة نظر –هابرماس-في الممارسة التواصلية. التي تقوم على أخلاقيات النقاش والتواصل، وكذلك تسهم في بناء معرفة نقدية تعمل على تأصيل ما هو إنساني، وتجعل الحداثة تدور في فلكه. بدا فإن المطلوب هو عدم التخلي عن العقل لصالح العدمية والإبقاء على معنى العقل النقدي بصورة أكثر جذرية والتصاق بما هو إنساني.

 المراجع والهوامش:

1 -ميشيل فوكو، ما التنوير، ترجمة الزواوي بغورة، تونس، دار آفاق للنشر2016

2- إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوربية والفينومولوجيا الترنسنديالية، ترجمة إسماعيل المصدق، بيروت، المنظمة العربية للترجمة،2008

3-ماكس هوركايهمر، ثيودور ف. أدورنو، جدل التنوير، ترجمة جورج كتوره، بيروت، دار الكتاب الجديد2006

 4-يورغن هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي، دمشق، وزارة الثقافة 1995)

5-أبو النور حسن، أبو النور حمدي، يورغن هابرماس الأخلاق والتواصل، بيروت، دار التنوير2012

 

[1] - ميشيل فوكو، ما التنوير، ترجمة الزواوي بغورة(تونس، دار آفاق للنشر2016)13

[2] - ميشبل فوكو، ما التنوير، مرجع سابق،18.

[3] -إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوربية والفينومولوجيا الترنسنديالية، ترجمة إسماعيل المصدق(بيروت، المنظمة العربية للترجمة،2008)425.

[4] - ماكس هوركايهمر، ثيودور ف. أدورنو، جدل التنوير، ترجمة جورج كتوره (بيروت،دار الكتاب الجديد2006)25

[5] يورغن هابرماس،القول الفلسفي للحداثة،ترجمة،فاطمة الجيوشي(دمشق، وزارة الثقافة 1995)69.

[6] -جميس جوردن فينليسون، يورغن هابرماس،مقدمة قصيرة جدًا، ترجمة، أحمد محمد الروبي(القاهرة، مؤسسة هنداوي2015)79.

[7] -أبو النور حسن، أبو النور حمدي، يورغن هابرماس الأخلاق والتواصل، (بيروت،دار التنوير2012)131

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟