" إن التعدد يظهر بالخصوص كشرط ضروري لكل حياة سياسية"[1]
يتعلق الأمر بتوسع للصحراء ومقاومة الواحة لهذا التوسع،فالصحراء هي رمز للقحط والجدب أين يعم الهلع والجوع والعطش وينعدم الأمن وتقل فرص الحياة ويقتل الأمل أما الواحة فترمز إلى الحياة والماء والخصب والراحة والإنسان أين تعم السكينة والأمن وسط الأهل وحيث توزع القبيلة منظومتها القيمية على ضيوفها مناصفة، وقد سلكت حنا أرندت عبر هذا المجاز طريقها في الفلسفة العملية نحو الإجابة عن سؤال:هل مازال لعلم السياسة معنى؟ وقامت بتحديد ماهية السياسة بكونها زرع الأمل في الحياة المشتركة على الرغم من التنوع والتعدد بين البشر وعلى الرغم من توسع الصحراء واكتساح طوفان العدم الوجود، ولقد كانت رسائلها إلى كارل ياسبرس ومارتن هيدجر متجهة نحو هذا الغرض وكانت كل مرة تخط فيها تخوفاتها وإدانتها للسياسة الشمولية وللحروب المشتعلة في العالم دون أي مبرر إنساني ودون ضرورة حياتية تقتضي ذلك. لقد رأت أرندت أنه ينبغي أن نكتب مدخل إلى السياسة حتى نساعد الفاعلين السياسيين ونجعلنهم ينخرطون فيها باقتدار ويتنزل عملها ضمن ما يعركه الجسم الانساني من أثر بيديه من أجل مقاومة ممكنة لكل أشكال الشمولية. كان هذا الوضع المتفجر كافيا حتى تسارع إلى كتابة أطروحة حول فلسفة القديس أوغسطين لتردفها فيما بعد بكتاب عن "شرط الانسان الحديث" أين ميزت فيه ببراعة بين العمل والأثر والفعل مشككة في امكانية تأثير الأفكار الفلسفية علي الواقع وتغيير شكل التاريخ وفق مخطط مرسوم مسبقا كما تدعي المثالية الألمانية في نسختها اليسارية الهيجلية. [2]
لقد رفضت هذه الفيلسوفة منذ البداية ادعاء التأسيس fondation الذي كثيرا ما ارتبط عند البعض من الفلاسفة بتوهم الريادة والتفرد والسبق وأطلقت صيحات فزع من الكارثة التي حلت بالكوكب بعد صعود النزعات غير العقلانية ورأت في فكر أوغسطين اللحظة التي انفجر فيها الثالوث الروماني:الدين والسلطة والتراث أين تصور الخيال كتعبير عن الحياة النشطة التي يظهر عليها الانسان كحيوان سياسي والتي يسميها أرسطو:"الحياة المخصصة للشؤون السياسية العمومية". وعن سؤال هل مازال بعد للسياسة معنى؟ la politique a-t-elle finalement encore un sens ? تجيب الكاتبة :"إن معنى السياسة هو الحرية" « le sens de la politique est la liberté » بمعنى أن الحرية تتحقق عندما يستكمل المرء فعله السياسي ويصل به إلى مقاصده ومراميه وترى حنا أن السياسة تقوم على واقعة التعدد البشري، " فبقدر ما تكون ثمة شعوب بقدر ما يكون هناك عالم" لأن الله خلق الانسان موحدا بينما الناس هم من إنتاج الطبيعة البشرية يجتمعون في مجموعات أساسية ومحددة في شكل فوضى كلية من الاختلافات بعبارة أخرى هم منتوج بشري أرضي.
من هنا تأتي السياسة لتدرس المجموع البشري من حيث هو مجموعة من الكائنات المختلفة والمتكاملة، فمهمتها تتمثل في تشييد عالم شفاف تنتظم فيه كائنات مختلفة تأخذ بعين الاعتبار مساواتهم الحقوقية عندما تجردهم من تنوعهم النسبي، تقول أرندت حول هذا الموضوع:" إن الانسان لا يوجد في السياسة إلا إذا حصل على نفس الحقوق التي يضمنها له الأفراد الآخرون الأشد اختلافا عنه. ورغم هذا التعدد والاختلاف إلا أن هناك حالة من الرضا بهذه الوضعية القانونية...". لكن الإشكال الذي يطرح هنا يتمثل في تجاوز أرندت فلسفة السياسة ورضاها بعلم السياسة فكيف نفسر هذا الزهد في التفسير وفي التجريد؟
تميز أرندت بين السياسة la politiqueوترى أنها مليئة بالكذب والأوهام والسياسي le politique وترى أنه جوهر الحياة النشطة الإنسانية وتعترف أن الفلسفة ليست المكان الملائم لولادة السياسة لأن التحليل في الفلسفة لا يصل إلى نفس العمق ولأن معنى العمق يختلف من فلسفة إلى أخرى وتقر أن الفلسفة لها سببين معقولين يبرران عجزها عن إدراك ماهية السياسي،السبب الأول يتمثل في أن الانسان غير سياسي Apolitique والسياسة تولد مع الفضاء الذي يتواجد فيه كثير من الناس أي أن الأمر يقتضي خاصية هي بالضرورة خارج طبيعة البشري، السبب الثاني هو التصور التوحيدي لله وبالتالي لا يوجد إلا الانسان الذي خلقه الله على صورته واحد أما الناس فهم مجرد نسخ معادة عن هذا الانسان الواحد même وقد حاول بعض الفلاسفة الخروج من هذا التصور الشمولي بإدخال التاريخ في الطبيعة البشرية وبقلب العلاقة بين الماهية والوجود بحيث لم تعد الماهية هي التي تسبق الوجود بل الوجود هو الذي يسبق الماهية ولكن دون جدوى فقد بقيت الفلسفة تعاني من انغلاق السقف الميتافيزيقي للعالم.
هنا تحاول أرندت استثمار حضور البعد الديني في التحليل بتأكيدها أن الله هو الذي خلق هذا التنوع والتعدد في الشعوب والأوطان والأعراق وأن فلسفة السياسة أمام هذا المعطى لا تقدر أن تفعل شيئا بل إن الانسان المخلوق على صورة الله هو الذي احتفظ بالقدرة الخالقة التي تمكنه من تنظيم الناس على صورة التنظيم الإلهي لخلقه. عند هذه النقطة تنتقل أرندت من الفلسفة السياسية إلى علم السياسة التي تعتبره الطريق الواثق للعثور على مكان ولادة السياسي ولكنها تصاب بخيبة أمل وتعترضها عدة عراقيل أهمها اختفاء السياسي نهائيا من العالم وتنامي الخوف عند البشرية من الوسائل العنيفة التي يدير بها رجال السياسة الشأن العام وكذلك هيمنة الأحكام المسبقة على الفضاء السياسي بحيث لم يعد يفهم الانسان العالم فهما سياسيا ولم يعد يفعل في الوجود بطريقة سياسية تقول أرندت حول هذا الأمر:"إذا أردنا أن نتحدث اليوم عن السياسة فلابد أن نتطرق إلى الأحكام المسبقة التي تغذيها" ومن بين الأحكام المسبقة الدارجة في التحليل السياسي اليوم أن اليهودية هي الصهيونية وأن العرب يتعرضون لمؤامرة مطلقة وأن الإسلام هو الإرهاب وأن الفكرة القومية هي فكرة شوفينية وأن الماركسية هي الشمولية وأن الليبرالية هي الميوعة. بيد أن استخدام أرندت للتحليل العلمي ساعدها على تشخيص مرض السياسة المعاصرة بدقة كبيرة عندما وضعت إصبعها على الداء ورأت أن "انهيار السياسة يعود إلى أن تطور الأجسام السياسية يعتمد بالأساس على صورة العائلة l’image de la famille" واذا كان العالم السياسي ينظم نفسه وفق صورة العائلة فانه لا يترك مكانا لظهور الفرد:هذا الكائن المختلف جذريا والذي ينبثق بعيدا عن مساعدة علاقات القرابة. ومن سلبيات مجتمع العائلات والطوائف أنه مجتمع مغلق يظهر على شاكلة الملاجئ والمحميات ويجعل الناس يفقدون خاصية التعدد والتخالف والتنوع وهي خاصية بشرية أصيلة ليس من السهل فقدانها دون ثمن. وترى الكتبة أن السياسي الخاضع لصورة العائلة في فعله يؤثر الولاء والمصلحة والقرب على الجدارة والكفاءة والقدرة على تحمل المسؤولية ويريد أن يرى في الجمهور أناس يشبهونه ولا يريد أن يظهر في المجتمع إنسان واحد له خصائص ومميزات لا نجدها عند غيره تقول أرندت في هذا السياق: عوض أن نخلق الانسان نطمح إلى خلق الانسان مشاكلا للصورة التي تخصنا"
« Au lieu de créer un homme, on tente de créer l’homme à sa propre image »
وبالتالي فان عيب ساسة هذا الزمان أنهم يشيدون البناء الاجتماعي والاقتصادي والإداري بالنظر إلى البنية العائلية ويفهمون صورة الحياة السياسية النموذجية على الصورة التي تحقق بها العائلة الشكل الأقصى من السعادة المادية والروحية. يترتب عن ذلك أن أرندت تجعل كرامة الانسان متماهية مع الحرية وترى أنه من الصعب أن تنتج السياسة اليوم مجالا يغيب فيه الإكراه والضغط والقسر وتتوفر فيه حرية الانسان لأنه لكي نصل إلى هذا المجال ونحقق هذا المطلب لابد من توسط السياسة الراشدة وأن تطرح الحتمية التاريخية وتتفكك وهذه المتطلبات غير ممكنة لأن الانسان الآن تتحكم فيه العديد من الحتميات التاريخية والبيولوجية والاقتصادية والتي زاد تدخلها وتلاعبها بالطبيعة البشرية والسياسة الموجودة هي سياسة مكيافيلية فاسدة. لقد قاد هذا التحليل أرندت إلى الكشف عن التراث المحجوب وطبيعة الفخ التي توقعنا فيه مقولات حقوق الانسان والديمقراطية نظرا لتفشي سياسة العزل وتنامي نزعات الحقد الحضاري والكره الموجهة للآخر ونكران الذات l’absence de chez soi والتمييز واللاكونية Acosmisme وتغييب المصلحة المشتركة والعيش سويا والوجود معا.
إن الخطر الذي يهدد المجال السياسي هو تحول الإيديولوجيات الشمولية إلى ديانة جديدة تتراوح بين الطغيان والاستبداد وتخلط بين الخاص والعام وتعطل أي امكانية لتشكل رأي عام ضاغط. لقد درست أرندت العناصر الشمولية في النظرية الإيديولوجية الماركسية من أجل أن تنجز علم سياسة جديد تعالج فيه إشكاليات الفهم والسياسة والشر الجذري والتناسب بين الجريمة والعقاب واستحالة العفو وقد تساءلت عن قدرات الانسان الحديث على الفعل معتبرة الحياة النشطة من منظور الحياة التأملية دون أن تقول شيئا عن واقع هذه الحياة وربطت الصلة بين التراث والعالم الحديث وبحثت عن ماهية السياسي وعالجت أزمة الثقافة وعلاقة هذه الأزمة بالإيديولوجيا والطغيان. وقد استغربت من صعود وديمومة الأنظمة الشمولية واتفقت مع ماركس على ضرورة إحداث تغيير وقطيعة مع التراث الكبير بالعودة إلى تمييز مونتسكيو الشهير بين الشمولية والطغيان عند تتبعه تاريخية القانون والقوة باعتبارهما أساسين تقليديين لكل حكم. وقد فضلت حنا رجال العلم على رجال السياسة لأن رجال العلم يشتغلون حول الطبيعة البشرية بينما ينشغل رجال السياسة بالعلاقات بين البشر ويهملون بسبب ذلك الدروس والعبر المتأتية من الوحي والأفعال كملكة لإنتاج الأقاصيص والصيرورة التاريخية باعتبارهما المصدر الذي ينبثق منه المعنى.
هكذا كانت نظرة أرندت العلمية السياسية متعددة تثمن للتنوع والاختلاف لأن"التعدد هو قانون الأرض" ولأن"السياسة تقوم على واقعة واحدة وهي التعدد الانساني"،وبعبارة أخرى السياسة هي النشاط الوحيد الذي يضع الناس مباشرة جنبا إلى جنب فلا أحد ممن هو موجود موجود بمفرده و"أن يحيا الانسان هو أن يوجد في قلب أشباهه وفي حضن المدينة Polis وأن ينقطع عن الناس معناه الموت" وبالتالي فان موضوع السياسة ليس الانسان لوحده بل وجود الانسان في العالم ، والعالم هو المكان المناسب الذي يولد فيه الفعل السياسي والفضاء العام الذي يتقاسم فيه الناس مصالحهم وهمومهم وتطلعاتهم طالما هم يعيشون على الأرض ويسكنون الكوكب. من هذا المنطلق فرقت أرندت بين العالم والأرض والطبيعة،العالم هو الفرضية المسبقة التي لابد منها لكي تكون هناك سياسة ولكن لكي يكون هناك عالم لابد أن توجد منتوجات إنسانية وموضوعات مصنوعة من يد الانسان وبالتالي عالم دون ناس هو عالم مستحيل على خلاف الطبيعة أو الكون اللذان يمكن أن يوجدا دون إنسان وبحضور بقية الكائنات الحية.
من هنا لا يوجد الناس إلا إذا كان ثمة عالم ولا يوجد عالم إلا إذا كان ثمة تعدد والتعدد ليس مجرد مضاعفة في نظائر نفس النوع وتكرار لامتناهي لنفس النموذج بل هو تناسل للمختلف والمتنوع والفرد ولكن ليس ثمة تعدد وبالتالي فعل إنساني إلا لأننا جميعنا بشر أي لا أحد منا مطابق للآخر، إذ بقدر ما تكون ثمة شعوب بقدر ما يكون ثمة عالم . من جهة مقابلة إن غياب الآخر يربك الانسان ويمثل نقيصة في حياته ويحرمه من معية الوجود ومن الوجود مع الآخر والنضال من أجله وبالتالي غياب الآخر يحرمه من فرصة الظهور له التي تقتضي حضور أناس آخرين يتبادل معهم الاعتراف بالحياة وظهور الانسان لنفسه لا يكفي ليشعر بالاستمرارية والديمومة في العالم ولضمان حقيقته بل لابد من وجود آخر يظهر له.
من الطبيعي أن تعالج أرندت ظاهرة الحرب فهي قد عايشتها وقد فرضت عليها الهجرة والهروب والبحث عن مكان آمن ومن البديهي أن تشعر بالرعب من هذه الظاهرة لأن من نتائج الحرب هو تحطيم مجتمعات بأسرها والقضاء على معالم التمدن والتحضر فيها ولا تكتفي بقتل مجموعة من الأشخاص لتحقيق بعض الأغراض، وتحطيم شعب يعني تحطيم جزء من العالم عبر فعل غير مبرر وغير قابل للتعويض ويعني كذلك الوقوع في نظرة اختزالية وفي منظورية ضيقة عن العالم بينما ينسى رجال السياسة أننا نحن أنفسنا في الحقيقة داخل العالم نسكنه ونؤثثه وليسنا مجرد كائنات ملقى بها عرضيا في العالم.
تصرح أرندت في هذا الأمر:" انه في اللحظة التي نتخيل فيها حدوث حرب تقضي على امكانية الوجود البشري على الأرض فان المراوحة بين الحرية والموت تفقد قيمتها وصلوحيتها القديمة" لأن الانسان هنا أصبح محروما من العالم والشعب الذي ينتمي إليه مهدد في وجوده ومحروم من فضاء الظهور وكل ما يظهر للجميع نسميه الوجود وعندما تستعمل أمريكا ضربا للأمثال بوصفها بلد الحرية القوة النووية في الحرب للدفاع عن نفسها والمحافظة على الحرية فإنها تتناقض مع نفسها لأنها يمكن لها أن تحقق ذلك بالاعتماد على القانون فقط وبالتالي فهي تتحمل مسؤولية الخراب الذي يتعرض له الكون في كل يوم. ونتيجة هذا العنف المرافق للأسلحة النووية تضع أرندت موضع شك بعض المفاهيم مثل الشجاعة والمخاطرة التي تبديها بعض الكائنات الفانية وتدعو إلى الأخذ بعين الاعتبار مسؤولية الحياة على الأرض وقيمة المحافظة على استمرارية حياة البشرية في المستقبل la survie de l’humanité . إذ هناك بعض الإيديولوجيات القومية مثل العنصرية والشمولية تتميز بوصفها لاكونية Acosmisme تتنكر للغيرية وتقصي التعدد وتبقي على التماثل ولذلك تستخدم حنا مصطلحات العالم والتعدد والتناهي والعزلة وأرض المولد لكي تبين أن الكائنات نوعان: الأول هو فقير في العالم مثل الحيوان أو الحجر اللذان ليس لهما عالم على الرغم من أنهما جزء من العالم،إنهما محرومان منه بينما الانسان الفرد منخرط في العالم وموجود فيه وغني به، وتثبت أن الحرمان من العالم هو ما تعاني منه بعض الشعوب التي تعتقد في الهوية المنطوية على ذاتها ومن نتائج هذا الحرمان هو فقدان الحرارة والتجمد والتكلس وأن يخسر الناس البوصلة ويفقدون ملكة الاستعداد خارج كل علاقة اجتماعية لافتكاك مكان تحت الشمس. إن الحرمان من العالم هو ما تعاني منه بعض الشعوب والدول التائهة على وجهها والحرب والعنف والإقصاء والكراهية هي السبب، إن ما تنفيه الحرب هو التعدد في عالم العلاقات البشرية الذي يتشكل عندما يتكلم الناس ويفعلون بشكل متعين ومتنوع والشيء المخيف هنا ليس فقط الحرب المدمرة والقنبلة النووية بل هيمنة الفكر الحسابي الذي يحرم الناس من التواصل والتبادل.
توظف أرندت مجاز الصحراء والواحة لكي تعبر عن هذا الحرمان من العالم وتستند إلى ما يقوله نيتشه في هكذا حدث زارادشت عن تمدد الصحراء كتغلب لكفة العدم على حساب الوجود:"الصحراء تتسع،الويل لمن يحمي الصحراء"، وهذا الحرمان من العالم حسب رأيها يمنعنا من الانتماء إلى الإنسانية ويردنا إلى المنزلة الحيوانية ويساهم في ازدياد حركة توسع الصحراء وزحفها على الأخضر واليابسة وابتلاعها للواحات بوصفها رمز للخصب والحياة. صحيح أن العالم في عصر نيتشه مازال يجهل الحروب الكونية والدمار الشامل ويمتلك فيه الناس إيمان وثوقي بالتقدم والتنوير ولذلك فانه الصعلوك الوحيد الذي شكك في انتصارات الذات الحديثة وطرح سؤال:"هل الانسان من حيث هو إنسانا مهيأ للهيمنة على الأرض؟" بعبارة أخرى ماذا ينبغي أن يحدث لإنسان التنوير التقليدي حتى يستطيع إخضاع الأرض واستكمال كلام العهد القديم؟ لأن الانسان التقليدي هو الانسان الأخير وهو غير قادر بحكم تربيته ووجودانيته أن يشيع نظره إلى ما وراء ذاته ويتعالى على منجزاته أي غير قادر أن يتحول إلى إنسان أعلى يرسل الحمم ويتصالح مع الألم. لكن خطأ نيتشه حسب أرندت أنه لم يتفطن إلى أن منبع الصحراء هو نحن بني البشر،فالعدم ينخرنا من الداخل والذات محاصرة بالسديم بل هي نفسها وهم خالص،لذلك ينبغي أن يكون الانسان ساكنا واعيا بالصحراء وينبغي أن يأتيه الأمل من الانتظار ومن الكائن البشري الذي يسمح بانبثاق كائن جديد حاملا لماهو غير متوقع وغير مقال ،انه إنسان غريب يشيد افتراضيا لعالم مختلف عن العالم الذي نحيا فيه.
إذا كان هيدجر معجب بالإغريق وما تركوه من معجزات كالفن والفلسفة فان تلميذته أرندت أكثر جرأة منه ومفتونة بالرومان لكونهم هو شعب مسيس بامتياز شارك في بناء العالم الحديث وساهم في ظهور السياسي العبقري Génie politique الذي يقوم بالتأسيس Fondation ويسهر على احترام التشريع législation، لكن كيف غير الرومان العالم ونقله من حالة الصحراء إلى وضع الواحة؟
أساس التغيير الروماني للكون هو استقدام سياسة أجنبية غريبة عن الكيفية التي كان ينظم بها الجسم علاقاته،هذا النظام السياسي الفريد المستقدم يخلق عالما آخر عبر سن القانون وهذا القانون بوصفه رابطة عقلانية بين الأفراد والمؤسسات التي تسهر على حمايتهم تهتم بالمبدأ عوض طبيعة الحكم.
إن الصحراء تبدأ في التوسع والتهام كل من يعترضها في الطريق عندما يقع الاعتداء على القانون ويحرم الناس من ربط العلاقة مع العالم والآخر وعندما يتنامى الخطر المتأتي من الأنظمة الشمولية وتندلع حروب العدمية التي تكتسح ساحة العلاقات البشرية. إن الحروب في عصرنا أصبحت مصدر كوارث مستفحلة وتسببت في تحويل العالم إلى صحراء قاحلة خاصة عندما انخرم التوازن بين القدرة على الإنتاج والقدرة على التحطيم ،وتميز أرندت بين صحراء الطغيان وصحراء الاستبداد الشمولي فصحراء الطغيان مازالت فضاءا ممتدا يمكن الهرب فيه واللجوء إلى أماكنه القصية ،انه فضاء مازال يضمن الحرية ولو في شكل تيه وهروب يترك مكانا للحركات والأفعال التي تخيف ساكنيها، أما صحراء الاستبداد فهي مغلقة ومكتسحة وجرداء ولا تترك للناس أي أمل للحركة والحرية. إن الإرهاب الشمولي يحطم ليس فقط الحرية بل وأيضا صحراء الخوف وكل ملكة تفكير أو فعل أو رغبة عندما يدفع الناس إلى تحطيم بعضهم البعض ويتخلون عن خاصية التعدد ويدمجون في إنسان فريد له أبعاد هائلة) un homme unique aux dimensions gigantesques .
عندما يقوم رجل السياسة بدمج المتعدد في الواحد وبتحطيم الفضاء المشترك بين الناس الذي يمثل خصوصية العالم ويطرد الانسان من الواحة إلى الصحراء والعزلة فان هذا الرجل لم يفهم من السياسي شيئا ما، وتفرق أرندت هنا بين الوحدة solitude والعزلة isolement فالعزلة لا تعني أن نوجد وحدنا وبمفردنا بل تعني أن نشعر بالغربة والفقد على الرغم من وجودنا مع الناس وبينهم وما نسميه عزلة في الفضاء السياسي تسميه أرندت كآبة وسأم في حقل العلاقات البشرية، فالعزلة تعني العجز طالما أن العلاقات السياسية بين الأفراد مقطوعة وطالما تبسط الشمولية سلطانها على المجال الخاص باسم حماية المجال العام من أي اعتداء خارجي وعصيان داخلي وتوفير الأمن للجميع وفرض النظام على الكل. العزلة من حيث هي انقطاع عن كل علاقة مع الآخر تحمل خطر التحول إلى كآبة وسأم لهذا فإن تعدد الشعوب وتنوع الثقافات والاحتكام إلى العقل التواصلي والفعل البيذاتي كلها من الأمور الضرورية لضمان حقيقة السكن في العالم.
المؤسف أن الانسان في حالة الكآبة يحرم لا فقط من مرافقة إنسان آخر بل من مرافقة نفسه والكآبة ليست مجرد تخريب وإعدام وقتامة بل خاصية الصحراء التي تمحي المستقبل من الوجود وتمنع كل انبعاث والصحراء تضم العديد من المخاطر مثل العواصف والدواوير الرملية التي تحاصر الحياة البشرية وتهددها. إن مجاز الصحراء عند أرندت هو نموذج النظام الشمولي و مجاز الواحة هو نموذج النظام الديمقراطي أو الحكم الراشد والنظام الشمولي هو الذي يضع الصحراء في حالة نشاط وتأهب دائم لكي تتسع وتبتلع الجميع لكن هذا النظام المؤسف أنه يحمل بين طياته بذور فنائه حيث يفقد الانسان الذي يعيش داخله الأمل في لقاء عالم إنساني جديد وحيث يتحول الناس إلى حشود متشابهين في كل شيء تقريبا.
إن صحراء النظام الشمولي تمحي ثراء وتنوع تجليات الحب عند البشر من أجل أن تبقي فقط على ضغط الحاجة المتماثلة في ماهو بيولوجي،إن الصحراء تعادل التكيف مع الحياة البهيمية في الأنظمة الشمولية أين يفقد الناس الإحساس بالفعل والانفعال والقدرة على الحكم والرفض والأنظمة الشمولية تحرم الناس ليس فقط من مصحابة أشباههم ومن امكانية الفعل في مجرى الأحداث بل تجعلهم يخسرون الحاجة إلى التفكير والرغبة في المعرفة واذا عصفت رياح الصحراء الجافة بالفكر فإن ملكة التمييز بين الحقيقة والخطأ وبين الخير والشر وبين القبح والجمال تتلاشى أيضا وباختصار فإن خطر الصحراء هو خطر نزع الإنسانية الكلي عن الانسان والخطر الأكبر عند أرندت يتمثل في الوجود الإشكالي المستعصي للواحة أي كل مجلات الحياة التي توجد بشكل مستقل ونتيجة وضعيات سياسية بديلة.
انه إذا توقفت الواحات عن التكاثر والازدياد فان فرص الحياة على الأرض تتقلص ولن نتنفس في الصحراء المجدبة النسيم العليل والهواء الطلق،والواحة لا تعني الراحة والدعة واللهو والمرح بل ترمز إلى عالم الثقافة والفكر الذي يتعدى الفلسفة إلى حياة متكاملة الأبعاد يعيشه الأحرار الغرباء خارج كل نظام وتنميط. الواحات هي العالم الذي يمكن أن نتوحد فيه ظرفيا مع أنفسنا من أجل العودة والتلاقي مع الآخر،إنها السكينة التأملية في الصحراء التي تتيح امكانية التزود بروح جديدة وأخذ شحنة معنوية مختلفة من أجل العودة إلى الحياة النشطة في إطار من الجيرة الإنسية. لقد بحثت حنا أرندت في جميع مؤلفاتها عن كلمة السر mot d’ordre التي تجمع بين الفكر والفعل وبين الثقافة والحياة وبين الحياة التأملية والحياة النشطة وقد عرفت الفكر كما يلي:"الفكر هو النشاط الوحيد الذي لا يحتاج سوى إلى ذاته من أجل أن يشتغل"،الواحات عند أرندت هي البديل عن الصحراء تماما مثلما تأتي الشمس لتحل محل الظلام والوجود مكان العدم والفرح والسرور مكان الحزن والغم،انه ينابيع من القوة تجعلنا نتحمل حياة الصحراء القاسية دون كلل أو ملل لكن ألا يمكن أن تتحول هذه الواحات نفسها إلى خطر يهدد الانسان؟
إن هروب الانسان المتصحر في طبعه إلى الواحات قد يحمل معه خطر تصحير الواحات ونقل عدوى الجدب من تخومها وحزامها الخارجي إلى قلبها ومركزها نظرا لأن الصحراء هي عالم المظاهر بينما الواحة هي عالم الجوهر الحق وإن صورة الرمال المتحركة هي صورة فكر ينشط دون حياة ودون ثقافة فهو مجرد آلة حاسبة ولم يكن عقل له مبادىء وقيم والسياسة التي تريد مواجهة الشمولية والصحراء عليها أن تحطم هذا الفكر الحسابي وتستبدله بفكر الواحة المتصالح مع ذاته والمبتهج بالطمأنينة والحياة والتعدد والتنوع، إن فكر الواحة فكر ثري ومركب وليس مجرد فكر تبسيطي اختزالي.
الأمل ليس في البحث عن الخلاص بل في الوصول بالبشرية إلى درجة رفيعة من الصحة والاعتدال في جميع الملكات وذلك بالاحتماء من لهيب الصحراء برطوبة الواحة وعذوبة أغصانها وفي نهاية الأمر تجيب أرندت عن سؤال لينين الشهير: ما العمل؟ بقولها:"أن نؤسس عالما نكون فيه أحرار على مستوى الفعل والفكر...وهذا العالم الجديد يحتاج إلى سياسة جديدة" فماهي النظرية السياسية البديلة التي تنقل البشرية من مقام الصحراء الملتهبة إلى مقام الواحة المنتعشة .
Hannah Arendt qu’est-ce que la politique ? traduction Sylvie Courtine- Denamy Ed Seuil
Hannah Arendt Condition de l’homme moderne Traduction Georges Fradier
Préface de Paul Ricœur Ed Calmann-lévy,1961 et 1983
[1] Hannah Arendt qu’est-ce que la politique ? traduction Sylvie Courtine- Denamy Ed Seuil P44
[2] Hannah Arendt Condition de l’homme moderne Traduction Georges Fradier Préface de Paul Ricœur Ed Calmann-lévy,1961 et 1983
* كاتب فلسفي من تونس
* عن ايلاف