قلما تصفحت اليوم صحيفة أو موقعا إخباريا دون أن تقع عيناك على تجل مؤلم من تجليات الاحتدام اليومي بين المراهق و المدرس .احتدام مرده إلى سعي المراهق للكشف عن التقلبات الجسدية و النفسية و العقلية التي يتعرض لها كيانه، بينما يحرص المدرس على إعادته إلى رشده و سابق طفولته وانضباطه، حتى يضمن سيرا عاديا، أو إن شئت فسمه روتينيا، للدرس .
وتزداد تجليات الاحتدام سوءا كل يوم بفعل خيارات التمرد العديدة التي يوفرها الشارع و التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي، حتى سرى في الأذهان تمثل يقرن المراهقة بالتمرد و الإساءة و العدوان. ولو عدنا إلى مصطلح المراهقة كما يجري تداوله اليوم لتبين لنا بوضوح أثر النظرة الغربية التي تصف تلك المرحلة بالاضطراب و السفه و الاستعداد القوي لركوب الشر. بينما تكشف الدراسات و الأبحاث التي عنيت بأثر البيئة الاجتماعية على المراهق أن تمثلاتنا حوله وليدة المدنية الحديثة، وما أفرزته من مظاهر بعثرة العادات و التقاليد (1) .
أبرز ما يطبع مرحلة المراهقة هو الصراع الداخلي الناتج عن تغيرات نفسية و جسمية و عقلية. كما تنضج لدى المراهق حاجته إلى تبني قيمه الخاصة واتجاهاته في الحياة، والدفاع عنها بكل ما أوتي من قوة. لذا فالخطوة الأولى التي يحرص المربي على اتخاذها هي معرفة الكيفية التي يفكر بها المراهق، ثم إيجاد طريقة يوضح بها تفكير "الكبار" أنفسهم. إنه السبيل الوحيد الذي يشجعه على أن يفتح قلبه ويفصح عن دواخله ويمنحك بالتالي ثقته.
أما الخطوة الثانية فهي إشراكه في الوضع الحقيقي للأسرة أو المؤسسة. ففضيلة إشراكه، وتجنب الانتقاص من قدرته على الفهم و التصرف واتخاذ القرار كفيلة بأن تئد على نحو تدريجي أي ميل إلى التمرد، أو تبني سلوكات مزعجة. ولعلنا بذلك نستعيد الوضع السليم الذي كانت عليه المراهقة باعتبارها مرحلة رشد وتحمل للمسؤولية ،كما عند اليونان و الرومان و أوربا ما قبل التصنيع، ومرحلة تكليف ونهوض بالتعاليم كما في الشريعتين اليهودية و الإسلامية .
يبحث المراهق عن تقدير ذاته واكتمال شخصيته، فيبدي الرفض لكل استئثار بالفهم والتعقل يُظهره الكبار. إن الحاجة لتركه يعمل ويُجرب و يتفاعل، بعد تقديم الدعم اللازم لكيفية التعامل مع المواقف، خير من حمله على الامتثال لقوانين وأوامر تطيل أمد طفولته. و قد أظهرت بعض الدراسات وجود ارتباط بين الإنجاز الدراسي العالي وحرية اشتراك المراهق في الفعاليات والأنشطة المتنوعة، حيث يميل للظهور بسلوك جيد عاقل(2).
ومن مظاهر نموه الاجتماعي ،التي تستدعي من المربي التقاط الخيط بمهارة لتثبيت القيم، سعي المراهق إلى التعلق بنماذج مجتمعية يستمد منها خصال الزعامة و البطولة و المثل العليا. وبالنظر لما تقدمه وسائل الإعلام المختلفة من بدائل موسومة في مجملها بهشاشة الحضور على المستويين القيمي و الفكري، فإن الخطوة الثالثة ينبغي أن تنصب حول توجيهه للتعلق بشخصيات متميزة، لها قيمتها وحضورها المثمر في تاريخ أمته. ثم تخليص نظرته للبطولة والشهرة من التعلق بالمظهر إلى تقدير الأفكار و المبادئ. طبعا لا يمكن الادعاء بأن الأمر سهل المنال في ظل استحواذ إعلامي خطير، يستنزف اليوم رغبات وأحلام هذه الشريحة العمرية، و يقولبها بحسب رغبات السوق، لكنه تحد لا مناص من رفعه لتعزيز القيم و الثوابت في عالم متأرجح !
إن أهم المشكلات التي تصحب عادة المراهق إلى حجرة الدرس مردها إلى عدم الفهم و التقدير الذي يلقاه من العالم الخارجي، لذا ينضاف للمدرسة عبء تقريب الصورة وتبديد سوء الفهم، ثم تشكيل قناعات جديدة لدى المراهق بأن ما يمر به هو حدث فريد وليس فورة بركان!
يأخذ تقييم الطفل للمدرسة في الانحدار بازدياد نضجه، وحين يبلغ سن المراهقة فإنها تصبح في نظره فضاء إجباريا يستوعب ما يمكن أن نسميه ب" دفتر تحملات "الأسرة، والمتمثل في تحقيق إنجاز دارسي عال لقاء الحصول على الملابس ومصروف الجيب ولوازم الترفيه. من هذا المنطلق ينبغي أن يتشكل هاجس جديد لدى المربين والعاملين في المؤسسات قوامه: الانشغال بتفهم مشكلات المراهق ودواعي انفعاله وتمرده والتجاوب معها، بدل الاكتفاء بتحسين معارفه ومهاراته. وللأمر أهميته بكل تأكيد، بالنظر لما أثير مؤخرا بشأن الصحة النفسية للمراهق، إذ أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الانتحار يحتل المرتبة الثالثة من أسباب الوفاة في مرحلة المراهقة، في حين يشكل الاكتئاب السبب الأول من أسباب العجز و المرض، كما أن نصف اضطرابات الصحة النفسية يبدأ في سن الرابعة عشرة (3).
يُنظر للجنس باعتباره عصب المشكلات التي تواجهها الأسر، ومعها المؤسسات التربوية، في علاقتها بالمراهق. فكونه حاجة بيولوجية كالجوع و العطش، يطرح لدى المراهق تساؤلات حول إمكانية تحقق إشباعه في ظل الموانع المتمثلة في قيم المجتمع و أخلاقياته. لذا حين يُترك بمفرده ليواجه الدافع الجنسي فإنه يُلحق الضرر بصحته النفسية، لأن سلوكه لن يخرج عن أحد الأمرين : إما تحقيق الإشباع بطرق غير سوية، أو تحمل فترة الضغط التي تمتد إلى حين امتلاكه لاستقلال اقتصادي و اجتماعي يتيح له تكوين أسرة.
إن اتخاذ المراهق موقفا إيجابيا إزاء الميول الجنسية مرتبط بنوع التربية التي نُعود عليها أطفالنا. هذه التربية الموسومة بنظرة التحريم و الإدانة، رغم أن الدين نفسه عرض المسألة ضمن إطار يسمح باعتماده في تنشئة الطفل تنشئة سوية. وفي هذا الصدد يقول موريس شربل " إن سلوك الفتى حيال الأمور الجنسية في حال اقترابه من النضج يتوقف على التربية التي تلقاها خلال طفولته. مما يدل على أن التربية الجنسية لا تقتصر على كشف الحقائق الحياتية و البيولوجية فقط، بل تتضمن الأخلاق الجنسية و الواجبات المترتبة على الكائنات البشرية تجاه بعضها البعض، كما تتضمن المثل و القيم المتعلقة بهذه الأخلاق كالاحترام، والمسؤولية، والحب"(4)
ومن الخطأ الاعتقاد بأن المراهق غير مبال بالأمور المهمة، إذ يسود الاعتقاد في مجتمع البالغين أن المراهق يحيا حياة سهلة، وأن كل ما يفكر فيه هو الحصول على المال لمواكبة صيحات الموضة ولفت انتباه الجنس الآخر، في حين أنهم يواجهون محنا حقيقية، ويقلقون بشأن أمور مهمة. إن لهم مخاوفهم حول الصحة والأمن الأسري وتحقيق إنجاز دراسي عال، كما تشغل بالهم أسئلة الحياة و الموت وأسرار الوجود. و نظرا لافتقارهم لتجارب وخبرات من الحياة فإن تلك المخاوف تستحوذ على تفكيرهم، وتستدعي من الكبار طمأنتهم وتحرير مشاعرهم و قدراتهم.
ويطرح الاستخدام المفرط للتقنيات الرقمية من لدن المراهق قلقا ومخاوف بشأن تأثيراته المحتملة على الحياة الشخصية. فالتعلق الزائد بالفضاء الإلكتروني، و الاندماج شبه الكامل في الحياة الرقمية يهددان بشكل ملحوظ صحته النفسية. إن ما يواجهه جيل الألفية اليوم هو قصف غير مسبوق من المحفزات السمعية و البصرية" مواقع أنترنيت، صفحات اجتماعية، ألعاب فيديو.." تؤدي إلى زيادة في السلوك العدواني و التهور المفرط والعيش في الخيال إلى درجة فقدان الصلة بالعالم و بالزمن .و بسبب الفجوة الرقمية المتزايدة بين الأجيال فإن الآباء لا يخفون عجزهم عن مساعدة أبنائهم في هذه المساحة غير المألوفة، مما يُحتم التفكير في دورات تحسيسية على صعيد المؤسسات التعليمية، تحد من ذاك الهوس الإلكتروني المتزايد الذي عبر عنه خبراء للتكنولوجيا بمركز بيو للأبحاث في الولايات المتحدة بقولهم :" لن يتمكن جيل الألفية في العام 2020 من الاحتفاظ بالمعلومات؛ فهم يقضون معظم طاقتهم في تبادل الرسائل الاجتماعية القصيرة، و الاستمتاع بالترفيه، كما يشتت انتباههم بعيدا عن الانخراط العميق مع الناس و المعرفة. وهم يفتقرون إلى ملكات التفكير العميق؛ ويفتقرون إلى المهارات الاجتماعية المباشرة؛ ويعتمدون بطرق غير صحية على الإنترنيت و الأجهزة النقالة من أجل أداء مهامهم "(5).
و تبقى أسوأ المخاوف التي تقض مضاجع الأسر، وتضاعف وتيرة العنف في الوسط المدرسي هي وقوع المراهق في أسر التدخين و المخدرات و الكحول. مخاوف لا تملك الأسرة حيالها سوى خيارين: إما المسايرة و القبول على مضض إلى حين تجاوز المرحلة الشائكة، وإما الصدام اليومي و الضغط الذي يولد لاحقا مآسي جمة !
إن من خصائص المراهقة التي تخطئ الأسرة، ومعها أغلب المدرسين، في تفهمها وتقديرها ثم توجيهها الوجهة الصحيحة، هي الرغبة في النضج و الاستخدام المتحفز لطاقة التحدي الموجودة في أعماق كل إنسان. فالمراهق الممتلئ بطاقة للنمو تتملكه الرغبة بالدخول في المخاطرة وإثبات أنه "رجل"، وبفعل انتشار فكرة المساواة فإن الفتيات لا يتورعن أيضا عن ركوب نفس المخاطر. ومن دون استثارة تدفعه للتحدي، سواء كانت مشكلة تحتاج إلى حل أو تنافسا لتحقيق هدف ما أو حتى ضررا يلحق به أو بالجماعة التي ينتسب إليها، فإن طاقاته تتعطل وقد ينجم عن ذلك يأس و إحباط . و الحل يكمن أولا في التوعية بمخاطر الاستخدام السلبي لتلك الطاقة، و الذي تدعمه الإعلانات و الإنتاجات السينمائية على نحو مفزع. فقلما يخلو عمل سينمائي لشركات هوليود من مشهد البطل وهو يشعل سيجارته فور الإطاحة بخصمه أو تفجير مركبة، ولا يشرع في التخطيط لمعركة أو جريمة إلا وهو يتجرع قنينات الخمر بطريقة فظة. ثم توجيه المراهق نحو بدائل مشجعة، وفي مقدمتها الرياضة، لاستعادة الحقائق البديهية التي سرقتها إعلانات السجائر كما يقول الدكتور بنجامين سبوك في "فن الحياة مع المراهق ".
يتعلق الأمر بتقريب للصورة فحسب، بينما يستدعي ارتفاع معدلات الجريمة، وتعاطي الممنوعات، وشغب الملاعب وغيرها من تجليات الانفلات القيمي و السلوكي وضع استراتيجية شاملة، تستجيب للاهتمامات الخاصة للمراهق، وتتصدى للمشكلات و القضايا التي تستهدف العقد الثاني من طفولة أبنائنا وبناتنا لتخلف آثارا مدمرة لمستقبلهم كراشدين. وعلى هذا الأساس فإن تضافر الجهود بين الأسرة و المؤسسة التعليمية مطلب حيوي، لا ينبغي تبديده في أروقة الجلسات و المؤتمرات ليظل حبيس التوصيات و النوايا الطيبة، لأن المراهق أحوج ما يكون اليوم لمن يُنصت له، ويشاركه متعة إبداع البرامج و المهام و الأنشطة التي تستوعب شواغله وتطلعاته، وتضفي على التغيرات الجسمية و النفسية التي تؤرقه، كما ذكرت آنفا، سمات الحدث الفريد لا فورة البركان !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يمكن الاستئناس في هذا الصدد بدراسة مارغريت ميد -1970- حول المراهقين في قبائل ساموا .
2- دراسات شارل وارناث سنة 1955 كمثال.
3- منظمة الصحة العالمية : تقرير بعنوان " توفير الصحة للمراهقين في العالم" .2014
4- موريس شربل: التربية الجنسية. ص105
5- سوزان غرينفيلد : تغير العقل .ص44