القراءة بين الغائية والأداتية:
لماذا؟ هو سؤال الغائية والدافعية الذي لطالما حيّر الإنسان ونال أكثر اهتمامه، وحُقّ له ذلك، إذ بالإجابة عنه تتفتح كل الأبواب، وتتبين كل السبل، وهو سؤال مرافق لجميع الشؤون والأشياء، فما من شيء إلا واستبطن سؤال(لماذا؟) فلماذا نقرأ؟
وما الغاية التي تقودنا إلى القراءة، وتقودنا القراءة إليها؟
ثمّة غايات عديدة وكثيرة في سلّم غايات القراءة، فهناك من يقرأ استعدادًا لامتحان ما، وهناك من يقرأ لتنمية مهارة ما، وهناك من يقرأ لتحصيل المال، وهناك من يقرأ للمعرفة عمومًا... إلى آخر هذه الغايات النسبية. يجب علينا القول أولًا بأن القراءة أداة كأية أداة تساعدنا على تحصّل المادة الخام، والجدير بالذكر هو أن المعرفة ليست هي تلك المادة الخام، فالمعرفة أداة لا تختلف في أدائها عن القراءة، إلا أنها أرفع منزلة في سلّم الغايات. إذن ما الغاية المثلى للقراءة؟ وهل من الممكن ضمّ هذه الغايات إلى غاية واحدة شاملة؟
اتفق كل من وقفت عليهم من الفلاسفة والمفكرين والأصدقاء على أن الغاية المثلى من القراءة هي العمل، إلا أن العمل بإطلاق اللفظ يحتمل القارئ وغير القارئ، ففضّلت الإضافة عليه بالقول: (العمل الحكيم). واتفقوا على أن جلّ القيمة من المعرفة، التي هي الغاية النسبية من القراءة، تكمن في آثارها العملية وفاعليتها على أرض الواقع. وفي هذا يقول برتراند رسل Bertrand Russell) 1872 - 1970) في كتابه (أثر العلم في المجتمع) بأننا "معجبون بالعلم لأنه يعطينا قوة السيطرة على الطبيعة، ولكن جلّ القوة يكمن في التقنية." وفي ذات السياق-رغم خلاف المنهج بينهما- يقول ماركس (Karl Marx 1818-1883) في كتابه (أطروحات حول فيورباخ) بأن "معرفة ما إذا كان التفكير الإنساني له حقيقة واقعية ليست مطلقًا قضيّة نظرية، إنما هي قضية عملية. ففي النشاط العملي يجب على الإنسان أن يثبت الحقيقة، أي واقعيّة وقوة تفكيره وتواجد هذا التفكير في عالمنا هذا. والنقاش حول واقعيّة أو عدم واقعية التفكير المنعزل عن النشاط العملي ما هو إلا قضية كلامية بحتة." ويتساءل رسل فيقول: "ما الذي نريد معرفته عن الكهرباء، غير كيفية إفادتها لنا وعملها لأجلنا؟". والفكرة التي تقول: أقرأ لذات القراءة، وأعرف لذات المعرفة هي فكرة عبثية تخيلية، لا تمت للواقع بصلة، إن حُملت على المعنى الحرفيّ لها.
وكثير من مريدي القراءة والمشتغلين بها يستغرقون في سؤال ماهية الكتب والحقول المعرفية التي يجب عليهم قراءتها والكيفية التي يقرؤون بها، ولا يدركون أن سؤال الغائية هو الأهم، إذ به تتحدد الإجابة عن السؤالين. فمعرفة الغاية من قراءتك تساعدك على معرفة نوعية ما ستقرأ والكيفية التي ستقرأ بها.
القراءة بين الماهية والنوعية:
في زمن التدفق المعلوماتي الرهيب ووفرة مصادر المعلومة، حريٌّ بنا أن نطرح سؤالًا في غاية الأهمية، وهو سؤال "ماذا نقرأ؟"
تبدو الإجابة عن هذا السؤال صعبة عند كثير من مريدي القراءة، ومنشأ هذه الصعوبة وجذرها هما أمران، الأول وهو ما سبق عرضه: وهو عدم تحديد الغاية من القراءة. والآخر، ما أود التعرّض إليه قبل الخوض في منهجية انتقاء المقروءات، وهو ضيق مفهوم القراءة.
القراءة بين الاختزال والطقوسية:
إن مفهوم القراءة الذي أتناوله هنا هو قراءة الكتب، بعيدًا عن احتمالات اللفظ الأخرى، ولست أعني بهذا أن القراءة مختزلة في الكتب ومقتصرة عليها، فمصادر المعرفة متعددة ومتنوعة، لكنها ليست محلّ حديثنا هنا. ولكي تتحدد علاقة قراءة الكتاب بالمعرفة لا بد أن نشير إلى أن المقصود بالمعرفة هنا هو ذلك التراكم البشري للتجارب المتوارثة عبر النص المكتوب، وبغير مصدر القراءة لا يتحقق تحصيل هذه المعرفة.
(أ) الاخـتزال: إن لضيق مفهوم القراءة سببان: 1- الأول هو اختزال المعرفة في الكتاب دون المصادر الأخرى. وقد أنتج لنا هذا الاختزال تيارين متطرفين، (أ) أحدهما لا يعتقد بغير الكتاب مصدرًا، ولا يخرج عن نطاقه إلى نطاق التجربة الذاتية والاكتشاف الحر، (ب) والآخر-وهو في الغالب رد فعل للأول- يفصل الكتاب عن التجربة فصلًا تامًّا. وفصل الكتاب عن التجربة، بل واختزال المعرفة في التجربة، فكرة راجت في أوساط بعض القرّاء، وهي تصوّر باختصار معرفةَ الكتاب بأنها معرفةٌ زائفة لا يجوز لغير الكاتب اعتناقها، فالكتاب يقدّم تجربة كاتبه، وقارئ الكتاب يقرأ تجربة ليست تجربته، ويتعرّف على معرفة ليست معرفته، ويلبس رداءً ليس رداءه. إن هذه الفكرة بُنيت على فرضيتين خاطئتين، (1) الأولى أن تجربة الآخر لا تلامس تجربتي على الإطلاق، ولا تشاركها في مساحات عديدة. وهي فرضية يكفي لدحضها وجود الحقائق والنظريات المعمّمة، التي هي نتيجة تجارب الآخرين عبر التراكم المعرفي البشري، والتي تقوم على أساسها معظم الممارسات العلمية والعملية. (2) والفرضية الثانية هي أن القراءة عملية تلقّن. ولا شك في أن القارئ المنغمس في الكتب ويقرأ بعقلية التلقن والتّعبئة يجد تعارضًا بين معرفة الكتاب ومعرفة التجربة الذاتية، وهذا أمر بدهيّ، إلا أن المشكلة هنا ليست في الكتب، ولا في انكبابه عليها، إنما في قراءته بعقلية التلقّن، وغياب وعيه عن أن القراءة خوضٌ في قلب تجربة الوجود الفرديّ في تاريخ الذات.
وخيرُ تعبير جامع لثنائية الكتاب والتجربة ما نادى به مورتيمر أدلر Mortimer Adler (1902 - 2001) وفان دورن في كتابيهما (كيف تقرأ كتابًا؟) وهو أن "الكتاب (مثل الطبيعة)، عندما تسألها فإنها تجيبك إلى المدى الذي يمكنك أن تفكر فيه وتحلله بنفسك".
(ب) الطقـوسية: والسبب الثاني لضيق مفهوم القراءة هو تلك الأجواء المحيطة بالقراءة والطقوس التي تعمّمت ونتجت عن بعض أصحاب الهالة المعرفية. ومن الأمثلة على هذه الطقوس ارتباط الكتاب بالقهوة، وتحديد بعض أنواع من الموسيقى أثناء عملية القراءة، وتحديد كميّات وأوقات وطرائق للقراءة... إلى آخر هذه الطقوس الظاهرة وغير الظاهرة. إن هذه الطقوس تبدو تافهة في حين الحديث عنها، بل وتُحمل في كثير من الأحيان على محملٍ ساخر في الأوساط الثقافية، لدرجة أن صارت السخرية من الطقوس طقسًا آخر، ولا ينكر مدقّقٌ تواجدها ووفرتها وشدة استعبادها القرّاء وغير القرّاء. والطقسية تضيّق مفهوم القراءة وتعسّر ممارستها لأن طبيعةَ الطقس نسبيّة، وتختلف من شخص إلى آخر ومن حالٍ إلى حال، ومحاولة انسلاخ المرء من طقسه الفريد لولوج طقسِ آخر أمرٌ شديد الصعوبة، ويكاد يكون ممتنعًا. ولذلك اقتصرت معظم الممارسات القرائية على أشخاص تشابهت طقوسهم، ولكن هذا لا يعني بعدم وجود قرّاء ذوو طقوس فريدة ومختلفة.
• أخيـرا:
وفي سؤال ماهيّة الكتب والحقول التي يجب على القارئ القراءة فيها؛ ذكرنا في الجزء الأول من المقالة محدّدا أساسيًّا، وهو العمل الحكيم كغاية للقراءة.
ولتحقيق هذا النوع من العمل، لا بد من معرفةٍ حكيمة. وتستلزم هذه المعرفة اقتران المعرفة المتخصصة الدقيقة والمعرفة الشمولية، على اعتبار أن الحكمة اقتران الدقة بالشمول. والمقصود بالتخصص هنا، هو الدور الحياتي للفرد، الذي يجمع بين اهتماماته وقدراته، والمقصود بالمعرفة الشمولية هو كلّ ما يلامس هذا التخصص ويسدّ ثغرات معارفه.
وفي سياق أهمية المعرفة المتخصصة يفرّق آدلر ودورن بين صنفين من الجهلاء، فالصنف الأول هم الذين لا يقرؤون مطلقًا، والصنف الآخر هم الذين يقرؤون بشكلٍ واسع وغير متخصص، وهم من أطلق عليهم اليونانيون تسمية "ضاحلوا الثقافة".
ومما يطفحُ به الواقع من أمثلة على متخصصين غير شموليين، نجد سياسيًّا يسقط في أتفه جدالات المنطق، وفيلسوفًا ذا لغة ركيكة، وأديبًا يعبّر بتشبيهٍ يعارض أبسط مبادئ الفيزياء. وفي ذلك يلفت نظرنا الفيلسوف الإسباني أورتيجا.ي.جاسيت في كتابه (ثورة الجماهير The revolt of the Masses) إلى أن "العلم –وهو منبت حضارتنا- يحوّل العالِم (غير الشمولي) أوتوماتيكيًّا إلى رجل جمليّ، ويجعل منه إنسانًا بدائيًّا وهمجيًّا". ويرى أن هذا الذي لا يخرج من صحراء تخصصه إلى فضاء العلوم الأخرى "جهولٌ متعلم. وهذا أمرٌ خطير، فهو يعني أن جهله لا يتبدّى على نمط الجاهل، ولكنه يظهر بكل تبجحِ المتعلم". ويشير فيليب فرانك (Philipp Frank- 1884- 1966) في كتابه (فلسفة العلم1957) بعد استقرائه التاريخي إلى أن "معظم تقدّمات العلوم كانت ناشئةً عن تحطيم الجدران التي تقسمها".
وبهذا نخلصُ إلى أن القراءة وسيلة لتحصيل المعرفة، وأن المعرفة وسيلة لغاية العمل الحكيم، وأن العمل الحكيم يستلزم معرفة متخصصة وشمولية، وعليه يكون الاقتناء السليم للمقروءات.