"لا يمكن إصلاح ما لم يقع تقييمه"، فالتّقييم سابق لعمليّة كلّ إصلاح ،والأسبق من كليهما هو التكوين، فالمدرّس يكوّن ويقوّم ويُصلح...هي عمليّات بيداغوجيّة مترابطة ومتداخلة في نفس الوقت. ويظلّ التقويم بأنواعه المتعدّدة إجراءً يحتاجه المتعلّم والمدرسة والمنظومة بل والمدرّس. فالكلّ مَعْنِيٌّ به ومُستفيد منه...
ـ في الحَقل الدّلالي لفِعْل التّقييم:
بيداغوجيًّا نتحدّث عن ممارسة تقييميّة بمجرّد أن تتكوّن لدى المدرّس فكرة قد تكون عامّة أو دقيقة حول كفايات المتعلّمين أو تحصيلهم المعرفي. ففي الوضعيّة البيداغوجيّة يتعيّن أن تكون إجرائيات التقييم موضوعيّة وعلميّة بعيدة كلّ البعد عن الذاتيّة والحدْسيّة... لذلك يكون من المتأكّد أن يستند التقييم إلى أدوات تقنيّة ومعايير موضوعيّة مستقلّة – قدر الإمكان- عن ذات المقيّم ،وفي هذا السياق تظلّ الممارسة التقييميّة ذات وظيفة تعديليّة وعلاجيّة وتكوينيّة ،فالتقييم يبدو بَحثا عن مواضع التّمَفْصُل بين خصائص المتعلّمين المعنيين بالتقييم من ناحية وبين خصائص نظام التقييم المعتمَد من ناحية أخرى...ففي إطار التقييم التشخيصيّ يكون الاشتغال على ما يتوفّر لدى المتعلّمين من رصيد معرفيّ ومهاري يلائم الخطّة التقييميّة المحكومة بانتظارات أنساق التعلّم والتعليم...مثلما يَنصَبّ فِعْلُ التقييم في بُعْدِهِ الجزائيّ والإشهاديّ على التحقّق من مدى تماثل خصائص المقوَّمين مع ضوابط التقييم خاصّة أثناء القبول أو الارتقاء أو الرّسوب أو الرّفت...أمّا ما يخصّ التقويم التّكوينيّ – مدار اشتغالنا- فإنّ التعديل المصاحب له يهدف بدرجة أولى إلى التحقّق من مدى مطابقة شروط التنظيم البيداغوجيّ لنظام التكوين لخصوصيّات المتعلّمين ولاحتياجاتهم الذّاتيّة... وبصورة أدقّ إنّ هدف التقييم التكوينيّ لا يتمثّل فقط في الوقوف على مطابقة تحصيل المتعلّمين لمقتضيات النظام التقييميّ، وإنّما التأكّد أيضا من أنّ ميكانيزمات النّظام التقييمي ذاته وكيفيّة انتظامه وتوظيفه تستجيب هي بدورها للفروقات بين المقوَّمين ولاختلاف كفاياتهم وتنوّعها.
شَكْلُ التّعديل |
التوقيت |
وظيفة التقييم |
القـــرار |
ضمان استجابة خصوصيّات المتعلّمين لأنظمة التكوين |
إثر مرحلة التكوين |
ختاميّة- تحصيليّة جزائية - إشهادية |
القبول- التّوجيه -الجزاء الوسيط أو النهائيّ |
ضمان استجابة وسائط التكوين لخصوصيّات المتعلّمين |
أثناء مرحلة التكوين |
تكوينيّة |
ملاءمة الأنشطة لواقع المتعلّمين |
ـ تعريف التّقويم التّكوينيّ :
إنّ مصطلح التّقويم التكوينيّ نجد له امتدادا في أعمال سكريفنScriven في ستّينات القرن الماضي حول الوسائل المعتمدة في التدريس( المحامل البيداغوجية، الكتب ،الطرق والمقاربات...) ،وباختصار شديد نعرض التعاريف التالية:
Scrivenـ "التّقويم التّكوينيّ هو مُجمل الإجراءات التي تسمح بالضبط المتتابع لمسار تعليميّ وتحديد التمشّيات العلاجيّة والتعديليّة الأكثر نجاعة للاقتراب من الأهداف المرسومة".
ـ Bloom "يتمثّل التّقويم التكوينيّ في مُجمل الإجراءات المعتمدة من قبل المدرّس لموضعة تدرّج المتعلّم على ضوء الأهداف المرسومة بغرض تشخيص صعوباته وإنجاده بالاقتراحات البيداغوجيّة المناسبة".
ـ Allal.L " التّقويم التّكوينيّ يعني الحصول على المعطيات التي تهمّ تطوّر تحصيل المتعلّم، والعقبات التي تعترضه خلال عمليّة التعلّم بُغية إمداده بالعلاج الضروري".
إنّ الهدف المركزيّ للتقويم التّكوينيّ يستند إذن إلى المطلب البيداغوجيّ التالي: إنّ أخطاء المتعلّم ليست خطيئة أو حالة غير تربويّة يترتّب عنها عقاب أو حُكم قيميّ يُصنِّف المتعلّمين تصنيفا تراتبيّا مُهِينًا لبعضهم، وإنّما تستحيل هذه الأخطاء مَوْضِعَ تشخيص لمعوّقات التعلّم ومؤشّرا إلى ضرورة إعادة تنظيم العمليّات البيداغوجيّة قصد تعديل مسار التعلّم والتّعليم (حصول التغذية الرّاجعة للمدرّس).
ـ التّقويم التّكوينيّ الحِينِيّ والتقويم التكوينيّ المستمرّ والمُدْمَج:
إنّ الدّراسات المهتمّة بالتّقويم في بُعده التّكوينيّ انتهت إلى ضبط نوعين له: وهما التقويم التكوينيّ الحينيّ / الموضعيّ Ponctuelle، والتقويم التّكوينيّ المستمرّ والمدمَج continue et intégrée .فما هي خصائص كلّ منهما؟
(أ) التّقويم التّكوينيّ الحينيّ:
أثناء الممارسة التقييميّة الحينيّة الموضعيّة تكون المدّة المخصّصة لتقييم وحدة تكوينيّة مقسّمة إلى عديد المقاطع المتتالية:
- توقيت أوّل يخصّص لعرض مُهمّة التعلّم على كافّة المتعلّمين ويُسمّى ذلك زمن التعليم والتعلّم.temps d’enseignement/apprentissage
- توقيت ثان للتّقييم ،ويحرص المدرّس خلاله على الوقوف على مكتسبات كلّ متعلّم باعتماد روائز واختبارات دقيقة.
- توقيت ثالث للتقييم يُنجَز حين لا يحقّق الفعل البيداغوجيّ النتائج المنتظرة منه ،ويَلجأ أثناءه إلى أنشطة علاجيّة ملائمة ومناسبة لدرجات التّحصيل ولاحتياجات كلّ متعلّم... عَوْدٌ على بدء، فالمدرّس يقترح نشاطا جديدا للتّعليم والتعّلم يتبعه تقييم جديد وعلاج آخر للاحتياجات.
إنّ التقييم يَحضُر خلال هذه المقاطع بصفة حينيّة ودقيقة إثر كلّ وحدة تعلّم في شكل مراقبة بما يسمح برصد المكتسَب من ناحية واقتراح العلاج البيداغوجيّ النّاجع من ناحية ثانية.
أنشطة التّعليم والتعلّم |
تقويم تكويني التحقّق من بلوغ الأهداف |
أنشطة علاجيّة |
يمثّل هذا النّوع من التقييم التكوينيّ أهمّ ممارسة بيداغوجيّة مُنجزة لدى أغلب المدرّسين، فهو يتخلّل عمليّة التعليم/التعلّم ويهتمّ إلى حدّ ما بالقيس الموضوعيّ الدقيق لمستويات المتعلّمين ولعلاج ما يحتاج منها إلى العلاج...غير أنّ ذلك لا يمنع اعتبار هذا الصّنف من التقييم دون ما تحتاجه اليوم الممارسة البيداغوجية النّاجعة...فعديد المهتمّين بالشأن البيداغوجيّ يرُكّزون على تغاضي التقويم التكويني الحينيّ عن التشخيص الحقيقيّ للعوامل التي تقف وراء صعوبات التعلّم والحائلة دون الأداء المطلوب. ذلك أنّ المدرّس يقيّم باعتماد وسائل موحّدة standardisés des moyens لا تراعي استراتيجيّات كلّ متعلّم ولا أسلوبه المعرفيّ الخاصّ به ولا حساسيّته نحو وضعيّة تعلّميّة معيّنة..
(ب)التقييم التّكوينيّ المستمرّ والمُدمَج:
يُعتبر التقييم التكوينيّ ضمن هذا الصّنف تجاوزا للنّوع الأوّل وتطويرا له، فهو ليس زيادة أو فائضا surplus وليس مُحَايَثَة زمنية ومكانيّة juxtaposition مُضافة إلى نشاط التّعليم والتعلّم، بل هو من صميم فِعل التعليم والتعلّم، هو يتخلّل مساراته ويستمرّ باستمرارها وتواصلها. فالتقييم التّكوينيّ يُنجَز طيلة كلّ مقطع تعلّميّ من خلال الملاحظة اليقظة للمتعلّمين، والمدرّس حينها يكون منشغلا بصعوبات التعلّم ،متوقّفا عند أسبابها قدر اهتمامه بتمشّياته البيداغوجيّة المخطّط لها سلفا.. فهو يتابع بانتباه:
- سلوكيّات المتعلّمين طيلة مسارات تعلّمهم.
- تفاعلات المتعلّمين في علاقتهم ببعضهم البعض وفي علاقتهم بمدرّسهم.
- تفاعل المتعلّمين مع سندات التعلّم المقدّمة لهم ، ومع ما يبادرون باقتراحه.
- مستوى مرافقته لهم بتوفير مناخ آمن يضمن لهم المشاركة والسّؤال والاستفسار.
إنّ ممارسة تقييميّة بهذه الصّورة أي أنّها تُدمج الترسانة الديداكتيكيّة وتفاعلات المتعلّمين وتدخّلات المدرّس تكوينا وتعديلا وتشخيصا وعلاجًا، تمثّل في الواقع النّوعيّة المثلى للتقييم التّكوينيّ، وَوِفْقَ هذا التصوّر أيضا لا معنى لفصل التقويم عن الممارسة البيداغوجيّة أعني عن أداء المدرّس فكلاهما يمثّل كُلاًّ، فالتقييم التّكوينيّ بُعْدٌ من أبعاد التعلّم ،لا ينفصل عنه ولا يتجاهله بل هو مُدْمج فيه. يقول ميريوMeirieu (L’évaluation formative n’est pas une opération supplémentaire ,elle est une dimension de l’apprentissage en permettant l’ajustement de la démarche à l’objectif ,elle est au cœur de l’acte d’apprendre, y apporte une dynamique et en garantit l’efficacité).
التّقييم تكوينيٌّ لأنّ وظيفته هي بالأساس تكوينيّة، أي أنّه أداة للتقييم وهو يَحْمِلُ إلى المتعلّم وإلى المنظومة إفادات ضروريّة كي تتناسب أنشطة التعلّم مع حاجات عديد المكوّنات وأوّلها المتعلّمون.
*المدرّس مُكوّنًا ومُنشّطا:
كي يكون التقييم التكوينيّ في خدمة التعلّم ينبغي أن يجد المتعلّم فيه جديدا واختلافا عن التمشّيات المعتمدة تقليديا أثناء التعليم، ولعلّ الأسلوب التنشيطيّ يمثل أحد المداخل الوظيفية لذلك، فإذا كانت الطريقة التعليميّة المتوخّاة لا تفي بالحاجة لامتلاك المعرفة المبرمجة ولبلوغ الأهداف المرسومة لها فإنّ المدرّس المنشّط يمكنه استمالة تلاميذه وترغيبهم في أن يكونوا فاعلين حين التّكوين العلاجيّ قدر فاعليّتهم حين التعلّم المألوف. فكيف يكون ذلك ؟
إنّ وظيفة المدرّس المنشّط متأكّدة على ضوء المقاربات التجديدية وخاصّة في حصّة التقويم التكوينيّ المدرجة في برامج مختلف مستويات المادّة، وعلى هذا الأساس فإنّ تأثيث الحصّة يتطلّب مهارات تضمن نجاحها وتحقّق أهدافها:
|
خطاطة الإنتاج |
خطاطة التدخّل والتّيسير |
خطاطة التّعديل |
المدرّس يسمح بالحركة. يمكّن المتعلّمين من تحديد الأهداف. يستثمر منتوجهم ويعدّله ويثمّنه. يحرص على أن يكون إنتاج المتن جماعيّا. |
يتدخّل لتحديد الحاجات. يتخيّر الوسائط والسّندات الضروريّة. يوزّع الأنشطة ويراقب عمليّة إنجازها. يدير الحوار وينظّم التدخّلات. يذلّل ما عسُر ويثري عند الحاجة. يُشرك أكبر عدد من التلاميذ. |
يوفّر الأمان ويُحسن الإصغاء. ينسّب المواقف والآراء. يعدّل التمشّيات والمنتوج. يُحسن إدارة الخلاف والصّراع. |
إنّ علاقة التّكوين بالتعلّم وثيقة، فحين يكون التّعليم يكون التّكوين، مثلما أنّ التّكوين تأثيث للتعلّم وسبيل إليه، فكلّ ممارسة تقييمية تنبني في الواقع على رهان شديد التفاؤل محوره المتعلّم مُنطلَقًا ومُنتهًى:
- فكُلُّ متعلّم ،بحكم كونه متعلّما، يرغب في التعلّم ويسعى إليه ويحتاج إلى من يساعده عليه.
- وكُلُّ متعلّم أيضا ينتظر تبديد شكوكه التي تنازعه وإزالة عثراته التي تُعيق نجاحه.
- وكُلُّ متعلّم يحتاج إلى مَن يعدّل له مساراته ويرسم له أقوم المسالك للفسحة في أحوال المعارف.
ولكن ما كُلُّ ما يرغب فيه المتعلّم يُدركه لأنّ العمل المدرسيّ مازال للأسف الشديد يميل نحو تفضيل الأنشطة المغلقة والمهيكلة والتقليدية التي يطلبها التقييم الكلاسيكيّ الذي يُفرز مدرّسين يُفضّلون الكفايات القابلة للعزل والتّرقيم على حساب الكفايات ذات المستوى العالي (التّفكير، التّحليل ،الاستنتاج، الحجاج، النقد...).
عبدالله عطيّة (متفقد أوّل للمدارس الإعداديّة والمعاهد)
ملتقى وطني حول التقييم التكوينيّ
توزر ، 24 و25 أكتوبر 2016
المراجـــع:
-التّقييم: مجالاته وأنواعه، وقائع الملتقى الثاني عشر ،صفاقس 5 / 6 فيفري 1998. منشورات التفقديّة العامّة للتّربية ،تونس.
-Mourad Bahloul . Pour une anthropologie de l’apprentissage : Etude sur le rapport sujet-savoir ; MED ALI EDITIONS ; Sfax 2001.
- Pierre Giolitto; Enseigner l’éducation civique à l’école ; ed :HACHETTE Education ;1993.
Pierre Mahieu ; Travailler en équipe ; Education HACHETTE ;1992.-