إن الانتشار الكبير في المجال التربوي للسوسيو-بنائية كنظرية تدعو إلى تمكين الفرد من بناء معارفه ذاتيا والقطع مع الممارسات التربوية التقليدية القائمة على النقل والشحن المعرفي، إضافة إلى التطور الذي عرفه التفكير في التعليم وفي التَّعَلُّمْ، المتمركز حول المتعلمين. هذا التطور الذي طبعته علامات بارزة تتجلى في التركيز على الطرق النشيطة والنقاش حول أولوية التحفيز وحول علاقة المعرفة بالطريقة، والقائم على الربط بين أهداف المعرفة ومعرفة-الفعل، مع إعطاء الأولوية أحيانا لمعرفة الفعل. دفع إلى البحث عن نموذج بيداغوجي يعطي معنى للتعلمات، ويدخل المتعلمين في خطوات تمكنهم من بناء تعلماتهم الخاصة وتوفر لهم فرصة الاكتساب الجيد للمعارف والمهارات المتداولة.
في هذا السياق "أغرقت فكرة المشكل المدرسة والتكوين اليوم"1. لأن "رغبة تقديم المشكل بالمدرسة وتقديم المتعلمين في وضعيات تسمح لهم بتشغيل تفكيرهم وترسيخ وعيهم بكون تطورهم رهين بمواجهتهم للمشاكل. أصبحت طموحا عاديا للمدرسة وللمدرس، نظرا لإسهام الإرث التربوي في الاستئناس بالفكرة"2 ، خاصة في ديداكتيك العلوم والرياضيات
في محاولة للإحاطة بضبابية فكرة المشكلة سنقدم أهم ما أورده ميشيل فابرMichel Fabre في مقال له حول حضور المفهوم في الفلسفة المعاصرة ناقش فيه أفكار أربعة من فلاسفة المشكل Bachelard, Dewey, Deleuze, Mayer مستقصيا مراحل الظهور الابستمولوجي لبراديكم المشكل، وانعكاساته على الحقل التربوي والبيداغوجي.3
أ- قراءة في مفهوم المشكل عند فلاسفة المشكل(ديوي-باشلر-دولوز- مايير)
انطلق ديوي Dewey في فلسفته من كون "الحياة تكيف"، هذه الفكرة التي تبرز صورة التفكير كتعبير مؤهل للمراقبة الذاتية والتوسع، من خلال طرح مشكل يهدف إلى التحديد الجزئي لما يربط عناصر وضعية ويوحدها في كل منسجم.
لقد اخترع ديوي شخصية "المحقق" أو بالأحرى "المجرب". ليجعل منه رجل التجربة الذي يجسدها بشكل موضوعي، مما يسمح لها بالنمو ويجعلها مفتوحة وجاهزة لتجارب أخرى.
"إن المشكل عند ديوي يعني القطيعة داخل الاستمرارية في التجربة، أو انعدام التوازن بين الشخص ووسطه. والتحقيق كمفهوم خاص بطرح المشكل هو عملية تهدف إلى تحقيق التوازن الضائع"4، لكنها موازنة تدمج كل القالب الثقافي للتحقيق والذي يطعمه القالب البيولوجي.
"إن التفكير في التكوين حسب دينامية مكيفة لبيداغوجية المشروع والمشكلات، هو بالنسبة لديوي محاولة لإقحام الطفل في العالم الإشكالي الذي قدر له العيش فيه...لقد فتحت نظرية التحقيق ورشة العمل على المشكلات. كما أعلنت انطلاقة بيداغوجيا المشكل التي ستكتسي عند ديوي طابع بيداغوجيا المشروع، لكنها ستنفتح على أشكال بيداغوجية متنوعة"5.
أما باشلر Bachelard فتقترب فلسفته من فلسفة ديوي "من حيث الاهتمام بالتكوين كنشاط منتج وبناء يدوم مدى الحياة... لقد استعاد باشلر فكرة تجربة تتحكم في نفسها ذاتيا، لكنه رفض فكرة التكيف". ارتكز التفكير الباشلري على ثلاث مفاهيم أساسية هي: الازدواجية dédoublement، "الإعادة أو التكرار recommencement، القطيعةrupture. و"خلق شخصيتين مفاهيميتين هما "المعلم" و"المتعلم" تتعاكس وضعياتهما، فالتفكير بالنسبة له هو مراقبة الذات، وتكرار الأفكار المراقَبة والمراقبة في الواقع والقوانين. من هنا يأتي المفهوم الثاني لباشلر وهو "الإعادة" حيث يرى أن التكوين المستمر ليس زيادة في التجربة ولكنها عودة دائمة إلى القواعد المفترضة وتحطيم الماضي السيء للعقلانية لفتح مستقبل جديد". وهكذا يمكن فهم مفهومه الثالث "القطيعة"، إذ أن القطيعة عنده ليست كما هو الحال عند ديوي (ضمان استمرارية التجربة)، بل تتم في وقت متقطع ناتج عن التحولات الثقافية، لكن القطيعة ليست هي القطع rupture n’est pas coupure حيث يتطلب طرح المشكل العمل دون توقف على ماضي الفكرة (التمثلات، الأحكام المسبقة، المعارف الميتة).
بناء على ما سبق فإن البيداغوجيا عند باشلر تؤسس لجدلية الاستمرارية والقطيعة. فالطرح الإشكالي عنده لا يهدف إلى تحقيق توازن مفقود ولا إلى بناء توازن أفضل، بل يهدف إلى تجديد الفكرة وتشبيبها وتخليصها من الأحكام المسبقة ...ومن كل ما قد يشكل عائقا لتطورها.
إن إضافة باشلر مزدوجة، لأنه أسس لنوع من العمل المفاهيمي يرجع لعلم النفس المعرفي من خلال وضعه لفكرة طرح المشكلة في حقل العلوم. كما أنه ربط بشكل وثيق طرح المشكلات و التكوين بنقطة التفكير في المعارف القبلية المتعارف عليها دون إخضاعها للتجارب، أي من داخل عملية التفكير التي تؤدي إلى إنتاج المعرفة كمدرسة قائمة بذاتها وكجدلية مدرس/متعلم، كرد فعل على ذلك جعل غاية المدرسة خلق معلم داخلي، وأكد على مبدأ التربية على الصرامة."6
بالنسبة لدلوز Deleuze فإن الفكرة الجوهرية لفلسفته تقوم على بديهية هيراقليطية، إنها تدفق ما هو قادم (التغيير الدائم في الكون) لهذا فهو يعيد فكرة نتش Nietzsche و برغسون Bergson المتجلية في النقد العام للتمثلات، فالتفكير بالنسبة له، لا يكمن في مراقبة التعابير و إنما في التفكير بشكل مخالف وتحطيم الصورة الدغمائية للفكر. وهكذا تصبح المفاهيم الناظمة الأساسية لدلوز" هي "الاختلاف" "الاعادة". لم يجعل دولوز من "الابتعاد عن النموذج مخططه الانتقائي وإنما العودة الأبدية"7 .موظفا سلسلة غير منسجمة من الشخصيات المفاهيمية. )دينوزوس Dionysos ، سبينوزا Spinoza–مسيح الفلاسفة- ، بييجي Péguy –المبكر السابق لزمانه- ، و أليس Alice -تناقض المعاني-). ليجمع بين اختلافات متحررة من المرجعية إلى أي نموذج.
إن طرح المشكل عند دولوز كما هو الحال عند باشلر نقد يهتم بالتمثلات كوهم حيوي. "لأن المشاكل تلقي بظلها المحمول والمشوه على الرأي. ودور الفلسفة هو رفض المشاكل غير الحقيقية، وايضا نقل المشاكل وبناؤها بشكل جديد.
إن إعادة البناء هذه تشكل قوة نقدية للمنطق البيداغوجي، لكون المدرسة التقليدية تبدو كقالب صورة دغمائية للتفكير، تعطي أولوية للأجوبة على الأسئلة وتتجاهل مجال المعاني (إعطاء معنى للتعلمات) ... كما أن المدرسة تعتمد التقسيم العقلاني للمهام، المثقل بالتوقعات القبلية السياسية (الانتظارات) التي تعتمد عليها السلطات لطرح وبناء مشاكل على الأفراد حلها، دون مناقشة او تفنيد الطريقة التي أعلنت بها.
لم يتوقف دولوز عند هذه اللحظة النقدية بل وضع فلسفة الاكتشاف والابداع، التي يرى فيها أن الإبداع والاكتشاف والتعلم هو تنفيذ وإعادة تنفيذ عملية خلق الحلول انطلاقا من التحديد المتقدم للمشاكل. إن الابداع والخلق عنده هو فحص ثنايا ما ستكون عليه بنية إشكالية غير ثابتة أو ستفقد ثباتها8 .
أخيرا، يرى ميشيل ميير Michel Meyer أن البدء من البداية هو البدء من السؤال الذي لا يقترح قبليا إلا السؤال نفسه، وضمن هذه المنهجية يندرج اللغوس كجوهر للتساؤل، كسبب غير معروف وذو معنى متغير بشكل دائم للتساؤل.
"لقد قدم ميير Meyer تأليفا مسرحيا فلسفيا مثيرا للإعجاب تميز بنسيان الأسئلة و الاهتمام بالإجابات. حيث رسم شخصياته المفاهيمية الوثنية من خلف الشخصيات التي يمررها (سقراط، أفلاطون، أرسطو، كانت...)، حيث تقوم فكرته الرئيسية على عزل الأجوبة وتفرقتها عن أسئلتها، وعلى نسيان المشاكل التي أسستها، وباختصار إلى جعل المعرفة صنما جامدا (عبارة عن نصب تذكاري). إن الوثنية لديه شبيهة بأورفيس Orphée الذي نزل إلى العالم السفلي لإنقاذ Eurydice لكونه لم يستطع التوقف عن حبها بذاتها ولذاتها، الأمر الذي حولها إلى صنم، على العكس من ذلك فإن مجهود منطق حل المشكلات يسعى إلى إعادة الحيوية للأجوبة. فالشخص الإيجابي بالنسبة ل Meyer يصبح نوعا من البيكماليون Pygmalion (النحات الذي نحت امرأة رائعة الجمال وطلب من الآلهة أن تمنحها الروح فحققت له أفروديت رغبته) بحيث يحاول منح الحياة لتمثال حجري.
إن كل مجهودات Meyer ارتكزت على إمكانية البحث من خلال العمل على السؤال-جواب. وتكمن أصالة فلسفته في اعتماد العقلانية التساؤلية في ميدان البراغماتية، وتعزيز البلاغة كنموذج عام للعقلانية. مما يمنحها قيمة كبيرة بالنسبة للفلسفة والعلوم في نسختها بعد –الوضعية من حيث اهتماها بالأمور المحتملة (الاقرب من الواقع) والنماذج المستعارة من الواقع. وكذلك من حيث كون التزييف البوبري falsification poppérien يدفعها إلى طريق الجدل والحجاج والدحض."
إن منطق المشاكل عند Meyer لا ينخرط بشكل مباشر في ميدان التربية إلا أنه يساعد على فهم كون تجميد المعارف يشكل خطرا دائما، لتمسكه بالتعاليم التقليدية. فهو ليس حدثا ديداكتيكيا عرضيا لكونه يندرج ضمن التاريخ الطويل لنسيان المشاكل الذي يطبع كل نظريات المعرفة منذ أفلاطون. لا يتعلق الأمر بتفريغ المدرسة من نصيبها من المسؤولية ولكن بكل بساطة يضع هذه المسؤولية من وجهة نظر تاريخ الفكر. ورغم إثقال مهمة التجديد البيداغوجي بهذه الطريقة فإن هذا الغوص في التاريخ يفتح المجال لتصورات جديدة.
إذا تتبعنا فكر Meyer فإن أمل إعطاء المعرفة بُعدَ المنطق الاشكالي لن يذهب عبثا. وعموما فإن بعض الأمور المرتبطة بفلسفة المشكل يمكن أن تتحقق اليوم نتيجة لتراجع التيار الرافض لمنطق المشكلات، لهذا فإن التفكير البيداغوجي والديداكتيكي يجب أن يغتنم هذه الفرصة 9.
ب- المعايير الخمسة للمشكل
من خلال الدراسات التي قدمها Michel Fabre حول المنطق الإشكالي، مع محقق ديوي ، جدلية المدرس/المتعلم لباشلر، والفوضوية النظرية و الخلاقة لدلوز، و بيجماليون ميير Meyer أبرز لنا المشهد الإشكالي بشخصياته المفاهيمية التي تتموقع في تقاطعات البيداغوجيا و الابستمولوجيا. على أنها الوجه الدينامي للتعلم. وسعيا منه إلى إعطاء تعريف واضح ومحدد لمفهوم المشكل استخلص خمسة معايير لبناء المشكل اتفق عليها الفلاسفة الاربعة الذين خصهم بالدراسة "يتعلق الأمر بكون الأشكلة:
- مسار متعدد الابعاد يشمل الوضعية والبناء وحل المشكل.
- مسار يعمل على جدلية الأفكار والوقائع خاصة عند ديوي سواء تعلق الأمر بالأشكلة العلمية أو بأشكلة الحياة اليومية. كما أن باشلر، ميير و دولوز يفكرون في البحث العلمي كجدلية للنظريات والتجارب، أو جدلية المرجعيات والاستدلالات. هذه الجدليات ستأخذ بطبيعة الحال مظاهر مختلفة حسب المنهج المتبع (علمي،فلسفي..)
- البحث في المجهول انطلاقا من المعلوم، أي ببناء عدد معين من نقط الارتكاز للتساؤل من خلالها، إذ أنه لا يمكن التساؤل بدون وجود نقط ارتكاز ممكنة، رغم أن هذه الركائز ليست حقائق مطلقة لكنها رفوف مؤقتة يمكن تعريضها للمساءلة فيما بعد خلال أشكلة جديدة.
- تفكير مقيد بمعايير (ثقافية، جمالية، تقنية، براغماتية، ...)، تُساهم تارة في التحديد القبلي وأخرى في بناء هذه المعايير، وتسمح بتشكيل شروط المشكل والتنبؤ بالأشكال التي يجب أن تأخذها الحلول. وقد أكد باشلر بشكل كبير على هذه الضرورة ك" مراقبة فكرية للذات" يجب أن ترافق المسار المعرفي عموما والأشكلة على وجه الخصوص.
- التخطيط الوظيفي للوقائع الذي لا يسعى إلى إعادة إنتاج الواقع وإنما إلى بناء أدوات التفكير والفعل حيث موضع باشلر الأشكلة بين التفكير المستوي (أحادي البعد) القائم على الجرد ودراسات الحالة. وتفكير (ثلاثي الأبعاد) يتوقع إعادة إنتاج الواقع "10.
لقد جاءت إضافات فلسفة المشكل لكل من ديوي وباشلر ودولوز وماير بشكل منتظم مع إضافات ديداكتيكية وبيداغوجية، مؤكدة ظهور براديكم خاص لمفهوم المشكل أصبح أداة لإعادة تأسيس المدرسة. خاصة مع تطور خطوات التعلم الذاتي-السوسيو-بنائي الذي حول الممارسات التربوية من براديكم التعليم إلى التعلم، رغبة في ملاءمة المحتويات التعليمية مع اهتمامات المتعلم، من اجل إعطاء معنى للتعلمات ودفع المتعلمين إلى بناء تعلماتهم ذاتيا.
1- Michel Fabre. «Qu’est-ce que problématiser ? Genèses d’un paradigme», Recherches en Education - n° 6 Janvier 2009, p9.
2- Vincent Hubert, « La part du problème à l’école». Recherche en Education n°6Janvier2009 , p7
3- Michel Fabre. «Qu’est-ce que problématiser ? Genèses d’un paradigme», Recherches en Education - n° 6 Janvier 2009.P22/32.
4- Ibidem, pp23.
5- Ibidem, pp23
6- Michel Fabre., ibid, p24.
7- ibidem,p24
8- Michel Fabre., ibid, p25.
9- Michel Fabre, ibid, pp 25-26.
10- Michel Fabre. Ibid, p28.