1ـ تمهيد :
اعتمدت المدرسة المغربية رسميا القراءة المنهجية في منهاج اللغة العربية في التعليم الثانوي إبان المراجعة التي خضعت لها المناهج في الموسم الدراسي 95 – 96 ، وذلك بعد اعتماد التلاوة المفسرة مدة طويلة ، وقد تم اقتباس القراءة المنهجية من الأدبيات التربوية الفرنسية والتي تم اعتمادها رسميا في المدرسة الفرنسية منذ سنة 1988 ، وقد تم تحديد مفهوم " القراءة المنهجية " من خلال الجريدة الرسمية للتربية ، وهي صادرة عن وزارة التربية الفرنسية بتاريخ 05-02-1987 كما يلي : " إن القراءة المنهجية قراءة مدروسة ومعدة بإحكام ، تمكن التلاميذ من إثبات أو تصحيح ردود أفعالهم الأولى كقراء ، ويستدعي اختلاف أنواع النصوص ... منهجيات قرائية متعددة تتبلور من خلال سير العمل ، وتسمح متطلبات القراءة المنهجية بمنح قدر أكبر من الصرامة لما كان يسمى عادة بشرح النص أو تفسيره "[1] .
و " حفاظا على خصوصية النص كنسيج يمكن أن تتنوع القراءة تبعا لنظام النص كنظام أكثر تركيبا ، وهي تتخذ لكل نوع من أنواع الخطاب ولكل صنف من أصناف النصوص أدوات تحليلية ملائمة ، وبدل أن تقترح شبكة واحدة ووحيدة لقراءة جميع النصوص فهي تأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل نوع " [2] .
وقد مرت القراءة المنهجية برحلة طويلة من أصولها التربوية الفرنسية إلى أن تكيفت مع ما يتوافق وطبيعة الأدبيات التربوية المغربية من خلال الوثائق والتوجيهات التربوية الرسمية ، واستثمارها في الكتب المدرسية المتنوعة ، وطريقة توظيفها من خلال الممارسات الصفية المختلفة ، وتقويمها من خلال الأطر المرجعية المعتمدة في فروض المراقبة المستمرة والامتحانات الإشهادية ، وقد أدت هذه الرحلة الطويلة إلى إفراغ القراءة المنهجية من بعض محتوياتها ، والحد من فاعليتها الإجرائية في التعاطي مع النصوص الأدبية المقررة ، وما ينتج عن ذلك من اختلالات ونقائص قد تنعكس سلبا على جواهر النصوص وجوانبها الفنية .
من خلال ما تقدم نريد أن نتساءل عن الظروف والملابسات و الأطراف المتدخلة والمسؤولة عن هذه "الاختلالات" ، وما هي المستويات التي كانت وراء هذه النقائص والثغرات التي تعتري القراءة المنهجية ، هل هو مستوى التصورات النظرية والنقدية المؤسسة لهذه القراءة ، أم أن الخلل قد تطرق إليها من خلال التوجيهات التربوية الرسمية المؤطرة للممارسة الصفية ؟ أم أن الممارسة البيداغوجية للتصورات النظرية والنقدية والتوجيهات التربوية الرسمية هي التي كانت سببا في هذه العيوب والعلل التي تسم هذه الطريقة في قراءة ومحاورة النصوص الأدبية -خصوصا- ؟ .
2 ـ القراءة المنهجية وطبيعة المعرفة :
ساهمت القراءة المنهجية بعدد خولها حقل التربية في إحداث نوع من الحركية والدينامية في الممارسة الصفية ، كما ضخت دماء جديدة في الممارسات البيداغوجية والديداكتيكية لدى معظم المدرسين ، غير أن الكثير من المدرسين قد ركنوا إلى هذه القراءة شيئا كثيرا حتى غدت البوصلة والوسيلة والغاية التي تمثل أعز وأقصى ما يطلب ، والحال أنها لا تعدو كونها طريقة من بين طرق أخرى متعددة منها وا عرف وجرب ومنها ما لم تهتدي إليه بعد أبحاث المهتمين بهذا المجال .
ويبقى الأساس الذي يينبغي أن تركز عليه الممارسة الديداكتيكية والانجازات الصفية هي الاهتمام بطبيعة المعارف ، والعمل على استكناه خصائص المعرفة ، لأنه في غياب ذلك يستحيل تطوير تصورات ديداكتيكية ، ومن الوسائل المساعدة على ذلك معرفة النصوص المدروسة والمقروءة والوقوف عند اختلاف طبيعتها وخصائصها الفنية مما يمكنه المساهمة في تطور التصورات المعرفية والديداكتيكية والبيداغوجية التي تمكن من قراءة النصوص وتحليلها وتفكيكها بما يحترم خصوصية كل نص من النصوص .
يشكل الاقتصار على القراءة المنهجية كطريقة وحيدة لقراءة النصوص جميعها ضربا صريحا وإقصاء واضحا لمفهوم النسبيةالتي تتيح هوامش واسعة وفسيحة ، وحرية أكبر لامتداد النصوص ، كما تتيحها للمتعلم والمدرس ، فبخصوص النص تمنحالنسبية امكانيات متعددة لتسليط الضوء على جوانب لغوية ودلالية وفنية وتأويلية بتعدد القراء وزوايا النظر التي يطل منها القراء على هذه النصوص ، كما تتيح النسبية للمتعلمين أن يطلقوا العنان لتفكيرهم وخيالهم في بناء المعنى الذي يحتمله النص والذي يمكن أن يتجسد في صور مختلفة وكثيرة بعدد القراء واختلاف تمثلاتهم وخلفياتهم الفكرية ومنطلقاتهم الثقافية .
بالإضافة إلى أن النسبية تقتضي الانصات إلى تفاعلات المتعلمين التي تحمل تمثلاتهم وتصوراتهم لما يتم داخل المدرسة عموما ، وداخل فضاء القسم بشكل خاص ، كما يتطلب الانصات من المدرس أن يتخلص من التصلب والانغلاق الذي يغلف تصوراته حول هذه النصوص من خلال القراءة الأولى التي قرأها بها اعتمادا على القراءة المنهجية ، فمن شأن الانصات أن يجترح للمتعلم سبيلا ممتدا ورحبا للتفكير والتحاور مع ذاته أولا ومع الآخر – المدرس- ثانيا ومع زملائه المتعلمين ثالثا ، وبذلك تنفتح أمام المتعلم آفاق جديدة في مسيرته التعلمية والحياتية .
3 ـ القراءة المنهجية كعائق ديداكتيكي :
يمكن أن تشكل القراءة المنهجية في صورتها النمطية "المحنطة" عائقا ديداكتيكيا ونفسيا أمام مقاربة النصوص وتجزيئها وتفكيك عناصرها ومفاصلها أمام المتعلم من أجل دفعه إلى إعادة بناء معنى خاص به يساهم بدوره في تأسيس نواة لمعرفة تتخلق وتنشأ في ذهن المتعلم حتى لا يكون بناء المعرفة تلقيحا اصطناعيا يمنح للمتعلم معرفة مستنسخة . وعليه فإن المدرسة المغربية مدعوة إلى عدم الاعتقاد في الاحاطة بالمعرفة وبطرق تقديمها ، لأن في ذلك توضيحا وتدليلا على جهلنا المطبق لطبيعة المعرفة التي لا تعرف الثبات والاستقرار ، وما من شك في أن الاستسلام لطريقة وحيدة في النظر إلى النصوص سيؤدي حتما إلى الكسل والآلية وبناء السلوكات الانعكاسية التي ينسحب فيها العقل ويستقيل من دوره ووظيفته في التفكير والهدم وإعادة البناء المستمرين .
تركز القراءة المنهجية المعتمدة في قراءة وإقراء النصوص الأدبية أساسا في التعليم الثانوي بحكم بنائها على مراحل ثابتة قائمة على الأمر والتوجيه والاقتياد إلى القيام بأعمال بعينها والتفكير بطريقة محددة والنظر من زاوية معينة ، ويتمثل خطر هذه الممارسات على المتعلم في الآثار السلبية على ملكة التفكير عنده ، إذ تحد من تطورها ونضجها ، إضافة إلى أن التعلم بصفة عامة لا يكون بالأمر والنهي ، كما أن القراءة والكتابة والتفكير كلها أمور لا تكون بالأوامر ، وإنما يحدث كل ذلك بشحن نفسية المتعلم بالرغبة ودفعه إلى الانخراط في جو التفكير والتعلم .
ومن المعلوم أن بنيات الأذهان وطرق التفكير تتميز بالاختلاف والتمايز ، مما يؤكد أن الفكر نسبي والأفكار التي تنشأ من خلال التفكير تبقى نسبية ولا يمكنها أن ترقى إلى درجة الإطلاق ، والعقل الذي يظن ويؤمن بإطلاقية أفكاره هو عقل تعوزه المعقولية ويغشاه التخلف والانحسار ، وهو عقل سرعان ما يتجاوزه الزمن ويلقي به في مجاهل التحجر والنسيان .
[1] ـ الجريدةالرسميةللتربية،عنوزارةالتربيةالفرنسيةبتاريخ 05-02-1987-1
[2] ـ عبدالرحيم كلموني ،"مدخل إلى القراءة المنهجية " ، ص : 13