عندما يرتبط الرجل والمرأة بعلاقة زواج في المجتمعات الحديثة غالبا ما يتساءلان في بداية زواجهما: متى يجب أن ننجب طفلنا الأول؟ وتختلف الإجابة على هذا السؤال من أسرة لأخرى باختلاف ظروفهما الاجتماعية والاقتصادية والثقافية… ويمكن حصر هذه الإجابة في احتمالين رئيسيين: إما أن يقرر الزوجان تأخير الإنجاب بعض الوقت باللجوء إلى وسائل عديدة بانتظار أن يتمتعا أكثر بعلاقتهما الزوجية قبل تحمل مسؤولية الطفل، وبانتظار أن يوفرا للوافد الجديد الظروف الملائمة لمجيئه، وإما أن يقررا الإنجاب دون تأخير لرغبتهما في أن ينجبا طفلا في مرحلة مبكرة من زواجهما.
عندما يكون الطفل غير مرغوب فيه من طرف والديه أو أحدهما:
في بعض الحالات قد يأتي الطفل دون أن يكون مجيئه مرغوبا فيه من طرف والديه أو من طرف أحدهما على الأقل، كأن يكون مجيئه نتيجة عدم فاعلية الوسائل التي لجأ الزوجان إليها لتأخير الإنجاب، أو نتيجة خطأ في استعمال هذه الوسائل. وقد يكون الزوجان يرغبان في أن يرزقا بطفل ذكر إلا أنهما يرزقان بأنثى، أو قد يحدث العكس. وفي هذه الحالات يأتي الطفل دون أن يكون مرغوبا فيه من طرف والديه أو من طرف أحدهما، الأمر الذي ينعكس –بصفة شعورية أو لا شعورية- على تعاملهما مع الطفل حيث يرضخان على مضض للأمر الواقع مما يشعرهما بالذنب لإدراكهما أن الطفل ليس مسؤولا عن كل ذلك.
وفي مجتمعنا العربي باعتباره مجتمعا أبويا ذكوريا فإن الشعور بالذنب قد يبلغ درجة قصوى حيث يقدم الزوج، في بعض الحالات، على تطليق الزوجة لأنها لم تنجب طفلا ذكرا على الرغم من أن الرجل –من الناحية العلمية- هو المسؤول عن تحديد جنس المولود، أو قد يتزوج بامرأة أخرى على أمل أن تلد له طفلا ذكرا، أو قد يعرب صراحة عن عدم ارتياحه لمجيء الطفل مخالفا بذلك ما تدعو إليه القيم الروحية والأخلاقية والاجتماعية.
والذي يهمنا في هذا الموضوع هو وضعية الطفل الذي يأتي إلى هذا العالم وهو غير مرغوب فيه: كيف يعامل من طرف والديه، وانعكاسات مجيئه عليهما وعلى علاقتهما ببعضهما البعض؟ وهذا التساؤل يشمل أيضا الطفل الذي يعامل من طرف والديه بشكل يجعله يشعر بأنه غير مرغوب فيه من طرفهما. وعدم رغبة الوالدين بابنهما قد تكون شعورية أو لا شعورية. وغالبا ما يكون التعبير عنها بكيفية غير مباشرة ولا شعورية، فقد يتسم تعامل الوالدين مع الطفل غير المرغوب فيه بنوع من القسوة التي لا يجد الأبوان تفسيرا لها، كأن لا يستجيبان لمعظم رغباته ويضيق هامش التسامح في تعاملهما معه بحيث يؤنب ويعاقب لأتفه الأسباب، مما يشعره فعلا بأنه غير مرغوب فيه من طرف والديه، الأمر الذي يبعث فيه الخوف وعدم الشعور بالأمن. ويشير المعالج النفسي الفرنسي راباي في هذا الصدد إلى أن الأفراد الذين يعتقدون بأنهم مرغوب فيهم من طرف والديهم يشعرون بالاطمئنان والتوازن النفسي، على عكس الذين يعتقدون بأنهم جاؤوا إلى هذا العالم بطريق الخطأ أو صدفة فإنهم يعانون من صعوبات في علاقاتهم بوالديهم ويشعرون بالذنب كما لم كان الخطأ ما زال مستمرا.
وأي طفل لا يريد فقط أن يكون مرغوبا فيه من طرف والديه، وإنما أيضا يريد أن يكون هو وحده المرغوب فيه قبل غيره من الآخرين حتى ولو كانوا إخوته. وليتذكر كل منا بعض مراحل طفولته ليرى كيف أنه أحيانا كان يتنافس مع إخوته وأخواته للاستئثار بعطف الوالدين وحبهما، وأنه كان يحرص أن لا يغضب والديه له كان يمنحه شعورا بالأمن والثقة بالنفس.
الحب هو الغذاء النفسي للطفل:
يخطئ بعض الآباء الذين ينظرون إلى أبنائهم كما لو كانوا مجرد جهاز هضمي، ويغيب عنهم أن الأطفال لا يحتاجون فقط إلى الطعام.. وإنما أيضا إلى الحب والعطف، وإلى أن يشعروا بأنهم مرغوب فيهم وبأنهم يحظون برعاية أسرهم وعنايتها، كما أنهم مصدر سعادتها وفرحها. ومما يؤكد هذه الحقيقة أن الإحصائيات المتعلقة بانحراف الأحداث في مختلف المجتمعات المعاصرة تشير إلى أن عدم توفر الوسط الاجتماعي الملائم لنمو الطفل، حيث يحرم الطفل من اهتمام ورعاية والديه وعطفهما عليه… يشكل السبب الرئيسي لانحراف الأحداث.
إن الحب هو الغذاء النفسي للطفل، وحاجة الطفل للحب لا تقل عن حاجته للطعام. ويخطئ الآباء عندما يربطون حبهم للطفل بما يحققه من نجاح فيؤكدون له بأنه كلما نجح أحبوه أكثر، وكلما فشل فإن حبهم له يتناقص. وعلى الآباء أن يظهروا لأبنائهم حبهم الدائم لهم، وأن لا ينسوا أن الحب يعتبر من أهم الشروط الضرورية لنمو شخصية الطفل بكيفية سوية. لذا فقد نص المبدأ السادس من الإعلان العالمي لحقوق الطفل على حاجة الطفل إلى الحب والتفهم لكي تتفتح شخصيته وتنمو بكيفية متوازنة.
ولتأكيد أهمية الحب في نمو شخصية الطفل فقد نشرت صحيفة الفيغارو الفرنسية نتيجة استطلاع أجري على عينة من الأطفال الفرنسيين تتراوح أعمارهم بين 8 و14 سنة، وعرضت على الأطفال مجموعة كبيرة من الكلمات، وطلب إليهم اختيار أجمل هذه الكلمات وترتيبها تنازليا حسب تقديرهم لجمالها وما توحيه إليهم من معاني رقيقة. وقد اختار غالبية الأطفال المستجوبين كلمة "حب Amour" كأجمل كلمة في اللغة الفرنسية، أما كلمة الأم Mère فقد جاء ترتيبها الحادي عشر، وكلمة أب Père جاء ترتيبها الخامس والعشرين.
ومن المفارقات التي قد نصادفها في مجتمعاتنا في هذا المجال أن الأم، وقد أنجبت ابنها الذي لم تكن ترغب بإنجابه، ينتابها خوف من شعورها بعدم رغبتها بالمولود الجديد، فتحاول إخفاء هذا الشعور بما هو نقيض له، فتبدي اهتماما مبالغا فيه نحو طفلها وعطفا شديدا عليه، كما لو كانت –بطريقة غير واعية- تريد التكفير عن شعورها الآثم إزاء ابنها الذي لم تكن ترغب في مجيئه إلى هذا الوجود. ويكتشف المعالجون النفسيون أحيانا أن التعلق الشديد والمرضي بالطفل قد يكون في الأصل تعبيرا عن رغبة لا واعية برفض هذا الطفل.
الطفل غير المرغوب فيه من طرف زوج الأم، أو زوجة الأب:
بالنظر لتزايد حالات الطلاق في مجتمعاتنا فإن كثيرا من الأبناء يجدون أنفسهم بعيدين عن أمهاتهم أو آبائهم حيث يجبرون على العيش، في غالب الأحيان، إما مع زوجة الأب أو مع زوج الأم عندما يتزوج الأب من جديد أو تتزوج الأم من جديد. وعلى سبيل المثال يستفاد من بحث ميداني أجرته الجمعية المغربية لمساعدة الأطفال ذوي الحالة غير المستقرة (A.M.E.S.I.P.) على عينة من الأطفال المشردين بمدينة الرباط، أن 33 بالمائة من الذين شملتهم الدراسة يعيشون مع آباء مطلقين أو أمهات مطلقات، وأن 40 بالمائة من هؤلاء الآباء والأمهات تزوجوا من جديد. وقلما تنجح الأسرة –في هذه الحالة- في تفادي مشاعر الكره والرفض التي تنتاب الطرفين (الابن وزوجة الأب، أو الابن وزوج الأم). ونتيجة لذلك كثيرا ما يتوزع أفراد الأسرة بين طرفين متصارعين بكيفية صريحة أو خفية.
فالابن الذي يضطر أن يعيش مع زوجة والده الذي انفصل عن أمه يشعر بالعداء إزاء زوجة والده التي يعتبرها مسؤولة عن انفصال والده عن أمه، ويحاول أن يلجأ إلى كل ما من شأنه أن يثيرها كتعبير عن رغبته في الانتقام منها، وتبادله زوجة الأب نفس الشعور إذ تعتبره يمثل المرأة التي ترى فيها غريمة لها.
وتتأجج مشاعر الكره المتبادل عندما تنجب الزوجة ويشعر الابن أن زوجة أبيه تعامله بقسوة وحقد على عكس معاملتها لابنها الذي أنجبته. وكثيرا ما تقع نزاعات داخل هذا النوع من الأسر بسبب سوء معاملة زوجة الأب لابن زوجها مما يجعل الأب يشعر بالإحراج، فهو من ناحية، يتعاطف مع ابنه المظلوم، ومن ناحية أخرى لا يرغب في تعميق الخلاف مع زوجته.
ونفس المعاناة يعيشها الابن، مع زوج أمه، حيث تتعاطف الأم مع ابنها، مما يثير غيرة وغضب الزوج، وأحيانا يتطور الموقف إلى نزاع مكشوف بين الزوج وزوجته. ويتعزز شعور الكره بين الابن وزوج أمه عندما تنجب هذه الأخيرة ولدا يعامل من طرف والده بمزيد من الحب والعطف، على عكس المعاملة القاسية التي يلقاها ابن الزوجة من طرف زوج أمه.
وينطبق هذا التحليل على الابنة التي تجد نفسها –بسبب انفصال والديها عن بعضهما البعض وزواج والديها من جديد- مجبرة على أن تعيش إما مع زوجة الأب، أو مع زوج الأم، فإذا تعلقت الابنة بوالدها –وهذا ما يقع غالبا- فإن زوجة الأب تشعر بالغيرة من هذه الفتاة التي تقاسمها حب زوجها. ونفس الموقف يتكرر عندما تتعلق الابنة بأمها، فإن زوج الأم يشعر هو الآخر بالغيرة من هذه الفتاة التي تقاسمه حب واهتمام زوجته.
ويتأجج الصراع بين الزوج وزوجته عندما يبالغ كل منهما في الاهتمام بابنه أو ابنته (أو بابنها أو ابنتها) كتعويض عن الحنان الذي افتقده الابن أو البنت بسبب ابتعادهما عن الأم أو الأب. ويتخذ الصراع طابعا خطيرا عندما يلجأ الابن أو البنت إلى أساليب في السلوك تستهدف الانتقام من زوجة الأب أو زوج الأم، أو يفقدان القدرة على الاستمرار في هذا الجو المشحون بالبغضاء والقسوة فيقرران الهرب من المنزل ليتعرضا لكل احتمالات الانحراف.
وليس من باب الصدفة أن نجد في مؤسسات رعاية الطفولة كثيرا من الأحداث الذين ألقي عليهم القبض وأودعوا في هذه المؤسسات بتهمة التشرد. فمن الأسباب التي تدعو بعض الأحداث إلى التشرد القسوة التي يعاملون بها داخل أسرهم. وغالبا ما تكون هذه القسوة في المعاملة من طرف زوج الأم أو زوجة الأب، أو من طرف كليهما، خاصة عندما تشعر الأم أن علاقتها بزوجها الجديد قد تسوء بسبب ابنها، كذلك الشأن بالنسبة للأب الذي يشعر أن وجود ابنه إلى جانبه قد يكون سببا في سور علاقته بزوجته الجديدة.
وعلى الآباء والأمهات الذين قادتهم الظروف إلى الزواج من جديد والعيش مع طفل الطرف الآخر أن يكون سلوكهم إزاء هذا الطفل يتميز بنوع من المرونة واللباقة بحيث يشعر الطفل بالاطمئنان الذي يخفف من وطأة ابتعاده عن أمه أو أبيه. وعلى هؤلاء الآباء والأمهات عدم اعتبار طفل الطرف الآخر خصما أو عدوا، وأن كل ما يصدر منه من تصرفات موجه ضدهم ويستهدف الانتقام منهم وتحديدهم، وعلى الآباء والأمهات أن يكونوا على وعي مسبق بالصعوبات التي سيواجهونهامع أطفال الطرف الآخر وأن قرارهم بالزواج من جديد يجب أن لا يكون سببا في تعاسة الآخرين، بل يمكن لهم أن يتكيفوا مع هذا الوضع ويوفروا الظروف المناسبة التي تشعر جميع أفراد الأسرة بالاطمئنان والأمن. وإذا طرح الطرفان، قبل إقدامهما على الزواج، جميع الجوانب المتعلقة بالعيش مع طفل الطرف الآخر، وتوصلا إلى اتفاق واضح بشأن هذه القضية، أمكن لهما التغلب على الصعوبات التي قد تعترضهما في المستقبل بهذا الشأن.
كيف يدرك الطفل أنه غير مرغوب فيه:
قد يتساءل البعض: هل يدرك الطفل، خاصة في سنواته الأولى، أن والديه لم يكونا يرغبان فيه، أو كانا يتمنيان لو كان من جنس آخر (ذكر أو أنثى)، رغم أنهما لا يعبران عن ذلك صراحة؟
الواقع أن الطفل يدرك، من خلال تعامل والديه معه، ما إذا كان مرغوبا فيه عند ولادته أم لا، أو يدرك ما إذا كان والداه يرغبان بأن يرزقا طفلا ذكرا عوض الأنثى أو العكس. وبدون أن يشعر الوالدان فإنهما يعبران عن هذه الرغبة من خلال إشارات قد تبدو تافهة وسطحية، إلا أن الطفل يستطيع استيعابها وفك رموزها. فقد يرزق الأبوان بطفل ذكر إلا أنهما كانا يتمنيان لو رزقا بأنثى، وكتعبير عن هذه الرغبة المحبطة والتي لم تتحقق يعاملان طفلهما الذكر –في كثير من المواقف- كما لو كان أنثى، كأن يطيلا شعره، أو يصبغا أظافره، ويختارا له من الألبسة التي يشترك فيها مع الإناث، ويحيطا برعاية تحاط بها عادة الطفلة… إلى غير ذلك من الممارسات التي لا تخفى على الطفل ويدرك معناها الحقيقي ولو بكيفية غامضة وغير دقيقة.
وفي مرحلة لاحقة قد ينجلي هذا الغموض لدى الطفل، خاصة عندما يتعرض لمعاملة قاسية من طرف والديه دون أن يكون لهذه المعاملة في نظره مبرر ظاهر ومعقول. عند ذلك يتساءل الطفل، وأحيانا بصوت مسموع، هل أنا بالفعل ابن مرغوب فيه من طرف والدي؟ وإذا لم أكن مرغوبا فيه فلماذا جئت إلى هذا العالم، أو لما جيء بي إلى هذا الوجود؟ وإذا لم يكن مجيئي تحقيقا لرغبة والدي فما مسؤوليتي في ذلك؟ وبمقارنة المعاملة التي يلقاها غيره من الأطفال من طرف والديهم والتي تقوم على العطف والحب.. بالمعاملة التي يلقاها هو من والديه يدرك الطفل أن هناك أمرا يخفيه والداه عنه ويتعلق بعدم رغبتهما في إنجابه مما يجعله يشعر وكأنه عبء على والديه.
ويستشهد هشام شرابي في كتابه مقدمات لدراسة المجتمع العربي بشهادة شاب تونسي تعكس هذا التساؤل الذي كثيرا ما يطرحه أبناؤنا على أنفسهم. يقول الشاب التونسي في شهادته: "من منا نحن العرب يستطيع أن يزعم بأن عائلته أو البيئة التي عاش فيها قد أرادته وقبلته وأحبته واعترفت بذاتيته؟ لا أحد بكل تأكيد. إذ كيف يمكن للإنسان أن يكون محبوبا عندما ينحصر وجوده في كونه شيئا مفيدا قد جرى إنتاجه من أجل استمرار العائلة وضمان شيخوخة الوالدين، أو من أجل إرضاء كبرياء الأب الذي يثبت رجولته بكثرة أطفاله..".
وكتعبير عن شعوره الغامض بأنه غير مرغوب فيه قد يلجأ الطفل إلى التخريب ومعاكسة والديه وأحيانا إلى التمرد على سلطتهما، وكأنه بذلك يعاقبهما لكونهما يتخذان منه هذا الموقف، أو قد يسقط هذا العقاب على ذاته على شكل سلوك مازوخي Masochique يهدف من خلاله –وبطريقة غير مباشرة- إلى إيلام والديه، كأن يتعمد الطفل أن لا يهتم بدروسه، وبالتالي يتعمد الفشل، لأنه يدرك بأن فشله سيغضب والديه ويؤلمهما، وبذلك يتمرد على موقف والديه اللذين يشعرانه بأنه غير مرغوب فيه. وهذا الشعور يعطيه صورة سلبية عن ذاته ويجعله يميل إلى الخروج عما هو متعارف عليه في محيطه كتعبير عن رفضه، وقد يدفعه ذلك حتى إلى الانحراف.
ولعل ظاهرة الأطفال المشردين، أو ما يسمى بظاهرة أطفال الشارع، هي النتيجة شبه الحتمية للطفل غير المرغوب فيه. فعندما تحدث القطيعة بين الطفل ووالديه نتيجة معاملة الوالدين اللاإنسانية للطفل لا يجد الطفل من سبيل له للتخلص من الوضع الذي يعاني منه سوى الهروب من المنزل والتسكع في الشارع ليتعرض لجميع أشكال الانحراف. والهروب –في هذه الحالة- يعتبر خطابا غير مباشر موجها للوالدين بعد أن انقطع التواصل المباشر بين الطرفين. وكأن الطفل بلجوئه إلى هذا "الهروب-الخطاب" يريد أن يقول لوالديه: إنكما تتحملان مسؤولية غيابي، وعليكما أن تتألما كما تألمت، وأن تعيشا معاناتي، ولن أعود إلى "المنزل-السجن" الذي حشرت فيه، وسأبحث خارج هذا السجن عن الحرية وعن من يمنحني الحب والتقدير والأمن.
كما قد يلجأ الطفل، غير المرغوب فيه إلى الصمت، أو يحتمي بالصمت كرد فعل على ما يعانيه من إحباط وتجاهل وانعدام الشعور بالأمن والحب… من طرف المحيط الذي يعيش فيه لا سيما من طرف والديه أو من ينوب عنهما. والصمت في هذه الحالة "سلاح عدواني" Arme aggressive يلجأ إليه الطفل كسلوك انسحابي يهرب فيه من مواجهة الموقف ليسقط ما يشعر به من توتر على ذاته. ومثل هذا السلوك يظهر على الخصوص لدى الأطفال الذين يعيشون في وسط لا يقبل الحوار ولا يتيح لأفراده التواصل الطبيعي والتعبير العفوي عما يشعرون به، الأمر الذي يجعل الطفل يرى في الصمت ملجأه الأخير. ومما يؤسف له أن بعض الآباء أو المعلمين.. يعاقبون الطفل إما بالضرب أو التخجيل… ويفرضون عليه الصمت ويمنعونه من التعبير عن انفعالاته (الكلام، البكاء…)، وكثيرا ما تتردد عبارات مثل: "اسكت، اخرس…" على لسان الآباء وهم يزجرون أبناءهم أو يعاقبونهم.
إن من أسباب تولد المشاعر العدوانية لدى الطفل شعوره بأنه غير مرغوب فيه من طرف أسرته أو من طرف رفاقه في المدرسة.. مما يجعله غير قادر على ضبط هذه المشاعر والتحكم فيها، فيميل إلى العزلة والخوف والخجل ويشعر بالنقص والدونية وعدم الثقة بالنفس. وقد يعبر الطفل في هذه الحالة عن مشاعره العدوانية من خلال أحلام اليقظة أو اللعب التمثيلي أو الإيهامي، حيث يسقط مشاعره العدوانية على لعبة يلهو بها أو على شخصيات خيالية يسبغ عليها كل الصفات التي يشعر أنه محروم منها.
والطفل الذي يعاني من صعوبة التوافق مع مشاعره العدوانية غالبا ما يبدو سلوكه متناقضا بكيفية واضحة، فإما أن يكون سلوكه عدوانيا مفرطا في عدوانيته، أو يكون هادئا هدوءا مبالغا فيه، وهاتان الحالتان تشكلان مظهرا لعدم قدرة الطفل على أن يضبط مشاعره العدوانية ويتحكم فيها.
ومأساة الأطفال المتبنين أصدق تعبير عن معاناة الطفل غير المرغوب فيه. فالطفل المتبنى، رغم ما يغدق عليه من اهتمام واستجابة لحاجياته لا سيما المادية منها، لا بد وأن يشعر –إن آجلا أو عاجلا- بأنه لم يكن مرغوبا فيه في حد ذاته، وأنه ألحق بالأسرة التي تبنته كحل لمشكل تعاني هي منه. وعندما يصل إلى مرحلة المراهقة ثم الرشد تظهر المأساة على السطح ويصبح من الصعوبة بمكان إخفاؤها ومعالجتها.
الطفل غير المرغوب فيه بسبب عاهته الجسمية:
قد يعاني الطفل من عاهة جسمية، كأن يكون أصم أو أعمى أو مبتور الرجل أو اليد…الخ، مما يشعره بالنقص عندما يقارن نفسه بالأطفال الآخرين أو الأشخاص الذين يعيشون معه داخل أسرته. وبما أن الطفل المصاب بعاهة جسمية، أو ما يسمى بالطفل المعاق، يحتاج إلى معاملة خاصة تختلف عن معاملة الأطفال العاديين، مما يسبب الكثير من المتاعب لأسرته، فإن ذلك قد يشعره بأنه غير مرغوب فيه من طرف أسرته أو من طرف الأطفال الآخرين.
إن شعور الطفل بأنه غير مرغوب فيه بسبب عاهته الجسمية غالبا ما ينعكس على سلوكه بسبب الصورة السلبية التي يكونها عن نفسه، لذا نراه يميل إلى العزلة وعدم الاختلاط بالآخرين، ويكون سريع التأثر والانفعال والغضب. ويتعمق هذا السلوك الانسحابي للطفل عندما يجد نفسه غير قادر على مسايرة الأطفال الآخرين فيما يقومون به من أنشطة، أو عندما تقابل عاهته بسخرية هؤلاء الأطفال.
ولعل أهم ما يحتاج إليه الطفل المعاق بسبب عاهته الجسمية هو تقدير الآخرين له وقبولهم التعامل معه بشكل لا يختلف عن تعاملهم مع الأطفال العاديين. إن الطفل المعاق قد يتوفر، رغم إعاقته، على قدرات ومهارات وصفات إيجابية، من شأن التركيز عليها وإبرازها وتنميتها أن تساعده على أن يكون صورة إيجابية عن ذاته، مما يعينه على تجاوز إعاقته والاندماج بكيفية طبيعية في المحيط الذي يعيش فيه.
وتلعب الأسرة والوسط الاجتماعي بصفة عامة دورا هاما في جعل الطفل المصاب بعاهة جسدية يتقبل عاهته دون أن يشعر بالخجل من اطلاع الآخرين عليها. ولن يتأتى لمثل هذا الطفل أن يتقبل عاهته ما لم يشعر بأنه مرغوب فيه من طرف أسرته ورفاقه.. رغم عاهته، وبأن إصابته بعاهة لم تؤثر في علاقته بأسرته التي تحيطه بالعناية والحب كغيره من الأطفال العاديين. وتقبل الطفل لعاهته سيتيح له الفرصة للتكيف مع المواقف المختلفة التي سيواجهها سواء في المدرسة أو أثناء تعلمه لمهنة ما.. إلى غير ذلك من المواقف التي تتطلب توازنا نفسيا وشعورا بالثقة والمسؤولية.
لكي يكون الابن مرغوبا فيه من طرف والديه:
قد يعترض البعض على ما سبق ذكره حتى الآن عن الابن غير المرغوب فيه بأن الابن قد يكون فعلا غير مرغوب بمجيئه إلى هذا العالم من طرف والديه، ولكن عندما يولد ويصبح مجيئه أمرا واقعا فإن الوالدين يخضعان للأمر الواقع ويعاملانه باعتباره مرغوبا فيه. فالمسألة إذن –في نظر أصحاب هذا الاعتراض- ليس في هل الطفل مرغوب فيه أو لا، وإنما يكمن الإشكال في السؤال التالي: كيف يمكن أن يتصرف الوالدان إزاء الطفل لكي لا يشعر بأنه غير مرغوب فيه، على اعتبار أن الخبرات التي يمر بها الطفل في علاقته بوالديه هي التي ستقوده إلى الاعتقاد بأنه مرغوب فيه أم لا. وهذا ما ذهبت إليه مدرسة التحليل النفسي التي رأت أن الخبرات الأليمة التي يمر بها الطفل في علاقته بوالديه، والتي غالبا ما ينساها ويختزنها في لا شعوره، هي المسؤولة عن تكوين شعور لديه بأنه غير مرغوب فيه، وبالتالي هي التي تحدد صورته عن ذاته ومواقفه من العالم الخارجي المحيط به. للإجابة على هذا السؤال نورد بعض الشروط والحقائق التي يجب أن لا تغيب عن بال الآباء وأن يأخذوها بعين الاعتبار لكي لا يشعر الطفل بأنه غير مرغوب فيه.
1 ـ أولى هذه الشروط أن يكون قرار الإنجاب قرارا مشتركا يتخذه الوالدان بوعي وحرية وبناء على رغبتهما معا. فلا يجب أن يكون إنجاب الطفل نتيجة قرار يتخذه أحد الزوجين، أو نتيجة خطأ في استعمال الوسائل التي استعملاها لتأخير الإنجاب. وممارسة الزوجين لحريتهما في اختيار إنجاب طفل هي التي تجعل من علاقتهما بالطفل علاقة إنسانية، بحيث يشعر الطفل بأنه لو كانت له حرية اختيار الأبوين لاختار والديه الفعليين. وبذلك تكون علاقة الابن بوالديه ليست مجرد علاقة بيولوجية. وظاهرة تأجير الأرحام المعروفة في بعض المجتمعات الغربية تؤكد هذه الحقيقة بكيفية واضحة(*).
2 ـ والشرط الثاني هو أن يكون الزوجان على وعي مسبق بأن إنجابهما لطفل سيغير من نمط حياتهما، بحيث يصبح اهتمامهما المشترك ينصب حول الوافد الجديد إلى حياتهما. وإذا توفر هذا الشرط فإن الزوجين لن يشعرا بأن مولودهما قد حال دون أن يحققا طموحات مشتركة كانا يعتزمان تحقيقها. وبدافع من هذا الوعي قد يقرر الزوجان تأخير الإنجاب لبعض الوقت لإدراكهما بأن مجيء الطفل قد لا يسمح لهما بالوقت الكافي لتحقيق كثير مما يطمحان إلى تحقيقه.
3 ـ أما الشرط الثالث، وهو مستخلص من الشرطين السابقين، فيتمثل في أن على الوالدين أن يعتبرا مجيء الطفل حدثا هاما في حياتهما وحياة الطفل نفسه. وعادة الاحتفال بميلاد الطفل قد تكون الغاية منها هي أن يشعر الطفل بأنه مرغوب فيه من طرف والديه وأقاربه. وأن يعبر الوالدان عن فرحتهما بمجيء الطفل. وليتذكر كل منا الحرج الذي قد ينتابنا عندما نزور شخصا ما ونشعر بأنه لم يكن يتوقع زيارتنا، وبأنه لا يرغب أن تتم هذه الزيارة في هذا الوقت وبدون إشعار سابق.. وكثيرا ما يقلقنا ضيف ثقيل فنضطر إلى مجاملته حتى تنتهي الزيارة التي نحاول أن تكون قصيرة ما أمكن. ألم يقل الشاعر.
لا تكن ضيفا ثقيــلا يكره الناس لقــاءك
لا تكن عبئا عليهـم لا تحملهم عنـــاءك
وبتوفير هذا الشرط يصبح الطفل "ضيفا" نتشوق لقدومه، ويملأ حياتنا متعة وانشراحا.
4 ـ والشرط الرابع: وهو الأهم في نظرنا، ويتمثل في أن يحترم الوالدان شخصية الطفل ويعاملانه بحب وعطف في جميع الحالات بما فيها الحالات التي يخطئ فيها أو يفشل في أداء عمل كان ينتظر أن ينجح فيه. فلا يشعر الطفل أننا نحبه فقط عندما ينجح، وكأن حبنا ليس له وإنما للنجاح الذي حققه، مما يجعل الطفل يتساءل: عندما أخفق في تحقيق أمر ما هل يستمر حب والدي لي رغم إخفاقي؟ وفي هذا الصدد يشير المعالج النفسي "ارثر جانوف" بأن "المشكلة ليست في السؤال: كيف نربي أطفالنا؟ وإنما كيف نتعامل مع الذين نحبهم؟" ويقصد "جانوف" بذلك إلى أن الوالدين إذا استندا في علاقتهما بأبنائهما باعتبارهم أشخاصا لهم شخصيتهم الخاصة بهم، وليسوا مجرد تابعين أو مستعمرين على حد تعبير جيرار مندل، فإن علاقتهم بأبنائهم تصبح علاقة خلاقة تسمح للطرفين معا –الآباء والأبناء- أن يعيشا حياتهما بقدر كبير من الصدق والحب والعفوية.
5 ـ والشرط الخامس يكمل الشرط السابق بحيث يلتزم الوالدان باحترام شخصية الطفل وتدعيم الجوانب الإيجابية فيها. وعلى هذا الأساس فإن مؤاخذة الطفل على خطأ ارتكبه أو لإخفاقه في تحقيق نتيجة إيجابية في أمر ما يجب أن لا تتحول إلى احتقار للطفل وتخجيله من ذاته، بل يجب أن نشعره بأننا جميعا معرضون للخطأ والإخفاق، وبإمكانه التراجع عن الخطأ وتحقيق النجاح في المستقبل. وكما يقول عالم النفس الألماني "إيريك فروم" ليس أقسى على الإنسان من أن يشعر بأنه تافه وحقير.
6 ـ والشرط السادس هو أن لا يسقط الزوجان على الطفل التوتر الذي قد ينتاب علاقتهما في بعض الحالات، وأن يظل الطفل في منأى عن أي توتر قد ينشأ بينهما. فالأبوان بالنسبة للطفل هما مصدر الأمن والحب، ومن شأن إدراكه لسوء العلاقة بينهما أن يشعر بالتهديد والاضطراب، الأمر الذي ينعكس سلبا على كل ما يأتيه من أفعال.
7 ـ الشرط السابع: على الآباء أن يأخذوا بعين الاعتبار أن الطفل جاء إلى هذا العالم دون أن يستشار في ذلك، ومنح اسما دون أن يكون له رأي في اختيار هذا الاسم. وعلينا، نحن الآباء، أن نعامله بحب وعطف واحترام لشخصيته بحيث نصبح نحن أيضا مرغوبين من طرفه. صحيح أن على الابن احترام والديه وطاعتهما، ولكن على الوالدين أن يدركا أن احترامهما وطاعتهما من طرف الابن تفرض عليهما أن يعاملانه بشكل يصبح معه الاحترام والطاعة كتحصيل حاصل لموقفهما منه.. فالاحترام يفقد صفته الأخلاقية إذا كان بدافع التهديد، والطاعة تصبح رهبة واستسلاما إذا كانت بدافع الخوف، وفي ظل التهديد والقسوة لا مجال لممارسة الحرية والحب والاحترام.
8 ـ الشرط الثامن: إذا كان الأبناء، خاصة في مرحلة الطفولة، لا يستطيعون الاستقلال عن آبائهم وغير قادرين على تحقيق حاجاتهم بمعزل عن الآباء إلا أن ما يجب أن لا ينساه الآباء هو أنهم أيضا بحاجة إلى الأبناء. فمن خلال الأبناء تتاح للآباء ممارسة قيم العطف والحب والتضحية.. والتمتع بممارسة هذه القيم في الواقع. فهل للأمومة والأبوة من معنى بدون الأبناء؟ وإذا كان الأب والأم في بعض المجتمعات (الشرق العربي مثلا) ينادى عليهم بـ"أبو فلان" و"أم فلان" بعد إنجابهما لابنهما الأول، فما ذلك إلا لأن الأب والأم يكتسبان هوية جديدة بعد تكوينهما أسرة وإنجابهما للابن، وهي هوية تهمش أو حتى تلغي الهوية السابقة التي كانا يتمتعان بها قبل زواجهما. والهوية الجديدة هي هويتهما كأب وكأم. وفي هذه المجتمعات المشار إليها يبدو من غير اللائق أن ينادى على الرجل باسمه الشخصي إذا كان متزوجا وله أبناء، وكذلك الشأن بالنسبة للأم.
وهكذا فالحياة إذا كانت عبارة عن مسرح يؤدي كل منا فوق خشبته مجموعة من الأدوار المختلفة، فإن للأبناء دورا في هذا المسرح، وهو دور لا يقل أهمية عن دورنا كآباء، بل إن دورنا يفقد معناه بدون دور الأبناء. فإذا كنا كآباء نعمل على نمو أبنائنا ونضجهم، فإننا في نفس الوقت ننمو وننضج معهم وبهم، بل سنكون بدونهم كالثمرة اليابسة وقد جف ماؤها وفقدت نضارتها .