"الجامعة دون شروط" أو " الجامعة وحقّ المقاومة " - جاك دريدا * - ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"هل يمكن للجامعة ( وبالتالي كيف لها) أن تؤكّد استقلالية لا مشروطة ، وتطالب بضرب من السيادة ، ونوع جدّ أصيل ، ونوع استثنائيّ من السيادة ، دون المجازفة بالوقوع في خطر كبير، بل من الواجب ، بحكم التجريد الممكن لهذه السيادة المستقلّة ، أن تسلّم نفسها وأن تستسلم دون شرط ، وأن تكون لقمة سائغة و أن تشترى بأيّ ثمن؟" (  دريدا).

" نحن نعرف ذلك جيدا، لا توجد فعلا هذه" الجامعة دون شروط" . لكن يجب على الجامعة، مبدئيا و توافقا مع الغرض من وجودها صراحة، وبفضل جوهرها المعلن، أن تظلّ الحيّز الأقصى للمقاومة النقدية - والأكثر من نقدية - مقاومة لكلّ سلطات التملّك الدغمائي وغير العادل."(  دريدا).

"يمكن للمقاومة ، بوصفها لامشروطة، أن تجعل الجامعة في مواجهةٍ لعدد كبير من السلطات : سلطات الدولة ( وبالتالي السلطات السياسيّة للدولة - الأمّة وبتوهّمها السيادة غير القابلة للقسمة : وهو ما تكون به الجامعة متقدّمة لا تقدّما كوسموبوليتيكيا ، بل أيضا كونيّا، ممتدّة إذن إلى ما وراء المواطنة العالمية والدولة- الأمة بوجه عام)، و لسلطات اقتصادية ( تمركز الرأسمال الوطني والدولي)، وللسلطات الاتصالية والايديولوجية والدينية والثقافية ، الخ . وباختصار لكل السلطات التي تحدّ من الديمقراطية القادمة" .(  دريدا)

************

  " يعني هذا العنوان المقترح أولا أنّه يجب على الجامعة الحديثة أن تكون دون شروط. ونعني " بجامعة حديثة"، تلك التي أصبح نموذجها الأوروبي، بعد تاريخ وسيط غنيّ ومعقّد، مهيمنا، أي " كلاسيكيا"، منذ قرنين، في دول من نوع ديمقراطي. تتطلب هذه الجامعة، ويجب عليها أن تشهد بذاتها الاعتراف من حيث المبدأ، فضلا عما نسمّيه الحرية الأكاديمية، حرية لامشروطة في التساؤل والاقتراح لا بل أكثر من ذلك ، الحقّ في القول عموميّا كلّ ما يقضيه بحث أو معرفة أو فكر عن الحقيقة. وتبدو الإحالة إلى الحقيقة، وإن ظلت جدّ مبهمة أساسية جدا كي نجد أنفسنا، مع النور، على شارات رمزية لأكثر من جامعة. تضطلع الجامعة بالحقيقة . فهي تصرّح ، وتعدُ بالتزام دون قيد ولا حدّ تجاه الحقيقة.

 تمنح منزلة الحقيقة وصيرورتها دون شكّ، مثل قيمتها، الفرصة لنقاشات لا تنتهي (حقيقة التطابق أو حقيقة الإلهام، والحقيقة بوصفها موضوع خطاب نظري- تقريري أو أحداث شعرية- إنجازية، الخ). غير أنّ هذا يناقش، بطريقة مميّزة، في الجامعة وفي الأقسام التي تنتمي إلى الإنسانيات. ولنترك جانبا هذه المسائل الخطيرة معلقة الآن. ولنؤكّد فحسب استباقا على أن هذه المسألة الشاسعة للحقيقة وللأنوار، مسألة الأنوار Ilustracion, Iluminismo, Enlightenment, Illuminismo,كانت دوما متصلة بالإنسان. وهيتلزم بمفهوم الإنسان في حدّ ذاته، ذاك الذي أسّس في الآن نفسه النزعة الإنسية والفكرة التاريخية للإنسانيات. ويشكلّ اليوم الإعلان المتجدّد والمعاد صياغته " لحقوق الإنسان" ( 1948) وتأسيس المفهوم الحقوقي" للجريمة ضدّ الإنسانية" ( 1945) ، أفقا للعولمة وللحقّ الدولي الذي يفترض منه السهر عليها.( أحتفظ بالكلمة الفرنسية " للعولمة mondialisation من أجل " الكوكبة" globalization - Globalisierung حتى احتفظ بالإحالة إلى "عالم"« monde » (world, Welt, mundus) الذي ليس الكوكب globe ولا الكوسموس cosmos ،ولا الكون l'univers).نحن نعرف أنّ الشبكة المفاهيمية للإنسان ، للإنسان في حدّ ذاته ، و لحقّ الإنسان وللجريمة ضدّ إنسانية الإنسان تنظّم مثل هذه العولمة . تريد هذه العولمة إذن أن تكون أنسنة humanisation . لكن، إذا ما بدا مفهوم الإنسان في ذات الوقت ضروريا وإشكاليا دوما، فسيكون هذا إذن ، أحد مبررات أطروحتي ، وإذا ما شئتم، إحدى أطروحاتي في شكل إفصاح عن اعتقاد ، لا يمكن مناقشته أو إعادة صياغته، كما هو ودون شرط ، ودون مسلّمات ، إلاّ في فضاء " الإنسانيات "الجديدة ". لكن لتكن هذه النقاشات نقدية أو تفكيكيّةdéconstructives ، وهو ما يعني المسألة وتاريخ الحقيقة في علاقتها بمسألة الإنسان، بما يخصّ الإنسان، بحق الإنسان ، وبالجريمة ضد ّ الإنسانية الخ..، يجب أن يجد كلّ ذلك مبدئيا في الجامعة وبامتياز، وفي " الإنسانيات" Humanités، حيّزه للنقاش اللامشروط ودون مسلمات ، وفضاءه المشروع للعمل وإعادة البناء. لا من أجل التقوقع عليها، بل على العكس، للعثور على أفضل منفذ إلى فضاء عموميّ جديد غيّرته تقنيات جديدة للاتصال والإعلام والتوثيق وإنتاج المعرفة. ( ومن بين المسائل الخطيرة التي تطرح هنا، لكنها المسألة التي يجب عليّ أن أتركها مفتوحة، بين الجامعة والخارج السياسي- الاقتصاديّ، هي مسألة سوق النشر والدور الذي يلعبه في عملية الأرشفة والتقييم والشرعنة للأعمال الجامعية). ليس أفق الحقيقة أو الأفق الخاص بالإنسان بالتأكيد حدّا قابلا للتحديد كثيرا. لكن أفق الجامعة والإنسانية هو كذلك أيضا. نحن نعرف ذلك جيدا، لا توجد فعلا هذه الجامعة دون شروط . لكن يجب عليها ، مبدئيا وفي التوافق مع هدفها الصريح ، وبفضل جوهرها المعلن، أن تظلّ الحيّز الأقصى للمقاومة النقدية - وأكثر من نقدية - مقاومة لكلّ سلطات التملّك الدغمائي وغير العادل. وحينما أقول " أكثر من نقدية" ، فإني أقصد " تفكيكيّة" ( لم لا نقول ذلك مباشرة ودون مضْعَيَة للوقت؟). أطلب الحقّ في التفكيك بوصفه حقّا لامشروطا في طرح الأسئلة النقدية لا على تاريخ مفهوم الإنسان فحسب، بل على تاريخ مقولة النقد بالذات ، على تاريخ شكل ونفوذ المسألة1، على الشكل. (1).

قد تناولت بالمناسبة، في مواضع أخرى أوّلا، في " الفكر ، هيدجر والسؤال ( قاليلي ، 1987، ص 147). " مسألة" نفوذ السؤال هذه ، ولهذه الإحالة تحقيق ما قبل - أصلي حتى لا تكون سريعة التصديق ولا وضعية ولا دغمائية، ولتبقى مفترضة لكلّ سؤال ، مهما كانت ضرورية جدا ولامشروطة ، أولا لأصل الفلسفي بالذات. تساؤلية للفكر، إذ يعني ذلك الحقّ في القيام به تقريريا وأدائيا، أي بصناعة أحداث ، بالكتابة مثلا، وبإيجاد ( وهو ما يتعلق إلى حدّ الآن بالإنسانيات الكلاسيكية أو الحديثة) أعمال متفرّدة. نعني بحدث للفكر الذي تمثله هذه الأعمال ، هو أن يحدث شيء ما، دون خيانته بالضرورة ، لهذا المفهوم للحقيقة أو للإنسانيات التي تشكّل ميثاق وعقيدة كلّ جامعة.

إنّ مبدأ المقاومة اللامشروطة، هو في نفس الوقت حقّ على الجامعة ذاتها، أن تفكّر فيه وتبتكره وتطرحه، بغض النظر عما إذا أكانت تمارسه أولا عبر كليات الحقوق أو لدى إنسانيات جديدة قادرة على الاشتغال على هذه المسائل المتصلة بالحقّ - أي ، حتى لا نقول ذلك دون مواربة ، إنسانيات قادرة على الاضطلاع بمهامّ التفكيك، بدءا بتفكيك تاريخها الخاص وأولياتها الخاصّة. أجمع مؤقتا بين الإثبات والمردودية. ولا تردّ "نعم" الإثبات إلى موضوعية موقف. لكنها تشبه بالفعل كثيرا، فعل لغة إنجازية . فهي لا تصف شيئا ولا تلاحظ شيئا ، إنما تلزم بفعل الإجابة. ...إنّ المردودية تجد نفسها أيضا، مثل سلطة اللغة بوجه عام، إلى جانب هذه السيادة التي أريد، بالرغم من صعوبة ذلك كما يبدو، تمييزها بضرب من اللامشروطية بوجه عام، عن لامشروطية دون سلطة. يستتبع هذه الأطروحة : يمكن للمقاومة ، بوصفها لامشروطة، أن تجعل الجامعة في مواجهة لعددٍ كبير من السلطات : سلطات الدولة ( وبالتالي السلطات السياسيّة للدولة - الأمّة وبتوهّمها السيادة غير القابلة للقسمة : وهو ما تكون به الجامعة متقدّمة لا تقدّما كوسموبوليتيكيا ، بل أيضا كونيّا، ممتدّة إذن إلى ما وراء المواطنة العالمية والدولة- الأمة بوجه عام)، و لسلطات اقتصادية ( تمركز الرأسمال الوطني والدولي)، وللسلطات الاتصالية والإيديولوجية والدينية والثقافية ، الخ . وباختصار لكل السلطات التي تحدّ من الديمقراطية القادمة.

يجب على الجامعة إذن أن تكون أيضا الفضاء الذي لا شيء فيه بمنأى عن التساؤل ، ولا حتى الشكل الحالي والمحدّد للديمقراطية ؛ ولا حتى الفكرة التقليدية عن النقد، بوصفه نقدا نظريا ، ولا حتى نفوذ شكل " السؤال" ، والفكر بوصفه "تساؤلا". لأجل ذلك تحدّثت دون تأخير عن التفكيك. هذا إذن ما نستطيعه ، حتى نطلبها ، نطلب الجامعة دون شروط: الحقّ المبدئي في قول كلّ شيء، أكان ذلك تحت عنوان التخيّل واختبار المعرفة ، والحقّ في قوله عموميا، ونشره. تظلّ هذه الإحالة إلى الفضاء العام الرابط لولادة إنسانية جديدة في عصر الأنوار. يميّز هذا المؤسسة الجامعية عن مؤسسات منشأة على الحقّ أو على واجب قول كلّ شيء. الاعتراف الدينيّ على سبيل المثال. وحتى " التداعي الحر" في علم النفس التحليليّ. لكنه أيضا ما يصل بعمق الجامعة وبامتياز الإنسانيات، بما نسمّيه الأدب ، في المعنى الأوروبي والحديث للكلمة، بوصفه الحقّ في قول كلّ شيء عموميا، أي الحفاظ على سرّ، قد يكون من نمط التخيّل.

إنّ هذه الإشارة إلى الاعتراف، والقريبة جدا من الإقرار بالاعتقاد، يمكن أن تصل بين قولي في تحليل ما يحدث اليوم، على الركح العالمي والذي يشبه سيرورة كونية للاعتراف، للإقرار والتوبة والاستغفار وطلب الصفح. يمكن أن نذكر في هذا الباب ألف مثال يوما بعد يوم. ولكن، سواء تعلّق الأمر بجرائم قديمة جدا أو بجرائم الأمس وبالعبودية، وبالهولوكوست، وبالتمييز العنصري، بل بعنف محاكم التفتيش ( التي يجب في نظر البابا أن تكون موضوع فحص للضمير)، نتوب دائما، صراحة أو ضمنيا بالرجوع إلى هذا المفهوم الحقوقيّ الحديث " جريمة ضد الإنسانية ".

بما أننا نتهيأ للمفصلة بين المهنة والاعتراف بالإيمان والاعتراف في مجموع واحد، فلنذكّر في الأثناء وبين قوسين ، إذ يتطلّب ذلك تطوّرات طويلة يمكن للاعتراف بالذنوب أن ينتظم في القرن 14 في علاقة بالتشكيلات الاجتماعية والمهنية. تنصّ خلاصة استوسانا Summa Astesana 1317على أننا نستجوب في الاعتراف التائب بالرجوع إلى موقعه الاجتماعي المهني" : نستجوب الأمراء عن العدالة، والفرسان عن النهب والتجار والموظفين والصناع والعملة عن شهادة الزور والتدليس والكذب والسرقة الخ ...، والبورجوازيين وبوجه عام أهل الحضر عن الربا والرهن العقاري وأهل الريف عن الطمع والسرقة وخاصة عن لزمة العشر، الخ". لابد من زيادة التأكيد : إذا كانت هذه اللامشروطية تمثّل، من حيث المبدأ والقانون، القوة المنيعة للجامعة، فهي في الواقع لم تكن أبدا فعليّة. وبموجب هذه المناعة المجرّدة والمفرطة ، وبموجب استحالتها بالذات، تكشف هذه اللامشروطية عن ضعف وهشاشة. إنها تظهر عجز الجامعة ، وهشاشة دفاعها ضدّ كلّ السلطات التي تتحكّم فيها، وتحاصرها وتسعى إلى تملّكها. ولأنها غريبة عن السلطة ولأنها غير متجانسة مع مبدأ السلطة، فإنّ الجامعة هي أيضا دون سلطة خاصة. لأجل ذلك نتحدّث هنا عن الجامعة دون شروط. أقول بوضوح " الجامعة"، إذ أني أميّز هنا، بالمعنى الدقيق، الجامعة عن كلّ المؤسّسات البحث التي هي في خدمة غايات ومصالح اقتصادية من كلّ نوع، دون أن يتمّ الاعتراف بالاستقلالية المبدئية للجامعة. وأقول "دون شروط" وبقدر ما هي "لامشروطة" حتى نسمح بفهم معنى " دون سلطة" أو " دون دفاع": لأن الجامعة مستقلة تماما ، فهي حصن قائم. فهي معروضة ، ومهيأة أن تأخذ، ومحكوم عليها غالبا بالاستسلام دون شروط. أينما استسلمت فهي مستعدّة للاستسلام. لأنها لا تقبل أن تفرض عليها شروط، وهي أحيانا مكرهة ،باهتة، مجرّدة ، على الاستسلام دون شروط. نعم تستسلم ، وتُباع أحيانا وتتعرض ببساطة لخطر أن تكون مُحتلّة وان تُأخذ وتُشترى وهي مهيأة لتصير فرعا للتكتلات والشركات الدولية . إنها اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم بأسره، رهانا سياسيّا أساسيّا: إلى أيّ حدّ يجب على نظام البحث والتعليم أن يُسند أي أن يكون مراقبا مباشرة و بصورة غير مباشرة، لنَقُلْ بواسطة تلطيف " راع"« sponsorisée », بغرض مصالح تجارية وصناعية؟

نحن نعرف أنه وفق هذا المنطق تكون الإنسانيات ، غالبا ، رهائن أقسام العلوم الصحيحة أو التطبيقيّة التي تمركز الاستثمارات المفترضة أنها ذات دخل لرساميل غريبة عن العالم الأكاديمي. ثمة مسألة تطرح نفسها إذن، مسألة ليست فحسب اقتصادية وحقوقيّة وإيتيقية وسياسيّة : هل يمكن للجامعة ( وبالتالي كيف لها)أن تؤكّد استقلالية لا مشروطة ، وتطالب بضرب من السيادة ، ونوع جدّ أصيل ، ونوع استثنائيّ من السيادة ، دون المجازفة بالوقوع في خطر كبير، بل من الواجب ، بحكم التجريد الممكن لهذه السيادة المستقلّة ، أن تسلّم نفسها وأن تستسلم دون شرط ، وأن تكون لقمة سائغة أن تشترى بأيّ ثمن؟

" إنّ الاعتراف بالإيمان، والالتزام والوعد والمسؤولية المضطلع بها، أمور لا تدعو إلى خطابات في المعرفة بل إلى خطابات إنجازيه تصنع الحدث الذي تتحدّث عنه. يجب إذن أن نتساءل عما تعنيه عبارة " أن نمتهن" أو نمارس مهنة . ما نصنع ، أدائيا ، حينما نمتهن؟ لكن حينما نمارس مهنة وبالخصوص مهنة الأستاذ؟"( جاك  دريدا).

"يجب على الجامعة إذن أن تكون أيضا الفضاء الذي لا شيء فيه بمنأى عن التساؤل ، ولا حتى الشكل الحالي والمحدّد للديمقراطية ؛ ولا حتى الفكرة التقليدية عن النقد، بوصفه نقدا نظريا ، ولا حتى نفوذ شكل " السؤال" ، والفكر بوصفه "تساؤلا".(  دريدا)

يجب أن يوجد إذن، لا فقط مبدأ المقاومة ، بل قوّة للمقاومة - والمعارضة. إنّ تفكيك مفهوم السيادة اللامشروطة هو دون شكّ ضروريّ وبصدد التحقّق، إذ هذا هو إرث لاهوت بالكاد معلمن sécularisée. في الحالة الأكثر بروزا للسيادة المزعومة للدول - الأمم لكن أيضا في موضع آخر ( إذ توجد لديها في كل مكان، وهي ضرورية في مفاهيم الذات والمواطن والحريّة والمسؤولية والشعب، الخ.) فإنّ قيمة السيادة هي اليوم في أوج التحلّل. لكن علينا أن نسهر على أن لا يعرض هذا التفكيك الضروري مطلب الجامعة في الاستقلالية كثيرا إلى الخطر، أي إلى شكل جد خصوصي من السيادة التي سأحاول تدقيقها فيما بعد. سيكون هذا هو رهان القرارات والاستراتيجيات السياسيّة. ويظلّ هذا الرهان في أفق الفرضيات أو الاعترافات بالإيمان التي سأخضعها لنظركم. كيف نفكّك التاريخ ( وأولا التاريخ الأكاديمي) لمبدأ السيادة غير القابل للقسمة، مع المطالبة في الآن نفسه بالحقّ في قول كلّ شيء- أو عدم قول كل شيء"- و طرح كلّ الأسئلة في شأن الإنسان، والسيادة والحقّ في قول كلّ شيء بذاته، وبالتالي في الأدب والديمقراطية، والعولمة السائرة ، ووجوهها التقنية الاقتصادية والطائفية، الخ؟

لا أزعم بأنّ هذه القوة للمقاومة، وهذه الحريّة في قول كلّ شيء في الفضاء العموميّ ، لها، في الاضطراب الذي يهدّد اليوم الجامعة، وفي بعض الاختصاصات أكثر من غيرها منزلتها المتفرّدة أو المميزة ، موقعها المتفرّد أو المميّز فيما نسمّيه الإنسانيات - مفهوم من المناسب تدقيقه، وتفكيكه وتقويم تعريفه ، من وراء تقليد يجب أن نعتز به أيضا. غير أن هذا المبدأ للا مشروطية تقدّم نفسها، في الأصل وبامتياز، في الإنسانيات. فله ( مبدأ اللامشروطية) موقع العرض ، والتمظهر والحفاظ الأصلي والمتميز في الإنسانيات. له فضاءه للمناقشة أيضا وللإعادة الصياغة. يحدث هذا عبر الأدب كما يحدث عبر اللغات ( أي العلوم التي يقال عنها علوم الإنسان والثقافة) بمثل ما يحدث عبر الفنون اللا خطابية ، والحقوق والفلسفة ، عبر النقد ، بالتساؤل و، من وراء الفلسفة النقدية والتساؤل ، بواسطة التفكيك - حيث لا يتعلق الأمر بشيء غير إعادة التفكير re-penser في مفهوم الإنسان، في صورة الإنسانية بوجه عام ، وبشكل مخصوص في تلك التي يفترضه ما نسمّيه ، في الجامعة منذ قرون ، الإنسانيات. يكون للتفكيك ( ولست منزعجا بالمرة في قوله بل والمطالبة به)، من وجهة النظر هذه على الأقلّ، موقعه المميّز في الجامعة وفي الإنسانيات كموقع للمقاومة لا يتحوّل، لا بل على وجه المماثلة ، كضرب من مبدأ العصيان المدني، والمعارضة باسم قانون أسمى وعدالة للفكر. لنسمّي هنا فكرا، ما يتحكّم أحيانا، وفق قانون أسمى من القوانين، عدالة هذه المقاومة أو هذه المعارضة. وهو أيضا ما يفعّل أو يلهم التفكيك بوصفه عدالة . يجب علينا أن نفتح لهذا القانون، وهذا الحقّ المؤسس على عدالة تتجاوزه، فضاء بلا حدود، وأن نسمح لأنفسنا إذن بتفكيك كلّ الصور غير المحدّدة التي أمكن لهذه اللامشروطية السيادية أن تتخذها في التاريخ. لأجل ذلك، لابد لنا من توسيع وإعادة بناء مفهوم الإنسانيات. لا يتعلّق الأمر في ذهني بالمرّة بمفهوم محافظ وإنسانيّ فحسب اللذان نلحق بهما غالبا الإنسانيات وقانونها القديم - الذي أعتقد مع ذلك أنه يجب حمايتها بأيّ ثمن. يجب على هذا مفهوم الإنسانيات الجديد، وبالتزامه الوفاء لتقليده، أن يتضمن الحقّ، ونظريات الترجمة، بما أنّنا نسمّي، في الثقافة الأنجلوسكسونية التي هي أحدى تكويناته الأصلية، النظرية « theory » ( تمفصل أصلي للنظرية الأدبية والفلسفة والألسنية، والأنتروبولوجيا وعلم النفس التحليليّ، الخ)، لكن أيضا، بالطبع، في كلّ هذه المواقع، الممارسات التفكيكيّة. يجب علينا أن نميّز بعناية هنا بين من جهة مبدأ الحريّة، والاستقلالية والمقاومة والتمرّد والمعارضة، مبدأ متمادّ على كلّ حقل المعرفة الأكاديمية، ومن جهة أخرى، مكانه المميّز للعرض، وإعادة البناء والنقاش الموضوعاتي، الذي في نظري سيكون أكثر خصوصية بالنسبة إلى الإنسانيات، لكن إنسانيات متبدّلة. لماذا الربط بين كلّ هذا بإصرار لا فحسب على مسألة الأدب، على هذه المؤسسة الديمقراطية التي نسمّيها الأدب، أو الخيال الأدبي ، وبضرب من الشبيه و بضرب من " كما لو" « comme si » ، بل أيضا على مسألة المهنة ومستقبلها؟

أودّ ، عبر تاريخ للعمل، الذي ليس ببساطة المهنة ، ثم بالحرفة التي ليست دوما المهنة ، ثم بالمهنة التي ليست دوما مهنة الأستاذ، أن أصل هذه الإشكالية للجامعة دون شروط برَهْنٍ بالتزام بوعدٍ وبفعل الإيمان، وتصريح بالإيمان واعتراف بالإيمان. يُراكب هذا الاعتراف بالإيمان في الجامعة ، وبطريقة أصيلة بين الإيمان والمعرفة، وبامتياز في هذا الحيّز من التمثّل للذات لمبدأ اللامشروطية التي سنسمّيها الإنسانيات.  

إنّ الجمع بطريقة ما بين الاعتقاد والمعرفة ، والاعتقاد في المعرفة، هو الربط بين حركات فيما بينها ، حركات نقول عنها أدائية وحركات إثبات ، وصفية أو نظرية . إنّ الإقرار بالإيمان، والالتزام والوعد والمسؤولية المضطلع بها، أمور لا تدعو إلى خطابات في المعرفة بل إلى خطابات إنجازيه تصنع الحدث الذي تتحدّث عنه. يجب إذن أن نتساءل عما تعنيه " أن نمتهن" أو نمارس مهنة . ما نصنع حينما ، أدائيا ، نمتهن؟ لكن حينما نمارس مهنة وبالخصوص مهنة الأستاذ؟  ".

--------------

* جزء من محاضرة ل دريدا القيت في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا 1988 .

* Jacques Derrida

"L'Université sans condition" : conférence fut d'abord prononcée en

anglais à l'université de Stanford, en Californie, en

avril 1998, dans la série des Presidential Lectures

Galilée edition

هامش: 1- جاك لوغولف " عصر وسيط آخر " غاليمار 1999 ص 172

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟