البروباغاندا propagande والدعاية من الأسلحة الرئيسية في كل الحروب عبر التاريخ. الهزيمة والفوز رهينان بمدى استعداد كل طرف وفاعلية وسائله واستراتيجياته وموازين القوة .. لإضعاف الخصم وهزيمته.
البروباغاندا في الحروب القديمة كانت تستخدم الوسائل الدعائية الكلاسيكية من نشر الإشاعات، وإطلاق الآقاويل، والأخبار الذي يصعب تكذيبها أو تصديقها، ففي فترة الأزمات تكثر الإشاعات والأكاذيب والتضليل.. ظل مبدأ الدعاية هو نفسه في الحروب الحديثة والمعاصرة، شيطنة الطرف الأخر - العدو، وبث الرعب في قلبه والتقليل من شأنه، وخندقته، وقلب الحقائق.. وهو ما يعرف الآن بالحرب النفسية. ويتم استغلال خلفيات خطابية معينة ذات مرجعيات إديولوجية مختلفة: دينية، تاريخية، سياسية، عرقية.. وكلما كانت وسائل الدعاية مبتكرة وقوية لدى طرف معين، كلما كسب معارك أكثر. ولعل الحرب الباردة بين المعسكرين - الشيوعي والرأسمالي، كانت أساسا حرب البروباغاندا، حيث استطاعت الآلة الدعائية والمخابراتية الأمريكية التفوق في النهاية، مساهمة في انهيار الإتحاد السوفيتي وهو قوة عالمية لا يستهان بها، ورغم تفوقه العسكري الهائل، إلا أن ذلك لم يشفع له لكي يصمد أمام التفوق التكنولوجي النوعي للولايات المتحدة التي نجحت في الترويج للنموذج الأمريكي وقيم النظام العالمي الجديد والعولمة.
وفي الحربين العالميتين شكلت الدعاية قوة أساسية للمتصارعين، ففي الحرب العالمية الثانية أساسا، قامت دعاية ألمانيا النازية على جملة من العقائد والتصورات مثل تفوق - العرق الأرى - وألمانيا فوق الجميع - والمجال الحيوي لألمانيا - وكراهية اليهود والشيوعية.. ابتكرت ألمانيا النازية برنامج متطور للدعاية وصناعة البروباغاندا، وهو ما يسمونه اليوم صناعة الرأي العام، وتنميط اتجاهات الوعي الجماعي نحو اتجاه معين، ولعبة التضليل هي عصب هذه الدعاية. ابتكر (غوبلز goebbels) وزير الدعاية النازي طرقا مبتكرة للدعاية / الإشهار في ذلك الوقت (كتب / أفلام وثائقية / السينما /جرائد / كليبات دعائية للقوة الألمانية لبث الرعب - استغلال التلفزيون - استغلال التظاهرات الرياضية والفنية الكبيرة - تجنيد المثقفين والمؤسسات الثقافية - المدرسة والجامعة - المشاهير من المجتمع المؤثرين..) لقد نجحت الدعاية النازية لدرجة كبيرة حينذاك.
لكن ماذا بخصوص الطرف الأضعف الذي تمارس عليه كل أنواع الدعاية والتضليل؟ فالطرف الأقوى يملك دعاية أقوى. ويمكنه عبرها ممارسة كل أشكال التضليل والخداع حتى يحقق أهدافه. فالطرف المعتدي، يمكنه ببساطة جعل نفسه ضحية عبر الدعاية، ينزع الحق من صاحبه الحقيقي وينسبه لنفسه. كما وقع في حرب العراق 2003 عندما مارست الولايات المتحدة كل أنواع التضليل لتبرير الهجوم العسكري على العراق، إلى درجة أنها اخترقت الاعلام المحلي لدولة ذات سيادة لبث دعايتها.
وهو ما حصل ويحصل الآن مع القضية الفلسطينية عبر تاريخها. الكيان - الصهيو أمريكي - الإسرائيلي منذ نكبة 1948 وهو يحاول تزوير الحقائق وتزييف الواقع، وممارسة كل أنواع التضليل والحرب النفسية ضد الفلسطينيين - داخليا وخارجيا، مستغلين قوتهم التكنولوجية والمالية واللوبيات العالمية الكبيرة من مراكز المال والتكنولوجيا والإعلام .. وهاهم اليوم يستغلون مختلف وسائط التواصل الإجتماعية للترويج للنموذج الإسرائيلي واستغلال الخطاب الديني ( تاريخ الشرائع اليهودية) من طرف (اسرائيل) المحتلة، كجزء أساسي من خطابها الدعائي وبروباغاندا الحروب، من قبيل أنها دولة ضعيفة مهددة وأنها عانت من اضطهاد تاريخي - تلعب دور الضحية - والمسكنة- مستخدمة نفس الحجج التاريخية - "الهولوكوست - الشتات - معاداة السامية - إسرائيل دولة ديمقراطية محاطة بدول دكتاتورية همجية - العرب والفلسطينيون قتلة وهمج وارهابيون - الحق اليهودي في الوجود - أرض الميعاد - المقدسات والهيكل المزعوم..
وقد نجحت هذه البروباغاندا في جعل إسرائيل هي الضحية لدى الكثيرين في هذا العالم. فالبروباغاندا تجعل المعتدي على حق - أليس هذا هو حال الواقع - فنسبة لا يستهان بها لا تعلم حقيقة الأمر تنساق وراء هذه الدعاية، فماذا سيكون موقف شاب أو مراهق ياباني أو حتى من المنطقة مثلا: قد يرى فيلما سينمائيا حول اضطهاد اليهود في الحرب العالمية الثانية، أو يشاهد دعاية للسياحة في إسرائيل تظهرها بمظهر دولة ديمقراطية متقدمة - أو يقرأ ويرى ما ينشر من دعاية في وسائل التواصل الاجتماعي في حين لا يعلم شيئا عن معاناة الشعب الفلسطيني. هل سيميل إلى الحق بفطرته الإنسانية كما يقال ؟ لكن أليس الحق ما تصنعه البروباغاندا لا كما ما هو مستحق؟ ألا تراهن هذه الأفعال الدعائية على فئات سنية معينة مثل المراهقين والشباب، وتراهن على فئات اجتماعية معينة أقل حقدا على كيان إسرائيل؟ لكن ماهي استراتيجيات هذه الدعاية على المدى البعيد؟ وهل موجة التطبيع الحالية القائمة في المنطقة من ثمار هذه الدعايات؟
مقابل ذلك ماذا فعلنا -(نحن)- أصحاب القضية ؟ كيف روجنا لعدالة القضية الفلسطينية، ومعاناة الشعب الفلسطيني، وهمجية وكذب الكيان المحتل؟ وكيف واجهنا الدعايات الخبيثة والمضللة ؟ وكيف صححنا المفاهيم الخاطئة؟ وكم من المتعاطفين والمتضامنين مالوا إلى صف القضية ؟ وما هي الوسائل والتكتيكات والإستراجيات الكفيلة بتحقيق هذا الهدف؟لكن عن أي بروباغاندا نتحدث؟ وهل بروباغاندا خيبر خيبر يا يهود العربية حققت نتائج ملموسة؟
إن مرارة الواقع أقوى من حرقة الأسئلة. أليس واقعنا هو الانحطاط ولا شيء غيره؟ منذ قرون وهذا الإنحطاط يزداد سوءا، هزائم تلو الهزائم.. لكن ألم تعش مجتمعاتنا هزائم وانكسارات وهوان وذل كالتي تعيشها الآن، كل شيء أسود أو رمادي، لا الحق حق ولا الصدق صدق.. لا الصديق صديق ولا العدو عدو. زمن غريب وأحداث أغرب وهزائم تمحى بهزائم أخرى.. ونظريات المؤامرة شكل من أشكال الهروب من الواقع، عوض تحمل المسؤولية عن القصور التاريخي للذات المتخلفة.
ولعل جراح القضية الفلسطينية أكثر الجراح (العربية / الإسلامية) عمقا وإيلاما - كما يقول البعض. لكن في النهاية القضية الفلسطينية ليست سوى نتيجة للإنحطاط القومي التاريخي، وبعبارة أخرى الذات (العربية / الإسلامية) المنكوبة منذ قرون هي المسؤولة.
الشعب الفلسطيني ليس ضحية ممارسات الإحتلال القمعية فقط، ولكنه أيضا ضحية النظام العالمي الاستبدادي الذي يبرز بوجهين متناقضين، والذي مازال يصوغ منطق الغاب والبقاء للأقوى، وقيادة القطب الواحد المتحيز لمصالحه ومصالح أذياله. فكيف ستعمل جميع الشعوب المستضعفة لإسترجاع كرامتها؟ ماذا فعل النظام الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة لحماية الشعوب من انتهاك حقوقها؟ وماذا بخصوص القانون الدولي الذي يمنع انتهاك حقوق الإنسان؟
وما نراه من صور للهمجية الصهيونية في حق الشعب الفلسطيني الأعزل هو إدانة للإنسانية جمعاء وتكذيب صارخ لكل القيم الجوفاء لعالم الألفية الثالثة وقيم النظام العالمي الجديد من من حرية وعدالة وحقوق الإنسان.. لكن الواقع هو الجور والاستعباد و الاستغلال والاضطهاد. من سينتصر في النهاية هو من كان أكثر صمودا ومقاومة دفاعا عن حقوقه كاملة، سيبقى الشعب الفلسطيني موجودا، ويتحرر الشعب الفلسطيني عندما تتحرر الذات العربية في اتجاه بناء الدولة الديمقراطية الوطنية. مع ذلك هناك بعض الزرع في الأرض الموات. لعبت الثقافة / الدعاية التي مثلها مجموعة من المثقفين الفلسطينيين دورا لا يستهان به في التعريف بالقضية وتعميق الوعي بممارسات الإضطهاد الممنهج، وصمت الضمير العالمي ذلك ما حققه فن الشعر والرواية والأدب والكاريكاتير.. وغيرها من الفنون فهي وسائل للدعاية بدورها وبروباغاندا.
فالكاتب الفلسطيني "غسان كنفاني" مثلا ينتمي لنخبة المقاومة بسلاح القلم ورسائل الأدب ورصاص الكلمات.. وهي من بين أهم المحاولات الجريئة في الساحة الثقافية الفلسطينية - إلى جانب شعر "محمود دريش" "ناجي العلي" .. ففلسطين لن تعود بسلاح النار والحديد والبنادق والخنادق فقط.. لابد من الكلمات لابد من الأدب والشعر والتاريخ والفن والثقافة.. لابد من تحرير العقول وتعرية الجهل وتشكيل الوعي وبناء الفكر… للحفاظ على تاريخ وروح وذاكرة الإنسان الفلسطيني. وأساسا لفضح خيانة الإخوة الأشقاء، وغبائهم وممارسات الأعداء، ووحشيتهم وقسوتهم، وعطشهم للدماء. وما كابده الإنسان الفلسطيني من تقتيل وتهجير وتعذيب.. نعم ضاعت بعض الأرض لكن لا يمكن السماح بضياع الإنسان أيضا.. نعم ضاعت حيفا ويافا وعكا ومدن اخرى .. فهل سيندثر الشعب المقاوم؟ وهل ستمحى ذاكرة شعب بأكمله؟ هذا هو رهان غسان ورفاق الكفاح في حقل بروباغاندا الثقافة والأدب.. هو أن تظل فلسطين القضية حية للأبد، فعندما تسلب أرضي، ليس لي خيار آخرسوى المقاومة. لكن لكل مقاومة ضريبة. وهي قاسية على الجميع، فجروا سيارة غسان، واحرقوا جثته لكنهم لم يستطيعوا حرق أفكاره، واغتالوا ناجي العالي، لكن "حنظلة" الطفل مازال شاهدا على كل شيء.