نملك تصورات خاطئة تتسم بالنمطية حيال حرية المثقف والثقافة، تجعلنا نظن أن المثقف حر. هو كذلك من حيث قدرته على التفكير خارج دائرة القيادة التي تسعى إلى احتجازه داخل سجن ايديولوجيا معينة أو تأسره في وهم مصالح ذاتية ضيقة، وكلما تقلصت هذه القدرة على مقاومة مراكز القرار إلا وتراجع هامش الحرية لدى المثقف وغدت الثقافة طقسا احتفاليا يستغل أبشع استغلال بوعي أو بدونه. لكن ما الذي يجعل المثقف أسيرا، فاقدا شرط وجوده ؟
لقد اختار الكثير من مثقفينا اليوم العزلة. والنأي بأنفسهم عن كل صراع نحو التحرر من قيود السلطة مهما كان مصدرها، ولا ندري ما إذا كان اختيارهم هذا سعيا إلى التأمل في ذواتهم ومحاولة الهروب من طواحين الهواء التي تفوق قدرتهم على لعب دور البطولة، أم أن عزلتهم تهدف إلى تحقيق مسافة تمكنهم من تغيير رؤاهم تجاه الواقع دون الدخول في استنزاف طاقاتهم وبهذا تكون عزلتهم اختيار واعي يبحث عن الأمان لتحقيق النضج والتمكن من أدوات جديدة لتحقيق وجودهم الفعلي.
مهما كان الأمر، سواء كانت عزلتهم هذه اختيارية أم قسرية فإنها تدفع إلى التساؤل حول أمر يبدو في غاية الأهمية وهو صناعة المثقف وحديثنا هنا عن المثقف المغربي الذي تأثر بشكل أو باخر بعاملين أساسين :العامل الأول مرتبط بنوع السياسة التعليمية المنتهجة في البلاد والتي مهما ادعت من حداثة إلا أنها لا تزال ترتهن إلى التكرار والتلقين والحضور الجسدي، الذي يعبر أحيانا عن الجمود خوفا دائما من العزلة والتي تعني هنا الاقصاء. أما العامل الثاني فيتمثل في الانفصال عن الواقع عن التجارب الإنسانية المهمشة عن تفاصيل وقضايا المجتمع في كل المجالات، اقتصادية وسياسية ونفسية وغيرها.
لقد أسهم العامل الأول بشكل أو باخر في جعل المثقف خاضعا للذاكرة التي شكلت محور تعلماته ومصدر خوف دائم من أن تصاب بمحو يطالها، عن طريق النسيان أو الهدم، وتجاوز المسلمات ومساءلتها، وهو الخوف الذي يتناقض مع كل عملية إبداعية بل ويعطل حركة التفكير في التطوير والتجديد. بهذا المعنى كانت فكرة الانضباط والصرامة في التعامل مع المعرفة الجاهزة أمرا ضروريا في تحقيق النجاح للمثقف. غير أن هذه الفكرة نحت نحو ربط النجاح بكل ما هو مادي صرف في ظل ظروف حياة تتسم بالصعوبة، مما سيؤدي حتما إلى الانهاك وعدم القدرة على الاستمرار والمقاومة، فيكون السبيل الذي يتبعه المثقف في هذه الحالة للنجاة أحيانا هو الميل إلى السطحية وليس العمق بوصفها وسيلة ممكنة للمقاومة. مقاومة إنهيار الذات على الأقل.
في المقابل كان العامل الثاني، داعيا إلى الإحساس بنوع من الاغتراب داخل مجتمع يمور بمتغيرات لا تتوقف من أبرز مظاهرها التفاهة والسطحية التي غطت جل مناحي الحياة، وهو إحساس يتولد لدى المثقف - كما أشرنا إلى ذلك سابقا - من النظر إلى الأشياء بعمق زائد منفصل عن الواقع وتفاصيله الصغيرة.
إن الأمر يدعو للشفقة أحيانا ،ومرد ذلك كون المثقف ليس عليه أن يعبر عن ظروفه ومصاعب حياته رغم ما يعيشه من تهميش، وإلا قد ينظر إليه بازدراء وأنه ترك الأمور الكبرى وصار يخوض في أمور العيش، بل قد يتهم بالخيانة وعدم الوفاء بالالتزامات، وأنه ينبغي دوما أن يحترق ولا يرى أثر الحريق عليه. وإذا ما اختار السعي لتحسين ظروفه الحياتية بطرق مشروعة دون الانفصال عن همه الثقافي نعت بكونه خاضعا وتابعا لدوائر السلطة .
يعد هذا النوع من المزايدات من أقوى القيود التي تمارس ضد المثقف، وهي ليست بريئة بطبيعة الحال إنها محملة بأيديولوجيا ذات مرجعيات قد تكون سياسية أو دينية وحتى اقتصادية.
فكيف السبيل إلى تحرر المثقف؟ لا جواب على هذا السؤال مرحليا على الأقل، إلا من خلال هذه الملتمسات التي توجه إلى المثقف نفسه:
-الاشتباك مع الواقع دون استنزاف.
-ممارسة التفكير دون ايغال في العمق الذي ينسينا فلسفة السطح.
-الابتعاد عن كل أشكال المزايدات والحث على التمرد وصناعة المختلف.
-رفض المشاركة في طقوس تحول المثقف إلى مهرج.
- تحرر المثقف المبتدئ من الخوف.