إجبارية جواز التلقيح وسؤال المشروعية الدستورية والقانونية – د. الحَسن العباقي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أثار الإعلان عن إجبارية جواز التلقيح الكثير من النقاش شمل كل فئات المجتمع، حيث أصبح حديث الخاص والعام، وتناولته كل الفئات العمرية وكل الطبقات الاجتماعية، وبينما يرى البعض أنّ هذا الإجراء ينسجم مع مقتضيات الدستور، وخاصة الفصل السادس منه في فقرته الأولى، وغير ذلك من النصوص القانونية بما فيها المرسوم بقانون رقم 2.20.292، يرى البعض الآخر أنّه إجراء غير دستوري لأنه يصادر حقوقا دستورية؛ وبينما ذهبت الفئة الأولى إلى القول بأنّ حالة الطوارئ الصحية حالة استثنائية تُخوّل للسلطة الحكومية سنّ ما تراه مناسبا من قوانين حماية للصحة العامة بما في ذلك إجبارية جواز التلقيح، ذهب غيرها إلى القول بأنّ ذلك الإجراء اتّسم بالكثير من التسرّع ولم يمنح للمعنيين بالأمر مهلة للتدبير الجيّد لهذا الإجراء كما أنّه يتضمّن تناقضا مع اختيارية التلقيح التي تبنّتها الدولة ابتداء، وذهبت فئة ثالثة إلى ضرورة الإبقاء على مبدأ الاختيار أخذا بعين الاعتبار أنّ هناك من المواطنين من يتوفر على موانع تحول دون خضوعهم للتلقيح ومنهم من يرفضه أصلا.

وبغض النظر عن الآراء التي تم التعبير عنها والتي تقع في الكثير من الأحيان على طرفي نقيض، سنتناول هذا الموضوع من خلال زاوية النظر الدستورية والتشريعية، خاصة أنّ هناك العديد من الآراء التي خاضت في هذا الجانب، والتي نحسب أنّ توجيهها للمقتضيات الدستورية وكذا التشريعية قد جانب الصواب في بعض الجوانب.

ولنا أن نتساءل:

هل بالفعل قرار إجبارية جواز التلقيح ينسجم مع القواعد الدستورية وخاصة ما تضمنته الفقرة الأولى من الفصل السادس؟
وهل حالة الطوارئ من الناحية الدستورية والقانونية تُخوّل للحكومة فرض كل ما تراه بغض النظر عن أيّ مقتضيات دستورية أو تشريعية أو تنظيمية مُخالفة؟
وهل هناك حدود لمجال تدخل النصوص التنظيمية الحكومية المومأ إليه في كل من المرسوم بقانون رقم 2.20.292 وغيره من المراسيم المرتبطة بحالة الطوارئ الصحية؟
وما هي الطبيعة القانونية لقرار إجبارية جواز التلقيح الذي قيل بأنّه صدر بمقتضى بلاغ عن الحكومة؟


هذا ما سنحاول مقاربة الجواب عنه من خلال ما يلي.

أولا: قرار إجبارية جواز التلقيح في ميزان الدستور

                أعلنت مجموعة من وسائل الإعلام يوم الاثنين 18 أكتوبر 2021 الذي وافق الحادي عشر ربيع الأول 1443، عن صدور بلاغ حكومي ضمّ مجموعة من التدابير كان أكثرها إثارة للنقاش التدبير المتعلق بإجبارية الإدلاء بجواز التلقيح لولوج الفضاءات العامة ووسائل النقل وفضاءات العمل سواء بالقطاع العام أو بالقطاع الخاص، وبغض النظر عن آثار هذا القرار والأوصاف التي وُصف بها إن بالسّلب أو الإيجاب، نقف هنا مليّا عند مدى انسجامه أو مخالفته للقواعد الدستورية، خاصة أنّ ما  تمّ تداوله داخل المؤسسة التشريعية من خلال تدخّل رئيس الجلسة الذي اعتمد في دفاعه عن دستورية هذا القرار بما جاء في الفقرة الأولى من الفصل السادس من الدستور التي ورد فيها: "القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والجميع، أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له".

                ومع أن ما جاء في هذه الفقرة لا جدال فيه من حيث مضمونه ولا من حيث ضرورة الامتثال له، إلا أنّ توظيفه مردود عليه من عدّة أوجه نُجملها فيما يلي:

  • هذه الفقرة لم تدرج النصوص التنظيمية ضمن مقتضياتها وجعلتها متعلقة بالقانون، في حين أنّ قرار إجبارية جواز التلقيح جاء بناء على بلاغ قيل بأنّه صادر عن الحكومة وهو مجرّد نصّ تنظيمي وليس نصّا قانونيا، ومن ثمّ فالاستدلال بالفقرة الأولى من الفصل السادس أعلاه للقول بدستورية ذلك التدبير مُجانب للصواب من هذا الجانب؛
  • هذه الفقرة ألزمت الأشخاص الذاتيين كما الاعتباريين بما في ذلك السلطات العمومية، بالامتثال للقانون على قدم المساواة، ومن ثمّ، فالحكومة ذاتها مطالبة بالامتثال للقانون، ومن باب أولى للقواعد الدستورية الواردة في الباب الثاني من الدستور ذات الصلة بالحريات والحقوق الأساسية، وأيّ إخلال منها بحق من هذه الحقوق يجعلها مُخلّة بواجب دستوري؛
  • أكّد الفصل السادس ذاته من الدستور في فقرته الأخيرة مقتضى في غاية الأهمّية لا يمكن فصله عما جاء في فقرته الأولى، يتعلّق بتَرَاتُبية النص القانوني، حيث جاء فيها: "تعتبر دستورية القواعد القانونية، وتراتبيتها، ووجوب نشرها، مبادئ ملزمة"، وهو ما يقتضي بالضرورة نفاذ القواعد الدستورية بما فيها المتعلّقة بالحريات والحقوق الأساسية، وعدم دستورية توقيف العمل بها بمقتضى نصّ قانوني أقّل رتبة منها، ومن باب أولى إيقاف العمل بها بواسطة مجرّد نص تنظيمي.

لابد من الإشارة هنا إلى أنّ المدخل الدستوري لتناول هذا الموضوع لا يقف عند مقتضيات الفصل السادس، بل يتعدّاه إلى عدد لابأس به من الفصول، سواء ما تعلق منها بالحريات والحقوق الأساسية التي لا يجوز الإخلال بها تحت أيّ ذريعة، أو ما تعلّق باختصاصات السلطة التشريعية، أو تعلّق باختصاصات السلطة التنفيذية، الشيء الذي سنقف عند بعض جوانبه أسفله، والعلّة الأساس في هذا الأمر، أن الوثيقة الدستورية لم تتناول "حالة الطوارئ الصحية" ولا وضعت قواعد خاصة يمكن الاحتكام إليها في حالة وقوع ما يستدعي الإعلان عن مقتضى مماثل كما هو الشأن بالنسبة لكوفيد 19، الشيء الذي يتطلب بالفعل تعديلا دستوريا لهذه الغاية.

لكن، وفي انتظار تعديل دستوري من هذا القبيل، هل يسوغ للحكومة اتخاذ ما تراه من تدابير دون قيد أو شرط؟

لقد تناولت الوثيقة الدستورية حالتين لهما خصوصية كما أنّ حالة الطوارئ الصحية لها خصوصية، يتعلق الأمر من جهة أولى بالإعلان عن حالة الاستثناء طبقا لمقتضيات الفصل 59 الذي خوّل للملك سلطة الإعلان عن حالة الاستثناء بظهير إذا كانت حوزة التراب الوطني مهدّدة أو وقع من الأحداث ما يعرقل السير العادي للمؤسسات الدستورية، بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيسي مجلس النواب ومجلس المستشارين ورئيس المحكمة الدستورية وتوجيه خطاب للأمة، كما خوّلت له صلاحية اتخاذ الإجراءات التي يفرضها الدفاع عن الوحدة الترابية، ويقتضيها الرجوع، في أقرب الآجال إلى السير العادي للمؤسسات الدستورية؛ ومن جهة ثانية بالإعلان عن حالة الحصار طبقا لمقتضيات الفصل 74، وذلك بمقتضى ظهير يوقع بالعطف رئيس الحكومة.

وجدير بالذكر، أنّ الحالتين معا رغم خطورتهما وخطورة الدوافع الدستورية للإعلان عنهما، قيّدتهما الوثيقة الدستورية ببعض القيود، فجعلت الإجراءات الممكن اتخاذها في الحالة الأولى محدّدة بما يُمَكّن من الرجوع إلى السير العادي للمؤسسات في أقرب الآجال، وأيضا -وهذا في غاية الأهمية- ضمان الحريات والحقوق الأساسية خلال فترة الاستثناء وعدم المساس بها؛ كما جعلت حالة الحصار التي يعلنها رئيس الحكومة محدّدة في الزمان، بحيث لا تتجاوز ثلاثين يوما، ولا يمكن تمديدها إلا بالقانون، مما يعني جعل هذا الإجراء ينفلت بوجه من الوجوه من السلطة التنفيذية ومنحه للسلطة التشريعية ليصدر قرار تمديد حالة الحصار من طرف المؤسسة التشريعية حتى يكون معبّرا عن الإرادة غير المباشرة للأمة عن طريق ممثليها.

فإذا كانت الإجراءات الممكن اتخاذها في حالتي الاستثناء أو الحصار لا تتّسمان بالإطلاق بل مقيّدتان بقواعد دستورية، فمن باب أولى حالة الطوارئ الصحية، فهي كذلك يجب أن تبقى خاضعة للقواعد الدستورية وغير متجاوزة لها.

ثانيا: قرار إجبارية جواز التلقيح في ميزان التشريع

                عرفت حالة الطوارئ صدور عدة نصوص قانونية وتنظيمية واكبت مراحل تطور الوضع الوبائي بالمغرب، وجميعها تتأسس على المرسوم بقانون رقم 2.20.292 المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، وغنيّ عن الذكر بأنّ الصناعة التشريعية دأبت في ديباجة النصوص على إدراج ما تم اعتماده من مصادر ومراجع ترسيخا لمبدأ تراتبية النص القانوني، وهو الأمر الذي لم يَحِد عنه المرسوم أعلاه، حيث أدرج في ديباجته المصادر التي اعتمدها في وضع المقتضيات التي تضمّنها، وجاءت هذه المصادر كالآتي:

  • القواعد الدستورية، وأجملها في الفصول ذات الأرقام 21 و24 فقرة أخيرة و81؛
  • اللوائح التنظيمية الصادرة عن منظمة الصحة العالمية.

وأضاف إلى ما سبق، مصدرين يتعلقان بالمسطرة المتبعة لإقرار المرسوم أعلاه، وهما:

  • التداول في الموضوع داخل المجلس الحكومي؛
  • الاتفاق مع اللجنتين المعنيتين بالأمر في مجلس النواب ومجلس المستشارين.

إن تدبيج المرسوم بقانون رقم 2.20.292 بما سلف، يعني بالضرورة أنّ ما تضمّنه من مقتضيات يجد سنده فيما تمّ اعتماده والتصريح به فيها، ولا يُتوقّع مُطلقا على الأقل من الناحية القانونية، أن يتضمن أيّ نصٍّ قانونيٍّ مقتضيات تُناقض أو تُخالف الأساس الدستوري أو التشريعي الذي اعتمده، وبقليل من التأمّل في المرجعية المعتمدة في هذا المرسوم بقانون يتّضح ما يلي:

  • بعض المقتضيات الواردة فيه لا تستند إلى أيّ قاعدة دستورية، سواء تلك الواردة في الديباجة أي الفصول 21 و24 و81، أو غيرها من فصول الدستور، وعلى رأسها ما جاء في المادة الثالثة منه حيث نصت على ما يلي: "على الرغم من جميع الأحكام التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، تقوم الحكومة، خلال فترة الإعلان عن حالة الطوارئ، باتخاذ جميع التدابير اللازمة التي تقتضيها هذه الحالة [...]"، فهذه الصلاحية، لم تُخوّلها الوثيقة الدستورية مطلقا للحكومة، لأنّها أصلا لم تتناول أيّ مقتضيات تتعلق بحالة الطوارئ الصحية؛
  • لقد اعتمد المرسوم بقانون من بين ما اعتمد عليه، الفصل 21 من الدستور، وقد جاء في الفقرة الثانية من هذا الفصل "تضمن السلطات العمومية سلامة السكان، وسلامة التراب الوطني، في إطار احترام الحريات والحقوق الأساسية المكفولة للجميع"، وهو ما يعني أنّ الحكومة بجعلها من هذا الفصل أرضية دستورية للنص القانوني الذي اعتمدته في الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية، تكون قد أكّدت بأنّ كل ما سيصدر عنها في هذا الإطار، سواء بمقتضى مرسوم بقانون أو بمقتضى مراسيم عادية أو بمقتضى نصوص تنظيمية، ملزم باحترام هذه القاعدة ومؤسّس عليها، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يتجاوزه؛
  • اعتمد المرسوم بقانون المشار إليه أعلاه أيضا على الفقرة الرابعة من الفصل الرابع والعشرين من الدستور، والتي جاء فيها ما يلي: "حريّة التنقل عبر التراب الوطني والاستقرار فيه، والخروج منه، والعودة إليه، مضمونة للجميع وفق القانون"، ولعلّه بادٍ للعيان أنّ قرار إجبارية جواز التلقيح يناقض ما جاء في هذه الفقرة، لأنّه يحدّ من حريّة التنقل بالنسبة لفئة عريضة من المواطنات والمواطنين، ويجعلها مشروطة بتدبير يتأسّس على نص تنظيمي وليس على نصّ قانوني.

إنّ ما تمّ الوقوف عنده من ملاحظات، يُسائل نص المرسوم بقانون الذي تمت المصادقة عليه بمقتضى القانون رقم 23.20 الذي ضمّ مادة فريدة قضت بالمصادقة، وهي العملية التي تمّت بتاريخ 20 أبريل 2020 بالإجماع في اجتماع واحد مدّته ثلاثون دقيقة، وبادٍ من خلال هذه المُعطيات الواردة في تقرير لجنة الداخلية والجماعات الترابية والسكنى وسياسة المدينة بأنّ ضغط السياق العام المرتبط بكوفيد 19 كان مخيّما على عملية المصادقة كما كان حاضرا عند إعداد نص المرسوم بقانون، في ظلّ فراغ تشريعي كبير على هذا المستوى، ما يعني أيضا، أنّ الحكومة كانت أمام محكّ إعداد نصّ تأسيسي لتأطير وضع خاص بكل المقاييس، ووَجَب الإشارة في هذا المقام إلى أنّ ما حازه هذا المرسوم بقانون من إلزامية عبر سلوك الحكومة لمسطرة المصادقة التي نظّمها الفصل 81 من الدستور وصدور القانون رقم 23.20 تبعا لذلك، لا ينسحب بالضرورة على مقتضيات النصوص التنظيمية التي يمكن أن تتأسّس عليه، بما في ذلك البلاغ المنسوب إلى الحكومة الذي قرّر إجبارية جواز التلقيح إلا في حدود.

ثالثا: قراءة في حدود التدابير الممكن اتخاذها للحيلولة دون تفاقم الحالة الوبائية

                تُوحي المادة الثالثة من المرسوم بقانون رقم 2.20.292 بأنّه لا حدود للتدابير التي يمكن للحكومة اتخاذها من أجل الحيلولة دون تفاقم الحالة الوبائية، إلا أنّ هذا الأمر ليس بإطلاق وذلك بناء على الاعتبارات الآتية:

الاعتبار الأول: ما يتعلق بالمرجعية الدستورية

إنّ المرسوم بقانون أعلاه قد حدّد مرجعيته الدستورية، ومن ثمّ، فكلّ تدبير يناقض أو يخالف القواعد الدستورية المرجعية بخصوصه تكون مشوبة بعدم الشرعية، سواء ما تعلق منها بضرورة ضمان احترام الحريات والحقوق الأساسية المكفولة للجميع حسب ما نصّ عليه الفصل 21 في فقرته الثانية، أو ما تعلّق بضمان حريّة التنقل وفق ما نصت عليه الفقرة الرابعة من الفصل 24؛

الاعتبار الثاني: ما يتعلق بالغاية اللازم تحقّقها من التدابير المتّخذة

حدّدت المادة الثانية من المرسوم بقانون أعلاه الهدف المؤطّر للتدابير التي يمكن للحكومة أن تتّخذها، في التدخل للحيلولة دون تفاقم الحالة الوبائية، ومن ثمّ، فأيّ تدبير لا يُحقّق هذا الهدف يكون مشوبا بعدم الشرعية، والأمر هنا لا يجب أن يكون خاضعا للسلطة التقديرية التي قد تختلف من جهة لأخرى، بل بمحدّدات علمية أو واقعية مضبوطة، ويتضح من خلال عرض التدبير المتعلق بإجبارية جواز التلقيح على هذا الاعتبار، بأنّه لا يحقّق بالضّرورة الهدف الجوهري الذي من أجله خوّل المرسوم أعلاه للحكومة اتخاذ ما تراه لازما من تدابير، وذلك من عدّة وجوه كانت محلّ نقاش مجتمعي منذ الإعلان عن صدور بلاغ للحكومة بهذا الخصوص، منها على سبيل المثال:

  • أنّ جواز التلقيح لا يعني بالضرورة كون حامله لا يمكن أن يُساهم في تفاقم الحالة الوبائية، لأنّ الحصول على هذا الجواز يُفيد بأنّ حامِله قد استفاد من التلقيح، ولا يعني أنّه لن يُصاب بالعدوى مرّة أخرى، كما لا يعني أنّه ليس حاملا للفيروس كوفيد 19، إضافة إلى أنّه لا يمنع من أن يكون سببا في نقل الفيروس إلى غيره سواء كانوا ملقّحين أم غير ملقّحين، ومن ثمّ فجواز التلقيح ليس تدبيرا مستوفيا ومحقّقا للغاية المنصوص عليها في المادة الثالثة من المرسوم بقانون؛
  • أنّ غير الحاملين لجواز التلقيح لا يشكّلون بالضرورة خطرا على بعضهم ولا على غيرهم، وليسوا بالضرورة مضنّة لتفاقم الحالة الوبائية، إلا في حالة ثبوت إصابتهم بالفيروس كوفيد 19 أو ثبوت حملهم له، وهذه الخاصية يتساوون فيها مع حاملي جواز التلقيح، مما يترتّب عنه كون العِلّة التي تمّ الاستناد عليها للتمييز بين حاملي الجواز وغيرهم لا تستقيم للقول بوجوب وضع مقتضى قانوني أو تنظيمي يقضي بضرورة تعميم الحصول على جواز التلقيح واعتباره شرطا للتنقل أو التواجد في الفضاءات العامة.

الاعتبار الثالث: ما يتعلّق بشَرطَيْ المناسبة ومراعاة معطيات الوضعية الوبائية

بالرجوع إلى المراسيم المتتالية التي صدرت بناء على مقتضيات الفقرة الثانية من المادة الثانية من المرسوم بقانون رقم 2.20.292، نجد مقتضى في غاية الأهمّية تكرّر في جلّها، فبالاطلاع على المواد الثانية من جلّ تلك المراسيم وعددها إثنا عشر، ابتداء من المرسوم رقم 2.20.456 الصادر بتاريخ 09 يوليو 2020 إلى المرسوم رقم 2.21.507 الصادر بتاريخ 08 يوليو 2021، نجد أنّها نصّت على ما يلي: "يجوز لوزير الداخلية أن يتّخذ، في ضوء المعطيات المتوفّرة حول الحالة الوبائية السائدة، وبتنسيق مع السلطات الحكومية المعنية، كافة التدابير المناسبة، على الصعيد الوطني، بما يتلاءم وهذه المعطيات"، ولعلّه واضح للعيان، بأنّ تخويل وزير الداخلية صلاحية اتخاذ التدابير جاءت مشروطة ولم تكن مطلقة، وذلك وفق الآتي:

الشّرط الأول: أن تكون تلك التدابير مناسبة؛

الشرط الثاني: أن تراعي المعطيات المتوفّرة حول الحالة الوبائية.

                إنّ المقتضيات المتعلقة بضرورة التزام التدابير المتخذة للحيلولة دون تفاقم الوضعية الوبائية بشرطي المناسبة ومراعاة المعطيات المتوفرة حول الحالة الوبائية تعتبر حاسمة في موضوع القول بإجبارية جواز التلقيح، وهو ما يتأكّد من خلال ما يلي:

  • إنّ القول بإجبارية جواز التلقيح فضلا عن كونه وارد بمقتضى نصّ تنظيمي وليس بمقتضى نص قانوني، فهو لا يتّسم بالمناسبة التي اعتبرتها المراسيم المومأ إليها أعلاه شرطا أساسيا لا يجوز أن ينفكّ عنه أيّ تدبير من التدابير المتخذة للحيلولة دون تفاقم الوضعية الوبائية، لأنّه وكما سبق بيانه أعلاه، لا يمنع من إصابة حامله بالعدوى، كما لا يمنع من أن يكون حامله سببا في نقل العدوى؛
  • إنّ القول بإجبارية جواز التلقيح لا يتّسم بمراعاة المعطيات المتوفّرة حول الحالة الوبائية، لأنّه في الوقت الذي عرفت تلك الوضعية انفراجا وتحسّنا من خلال انخفاض عدد الإصابات الجديدة وارتفاعا كبيرا في نسبة المستفيدين من التلقيح تجاوزت السبعين في المائة، وهي نسبة متقدّمة جدا مقارنة مع الكثير من الدوّل بما فيها عدد من الدّول المصنّعة للتلقيح، فمعطيات من هذا المستوى، تقتضي رفع المزيد من القيود عن حرية التنقل وعن ارتياد المرافق العمومية مع الحرص على الالتزام بالإجراءات الأخرى كارتداء الكمامة والتباعد والنظافة، عِوض اتخاذ إجراء من حجم القول بإجبارية جواز التلقيح مع ما يترتّب عنه من ارتباك في المرافق والفضاءات العمومية جراء حرمان فئة عريضة من المواطنات والمواطنين من بعض أهم حقوقهم المدنية.

وخلاصة القول في هذا المقام، إنّ قرار إجبارية جواز التلقيح الوارد في البلاغ المنسوب إلى الحكومة، يُخالف مقتضيات المرسوم بقانون رقم 2.20.292 كما يُخالف مقتضيات المراسيم التي صدرت تباعا منذ تاريخ الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية وإلى تاريخ يومه، ومن ثمّ، فهو مشوب بعدم الشرعية.

رابعا: طبيعة قرار إجبارية جواز التلقيح من حيث الشكل

                تمّ إعلام المواطنات والمواطنين بصدور بلاغ حكومي قضى بمجموعة من التدابير، على رأسها اعتماد إجبارية جواز التلقيح، وقد كان صدوره مصحوبا بالكثير من النقاش اختلط فيه الجانب القانوني بالجانب الصحي والاجتماعي والسياسي، نكتفي في هذا المقام بإبداء وجهة نظرنا بشأن طبيعة الشكل الذي تبنّته الحكومة في إصدار هذا القرار.

مع أنّ تدبيرًا من حجم القول بإجبارية جواز التلقيح يكتسي الكثير من الصرامة بسبب مساسه بمجموعة من الحريّات والحقوق الأساسية المكفولة دستوريا لكل المواطنات والمواطنين، آثَرتْ الحكومة أن تتّخذ هذا التدبير بمقتضى بلاغ، علما أنّه وطيلة الفترة الممتدة من شهر مارس 2020 وإلى غاية 18 أكتوبر 2021 كانت تصدر ما تراه مناسبة بموجب مراسيم، وبعيدا عن النقاش المتعلق بالعِلّة الكامنة وراء اختيار هذا الشّكل دون غيره من الأشكال التي كان بالإمكان أن تعتمده الحكومة، استغرب الباحثون والمهتمون على حدّ سواء عدم نشر البلاغ الأصلي المنسوب إلى الحكومة والاكتفاء بنشر ما تضمّنه من مقتضيات عبر وسائل الإعلام، وقد تمّ الشروع في تنزيل تلك المقتضيات من طرف الكثير من المؤسسات العمومية وغير العمومية، وأيضا من طرف عدد لا يستهان به من القيّمين على بعض الفضاءات المفتوحة في وجه العموم، بل وأيضا من قِبل رجال السلطة، وهو ما يطرح أكثر من تساؤل:

لماذا لم تنشر الحكومة البلاغ بشكل رسمي كما جرت به العادة وتضع حدّا لأيّ تأويل من طرف هذه الجهة أو تلك؟

ومَن هي الجهة الموقّعة على هذا البلاغ والتي تتحمّل مسؤوليته؟

وهل نسبة البلاغ إلى الحكومة من باب التضامن الحكومي المنصوص عليه في الفقرة الأولى من الفصل 93 من الدستور أم أنّ أعضاء الحكومة تداولوا بالفعل حول مضمون هذا البلاغ وتوافقوا بشأنه قبل إصداره؟

 أسئلة كثيرة بقيت معلّقة دون جواب، تجعل عموم المواطنات والمواطنين أمام وضع غير مؤطّر واقعيا بمقتضيات المادة الثالثة من المرسوم بقانون التي حدّدت للحكومة وسائل اتخاذ ما تراه مناسبا من التدابير، لأنّنا والحالة هذه، وإن كنّا أمام ادّعاء يكاد يصل حدّ التواتر من أنّ تلك التدابير صادرة بموجب بلاغ حكومي، إلا أنّ أيّ جهة من الجهات التي نشرت مضمون الخبر لم تنشر صورة البلاغ المعني بالذكر، ممّا يقوّي احتمال توصّلها بمضمونه وليس بنسخة منه، فإذا أُضيف إلى ما سلف، أنّ وزارة الصّحة قد نشرت بنفس التاريخ بلاغا لم يشمل أيّ إشارة إلى التدبير المتعلق بإجبارية جواز التلقيح، فهل يعني هذا أنّ وزير الصحة لم يشارك مع أعضاء الحكومة في التداول حول مضمون البلاغ المومأ إليه؟

وهل يستقيم أن تنشر الحكومة بلاغا وفق توجّه معيّن وينشر أحد أعضائها بلاغا ثانيا وفق توجه مُخالف من حيث التدابير المتخذة؟

ألا يُزكّي ما سبق كون نِسبة البلاغ إلى الحكومة لا يعدو أن يكون من باب التضامن الحكومي وأنّ القرار تمّ اتخاذه من طرف وزير الداخلية باعتباره إحدى السّلطتين الحكوميتين المعنيتين أكثر من غيرهما بحالة الطوارئ الصحية حسب ما ذهبت إليه المادة الثانية من المرسوم بقانون رقم 2.20.292 وأيضا حسب ما ذهبت إليه المراسيم التي وردت تباعا والمومأ إليها أعلاه والتي خوّلت لهذا الأخير اتخاذ ما يراه مناسبا من تدابير مع احترام شرط المناسبة وشرط مراعاة المعطيات الواقعية المتعلقة بالحالة الوبائية كما سبق الوقوف عنده بما يكفي سلفا؟

وختاما؛ هذه مقاربة قانونية لما أفرزه فرض إجبارية جواز التلقيح في الفضاءات العامة بمقتضى بلاغ منسوب إلى الحكومة، حاولنا من خلاله الوقوف عند الخلفية الدستورية التي استند إليها المرسوم بقانون المؤطر لحالة الطوارئ الصحية، كما حاولنا الوقوف بما يكفي عند الخلفية التشريعية التي استند إليها هذا التدبير، لنخلص إلى وجود الكثير من الاختلال على هذا المستوى، إما بسبب عدم الالتزام بعدد من القواعد الدستورية الحاسمة في الموضوع ولاسيما تلك التي تؤكد تراتبية النصوص القانونية وإلزامية ضمان الحريات والحقوق الأساسية، أو بسبب عدم الالتزام بالشروط التي تم تضمّنها المرسوم أعلاه وما تلاه من مراسيم، ولاسيما ما يتعلق بضرورة خضوع التدابير المتخذة لشرطي المناسبة ومراعاة معطيات الحالة الوبائية، الشيء الذي يقتضي الكثير من التريّث في التعامل من القواعد القانونية باعتبارها أسمى تعبير عن إرادة الأمة، كما يقتضي ملاءمة التدابير المتخذة مع المعطيات الواقعية للحالة الوبائية لتحقيق الهدف المحوري المتوخى من طرف الجهات الحكومية المعنية، ألا وهو الحيلولة دون تفاقم هذه الحالة وحماية كل المواطنات والمواطنين من هذا الوباء.

وغني عن الذكر كون هذه المقاربة لازالت في حاجة إلى عرض المرسوم بقانون المؤطر لحالة الطوارئ الصحية وما تلاه من مراسيم فضلا عن البلاغ المعلن عن إجبارية جواز التلقيح على اللوائح التنظيمية لمنظمة الصحة العالمية، على اعتبار أنّ المرسوم بقانون سالف الذكر، قد جعل هذه اللوائح جزءا من المرجعية التي أسّس عليها مقتضياته، ومن ثمّ، وجب عدم تجاوز تلك المقتضيات لما جاء في تلك اللوائح، وهو ما قد يكون موضوعا لبحث آخر.

تعليقات (1)

This comment was minimized by the moderator on the site

مقال رصين يتناول موضوعا آنيا تناولا قانونيا. تحياتي

محمد
لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟