"إن المغربي،هو،ويشعر بذلك،مختلف بلباسه ،وبلسانه،وبالحدود التي يعترف بها لتراب(إقليم)يعطيه إسمًا،ويقول بأنه هو له".
Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain(1830-1912), 3ème édition, .p.65-66.
يعود النص-الوثيقة التاريخية- أسفله إلى مرحلة ما بعد الاستقلال،والتي تأثرت بتجاذبات و صراع قوى متعددة لم تكن لتنفلت من محيط إقليمي ودولي غذت توتراته قطبية ثنائية متنافسة وباستراتيجيات متعارضة.مرحلة كان للنقاش النظري والسياسي فيها هيمنة شبه كلية وبمرجعيات إيديولوجية مختلفة،غير أن ما يميز هذا النص –كما أراده له صاحبه –هو الاستناد إلى منظور تاريخي يحدد فيه وعبره مفهوم التراب الوطني المغربي في لحظة كانت استثنائية جدا.
النص جاء ضمن المحور الأول (الحقوق التاريخية والقانونية للمغرب) صفحات 55-62، من كتاب للمؤرخ المغربي عبد الله العروي بعنوان "الجزائر والصحراء المغربية"صادر باللغة الفرنسية عن منشورات" سيرار"سنة 1976 . وينبغي التأكيد هنا على أن القصد من محاولة ترجمته-فعل،كما في أية محاولة ترجمة،نقل المصطلح والمفهوم فيه كما يتناوله الأستاذ العروي المولع بصرامة التأصيل للمفاهيم،يظل إمكانية من بين أخرى في الإمساك بالنص الأصلي - وتقديمه هو استجلاء دور المؤرخ ضمن مطارحات تلك المرحلة والاقتراب من بعض قضاياها،ومنها تحديد مفهوم التراب الوطني وتتبع مسارات تشكله كما صاغته تجربة ومنعطفات تاريخ الدولة المغربية،ثم مركزية ذلك التحديد في فهم رهانات ما بعد عهد الحماية واستكمال الوحدة الترابية،مع الأمل في الحفاظ ما أمكن على دلالات النص الأصلي والوفاء لمعانيه:
تشبَّثَ المغرب على الدوام بتأكيد حدوده المُعترَف بها من طرف المعاهدات الدولية،والتي لم تشهد تداعيا فترة الحماية . كل التراب المتموقع داخل هذه الحدود،والذي لم يتم استرجاعه مع إقرار الاستقلال المغربي،ينبغي،ضمن هذه الشروط إستعادته في إطار المفاوضات الثنائية مع القوة الإدارية ذات الإشراف. اللجوء إلى الأمم المتحدة لم يكن غير وسيلة لدفع الشريك نحو التفاوض. في مسألة الصحراء المحتلة من طرق اسبانيا، كان خصوم المغرب متفقين على وضع نهاية لسيادة ولوضع الكولونيالية،ولكن من أجل عدم الاعتراف بضرورة تسوية تلك المتعلقة بالمغرب طالما أن وجودها كان سابقا عن الكولونيالية،فقد عملوا على استدعاء سيادات أخرى أكثر أو أقل،أسطورية،قبلية،إسلامية،أوعربية .
إن الحديث عن خصوصية الدولة المغربية التقليدية يعني شدّ الانتباه إلى واقعة تفيد بأن نشأتها كانت مؤسسة على مفاهيم قانونية مميَّزة،مشكِّلة نظاما يلزم الإلمام والإمساك بكافة تمفصلاته، وليس الإشارة،كما كان عليه الأمر في محيط مجلس لاهاي،إلى بعض سمات ممارسة السلطة العمومية التي تجعل تلك الدولة تبدو وكأنها لا تزال في المراحل الأولى من نموها،وليس كذلك،البحث عن عذر لعناصر ضعفها وقصورها من خلال شروط إيكولوجية(بيئية) وتكنولوجية(تقنية)واقتصادية،والتي طبعت المرحلة،لأن القيام بذلك يفيد تبني رؤية تطورية،هي أكثر مما هو عليه الحال في ميادين أخرى،غير مبرَّرة في ارتباط بمجال القانون.
نشأت الدولة المغربية على أساس ميثاق بين الحاكمين والمحكومين،والذي يُختزل في نقطتين:1-الدفاع عن تراب(إقليم) محدَّد وغير قابل للتفويت أبدا (ثابت) ،2-مأسسة نظام مدني ضامن لأمن الجميع،ولحقوق كل فرد أو جماعة. ذاك هو الدستور الحقيقي للدولة المغربية الذي يُذَكَّر به عند تولية كل سلطان جديد في بيعة مكتوبة،وهذه الأخيرة هي عقد تولية يمنح راهنية وتجديدا للميثاق السياسي الأساسي،والذي يشابه في أنظمة أخرى قسم الإخلاص للدستور. الموضوع الأصلي في هذا الحق ليس السلطان الذي تمت توليته،ولا المجموعة التي تطالب به وتعلنه،ولكنها الجماعة التي لها،في نفس الآن، معنى دينيا وسياسيا ووطنيا وترابيا:إنه وبلا جدوى البحث عن التمييز بين هذه السمات المختلفة طالما أنها بشكل واع صريح وضمني يستوعب بعضها الآخر.
إن عقد التَّولية(الحُكم) هذا لا يربط الحاكمين والمحكومين فيما بينهم،ولكنه يلزمهم جميعا تجاه الجماعة،وهي لوحدها، ذات السيادة الفعلية.
القارئ الذي سيعتقد بأن الأمر هنا يتعلق بنظرية متأخرة أو مبنية(موضوعة) من أجل القضية الراهنة،ما عليه سوى أن يقرأ أية بيعة مكتوبة على امتداد القرون الأربعة الأخيرة، بهدف العثور عليها وهي معبَّر عنها بوضوح. إنه،إذن،من غير الممكن الحديث ضمن النظام المؤسساتي المغربي عن سيادة قبلية في المعنى الذي يفيد أن كل قبيلة أو كونفدرالية قبائل تمارس حقوقها اللاّمحدودة،عدا باتفاق متعاقد حوله بين أعضائها على الأراضي التي تديرها وتتنقل عليها .
أحرارٌ هم قضاة لاهاي في نزع صفة الكولونيالية عن القانون الدولي عبر خلق تماثل بين القبيلة والأمة،غير أن منطقهم، إن كان من الممكن تطبيقه في إفريقيا القبلية،وبشكل مؤكد،هو غير مبرّر(مقبول) في إطار النظام الدستوري الإسلامي المغربي،والذي هو أيضا مبني وموضوع، كما شأن ذلك الذي هو عليه معتادون. فلا القبائل،ولا الأفراد ،ولا السلطان نفسه له رفعة تملك الإقليم(التراب الوطني): هذا الأخير هو في ملكية الجماعة،وحدها صاحبة السيادة.
خلال مرات عديدة عمل سلاطين المغرب على التذكير دوما بذلك الواقع لممثلي القوى الأجنبية في طنجة،والذين لهم مصلحة للاعتقاد في السيادة القبلية لإعطاء قاعدة مشروعة للمعاملات الخاصة بين من يتولوا الأعمال وبين الزعماء المحليين .إن الجماعة التي يتعلق الأمر بها هنا، ليست بالتالي الأمة الإسلامية الزمنية . إنها فكرة مشتركة لدى منظري الاستعمار خلال القرن 19م. والموجَّهة أساسا ضد حقوق المغرب منذ إبرام المعاهدة الحدودية سنة 1845،حيث تعتبر أن لا شيء بين القبيلة وبين"وطن الإسلام"،بينما ومنذ القرن 16م،حيث تأسست سلطتان تركية وشريفية في إفريقيا الشمالية،صرنا أمام جماعة مسلمة مغربية لثلاثة أسباب رئيسية :1- خليفة الغرب يَتحدّد(يُتصوّر) باعتباره وريثا لخليفة أمويي الأندلس ،وعلى نفس الطريقة التي تجعل سلطنة الأتراك تعتبر بمثابة خلف للخلافة العباسية .2- بالحفاظ على استقلاله بقوة السلاح،فقد صار مشروعا حسب المذهب المالكي السني المعلن باستمرارية منذ القرن 10م،حيث أنه عربي شريف،فيمكنه لذلك تقديم ذاته باعتباره صاحب المشروعية الوحيدة،3-بمفرده حافظ على بنية الدولة الإسلامية المعيارية،وفاءٌ يرمز له في كل عقد تولية التذكيرُ بالبيعة النبوية. لهذه الأسباب لم يعترف ضمنيا وأبدا سلاطين المغرب بمشروعية الخليفة العثماني،وحيث أنه في القرن 19م رفض الحسن الأول إبرام علاقات دبلوماسية مع قسطنطينية.
في خضم تلك الشروط، من غير المتصوّر أن إقليما(ترابا وطنيا) هو جزء من خلافة شرعية يمكن التخلي عنه تلقائيا أو بالقوة لفائدة أخرى مغايرة، وسلاطين المغرب كان إصرارهم ظاهرا في العمل استرجاع وجدة من يد الأتراك كما استرجاع سبتة ومليلية من يد الإسبان . ولكن،وبشكل معكوس-وهذا ما يمكن أن يدهش غير أنه ليس أقل صحة-إن النطاقات الترابية التي لم تكن بداخل الدولة خلال القرن16م،ولم تكن بعد موضوع مطالبة حتى ولو ضمن تاريخ سابق،فهي(أصلا) ذات ارتباط بالمغرب .هكذا نجد السلطان سليمان يرفض بيعة وهران المنتفضة ضد الأتراك،وفي سنة 1832 اعترض غالبية العلماء على قبول بيعة تلمسان. إن الحديث في هذه الحالة عن دار الإسلام يعني تجاهل التطور الخاص (المميز) للدولة المغربية،والفريد،بشكل مؤكد،ضمن الفضاء العربي،حيث وحدها إيران الشيعية التي اعترضت هي الأخرى على الهيمنة التركية،تقدم مثالا قابلا للمقارنة .
الدولة الشريفية،ليست سلطة الشريف على أفراد يتنقلون بين سماء وأرض،إنها أولا تراب وطني الدفاعُ عنه من مسؤولية وواجب الشريف وأولئك الذين يخضعون لحكمه،والذي(التراب الوطني/الإقليم) لا سيادة يمكنها أن تعمّه عدا سيادة الجماعة المغربية. السلطة السلطانية تمارس داخل الإقليم(بمعنى التراب الوطني) بشكل متنوع ومتفاوت. نصل بهذا إلى مفهوم أقل فهما:السِّيبة.
السّيبة لا تدل صراحة على وجود سلطة محلية في منطقة محدودة،طالما أنه في بلاد المخزن نجد أيضا قوادا كبارا وأقوياء أو زعماء زوايا. إنها تفيد أيضا مفهوم الاستقلال الذاتي،طالما أن السلطة المركزية تقوم هي نفسها بتفويض مهمة إدارة نطاقات ترابية واسعة لشخصيات مؤثرة ،التي تستمر في اعتبارها جزءا من المخزن ،وليست هذه الأخيرة (السيبة) مرادفا للامتناع والتوقف عن أداء الضريبة أو إرسال حاميات إلى الحرْكات السلطانية مادام أن الأمر يتعلق هنا بامتياز يمنحه السلطان لساكنة حدودية(على الحدود الترابية) أو بمقابل جهود منتظر منها القيام بها اعتياديا ضد أعداء المغرب ،وهو ما كان عليه الأمر في حالة الريف وكذلك في بني يزناسن .
الحقيقة أن السيبة هي حالة (وضع) قانونية خلقها المخزن نفسه والأفراد الذين يعيشون في هذه الوضعية لا يتحدّدون أبدا بتلك الصفة . بالنسبة للعلماء، تكون ثمة سيبة حينما يكون هناك انقطاع في الميثاق الأساسي للمؤسسة الدّولتِية ،وحينما تكون هناك ضرورة تولِّي قائد سياسي مشترك وبشكل غير صريح(مضمر) ،هو أمر يتم إنكاره،وحينما يتم تقدير العادة غير المقنّنة باعتبارها كافية لتدبير الحياة المدنية . إن الذين يتخذون موقفا من شأن تأويله كما سلف،فهم يُتهمون من قبل المخزن بالسيبة، أي أنهم موضوعون في حالة خرق للأمة بشكل مؤكد،وانتهاك فدرالي(إخلال) بالمعنى الذي كان للكلمة في فرنسا سنة 1794 وفي الولايات المتحدة سنة 1860 . هذا الوصف الشكلي(الصّوري) يمنحهم وضعا (إطارا)محافظا هو أساسا سلاح قانوني يحتفظ بواسطته السلطان على حق إعادتهم في اللحظة المناسبة عبر التفاوض أو بقوة السلاح، إلى قلب الجماعة. ويمكنهم البقاء لفترة طويلة في حالة سيبة (60سنة بالنسبة لمنطقة سوس بحسب شهادة الحسن الأول نفسه سنة 1882) ولكن حينما يحاصَرون فهم لا يطالبون بشيء سوى الاستفادة من الحقوق الجماعية التي تضمنها لهم تحديدا البيعة. من غير المسموح به إذن إعلان،كما يقوم بذلك قضاة لاهاي ،أنه إذا كانت سوس في حالة سيبة فإن ذلك يعني أن الساقية الحمراء هي خارج التراب المغربي . هنا وبوضوح خطأ في التقدير لما تدل عليه السيبة والسيادة في القانون العام المغربي.
الميثاق الأساسي هو الذي يُمأسس للدولة في المغرب،والذي لا يمكن إنكاره من قبل الجميع في نفس الوقت، لأنه ينبغي إذن تخيل(تصور) إرادة مشتركة في العودة إلى حالة ما قبل-دولتية،أي إلى الجاهلية،وهو أمر مستحيل وينشأ عنه واجب مطلق على السلطان و على المجموعات الاجتماعية وعلى الأفراد بعدم قبول،أبدا،وضع مُنجَز يميل نحو تفويت جزء من تراب الدولة أيّا كان المستفيد وأيّا كانت الظروف .
إذا كان مفهوم دار الإسلام قد ساد في الماضي،دون القدرة بالتالي على التطبيق، في حالة المغرب حيث هو حصن المشروعية العربية الإسلامية في مواجهة الإيبيريين وتجاه الأتراك الغاصبين(بمعنى الانتحال)، فإن مفهوم الوطن العربي،حيث السيادة غير قابلة لانقسام الجماعة العربية باعتبارها ذاتا تمتلك حقا هو إنتاج(خلق) حاضر آني للإيديولوجيا المُوَحِّدة،والتي لم تكن حتى اللحظة معتمدة بطريقة ناتجة من قبل أية دولة مؤسسة . لا أحد يتكلم عن تحرير التراب العربي في سيناء أو الجولان ،حيث كل واحد يعترف بالمسؤوليات الخاصة للدولة المصرية والسورية. وفيما يتعلق بفلسطين،نفسها، نتحدث عن سيادة أردنية أو فلسطينية. ليس هناك،إذن مسؤولية متساوية أو حقوقا مشروعة عند كل العرب تجاه كافة المجالات الترابية(الأقاليم) التي تنتمي للميدان العربي. عموما، ليسواهم العرب من حرّروا المغرب من الاحتلال الكولونيالي،بل هي دولة وشعب المغرب من طالبوا دوما وفرضوا إنهاء احتلال كل ما يمثل جزءا من التراب المغربي. تفويض (انتداب) السلطة الذي كان خلال أربعين سنة لم يقطع أبدا السيادة المغربية ولو على افتراض أن هذا التفويض قد تمت شرعنته من قبل إرغامات و"متطلبات الضرورة". الحماية نفسها سارت في تقديرها حتى سنة 1953 في عدم الاعتراف بالوقائع(الحقائق) المكتملة الترابية التي أعقبت عقد مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 .
الحديث عن الصحراء الغربية باعتبارها ترابا(إقليما) عربيا لم يكن للدولة المغربية عليه حق استثنائي طالما أن السيادة تنتمي للشعب العربي الموحد،هو مَحوٌ (تشطيب) بخط ريشة للطابع المميز الخاص بالتاريخ المغربي،ونسيان أن بلدان الجامعة العربية رفضت حتى اللحظة في الممارسة الفعلية وجود سلطة فوق-دُوَلتِية .
تأسست العلاقات الدولية على احترام دستور كل دولة،وأعضاء الأمم المتحدة يمكنهم التفكير كما شاؤوا حول ذاك المتعلق بالمغرب، ولكن هذه الآراء الذاتية لا ينبغي لها أن تؤثر على القضاة القائمين في محكمة دولية،وأيضا بشكل أقل على ممثلي دول ذات ثقافة عربية إسلامية والذين أظهروا خضوعا مطلقا لمقتضيات (فئات)القانون الغربي اللاتيني.
الدولة وشعب المغرب هما مدعوان للمبادرة بشكل يحافظ على الوحدة الترابية للبلاد أويعيدها وبالنتيجة من خلال تحرير الصحراء،التي هي ليست فقط صحرواية، مسلمة، عربية ولكن أيضا وتحديدا مغربية.
قول هذا،يجعل من المفيد التذكير بأن التراب(مجال بلاد المغرب) المغربي مُعرَّف ومحدّد بوضوح منذ القرن 16م،وهو غير قابل للتكييف (التمطيط والتمدد) كما يوحي ويلمح إلى ذلك خصومنا،ولأن استعادة الوحدة الترابية ليست،وفي أية حالة، متعارضة مع حرية التعبير للساكنة، طالما أن العنصر الثاني في الميثاق الأساسي هو ضمان الحقوق الفردية والجماعية،وأن لا شيء في هذا الميثاق يعترض على تجاوز الإطار الدُّولتي(نسبة للدولة) مادام أنه يكفي لسكان إقليم(تراب) أكثر شساعة إنشاءُ،وبحرية اختيار،جماعةٍ أكبر امتدادا،ولكن لا يمكننا،وباسم ما لا يوجد بعد،إنكار حق مُؤسّسٍ وقائم منذ زمن بعيد. نونبر 1975.