إن الحديث عن الحياة الخاصة بكل تفاصيلها داخل أسوار القصور السلطانية خلال الفترات المتزامنة مع حكم العديد من سلاطين الدول التي تعاقبت على حكم المغرب ابتداء من منتصف العصر الوسيط ، يقتضي استنطاق بيبليوغرافيا المصادر والمراجع سواء الوطنية منها أو الأجنبية، التي اهتمت بدراسة تاريخ الدولة المغربية خلال الفترات الوسيطية والحديثة والمعاصرة من جوانبه السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية...
غير أن أغلب مؤلفي هذه المصادر، لم يخصصوا كتبا بعينها للحديث عن تفاصيل الحياة الملوكية داخل القصبات والقصور السلطانية، إلا ما جاء استطرادا في شكل معلومات متفرقة بين صفحات هذه المصادر، وذلك في إطار الكتابة عن التاريخ السياسي والعسكري الذي ميز الفترتين الوسيطية والحديثة على وجه الخصوص.
ويبرز في هذا السياق كتاب إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس لمؤلفه المعاصر عبد الرحمان بن زيدان نقيب الأشراف العلويين (1878/1946)، ضمن سلسلة المصادر الوطنية التي أشارت من قريب أو بعيد إلى ما يروج من أخبار، ويجري من أحداث بالقصر السلطاني. وميزة هذا المؤلف، أنه بالرغم من تركيز صاحبه على تاريخ مدينة مكناس - اختطاط المدينة وأطوارها التاريخية ونعوتها، تراجم ملوكها ورجالها، أخلاق أهلها وعاداتهم وطبائعهم...- فإنه لم يغفل الإشارات المتعددة والأخبار المستفيضة عن طقوس الحياة الاجتماعية الملوكية في المأكل والملبس، ومراسيم الأعراس، وطقوس الاحتفالات بالمناسبات العائلية والدينية، مستفيدا من انتمائه للأسرة العلوية التي عاش في كنفها ردها من الزمن، الأمر الذي مكنه من الاطلاع على كثير من الوثائق الثمينة والمخطوطات الدفينة التي لم تتوفر لغيره من المؤلفين، إضافة إلى تسجيل ملاحظاته لما كان يروج بالقصر السلطاني، واعتماده أيضا على عدد هام من المصادر الوطنية من قبيل الاستقصا للناصري، والروض الهتون لابن غازي، والنزهة للإدريسي، والترجمانة الكبرى للزياني، والضعيف في تاريخه...
1- القصبات والقصور السلطانية
الملاحظ من خلال ما أوردته المصادر عن تاريخ مدينة مكناس، أن الاهتمام بهذه المدينة نشأ مع الدولتين المرينية والعلوية. فالمرينيون اهتموا بالجانب العمراني وأنشأوا بها القصبات والمدارس والزوايا والفنادق والقناطر، أما الوطاسيون والسعديون فلم يهتموا بها كثيرا لكونها مدينة فلاحية وأقل أهمية من الناحية السياسية. وبمجيء العلويين، ستتغير وضعية المدينة لتصبح عاصمة البلاد في عهد المولى إسماعيل لأسباب جغرافية وسياسية وعسكرية.
شهدت المدينة في عهد السلطان المولى إسماعيل تشييد العديد من البناءات الضخمة التي تعبر عن قوة الدولة وعظمة الملك، من جملتها "قصوره الفاخرة الجميلة المتناسقة المزرية بدائعها بالبديع وضخامة آثارها..."[1] ، ويتضح من هذه القصور أن بعضها معد لسكنى السلطان وعائلته، وبعضها الآخر معد لوظائف أخرى غير السكن الملوكي، أهم هذه القصبات نجد القصبة الإسماعيلية التي بناها المولى إسماعيل سنة 1674م والموجودة بالجنوب الشرقي للمدينة، ثم قصبة هدراش المنسوبة لجيوش الأوداية، وقصبة الكدارة التي أنزل بها السلطان المذكور إحدى فرق جيوشه، إضافة إلى قصبات أخرى من قبيل قصبات حَرْطان والمنزه وبوفكران، غير أن أغلبها أصابها الخراب بطول الزمان وكثرة الإهمال.
أورد المؤلف ضمن حديثه عن قصور القصبة الاسماعيلية أسماء وأوصاف ووظائف بعض القصور التي وصفها بضخامة البناء ولطافة المنظر وعجيب الإتقان، من ضمنها قصر الستينية[2] ، والقصرين المتجاورين؛ المحنشة ((Qsar el-mhannsha والمدرسة (Qsar el-medersa)، ووظيفة هذه القصور أنها كانت معدة لسكن السلطان وحرمه والعائلة الملوكية. في المقابل، نجد أوصافا لبناءات أخرى معدة لوظائف غير السكن السلطاني، ويبدو أن وصفها بالقصور راجع لتشابهها في الجمال وضخامة البناء ؛ نجد على سبيل الذكر قصر الكشاشين الذي كان "معدا للطبخ وشؤونه وخزن لوازمه وسكن القيمات بمباشرة ذلك ..."[3] ، والقصر المسمى دار البقر (دار البكر Dar el-bger) المجاور لقصري المحنشة والمدرسة، ووظيفته أنه أعِد لتربية البقر الحلوب لتموين دار السلطان بالحليب في سائر أيام السنة، وكذا مقر سكنى القيمين عليه، ويضيف المؤلف أن البقرة التي ينقطع حليبها تنقل للعزائب السلطانية "...ويؤتى الحلوب بدلها، وبذلك كان الحليب لا ينقطع من دار المخزن في سائر أيام السنة "[4].
وهناك أيضا قصر الأروى أو الاصطبل الذي أعده السلطان لربط خيله وبغاله، في وسطه هري كبير على طول القصر لخزن الشعير المعد للعلف. وقد تحدث المؤلف بإسهاب وإعجاب كبيرين عن تخطيط
هذه القصور وبنائها وزخرفتها، مما يدل على فترة زاهية زاهرة زمن المولى إسماعيل المعهود عنه قوة الملك وضخامة البناء[5].
2- تموين القصور والقيمون عليها
2-1- تموين القصور
اقتصر المؤلف في تفصيل اللوازم المعاشية المخصصة للدار العالية (الدار الكبيرة أو دار الخلافة) بمكناس على زمن السلطان المولى الحسن بن محمد بن عبد الرحمان (الحسن الأول 1873/1894) دون غيره ممن سبقه من السلاطين، وشمل هذا التفصيل ما كان يصل هذه الدار من المؤونة اليومية والشهرية والسنوية - أو كما يسميها المؤلف على التوالي مياومة ومشاهرة ومسانهة – من المواد الغذائية ومواد التنظيف والتوابل والكسوة في سائر فصول السنة، وفي مناسبات الأعياد دون إغفال ما كانت تمون به المحلة أثناء الحركات السلطانية وذلك بمقادير محددة ومعلومة.
فما كانت تتوصل به القصور بشكل يومي؛ كميات هامة من اللحم والخضر والحليب وشعير العلف، كما يصلها في كل شهر الدقيق والسمن والصابون والفحم والحطب والسكر والشاي والشمع، زيادة على كميات من التوابل ومواد التنظيف ومبلغا ماليا يقدر بحوالي ألف وخمسمائة فرنك... أما التموين السنوي فشمل كميات من المادة الغذائية المعروفة عند المغاربة بالخليع. ولا ننسى أيضا وجود معلومات مهمة حول أنواع الكسوة السنوية صيفا وشتاء من أجود تقاصيص الملف الرفيع إلى أطراف من الكتان الغليظ، وهي موجهة إلى طبقات العائلة السلطانية حسب ترتيبها وتراتبيتها الأقرب فالأقرب من الجناب السلطاني. ولم تقتصر هذه النفقات على قصور مكناس فحسب "...بل يعم سائر الدور السلطانية وما هو مضاف إليها ومحسوب عليها بفاس ومراكش وتافيلالت..."[6] ، كما لم تكن محددة بقدر مخصوص أو عدد محدد، بل تتزايد حسب طلب أفراد العائلة الملوكية.
وبالرغم من كل ما ذكره المؤلف وفصله عن هذا التموين، فإنه لم يتحدث عن طقوس الأكل داخل القصر السلطاني؛ بمعنى توقيت الوجبات اليومي، وتفاصيل ترتيب المائدة، وأنواع المأكولات... ولا توجد تفاصيل واضحة في هذا الباب إلا بعض الإشارات المختصرة عن توقيت وجبات الإفطار والغذاء والعشاء الداخلة في ترتيب الأنشطة الأسبوعية للسلطان الحسن الأول، فغالبا ما كان هذا السلطان يتناول وجبة الفطور بعد صلاة الصبح، ووجبة الغذاء بعد مباشرة أشغال أمور الدولة وقبل صلاة الظهر، أما وجبة العشاء فتكون بعد صلاة المغرب.
ولم يقتصر تموين القصور السلطانية ونفقاتها المذكورة سلفا – على حسب المؤلف - على زمن السلطان محمد بن عبد الرحمان أو نجله الحسن الأول، بل استمر العمل بهذا النظام إلى آخر نفس من الدولة العزيزية، أما في زمن المؤلف والمقصود به عهد السلطان محمد بن يوسف، فإن مؤونة الدور والعائلات السلطانية تغيرت بتغير الأحوال ودخول الدولة نظام الإدارة العصري، وصارت هذه النفقات تدفع نقدا "كما أن الخليع والكسوة السنوية والصلات الاعتيادية قد أبطل العمل بها"[7].
2-2- القيمون على الخدمة بالقصر السلطاني
وهم جماعة من خدم السلطان، تقوم وظيفتهم على القيام بشؤون السلطان الداخلية وأموره الخاصة به، فمنهم القائمون على ضبط المواقيت، والتنظيف الداخلي، وترتيب الفراش، وإعداد الذبائح، وهؤلاء يكون أمرهم وأمر وظيفتهم بيد الحاجب، ويشكلون مجموعات أو فرقا حسب كل وظيفة ويسمون أصحاب الحنطة (الوطيفة)، يرأس كل فئة قائد الحنطة، ويجتمع هؤلاء القواد تحت مسمى قواد الحناطي الداخليون حسب تعبير المؤلف، نورد أسماءهم ووظائفهم حسب تراتبيتها ضمن الهيأة المخزنية بالقصر السلطاني.
- قائد الفراش : ووظيفته من أعلى الوظائف بالقصر، بيده مفاتيح الخزائن السلطانية، أما العاملون تحت إمرته فيسمون أصحاب الفراش، وهم المكلفون بتنظيف المحال (الإقامة) الخاصة بالسلطان وتفريشها، وتنظيف الثريات ووضع الشمع فيها. ومن مهام هذا القائد أيضا أنه يكلف أحد الأعيان أثناء سفر السلطان بتسجيل الأمتعة الخاصة بالسلطان وحرمه، من الحوائج والأثاث والحلي والحلل الموجودة، كل صنف على حدة وفي ورقة جامعة، ويضعها في صندوق خاص بكل صنف من الأمتعة، ثم يدون الكل في دفتر خاص؛ يبين فيه عدد الصناديق أرقامها وما بداخلها، وعدد البهائم اللازمة لحملها وأيضا أسماء المكلفين بها، ثم يقدم القائمة المسجلة للسلطان، وبفضل هذا العمل التنظيمي – رغم بساطته- يتيسر الوصول لكل ما يحتاج إليه داخل تلك الصناديق.
- قائد الوضوء : يقوم بتنظيف الحمام والكنف، ويوقد الثريات والحسك بعدما يكون صاحب الفراش قد نظفها ووضع الشمع فيها. ومن عجيب عمل قائدي الفراش والوضوء، أن هذا الأخير لا يجوز له التنظيف إلا بحضور صاحب الفراش، كما لا يجوز للأول المغادرة إلا بعد انتهاء عمل الأخير.
- قائد الماء: مهمته طبخ الماء وتبخيره واستعذابه.
- قائد الأتاي: ووظيفته القيام بأواني الشاي وتهيئتها في كل وقت.
- قائد الجزارة: يقوم بذبح شياه الطعام السلطاني والطهي والشي وفتل الكسكس، ويكون عمل هؤلاء مناوبة ؛ بحيث يبيت أصحاب النوبة بباب المؤقت حتى إذا بقي للفجر ساعتان أيقظه المؤقت فيقوم ويذبح ويوقد النار ويوقظ المكلفين معه بالطبخ ليكون الفطور مهيئا وجاهزا بعيد صلاة الصبح.
- قائد الأفراك: وأصحاب هذه الوظيفة من جيش البخاري، مهمتهم حراسة أبواب القصور السلطانية وتنظيفها، وتشييد القبب والأخبية (الخيام) السلطانية في الأسفار والتفسحات.
- قائد المحفة: يهتم بشؤون العربة السلطانية وإصلاحها وتغيير فرشها، والاهتمام بكل أجزائها مهما كان ذلك صغيرا أو كبيرا.
- قائد الأروى: يتكلف بشؤون المراكب السلطانية وإصلاحها وصيانتها، يساعده في ذلك خليفتان ومقدم وعوامون وكناسون.
- قائد الحمارة: تتمثل حنطته في اختيار البغال الجيدة لحمل الأثقال المخزنية وأثقال رجال المخزن وموظفيه في سائر الحركات والتنقلات، وجلب الحطب والفحم من الغابات للخزائن المخزنية، وحمل الشعير والقمح من الأمراس السلطانية وإليها. ومن مهامه أيضا وضع علامة خاصة على هذه البغال التي تعد بالآلاف، واختيار أجودها، أما البغال المستغنى عنها فيتم توزيعها على العزائب والقبائل بقصد حفظها والاعتناء بها.
- قائد الجمالين: له النظر في الجمال المخزنية المعدة لحمل تموين المحلة وأثقالها أثناء حركات وتنقلات السلطان، وعند عدم الاحتياج إليها يقوم بتوزيعها على من جرت العادة بصيانته لها والاهتمام بها، ومما يميز هذه الجمال أنها موسومة بالميسم (علامة) الخاص لتمييز دواب السلطان عن غيرها. ونشير إلى أن لكل من هذين القائدين الأخيرين خليفة وأعوان مساعدون.
وهناك أصحاب حنطات أخرى لم يرتبهم المؤلف ضمن زمرة القواد السابقين، ولكن جاء ذكرهم في فقرات متفرقة بحسب عادات السلطان داخل قصره، ومنهم :
- أصحاب السجادة: وهم جماعة خاصة ذوو هيئة جميلة ، يحملون سجادة السلطان أثناء قيامه لأداء الصلاة.
- الفرائجية: جماعة من العبيد مكلفون بحراسة أبواب قصور السلطان ، وبناء الأخبية في سفره.
- الطواشين: وهم عبيد القصر، لكل واحد منهم وظيفة خاصة ؛ فمنهم المكلف بضبط الأوقات ورصدها وإعلام السلطان بها سواء أوقات الصلاة أو غيرها.
2-3- بعض رجال الدولة المكلفين بمهام بالقصر
وهؤلاء من رجال الدولة من الهيأة الرسمية التي تتكلف بالنظر في أمور الدولة ومباشرة الأشغال السياسية والعسكرية والدبلوماسية، وتتكون هذه الهيأة من " وزراء وأمناء كل واحد منهم مكلف بأشغال لا يتعداها، ولا يدخل معه غيره فيها "[8]، ويشغل هؤلاء بالإضافة إلى مهامهم السياسية وظائف أخرى مرتبطة بالشؤون الداخلية للسلطان ولعائلته الملوكية.
- الحاجب: وهو من رجال الدولة المقربين من السلطان، فبالإضافة إلى وظيفته السياسة المتمثلة في طبع المكاتيب السلطانية وتوزيع الأشغال على باقي الوزراء، فإن له مهمات بالقصر، فهو المكلف بالقيام بشؤون السلطان الداخلية وأموره الخاصة وأمور دوره وعائلته، وبيده مفاتيخ الخزائن السلطانية ، كما يرجع إليه تسطير وظائف قواد وأصحاب الحناطي ومراقبتها، ويساعده في ذلك خليفة ينوب عنه وكاتب أو كاتبان تحت إمرته.
- قائد المشور: من المرافقين للسلطان في إقامته وتحركاته، وهو أيضا الوسيط بينه وبين باقي الوزراء، ومن مهامه أيضا تبليغ أوامر السلطان وتنظيم هيأته الرسمية أثناء خروجه لأداء وظائفه الرسمية (مقابلة الوزراء، استقبال السفراء الأجانب، قضاء الأحكام، استعراض الجيوش، الخروج للحركات، حضور المناسبات العائلية والاحتفالات الدينية...).
- أمين العتبة الشريفة: وهو المكلف بتموين القصور السلطانية وتوفير جميع الحاجيات الخاصة بها من المؤن الشهرية وأضحيات العيد، وما يلزم من عوائد وضروريات الاحتفالات...وحتى المؤن الخاصة بالساكنين خارجها من الشرفاء والشريفات، وهو ملزم بالوقوف عليها حتى تصل إلى محلاتها في وقتها، وذلك عن طريق إطلاع الأمناء المكلفين بها على قوائم الصوائر، وإمضائه لها باسمه قبل أن يتوجه هؤلاء الأمناء لإيصالها إلى محلاتها.
وهناك تفاصيل أخرى مهمة أوردها المؤلف عن طقوس احتفالات السلطان بالمناسبات العائلية والدينية من قبيل احتفالات الزواج والعقيقة، وطقوس صلاة الجمعة والعيدين ، والمولد النبوي، ومراسيم البيعة واستقبال الوفود والسفراء وغيرها مما يضيق المجال بذكره.
[1] - ابن زيدان (عبد الرحمان)، الإتحاف، ج1، ط2، 1990، ص 124.
[2] - سبب هذه التسمية وجود قبب مسقفة بالعمل المعروف عند أهل حرفة النجارة بالستيني، الإتحاف، م، س، ج1، ص 125.
[3] - ن، م، س، ص 132.
[4] -ن، م، س، ص 141.
[5] - للمزيد من التفاصيل حول قصبات مكناس الرجوع إلى الدراسة الأركيولوجية التي قامت بها الباحثة ماريان باريكان.
Barrucand Marianne, L’architecture de la Qasba de Moulay Ismail à Meknes, Etude et travaux d’archeologie marocaine, volume VI, 1976, Ministre d’état chargé des affaires culturelles, imp. Les Editions Maghrébines, Casablanca.
[6] - الإتحاف، م، س، ج2، ص 544.
[7] - ن، م، س، ج2، ص 545.
[8] - ن، م، س،ج2، ص 513.