"إنني في كل مرة يدنو مني اليأس
لا البث أن أحس يداً حنوناً تربت كتفي
وأخري تملأ سراجي زيت
وإذا بنوره يتجدد ويتألق ويتمدد
وإذا بي أبصر اثار أقدام
هنا وهناك
فتستأنس روحي وتتجدد عزيمتي وتشتد
وأدرك أنني لست وحدي في الطريق!"
ميخائيل نعيمة
ما أشد تشوه وقُبح فهم أبناء أمتنا للحرية! وما أخبث التخلف الذي انفق رواد فكرنا الأنسني النبلاء أعمارهم في منازلته(1)! انه تنين عديد الرؤوس، كثير البراثن وحاد الأنياب! انه تنين عظيم جداً! انه تنين مزدوج مشترك من آخرية عربية/محلية لا تتورع عن تكريس اغتراب شعوبنا ثقافياً(2)، ومن آخرية غربية/عالمية تتحالف بدم بارد مع ميراثنا المُر، تنساب في أرضنا كأفعى، تستأصل بدربة ما ـ تبقى ـ في نفوسنا من مروءة وشرف! "يالذل قوم لايعرفون ما هو الشرف وما هو العار!"، مقولة رائعة للمفكر السوري أنطون سعادة(3)، وصف فيها بدقة خنوثة التخلف العربي.
ثمة بون شاسع وفرق عظيم ـ فيما يرى سعادة ـ بين الحياة والعيش! الحياة لا تكون إلا في العز، أما العيش فلا يفرق بين العز والذل، وما أكثر العيش في الذل حولنا! فكرنا الأنسني بدوره يرى ان الحضارة هي ما يُفكر فيه الناس ويُحسون به ويفعلونه، وهي القيم التي يضفونها على ما يُفكرون فيه ويحسون به ويفعلونه. صحيح ان أفكارهم ومختلف إحساساتهم وقيمهم يمكن أن تنتهي إلى أعمال تؤثر تأثيراً عميقاً في استعمالهم للأشياء المادية، غير أن الحضارة المادية أقل جانب من جوانب الحضارة أهمية. فالسمو الحضاري لا يبلغ ذروته إلا في عقول الناس وأفئدتهم(4)! قال حكيم: إن الجهلاء هم الذين يظنون أن المباني الجميلة ومباهج الحياة وألوان الترف إن هي توافرت هي التي تشهد برقي الحضارة. شعور الفرد بحريته وكرامته الإنسانية، هو برهان علو الحضارة دائماً وأبداً، هو ذلك الشيء الفذ الذي يجب الاهتمام به وتنميته إلى أقصى حد! وليس هناك ما يؤدي إلى مثل هذا الرقي كـ"التربية الخلاقة"، وتزويد الفرد بالقدرة على قراءة الأمور بطريقة أمينة ومنظمة، تجعله قادراً على النقد والابتكار. حق الإنسان في الحياة هو حقه في دفعها للأمام.
مثل هذه "التربية الخلاقة" لا توجد للأسف الشديد في مجتمعاتنا الموغلة في التخلف! فنظمنا التربوية المُغرضة تستأصل ـ بكل دربة ودأب ـ من عقول وقلوب النشء ملكة النقد والابتكار! غرس اليقين في العقول والقلوب صيرنا "أمة من غنم"! ولمن يسأل: كيف يمكن إذن تفسير ذلك التعامي الواضح، من جانب القائمين على تدريس الفلسفة عندنا، عن هذا التجفيف المنهجي المُستدام لمنابع التفكير الفلسفي في مجتمعاتنا، بل وذهابهم في هذا التعامي إلى حد "التنطع"؟! وهل ثمة إمكانية للحديث عن وجود "تواطؤ" ما؟! في هذه المقالة أحاول قدر جهدي التحقق من مدى وجاهة طرح مثل هذه التساؤلات، عبر استكشاف "علم الكلام"! فعلى ما يبدو، ثمة تيه في صحراءه ضُرب على معلمي "الفلسفة" في بلادنا، كل ما أخشاه أن يكون أبدياً! مُصطلح "علم الكلام" في الحضارة الإسلامية:
يُستخدم مصطلح "الكلام" ـ الذي يعني حرفياً "الحديث" أو "اللفظ المنطوق" ـ في الترجمات العربية للأعمال الفلسفية اليونانية للتعبير عن المصطلح اليوناني "لوجوس Logos" بكل معانيه المتنوعة الدالة على: "الكلمةWord " و"العقل Reason" و"الحُجة Argument". ويُستخدم مُصطلح "الكلام" في تلك الترجمات العربية كذلك للدلالة على أي فرع من فروع التعليم. واسم الفاعل "متكلمون"(في صيغة الجمع، والمفرد منه: "متكلم") يُستخدم للدلالة على الشيوخ الممثلين لأي فرع مخصوص من فروع التعليم. من هنا ظهرت ترجمات عربية(عن اليونانية) من قبيل: الكلام الطبيعي، أصحاب الكلام الطبيعي، المتكلمون في الطبيعيات، أصحاب الكلام الإلهي، المتكلمون في الإلهيات،..الخ. وبهذا المعنى أصبح مصطلح "الكلام" يُستخدم عند من يكتبون بالعربية أصلاً، ربما بتأثير من هذه الترجمات العربية عن اليونانية.
على هذا النحو ـ وطبقاً للمستشرق ولفسون(5) ـ يتحدث يحيي بن عدي عن المتكلمين المسيحيين. ويتحدث الشهرستاني عن كلام إمبدوقليس وكلام أرسطوطاليس وكلام المسيحيين في كيفية التجسد والاتحاد. ويتحدث يهودا اللاوي عن قوم ينتمون إلى نفس مدرسة المتكلمين أمثال أصحاب مدرسة فيثاغورس ومدرسة إمبدوقليس ومدرسة أرسطو ومدرسة أفلاطون، أو عن الرواقيين وعن فلاسفة آخرين وعن المشائين الذين ينتمون إلى مدرسة أرسطو. ويتحدث ابن رشد عن المتكلمين من أهل ملة الاسلام ومن أهل ملة النصارى أو على حد تعبيره المتكلمون من أهل الملل الثلاث. ويتحدث موسى بن ميمون عن المتكلمين الأُول من اليونانيين المتنصرين ومن المسلمين. ويتحدث ابن خلدون عن كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات..
إضافة إلى هذا كله طُبق مصطلح "الكلام" دونما تقييد على نسق مُعين من التفكير في الحضارة الإسلامية ظهر قبل ظهور الفلاسفة، سُمي أعلامه بـ"المتكلمين"، وكانوا على النقيض من أولئك المفكرين الذين أطلق عليهم ببساطة منذ زمان أبو يوسف الكندي اسم الفلاسفة(6). فكيف ظهر في ثقافتنا العربية هذا النسق من التفكير الذي يوصف ببساطة بأنه "كلام"؟ وما الكتابات التي تتناول تاريخه ويمكن أن تُضم معاً؟ الأفكار كالبشر، لحظات الميلاد ومراحل التطور هما السبيل لمن أراد فهمها!في كتابه القيم "فلسفة المتكلمين في الإسلام"، وُفق هاري ولفسون في ضم كتابات الشهرستاني وابن خلدون(7)، وخرج لنا بعرض وافٍ لتطور علم الكلام في الحضارة الإسلامية، اعتمد عليه أساساً هنا، لخلو مكتبتنا العربية ـ على ما يبدو ـ من دراسات تُماثل في قيمتها، أو على الأقل تقترب من عمل ولفسون الموسوعي المهيب. ولشد ما يُخجلني استقرار مفاتيح إرثنا الحضاري في يد المستشرقين! كل ما املكه هو توخي الحذر قدر المستطاع، فولفسون وأمثاله إنما يخدمون حضارتهم! ظهور وتطور "علم الكلام" في الحضارة الإسلامية:
"السلف" مُصطلح أطلق على صحابة النبي محمد(570ـ632م) وعلى التابعين الذين صحبوا الصحابة. وما وافق عليه هؤلاء السلف يُعد أساساً للعصر الأول للحضارة الإسلامية. وسوف نُشير ـ هنا ـ إلى "السلف" إما على أنهم الأتباع الأول لدين الإسلام أو على أنهم أصحاب الفهم الصحيح للدين. كلٌ حسبما يقتضيه السياق.
يشتمل الأصل الديني للاسلام الذي تشكل من تعاليم القرآن على نوعين من التكاليف، وفق ما يرى ابن خلدون: الأول التكاليف البدنية، والثاني التكاليف القلبية.
يحتوي القسم الأول على الأحكام الإلهية التي تحدد تكاليف أبدان المسلمين وهذا هو الفقه. هو مصطلح يفيد في معناه الأصلي الفهم والمعرفة، واستخدم في أول الأمر بمعنى محدود هو الاجتهاد، أي استعمال الرأي الخاص لتقرير مسائل شرعية في غياب أي سابقة تنطبق على الحالة موضوع المسألة، لكنه اكتسب فيما بعد المعنى الأشمل للدلالة على التشريع الإسلامي القائم على: القرآن، السنة، القياس، الإجماع.
القسم الثاني من التكاليف يتعلق بالإيمان الذي يُعرف بأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان. ويتكون من عقائد ست تقررت في الدين تبعاً لحديث النبي نفسه حينما سُئل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورُسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. مُناقشة تلك العقائد الإيمانية هي التي تُشكل "علم الكلام". [1] مرحلة علم الكلام السابق على الاعتزال:لا يوجد فيما يرى ولفسون ما يجعلنا نعرف على وجه الدقة متى أصبح لفظ "الكلام" يُستخدم بهذا المعنى الاصطلاحي. غير أننا وبحسب ولفسون نفهم من عبارات الشهرستاني انه كان هناك "علم كلام" سابق على نشأة الاعتزال على يد واصل ابن عطاء(699ـ748م) وأن رونق الكلام ابتدأ من عهد هارون الرشيد(786ـ809م).