على نهج المقالات السابقة حول " التنمية الضائعة : أين نحن من الحداثة " سنظل دائما نطرح السؤال الذي يؤرقنا . لماذا تخلفنا نحن وتقدم الآخرون ؟
إن تطور الرأسمالية منذ القرن 15 م – على أنقاض الفيودالية – وإزدهارها الإقتصادي ( الرأسمالية التجارية ،الثورات الصناعية ،الإمبريالية....) والإجتماعي ( نمو البرجوزية كطبقة مهيمنة تدريجيا..) والفكري ( الحركة الإنسية ، فكر الأنوار ...)والسياسي ( نشوء الدولة الإمة الحديثة وترسيخ مبادىء الديموقراطية ...) كرس إختلال التوازن بين أوربا والقوى الرأسمالية الصاعدة - الولايات المتحدة واليابان – من جهة وباقي العالم من جهة أخرى . هذا الإختلال في التوازن تحول بشكل منظم ومخطط له إلى مواجهة تنوعت مظاهرها وأساليبها ، مواجهة حتمية إنتهت بالسيطرة من جانب والخضوع من جانب أخر .
كان من الطبيعي أن تنتهي هذه المواجهة بمنتصر ( سيشكل المركز ) يفرض شروطه وينظم المجال العالمي حسب مصالحه ، وسيعمل على تغيير أساليب سيطرته تبعا للظروف والتحولات الحاصلة ، ومنهزم ( سيشكل الهامش ) فشل في الخروج من السيطرة وتحقيق الإستقلالية ( فشل المحاولات الإصلاحية أو محدوديتها في العالم العربي ) . هكذا أصبحت ثنائية التخلف / التقدم ، السيطرة / الخضوع ، النجاح /الفشل ...هي التي تؤطر علاقة عالمنا العربي التقليدي بالعالم الرأسمالي الحديث .
هذه الثنائية ( التقليد /الحداثة ) لم تعد تقتصر على مواجهة الخارج بل أصبحت واقعا داخليا يكرس إزدواجية تعيق التقدم أكثر مما تفيده ، بل تعيق حتى التأخر للإنطلاق من جديد ( تعليم حديث وآخر عتيق ،صناعة حديثة وأخرى تقليدية ،علاقات إجتماعية تقليدية وأخرى متحررة...
وإذا صح الحديث عن الخطأ التاريخي ، فإننا في العالم العربي قد إرتكبنا خطأ مركبا ، إما بإرادتنا أو كنا مرغمين على إرتكابه :
- سوء إختيارنا لأدوات وأساليب مواجهة صدمة الحداثة /إختلال التوازن ، فكانت النتيجة الخضوع السياسي ( الإستعمار) والتبعية الإقتصادية والثقافية ...
- عدم وعينا بتخلفنا ( وعيا تارخيا ) لأن الوعي بالشىء شرطا من شروط مواجهته .
في هذه المقالة سنطرح سؤالين جوهريين ( في إعتقادي ) :
1 - كيف واجه عالمنا العربي هذا الإختلال في التوازن ( صدمة الحداثة ) ؟
2- هل كنا على وعي بتخلفنا كأفراد وجماعات ، كسلطة حاكمة وشعوب ؟
وجد عالمنا العربي المستكين إلى بنياته التقليدية نفسه في مواجهة عالم لم يعد مستكينا بدوره لواقعه ، عالم عرف تحولات عميقة في مختلف المجالات ، تحولات مترابطة ومتكاملة ومنسجمة ، عالم وضع أهدافا واضحة يسعى إلى تحقيقها . هذه الأهداف لا يمكن أن تتحقق إلا بمواجهة الآخر وإخضاعه .وهكذا كان لابد للمواجهة أن تقع بين قوتين : قوة صاعدة يرتبط إستمرارها بالهجوم وقوة متراجعة يرتبط وجودها بالدفاع . لكن موازين القوى في هذه المواجهة كانت تميل لصالح المهاجم ،وكان من الضروري أن يظهر رد فغل .
أن رد الفعل هذا - ضد مواجهة الإختلال في التوازن - لم يكن مدروسا ومنظما بل عفويا حماسيا ، لم يتمكن عالمنا العربي من صياغة مشروع متفق عليه لإدارة المواجهة . هكذا جاءت ردود الأفعال متباينة وصادرة عن نخب معزولة فكريا عن المجتمع ( عزلة المثقف ) : بين الداعين إلى الإنفتاح والإستفادة من التقدم العلمي للغرب لإكتساب القدرة على مواجهته والداعين إلى العودة للدين كضمان
لربح المواجهة . وإذا كانت العبرة بالنتيجة ، فإن الفريقين قد فشلا في إعادة التوازن ، وعوض أن تتكثل الجهود لمواجهة الضغوط الخارجية وإمتصاص صدمة الحداثة / إختلال التوازن أصبح الصراع داخليا ، بين " العملاء " والرجعيين " حول كيفية المواجهة ومدى مشروعية ( خاصة المشروعية الدينية ) الأدوات المستعملة فيها . إن الرأسمالية التي تنحى بطبيعتها نحو التوسع اللانهائي ، سواء عن طريق الإستعمار أو تحقيق السوق العالمية - حسب النظرية المادية – فرضت هذه المواجهة الحتمية .هذه المواجهة كانت بين بنيات تختلف إختلافا كبيرا يصل حد التناقض : بنية حديثة يحركها منطق التراكم الشره والربح والإستثمار ويؤطرها التقدم العلمي والتقني والقوة العسكرية وبنية تقليدية يكبلها منطق الريع والإذخار السلبي ويغلفها الفهم السطحي للدين . لذلك كان من الطبيعي أن يفشل عالمنا العربي بكل ما لديه من إمكانيات طبيعية وبشرية وتاريخية في تأصيل حداثة الغير أو بناء حداثة خاصة أو المزواجة بينهما ، وهو ما نجحت فيه اليابان خلال قرن من الزمن . ألم تكن اليابان دولة فيودالية منغلقة حتى منتصف القرن 19م ؟ ألم تصطدم اليابان بهذا الغرب الرأسمالي نفسه بعد ثورة الميجي ؟ هل فشلت اليابان في إدراة المواجهة ؟ الواقع الحالي كفيل بالإجابة .
أن عالمنا العربي وفي إطار هذه المواجهة لم يستوعب الحداثة ، كما لم يستوعب الإيديولوجية المعبرة عنها ( فكر الأنوار ) ، ولم يميز بين العالم الرأسمالي الإستعماري والعالم الرأسمالي الليبرالي والديموقراطي . ولم تتمكن السلطة الحاكمة ولا الفئة " المثقفة " من بلورة خطاب واضح وموحد لإدارة المواجهة ،وأصبح الخطاب مزدوجا : خطاب تقليدي يدعي إمتلاك الحقيقة الشاملة وخطاب حديث يؤمن بالحقيقة النسبية ، وهذا التضارب أصبح واقعا في الفكر والممارسة وساهم في سيادة نوع من الإنفصام في شخصية العالم العربي ، سواء في خطاب الأفراد وسلوكاتهم ومواقفهم أو في خطاب المجتمع كمؤسسة سياسية وثقافية...
وفي ختام الإجابة على السؤال الأول – وهي إجابة مطروحة للنقد والنقاش – نؤكد أن طريق المواجهة لا يكون إلا بالعمل على إعادة بناء الذات ،والخطوة الأولى في هذا البناء هو التحديث الثقافي ( فكر
تنويري عربي ) والتحديث السياسي ( بناء الدولة العصرية ) كأساس لتجديد الهياكل الإقتصادية والإجتماعية ، وبالتالي رسم معالم جديدة على طريق المواجهة ،وإلا سنظل غير قادرين على فهم إشكالية فشلنا في إقرار مشروع حداثي تاريخي يؤطر بشكل واضح ومنسجم خياراتنا في كل المجالات.
في هذا الجزء من هذه المقالة سنحاول طرح السؤال التالي : هل نحن واعون بتخلفنا ؟ وأقصد بالتخلف إستمرار سيادة البنيات التقليدية المركبة في مختلف المجالات رغم مظاهر الحداثة التي نسعى إلى تسويقها في حياتنا اليومية ولا أقصد به المفهوم الذي ظهر في العقود الأخيرة والمعتمد على مؤشرات إحصائية إقتصادية وإجتماعية : فإنخفاض معدل الأمية والبطالة أو إرتفاع الدخل الفردي و أمد الحياة ...لا يعني أبدا تجاوز التخلف كبنية مركبة .
إن الوهم بالدخول إلى الحداثة وتجاوز التخلف يزيد من صعوبة الوعي به ، وهكذا يصبح الوعي لدى الفرد العربي يعيش أزمة ، فهو يتوهم وجود حداثة هي في الحقيقة غائبة كأنماط تفكير وحاضرة نسبيا كأدوات تقنية مستوردة من جهة ، ولا يدرك وجود التخلف كبنية فكرية تعرقل كل محاولات التحديث من جهة ثانية .
كيف يمكن تجاوز التخلف إذا لم يكن لدينا وعي به ؟ إن مجتمعنا العربي يعيش واقعا لا يساهم سوى في تكريس التخلف ( كأنماط تفكير أساسا ) ، فأكثر من نصف سكان عالمنا العربي تقيده أمية مركبة ،والباقي إما طبقة إجتماعية أنانية تدرك جيدا أن تحقيق التنمية والحداثة يعارض مصالحها و بالتالي تكرس التخلف و تدافع عنه ( بنشر وهم الحداثة )، أو فئة لا تملك سوى التنظير لواقع يصعب تغييره ،وهو تنظير- للأسف – في أغلب الأحيان يستمد آلياته من مرجعيات مختلفة ( دينية ، قومية ،علمانية ،أيديولوجية...) حيث يصبح الشيخ المتشدد والليبرالي الإنتهازي والقومي المستبد والإ شتراكي الحالم ...أشكالا متعددة لوعي سطحي وذاتي ومعادي للآخر ومعرقل لأي فهم عميق وحقيقي لإشكالية تخلفنا .
إننا نعيش تأخرا في بنياتنا الثقافية نتيجة سيادة حالة الجمود الفكري وغياب العقل الإجتهادي وسيطرة ثقافة النص وتأخرا سياسيا بفعل هيمنة قيم القبيلة عوض قوانين الدولة الوطنية ،لقد إنتهت محاولاتنا لتحقيق الحداثة والخروج من التخلف إلى الباب المسدود ، لقد إكتفينا بالحداثة كأدوات تقنية مستوردة غريبة فتوهمنا إمتلاكها وحاربناها كأنماط تفكير بحسن نية أو سوءها ، هذه الأنماط هي الكفيلة بتفكيك كافة البنيات التقليدية . سنظل دائما نتساءل : كيف يمكن بناء حداثة ونهضة لعقل غير حديث وناهض ، عقل لم يعد قادرا منذ زمن بعيد على مراجعة جذرية لآلياته ومفاهيمه ، عقل لم يتمكن من تجاوز وتكسير قيود الماضي .
أحمد الرموتي : المغرب