نوقش مساء يوم الاثنين 13 فبراير 2012 برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية –ظهر المهراز- فاس، بحث أكاديمي رفيع المستوى تحت عنوان: "التصوف الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية؛ مظاهر حضور التصوف المغربي وتأثيراته". والذي تقدم به الأستاذ عزيز الكبيطي إدريسي لنيل شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، تحت إشراف مزدوج: مغربي وأمريكي؛ حيث أشرف على هذه الأطروحة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية-ظهر المهراز- فاس، الأستاذ الدكتور "عبد الوهاب الفيلالي" المنسق البيداغوجي لوحدة للبحث والتكوين (ماستر) متخصصة في دراسة الإبداع الصوفي منذ سنة 2005 وحتى الآن. ومثل الجانب الأمريكي الأستاذة الدكتورة المسلمة "مارسيا هرمانسن" من جامعة لويولا شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية. أما لجنة الفحص والمناقشة فتكونت من السادة الأساتذة: فضيلة الدكتور أحمد الأزمي، وفضيلة الدكتور عبد الله معصر وفضيلة الدكتور ياسين داتون. وعرفت المناقشة حضور المدير التنفيذي للجنة المغربية الأمريكية للتبادل التربوي والثقافي (MACECE) الأستاذ جيمس ميلر، ونائبه الأستاذ محمد شرايح، وعدد من الضيوف؛ الأساتذة الجامعيين من المغرب وخارجه، نظرا لتزامن موعد المناقشة مع قرب انطلاق ندوة أكاديمية دولية (المذهب المالكي في سياقاته المعاصرة) والتي يعتبر صاحب الأطروحة أحد منظميها رفقة أستاذه المشرف الدكتور عبد الوهاب الفيلالي وأساتذة آخرين.
لا شك أن هذه الأطروحة الجامعية ستغطي فراغا كبيرا في الخزانة العربية، حيث تندر البحوث في هذا المجال البكر، خاصة وأن صاحب الأطروحة الأستاذ عزيز الكبيطي إدريسي سيستمر في مشروعه العلمي الكبير وهو اقتفاء الأثر الصوفي المغربي في البلدان الأنجلوساكسونية، ويحق للجامعة المغربية أن تفخر بمثل هذه الإنجازات العلمية، التي ولا شك لن تظل حبيسة رفوف خزانة الكلية وإنما ستسافر عبر القارات وتتداولها أيدي الباحثين والدارسين، نظرا لحداثة موضوعها وجدته، فالبحوث الأكاديمية نادرة في هذا الاتجاه، ومجال البحث في الأثر الصوفي لمتصوفة المغرب في دول العالم، مجال رحب وفسيح، يحتاج لمن خاض غماره أن يركب الصعب، فيتسلح باللغات الحية والمناهج الحديثة وتقنيات التواصل، فضلا عن ثقافة صوفية متينة، وهي مواصفات ولله الحمد متوفرة في صاحب الأطروحة، الذي يعد خريج وحدة للتكوين و البحث متخصصة في التصوف المغربي، كونت أجيالا من الباحثين الشباب الذين يعدون بكثير من العطاء العلمي في هذا المجال.
فيما يلي ملخص لهذه الأطروحة الهامة:
ملخص الأطروحة:
حب الباحث للولايات المتحدة الأمريكية كان أحد أسرار اختياره خوض تجربة اقتفاء الأثر الصوفي المغربي في البلاد الأنجلوأمريكية، والذي كان قد شرع فيه سنوات قبل ذلك، من خلال بحث أنجزه لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، والذي تم نشره مع نهاية سنة: 2008م تحت عنوان: "التصوف الإسلامي في الغرب: الأثر الصوفي المغربي في ابريطانيا"، و عرف انتشارا كبيرا في مختلف دول العالم بفضل ترجمته إلى الإنجليزية: (Islamic Sufism in the West: Moroccan Sufi Influence in Britain through the Example of Habibiyya Darqawiyya brotherhood".) وهي الترجمة التي أعدها الأستاذ البريطاني عبدا لحق بيولي، ونشرت في البداية بالولايات المتحدة الأمريكية. مما شجع الباحث الأستاذ عزيز الكبيطي إدريسي على استكمال البحث في المسار نفسه، بغية تلمس بعض ثمرات ذلك التأثير الصوفي المغربي في العالم الغربي الناطق بالأنجليزية، وعلى الرغم من صعوبة هذه المغامرة العلمية إلا أن الباحث كان موقنا بفكرة مفادها: أن قوة التصوف المغربي، الذي امتدت تأثيراته إلى أعماق أفريقيا وأقصى بلاد آسيا، لابد أن تكون تأثيراته قد اخترقت جدار الثقافة الأنجلوأمريكية لتمارس سحرها المؤثر هناك.
ما لا يعرفه الكثيرون، هو أن المسلمين أنفسهم أسهموا في بناء الهوية الأمريكية الحالية؛ فدراسة تاريخ أمريكا بحياد تثبت بما لا يدع مجالا للشك، أنَّ الدين الإسلامي كان دائما حاضرا في بناء الهوية الأمريكية حضارة وعمرانا؛ إذ تذكر بعض المصادر أن المسلمين كانوا سباقين إلى اكتشاف أمريكا قبل كريستوف كولمبوس، أو على الأقل كانوا حاضرين ضمن طاقم بواخره. وساهموا بفعالية في بناء العمران والاقتصاد الأمريكيين في مرحلة الاسترقاق حينما أُسِر آلاف المسلمين الأفارقة وحملوا إلى العالم الجديد قصد العمل في الزراعة والبناء. وقد أسهم هؤلاء الأفارقة الأمريكيون في صياغة هوية أمريكية يُشَكِّل الإسلام مكونا أساسيا فيها، كما يُسهم الأمريكيون البيض حاليا في ترسيخ هذه الهوية عن طريق تحولهم إلى الإسلام ومساهمتهم الفاعلة في تجديد الرؤية عن الإسلام والمسلمين من خلال التصدي للأحكام الجاهزة عنهما في وسائل الإعلام، ومن خلال الأبحاث والدراسات الأكاديمية التي يقومون بها، لاسيما وأن صوتهم قد أصبح مسموعا بفعل الانجازات والنجاحات التي حققها هؤلاء المسلمون الأمريكيون على المستويات الشخصية والعامة.
لعلَّ أكثر المسلمين الذين يحظون اليوم بتعاطف الرأي العام الأمريكي، هم المتصوفة، بفعل مرونتهم الفكرية التي استطاعت أن تتكيف مع الخصوصيات الثقافية والاجتماعية الأمريكية، حيث تذهب أغلب الدراسات إلى أن أول صوت صوفي حظي بالنجاح في استقطاب الأمريكيين إلى دعوته المسالمة التي تنادي بكونية التصوف، كان هو المرشد الهندي عنايات خان، على الرغم من أن مثل هذه المقاربات تُغيِّب، بل تُقصي النظر إلى فترة العبودية، حيث كان أغلب المسلمين الذين جلبوا من شمال إفريقيا وغربها ينحدرون من مرجعيات صوفية، كما تثبت ذلك المخطوطات العربية التي ترجع إلى تلك الفترة والتي تزخر بها مراكز الوثائق والأرشيفات الأمريكية([1]).
تنتشر اليوم الطرق الصوفية الإسلامية في كل أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، وتعمل بحيوية على الاستقطاب والامتداد من خلال مختلف أنشطتها الدعوية، وأيضا عبر إصداراتها الفكرية والأدبية وحتى الموسيقية والفنية منها.
إن الحقيقة التي تكاد تخفى على أغلب المهتمين بتاريخ الإسلام في الولايات المتحدة الأمريكية، هي ذلك الحضور البارز للمملكة المغربية في صياغة الهوية الدينية والثقافية والإبداعية لأمريكا منذ اكتشافها وإلى عصرنا الحاضر. فإذا كان الأمريكيون في حاجة إلى إعادة قراءة تراثهم بمنظور جديد للبحث في هويتهم الدينية من جهة، ولتجديد تواصلهم مع العالم الإسلامي برؤية أرحب من جهة ثانية؛ فإن المغاربة في أمس الحاجة أيضا إلى البحث في امتداد تراثهم الروحي لإحياء قِيَمِهم الحضارية، ولتذكير الأجيال الحالية والمقبلة بعظمة هذا البلد وأصالة ميراثه الديني والأخلاقي؛ فإذا كان من حق الولايات المتحدة الافتخار بتقدمها المادي، فمن حَقِّ المغرب أن يفتخر بسطوته الروحية التي غمرت الشرق فبعثت الحياة في مآثره وتراثه، واخترقت الغرب فخرقت ماديته وأسرت رجالاته بجمالها وجلالها، لتعطي للمغرب مكان الريادة عالميا في مجال الولاية والصلاح، مؤكدة مقولة ابن قنفذ القسنطيني: "أرض المغرب الأقصى تنبت الصالحين كما تنبت الكلأ"([2]).
هكذا تعرض الباب الأول من هذه الأطروحة إلى تاريخ الوجود الإسلامي في أمريكا ومكوناته، مع التركيز بشكل خاص على مدى تأثير الهوية الإسلامية المغربية في ذلك الحضور.
أما الباب الثاني من هذه الأطروحة فتطرق إلى حضور التصوف الإسلامي بشكل عام في الولايات المتحدة الأمريكية، سواء من خلال المهاجرين المسلمين أو من خلال المتحولين إلى الإسلام والذين غالبا ما يكون التصوف عاملا أساسيا وراء تحولهم. كما حاول هذا الباب البحث في ذلك الجدال الذي يتعلق بحقيقة التعاطف الأمريكي خاصة والغربي عامة مع التصوف الإسلامي وما يثيره من شبهات حول شرعية التصوف وأصالته. بالإضافة إلى ذلك، يستعرض هذا البحث نماذج من أهم الطرق الصوفية التي أثبتت حضورها الفاعل على التراب الأمريكي، والتي أمكنني تصنيفها بحسب منبعها الجغرافي إلى:
- طرق مشرقية الأصول: وتهم تلك الطرق الوافدة من بلاد فارس والترك أو تلك القادمة من شبه الجزيرة الهندية ومن المشرق العربي.
- طرق مغربية الأصول: وتهم تلك المشارب الكبرى التي انطلقت من بلاد المغرب كالشاذلية والادريسية والتيجانية والقادرية البودشيشية.
يقود الحديث عن الطرق المغربية الأصول إلى الباب الثالث الذي سعى إلى إثبات مظاهر الحضور الصوفي المغربي في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال إبراز الدور الرائد للتصوف المغربي في نشر الإسلام عبر أرجاء العالم، بما في ذلك العالم الغربي الحديث (أوربا وأمريكا)، مما جعل التصوف المغربي يحظى بحيز غير يسير من الدراسات الأكاديمية، لاسيما الأنجليزية منها. درس هـذا الباب أيضا بتفصيل نماذج من بعض أهم الطرق الصوفية المغربية التي تحضر بشكل مؤثر على تراب الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة الطريقة التيجانية الأحمدية والحبيبية الدرقاوية والقادرية البودشيشية.
أما الباب الرابع من هذه الأطروحة، فسعى إلى إبراز كيف أن هذا الوجود الصوفي المغربي على الأرض الأمريكية تجاوز مستوى مظاهر الحضور الطرقي إلى مجالات التأثير في الأدب الأنجلوأمريكي بنوعيه النثري والشعري، وفي الفنون الموسيقية والمسرحية والتشكيلية بالولايات المتحدة، بل وحتى في فن العلاج التقليدي و في الاهتمام بالطب النبوي.
لم يقتصر تأثير التصوف المغربي في الولايات المتحدة الأمريكية فقط على الأوساط الصوفية بل تجاوزها إلى الدوائر الأكاديمية، حيث تأثر العديد من الباحثين الأمريكيين بالتصوف المغربي فكرسوا حياتهم وأبحاثهم لترجمة متونه كما هو حال الباحثة الأمريكية عائشة بيولي.
كان هذا البحث، وعلى تنوع أبوابه وفصوله ومباحثه، مثل حبات العقد أو السبحة، ينتظم في خيط واحد ممتد، وهو خيط الهوية الإسلامية المغربية الممتدة في أصالتها منذ فجر الإسلام وإلى يومنا هذا في نصاعة الماس أو الخشب الأصيل كلما أكثرنا لمسه ازداد لمعانا وبريقا. هذه الهوية الإسلامية ذات الصبغة المغربية كانت هي أطروحة هذا البحث من بدايته إلى نهايته.
ومن البداية إلى النهاية ارتكـزت منهجية هذه الأطروحة على جملة عناصر إجرائية، منها:
أولا: - استكشاف ما تزخر به مكتبات الجامعات الأمريكية من نصوص مكتوبة حول المجال، سواء كانت كتبا أو مقالات أو أطروحات جامعية، حيث استفدت من خزانة جامعة لويولا شيكاغو التي وفَّرت لي مشكورة كل الكتب التي أحتاجها، وحتى الكتب التي لاتتوفر عليها الجامعة كنت أحظى بها من خلال نظام "الاقتراض المكتبي" بين الجامعات الدولية، كما أتيحت لي فرصة الاطلاع على خزانة جامعات أخرى كجامعة شيكاغو الشهيرة.
ثانيا: شكلت الحوارات جزء هاما وأصيلا في هذا البحث، إذ حاولت جهد استطاعتي، بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال استغلال التقدم التكنولوجي في مجال الاتصالات، إجراء حوارات أو لقاءات مع شخصيات ترتبط بمجال هذا البحث، حيث التقيت في مدينة شيكاغو بشيخ الطريقة الشاذلية البطاوية الأمريكي نورالدين دوركي(Noorddin Durkee)، وسافرت إلى مدينة فيلاديلفيا لإجراء حوارين أحدهما مع الشاعر الأمريكي المتأثر جدا بالتصوف المغربي دانيال مور(Daniel Moore)، وثانيهما مع الشيخة طيابة باجي خانوم شيخةُ مجموعةٍ من الطرق الصوفية منها الرشيدية الادريسية. كما أجريت حوارا مع الموسيقي والطبيب الأمريكي حكيم أرشيليطا عبر السكايب. أيضا، كان سفري إلى جنوب أفريقيا لحضور ملتقى صوفي وندوة حول المذهب المالكي، فرصة للقاء الشيخ أيان نيل دالاس، شيخ الطريقة الحبيبية الدرقاوية، والعديد من أشهر أتباعه و محاورتهم في عدة أمور ترتبط بهذه الأطروحة.
ثالثا: شكل البحث الميداني عنصرا أساسيا آخر ساهم في تشكيل رؤية واضحة وأصيلة حول الطرق الصوفية في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث حضرت اجتماعات ولقاءات صوفية مع مريدي الطريقة النقشبندية للشيخ ناظم القبرصي في شيكاغو، و حضرت اجتماع ذكر وحضرة مع أتباع الطريقة البودشيشية الأمريكيين في مدينة نيوجرزي، وأتيحت لي فرصة حضور لقاء صوفي تشيستي للأذكار والسماع في شيكاغو، التي اجتمعت فيها أيضا مع مريدي الطريقة النعمة اللهية في موعدين منفصلين أحدهما للذكر والسماع والآخر للمذاكرة والحوار. و زرت أول ضريح صوفي إسلامي في الولايات المتحدة، وهو ضريح الشيخ باوا محيي الدين في فيلاديلفيا والتقيت بمجموعة من مريديه وحضرت معهم لقاء للذكر والدرس، أيضا التقيت ببعض أتباع الطريقة الشاذلية الهاشمية لنوح حاميم كيلر، وبأتباع التيجانية الأمريكيين، والرفاعية البوصنيين، وحضرت مع شيخ الطريقة اليشروطية الشاذلية محمد جمال الملقب ب"سيدي" في لقاء ذكر ومدارسة وتقديم بيعة له من أتباعه الأمريكيين الجدد في شيكاغو، وحضرت مع الشيخ عبدالقادر الصوفي (أيان نيل دالاس) وأتباعه في العديد من جلسات الذكر والسماع، ولمست شدة التأثير الصوفي المغربي على هذا الشيخ وعلى طريقته، بالإضافة إلى طرق أخرى، مما مكنني من الوقوف حقيقة على خصوصيات كل طريقة على انفراد، ومن امتلاك تصور شبه واقعي حول مميزات كل مشرب ونقط تشابهه مع المشارب الأخرى أو اختلافه.
رابعا: تم اعتماد المنهج الوصفي، التاريخي أحياناً، في التعامل مع ظاهرة الإسلام في أمريكا، والحضور الصوفي المغربي داخل الولايات المتحدة. في حين كنت أعمَدُ في بعض الأحيان إلى تحليل نماذج أدبية أو شعرية معينة للاستدلال على قوة تأثير التصوف المغربي في مجالات الإبداع داخل العالم الأنجلوأمريكي. وقد آثرت من خلال هذه الأطروحة تحقيق تراكم كمِّي من حيث المعطيات والنماذج التي تؤكد حقيقة هذا الحضور المُؤَثِّـــر وكثافته، بدل التعمق في تحليل نموذج بعينه؛ إذ ارتأيت أنه من المنطق أن أصف الصورة الشاملة لفسيفساء هذا الحضور المغربي، وأن أحاول تجميعه في مجالات شتى، على أن يليه، في أبحاث مستقلة من طرفي أو من جهات بحثية أخرى، التَّعمق في تحليل النماذج المذكورة ممَّا سيوضح الصورة أكثر، وسيفتح المجال أمام حقل أكاديمي جديد لم يُطرق من قبل، يُعنى بدراسة جدلية التأثير والتأثر في الإبداع الإنساني انطلاقا من ظاهرة انتقال التجربة الصوفية المغربية إلى العالم الأنجلوأمريكي وما تُخلفه من بصمات في مجال السلوك والإبداع بمختلف أصنافه وأجناسه.
خامسا: اعتمدت في هذه الأطروحة المنهج الأنجليزي عند التعامل مع أقوال الغير؛ إذ كنت أضع ما يزيد منها على ثلاثة أسطر في فقرة مستقلة معزولة، في حين احتفظت بما لا يزيد منها على ثلاثة أسطر في الفقرة نفسها، مع تمييزها بوضعها بين مزدوجتين للدلالة على القول المضمن أو المستشهد به بالنص. هذا مع العلم أنني حافظت على ذكر أسماء المصادر والمراجع المعتمدة بلغاتها الأصلية، وكنت أستعمل لفظة (Ibid) لإثبات أن المرجع نفسه، ولفظة (Op.Cit) للاستدلال على أن المرجع سبق ذكر تفاصيله فيما قبل.
لكن هذا المسار المنهجي لا يخفي تلك الصعوبات التي واجهت هذا البحث، والمتمثلة أساسا في بنيته الثلاثية المركبة؛ إذ أن أغلب المصادر والمراجع المتوفرة في المجال مكتوبة أصلا باللغة الأنجليزية، مما كان يفرض على الباحث ترجمة بعض تلك النصوص إلى اللغة العربية أولا، ثم إعادة صياغتها ثانيا، ثم توظيفها بلغة عربية سليمة تتوافق مع موضوع الأطروحة ثالثا، بمعنى أن الباحث يجب عليه أن يلعب دور المترجم والدارس والمحلل في الآن ذاته. والالتزام النزيه بعملية الترجمة كان يؤدي في بعض الأحيان إلى الركاكة في الأسلوب العربي التي حاولت قدر الإمكان تجنبها.
من الإشكالات الأخرى التي كادت أن تعرقل مسار هذا البحث هو تلك الصعوبة في وضع خط فاصل بين الثقافة الأمريكية والأنجليزية عموما، إذ أن الحديث في مباحث معينة عن تأثير التصوف المغربي في مجال الأدب أو الفنون الموسيقية كان يقود بالضرورة إلى الحديث عن ذلك التأثير في الثقافة الأنجليزية ككل، بحكم تلك الشراكة التاريخية الثقافية بين ابريطانيا والولايات المتحدة، ليس على مستوى اللغة فقط بل على مستوى الهوية أيضا. لذلك كنت في بعض المباحث أتحدث بشكل عام عن الثقافة "الأنجلوأمريكية"، كما أنني كنت مضطرا في مباحث أخرى إلى الاستشهاد بنماذج ليست أمريكية الأصل كالموسيقي الأنجليزي الشهير إيريك كلابتن (Eric Clapton)، أو عازف الغيتار البريطاني ريتشارد طومبسون (Richard Thompson)، أو الأديبة البريطانية الحائزة على جائزة نوبل للآداب لسنة (2007) دوريس ليسينغ (Doris Lessing)، أو حتى الشيخ السكوتلاندي أيان دالاس (Ian Dallas)، للدلالة على قوة التأثير المغربي في الولايات المتحدة بفعل حضور هؤلاء الأعلام الملفت هناك، وتأثيرهم القوي على الأدب والفن الأمريكي بشكل عام.
إن قلة استعمال المصادر باللغات الأخرى كالفرنسية أو الاسبانية، ترجع إلى كون مجمل الدراسة تناولت العالم الأنجلوأمريكي مما أفضى إلى التركيز على الدراسات الأنجليزية بشكل خاص. وحتى الدراسات العربية الواردة في هذا البحث لاتعدو أن تكون مجرد مراجع مرتبطة بشكل عارض بالموضوع الأساس للأطروحة.
إن تطور وسائل الاتصال التكنولوجية، لاسيما الشبكة العنكبوتية، كانت مجالا خصبا للمعلومات والمعطيات التي أغنت محاور هذا البحث. إلا أن استعمال المواقع الالكترونية في هذه الأطروحة كان يخضع لانتقائية دقيقة جدا، فلم أكن لأستدل إلا بالمواقع الرسمية للأشخاص أو للطرق الصوفية، والتي تمتلك صفة الرسمية وتحمل حقوق المعلومة، وتجنبت الإفادة من كل ما يرد في المنتديات أو المواقع غير الرسمية.
هكذا، خلصت هذه الأطروحة إلى جملة من النتائج التي تثبت كيفية تأثير المغرب بهويته الدينية وخصوصيته الثقافية في أقوى حضارة علمية ومادية في عصرنا الحديث وهي الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ سعى الباب الأول والثاني من هذا البحث إلى استنباط مجموعة من المعطيات التاريخية والجغرافية والسياسية والدينية والحضارية التي تبوئ المغرب مكان الريادة في تاريخ أمريكا ككل:
تاريخيا: يعدُّ المغاربة أول من اكتشف القارة الأمريكية، وأول من وطأ أرضها؛ فحكاية مصطفى (استيفانو) الأزموري الذي انطلق من مدينة آسفي شهيرة ومذكورة في العديد من كتب التاريخ الأمريكية، وإن كان الجزم بها يظل صعب التحقق لافتقاد الدليل الواضح، ولهيمنة الفكر الغربي الذي ينسب كل اكتشاف وسبق إلى العبقرية الأوربية، إلا أنها تظل حكاية رمزية دلالية مرتبطة باكتشاف العالم الجديد.
جغرافيا: يعدُّ الجغرافي المغربي الشريف الادريسي أول من وضع خريطة لأمريكا، ووصف سكانها الأصليين اعتمادا على رواية المغامرين السبعة. أيضا، أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي؛ ذكر في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر" المكتوب عام 956 ميلادية، أن أحد المغامرين من قرطبة اسمه الخشخاش بن سعيد بن الأسود، عبر بحر الظلمات مع جماعة من أصحابه إلى أن وصل إلى الأرض وراء بحر الظلمات، ورجع سنة 889م.
سياسيا: يعتبر المغرب أول من اعترف باستقلال الولايات المتحدة و أول دولة عربية إسلامية دخلت الحوليات التاريخية الأمريكية بعد عقد اتفاقية صداقة وسلم معها، كما ساهم المغرب بشكل غير مباشر في الحرب الأهلية الأمريكية (1856-1851م)، و في الحرب الأمريكية مع إسبانيا بسبب جزيرة كوبا سنة: 1896م، واضطلع كذلك بدور الوسيط بينها، وبين بلدان شمال إفريقيا، لعقد اتفاقيات مماثلة معها. وظل حاضرا في الذاكرة التاريخية الأمريكية بفعل مسألة الرهائن الأمريكان لدى الريسوني:1904م، مما جعله موضوعا إخباريا و شعارا انتخابيا في فترة حكم روزفلت. وإلى عصرنا هذا مايزال المغرب يكتسي صبغة الأهمية في العلاقات الخارجية الأمريكية.
حضاريا: - يحضر المغرب كهوية حضارية وقومية عند بعض الحركات الإسلامية السوداء، كحركة "معبد العلم المغربي"(Moorish Science Temple) للنبيل درو علي، وحركة الشيخ فيصل داود اللذين خلَّفا وراءهما العديد من التنظيمات الكبرى التي كانت ومازالت تدين بالولاء للمغرب ولرايته الوطنية التي ظلت خفاقة على التراب الأمريكي رغم انتكاستها في ظل الاستعمار الفرنسي، حيث كان هؤلاء الأمريكيون على علم بما يعانيه المغرب و"كانوا يؤمنون بأن تلك الراية التي ظلت ترفرف على مدى آلاف السنين يجب أن تظل حية وخفاقة في زمن الاحتلال الفرنسي للمغرب حيث لايسمح لها أن ترفرف"([3])، وهكذا "رفرفت راية المملكة المغربية إلى جانب راية الولايات المتحدة في المؤتمر الوطني الأول الذي عقده الموريون الأمريكيون في شيكاغو سنة:1928م للدلالة على الميراث الثنائي لجماعتهم"([4]).
دينيا: شكَّلت الهوية الدينية المغربية مكونا أساسيا من مكونات الوجود الإسلامي في أمريكا، فالعديد من المخطوطات التي اكتشفت وما تزال تحمل الهوية الدينية المغربية من خلال خطها المغربي، وثلاثية المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والسلوك الصوفي الذي كان المغرب مصدر إشعاعه في بلاد إفريقيا الغربية، ومنها إلى أمريكا عن طريق استرقاق المسلمين وحملهم إلى العالم الجديد حينئذ.
أما الباب الثالث والرابع من الأطروحة فقد خلصا إلى استنباط بعض مظاهر الحضور والتأثير الصوفي المغربي في الولايات المتحدة الأمريكية، التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- تأثير الطرق الصوفية المغربية الأصل:
تحضر الطرق الصوفية المغربية بفعالية مؤثرة في التراب الأمريكي من خلال أنشطتها التربوية الصوفية والدعوية، وحتى الثقافية والأكاديمية، ومن أبرز هذه الطرق التي تم التطرق لها بتفصيل نجد: التيجانية، والحبيبية الدرقاوية، والقادرية البودشيشية. حيث تتصف كل طريقة بخط دعوي معين يُمَيِّزها عن بعضها البعض داخل الولايات المتحدة الأمريكية؛ فالطريقة التيجانية تنتشر أكثر وسط المسلمين الأفروــ أمريكيين بحكم طبيعتها الإفريقية لأن جُلَّ خلفائها في أمريكا ينحدرون من أصول أفريقية كالسينيغال وغينيا، على خلاف الطريقة البودشيشية التي تجلب الأمريكيين البيض أكثر، بفعل مرونتها وقدرتها على التكيف مع مختلف الخصوصيات الثقافية، وأيضا بسبب تأثير خطابها النخبوي الذي يروجه بعض أتباعها المشهورين في الغرب كفوزي الصقلي، وأحمد قسطاس. أما الطريقة الحبيبية الدرقاوية فقد نجحت بداية في استقطاب الأمريكيين من أصول أوربية، لكن توجهها نحو الاهتمام بأمور الاقتصاد والسياسة أفقدها الكثير من أتباعها الأوائل، وجعلها تنحصر وسط بعض فئات معيَّنة من المجتمع الأمريكي والتي تعاني من التمرد على طغيان الرأسمالية وعلى استبداد الأبناك الربوية.
2- تأثير شيوخ التصوف المغاربة ومؤلفاتهم:
المقصود هو ذلك التاثير الذي لعبه وما يزال رجال التصوف المغاربة من خلال رؤاهم الإصلاحية وإنتاجاتهم التأليفية على رواد التصوف الأمريكيين، كما هو حال الأفكار الإصلاحية للشيخ الأمريكي حمزة يوسف (مارك هانسن) التي تجدد الحياة في المشروع الإصلاحي الديني للشيخ أحمد زروق البرنوسي المغربي، أو حال الشيخ الصوفي الأمريكي نوح حاميم كيلر في علاقته الروحية مع متن الصلاة الجزولية الموسومة ب"دلائل الخيرات وشوارق الأنوار" الذي أعاد طبعه وتخريجه في نسخ راقية مع تحصيل الإذن اللازم لقرائه، بالإضافة إلى عملية ترجمته إلى اللغة الأنجليزية والتي تمت داخل الولايات المتحدة وخارجها عدة مرات كما فصَّلنا الحديث في ذلك.
3- تأثير التصوف المغربي في الأدب الأمريكي الحديث بنوعيه النثري والشعري:
إذ نفذ التصوف المغربي إلى صميم الحياة الثقافية والأدبية الأمريكية ليمارس فعله المؤثر فيها، حيث أوردت هذه الأطروحة نماذج وشواهد من الأدب الأمريكي بجنسيه الشعري والنثري متحت من معين التصوف الإسلامي المغربي المشرب لتؤثر في المشهد الأدبي في بلدها، وأحيانا حتى في العالم الناطق بالأنجليزية ككل، مما أدى إلى ظهور بعض الأجناس الأدبية الجديدة التي لم تكن معروفة في الغرب كأدب"الرحلة الحجازية"و"قصص الاهتداء"، وهي ذلك النوع الأدبي الذي يحكي فيه المتصوفة الغربيون قصص تحولهم إلى الإسلام ورحلاتهم من الغرب لآداء مناسك الحج أو للبحث عن المرشد الروحي في سفرهم الباطني بحثا عن الحق. كما أفرز ظهور أنماط جديدة من القصيد الصوفي الأنجليزي، كأشعار الأمريكي دانيال مور الذي يزاوج بين تجربته الصوفية الإسلامية العميقة وبين النفس الشعري الأنجليزي ليفتح آفاقا جديدة من الإبداع الإنساني.
4- تأثير التصوف المغربي في فن الموسيقى والعزف بأمريكا:
أثَّـر التصوف المغربي أيضا في فن العزف والموسيقى بالولايات المتحدة الأمريكية، وعمل على تخليقها وطبعها بروحانيته السامية، فظهرت "المجموعة الموسيقية الحبيبية" المنسوبة إلى الشيخ المغربي سيدي محمد بن الحبيب الذي ألهم جماعة من الموسيقيين الأمريكيين بعدما دخلوا الإسلام على يديه وارتشفوا من رحيق التصوف الدرقاوي، بإحياء روحانية الموسيقى الأمريكية وتخليقها، وإن كان عمر هذه المجموعة قصيرا إلا أن رسالتها استمرت من خلال روادها الأوائل كفنان الروك الشهير إيريك كلابتن، وعازف الغيتار المتألق إلى يومنا هذا ريتشارد طومبسون.
5- تأثير التصوف المغربي في فن الرسم والتشكيل والمسرح بالولايات المتحدة:
اقتحم التصوف المغربي أيضا فن الرسم والتشكيل وحتى المسرح في الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق الفنان الأمريكي محمد زكريا الذي اعتنق الإسلام في المغرب، وفيه تذوق جمالية الخط العربي الذي صار أحد أبرز رواده في العالم اليوم. بالإضافة إلى الفنان المبدع دانيال مور الذي يكن الولاء الباطني لشيوخ التصوف المغاربة الذين بفضل مصاحبتهم، كما يقول، تفتقت قريحته الإبداعية ففاضت بغزارة في الشعر والمسرح والتشكيل. كما يحضر التصوف المغربي في مسرحيات تتطرق إلى حياة الحكماء، كما هي قصة الشيخ التيجاني تيرنو بوكار(حكيم باندياغارا (The Sage of Bandiagara)) التي تحولت إلى عمل مسرحي عُرض عدة مرات فوق خشبات المسرح الأمريكي. بالإضافة إلى تأثير التصوف المغربي في المسرح العرائسي، ومسرح خيال الظل في أمريكا عن طريق الأعمال المسرحية لدانيال مور.
تلكم إذن هي أهم الأفكار والخلاصات التي توصل إليها هذا البحث، والتي يُشكل كل منها مجالا من مجالات البحث الخصبة الممكن، بل الواجب، طرقها كلها في مجموعة من الأعمال العلمية الأكاديمية المتخصصة التي ستوضح أكثر مدى إسهام التصوف المغربي في الحضارة الأمريكية إن على مستوى الهوية، أو الإبداع أو العمران.
[1] ـ للمزيد من التفاصيل يُنظر المبحث: الثالث، من الفصل: الثالث، من الباب: الثاني، في هذه الأطروحة.
[2] - أحمد الخطيب القسنطيني، أنس الفقير وعز الحقير، بعناية محمد الفاسي وأدولف فور، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، 1965،ص:42
[3] - Haddad Yvonne Yazbeck & Smith Jane Idleman, Mission to America: Five Islamic Sectarian Communities in North America, University Press of Florida(1993), p.86
[4] - Ibid, p.88