قدم صاحب البرنامج المذكور أعلاه والمذاع عبر اليوتوب الدكتور حسن نجمي كضيف متميز، فريد من حيث بروفايله، باعتباره يجمع بين الحسنيين: بين النخبة ورقيها ونخبة النخبة وبين نخبة الأرض وشعبيتها ورائحتها ووجعها، بالإضافة إلى أنشطة أخرى ومسارات متقاربة ومتقاطعة. كل هذا اجتمع في شخصية مغربية ووطنية التي هي الأستاذ والشاعر والأديب وابن الشعب حسن نجمي.
بعد هذا التقديم، شكر حسن مضيفه على هذه الاستضافة الكريمة. فما كان من صاحب البرنامج إلا أن جدد ترحيبه بضيفه، مذكرا إياه بأنه قال في إحدى المرات: "اسق نبتة النعناع قليلا كي يخضر طعم الشاي".
وافق الضيف الكريم على ما قيل وأشار إلى أنه قاله في قصيدة "النافذة" ولا يزال يذكر ذلك.
من أجل مواصلة الحوار، طلب بنشيكر من ضيفه الحديث عن علاقته بالشاي. فقال إنه كان منذ الطفولة يعتبر الشاي مشروبا أثيرا جدا، وعشنا المستوى الاجتماعي الذي فيه "كب وكسر حتى يوفى العمر". كان الشاي مركزيا في حياتنا كأسرة وعائلة بالنسبة إلي شخصيا. كان الشاي هو زيت الأعراس، هو سبب اللمة والجمع بين العائلات والناس والأصدقاء، خصوصا في الفضاءات القروية.
واصل حسن نجمي جوابه بالقول إن الشاي لا غنى عنه. فمنذ أن جاءت هذه النبتة الطيبة الكريمة الجميلة إلى المغرب في بدايات القرن الثامن عشر، وبالضبط في نهاية حكم السلطان مولاي إسماعيل، أثير حولها نقاش بين الفقهاء الذين حاولوا منع شرب الشاي واعتبروه عن خطإ حراما، تماما كما وقع مع القهوة والتبغ عند دخولهما إلى بلادنا.
لكن، اليوم أصبح الشاي مرتبطا بالوجدان والمتخيل وحياتنا اليومية. نعتز فعلا بكون الشاي مشروبا مرتبطا بالهوية المغربية، مع أنه نبتة آتية من بعيد، من أقصى جنوب شرق آسيا، من الصين بالخصوص والبلدان المجاورة، لكنها أصبحت تقريبا نبتة مغربية من حيث الشراب والأحاديث، وأصبح الشاي حاضرا في المتخيل والكتابة والملحون والعيطة وعدد من الأشعار الشفوية.
هنا تدخل بنشيكر ليذكر بأن الشاي حاضر في الموسيقى الأندلسية؛الشيء الذي لقي تأييدا من ضيفه، مضيفا أنه حاضر كذلك في الشعر الأمازيغي والشعر الحساني حضورا قويا جدا.
بعد ذلك، لجأ مؤلف "حياة ضغيرة" إلى ذاكرته التي انتشل منها واقعة عاشها وهو طفل صغير يرتاد "الحلقة" في سوق ابن أحمد الأسبوعي الذي يقام كل اثنين وفي الأسواق المجاورة صحبة الوالد والوالدة. من هذا السياق، احتفظت ذاكرته بأحد المنشدين والحكواتيين الذي كان فقيها صالحا يدعى ولد قربال. كان هذا الأخير يتشئ "حلقة" جميلة، وينتج قصائد شفوية يطبعها ويبيعها في الدار البيضاء بدرهم او نصف درهم للقصيدة الواحدة في كتيب صغير.
هنا يتساءل بنشيكر عما إذا كانت القراءة تمارس في السوق. فقال حسن: كان قربال يقرأ القصيدة مستعينا بمكبر الصوت، وعندما ينتهي من إسماعها يقوم بعرضها مكتوبة على المتفرجين. أبدع قصيدة عن صعود الإنسان إلى القمر وقصيدة أخرى يصف فيها الجنة وثالثة يتحدث فيها عن الزلزال..
أما القصيدة التي كتبها عن الشاي، يتابع حسن، فيها نوع من التلاسن والشتائم المتبادلة بين القهوة والشاي. هنا يتدخل صاحب البرنامج ليدرج هذه القصيدة في إطار النقائض. تجاوب معه ضيفه بالإيجاب مشيرا إلى أنه يمكن إدراجها في هذا القالب. وواصل مؤلف "لا أحد رأى الملك في القمر" حديثه عن قصيدة الشاي والقهوة وذكر كيف أن الأول يؤاخذها على لونها الأسود ويحتقرها ناعتا إياها بأنها ليست مغربية وأنها دخيلة، إلخ.. من جهتها، تتجند القهوة لتشتم الشاي وتقول له: هل نسيت أن "الهداوي" يشربك في حق صفيحي؟ هل نسيت سكبك في علب معدنية وتقديمك بهذه الطريقة لعمال الأوراش بناة الطرقات؟ وفي نهاية القصيدة، يقوم المنشد بدور القاضي بينهما ويعلن أن لكليهما منافع ومضار، حيث يقول، مثلا: بزوج فيكم مضار، الله ينقص علينا ثمن السكر. وفي الأخير، ينصفهما وفي نفس الوقت ينتصر للحق والعدل في ما بينهما.
وفي محاولة منه لتمديد كلام ضيفه، قال بنشيكر: ويخلد لهذه الذاكرة الشعبية، ويبقى أن النعناع هو الذي مغرب الشاي إلى جانب بعض الأعشاب المغربية المصاحبة للشاي، كما أضاف ضيف هذه الحلقة من برنامج "قهيوة ولا أتاي".
لم يهمل صاحب رواية "الحجاب" ذكر الساقي المالك لسلطة رمزية في الجلسة والذي له مكانة ونوعية في مذاق الشاي.
من جانبه، أشار بنشيكر إلى ما ارتبط بشرب الشاي من صناعة الأباريق المعدنية والكؤوس الزجاجية والبلورية. هنا تدخل حسن ليقول بأن هذه المتعلقات تصبح جزء من شخصية الرجل القروي الذي يملك حصانا او عدة أحصنة وكل وسائل الفروسية التي يمارسها مع أبنائه وأبناء عمومته وقبيلته، وفي نفس الوقت لا بد من الشاي بأجود أنواعه وكل مستلزمات صناعة الشاي من "بابور" يسخن فوقه الماء ومقراج خاص. هذه الأشياء تصبح جزء من شخصيته، ويتملك هذه الأشياء كأنها لا تتفصل عن جسده ومتخيله وروحه.
في هذه اللحظة من عمر الحلقة، قال بنشيكر إن الإنسان المغربي، سواء كان قرويا او حضريا، يهتم بتفاصيل الشاي وينظر إلى هذه الممارسة بنوع من التباهي والتفاخر والمتافسة بين هذا البيت وذاك البيت. مؤيدا قول مضيفه، قال الضيف إنها ذات بعد اجتماعي بحيث يبدو التراتب الاجتماعي من خلال الشاي واللباس ونوعية وحجم البيت هل هو كبير أم صغير، والمكان الذي يتواجد به كأن يوجد في قلب الزقاق أم على هامشه، إلخ.. وهكذا يصبح الشاي جزء من الهوية والشخصية ومن الرتبة الاجتماعية للأفراد.
في تعقيبه على ما قاله حسن نجمي، أشار عتيق بنشيكر إلى أن الشاي في فجر تاريخ المغرب يشبه موقع التواصل الاجتماعي في أيامنا هاته.
بعد هذه الدردشة الممتعة حول الشاي وتفاصيله، انتقل صاحب البرنامج إلى السيرة الذاتية لضيفه التي تحتوي على أشياء كثيرة، ولم يخف اضطراره لإخبار المشاهدين بأنه عندما ننظر إلى حسن نجمي نقول هذا رجل مثقف، شاعر وصحافي، ولكن بالإضافة إلى ذلك قام بأنشطة أخرى وتقلد مناصب ذات تأثير على شخصيته أضفت عليها قيمة مضافة وطوقت عنقه بمسؤولية خاصة ربما خرج منها منتصرا او غير منتصر.
ثم يذكر المضيف أن ضيفه من مواليد مارس 1960 لأم بائعة خبز وأب صاحب مشواة، وأنه حامل لدكتوراة في "الشعر العربي المعاصر، العيطة كنموذج"؛ علما بأن لهذه الأخيرة محورية في كل مراحل حياته حتى يومنا هذا، ولا زال يستشرف الغد بالنسبة إلى العيطة قصد الرقي بها إلى مصاف إقليمية وعالمية. ضيفنا الكريم، كما يتابع بنشيكر، حائز على دبلوم الدراسات العليا في الأدب الحديث، شغل منصب رئيس اتحاد كناب المغرب، وكان بحق مؤسسا لبيت الشعر ومديرا لهيئة الكتاب والمطبوعات، ورئيس تحرير مجلة "الرائد" لسان حال اتحاد كتاب المغرب وصحيفة "النشرة". له كتاب عن البروتوكول الملكي من الزاوية الأنثروبولوجية. هنا يتدخل حسن نجمي ليخبر مضيفه بأن نشر هذا الكتاب لم يتم بعد. ثم يواصل بنشيكر قراءة البطاقة التقنية الخاصة بضيفه ويذكره بأنه سبق له أن كتب عن رولان بارث في المغرب، وبأنه كتب في الشعر والرواية. كما ذكر مشاهديه بأن حسن ناقد تلفزي، ولا زال بنشيكر يذكر أنه كلما رأى عمل تلفزيوني النور إلا ويسرع المهنيون إلى قراءة صفحة بجريدة "الاتحاد الاشتراكي" ليعرفوا ما كتبه سي حسن نجمي دون توقيع. كما تضمنت البطاقة التقنية الخاصة بالضيف الكريم كونه كاتبا سيناريست ومسرحيا، يتقن الإيطالية والفرنسية ويتكلم الإنجليزية شيئا ما. وعندما سأله صاحب البرنامج عما إذا كان يفهم اللغة الألمانية، أجابه حسن بأنه يعرف منها بعض الكلمات فقط، وأن تعلمها ليس أمرا صعبا عليه كما قال بنشيكر وكل ما هناك أنه لم يضعها في باله، معتقدا أن ليس هناك لغة صعبة، وإنما تعلم أي لغة مرتبط بالإرادة والاختيار، وحين يكون الإنسان مقتنعا بدراسة لغة معينة سوف يتمكن منها، يكفيه أن يخصص لها ستة أشهر ويبدأ بتملك الجمل الأولى الخاصة بالتواصل كالحديث عن الذات وتقديم نفسه إلى الآخرين وفهم عناصر الحياة اليومية ومحيطه الاجتماعي من حي ومدينة وبلد. يمكن تملك كل ذلك في ثلاثة أشهر وبعد ستة أشهر يمكن للإنسان أن يتكلم باللغة التي يتعلمها، أما إذا قضى سنة في دراستها يمكن له أن ينتقل إلى مستوى أعلى، وهكذا، كلما تعمق الإنسان في أي لغة إلا ويزداد تحكمه في ناصيتها.
في هذا السياق، ذكر حسن مؤلف رواية "جيرترود" أنه تابع دروسا في اللغة العبرية طيلة سنتين متتلمذا على الدكتور أحمد شحلان، ولكن اليوم تبدد كل ما تعلمه منها بسبب عدم استعمالها وعدم القراءة بها. في ما يخص اللغة الإنجليزية، يتابع حسن، قام بدراستها في مرحلة معينة، وتبقى الفرنسية عنده أكثر رسوخا من الإنجليزية والإيطالية أكثر رسوخا منهما معا. عندها سأله بنشيكر: لماذا الإيطالية وليس لغة أخرى؟ أجاب صاحب ديوان "على انفراد" بأن المنطقة التي ترعرع فيها والتي تعد من مصادر إنتاج الهجرة إلى إيطاليا (يقصد هنا مناطق ابن أحمد، مزاب، بني مسكين؛ أي من سطات إلى بني ملال على سبيل الامتداد)، وكذلك تواجد أعمامه وأخواله وأبناء الإخوان والأخوات والأهل والأصهار بالديار الإيطالية، كل ذلك كان من العوامل التي حفزته على تعلم الإيطالية.
عند هذه النقطة، تذكر حسن كيف أنه في عام 1992 سافر رفقة أم بناته إلى إيطاليا ووقع لهم سوء فهم للعنوان الذي يسكن فيه أخوه، وبقيا ليلا في الشارع دون فرصة الحصول على مبيت في أحد الفنادق نظرا لامتلائها، فكان لا بد من التواصل مع المستخدمين لإيجاد غرفة فوجدا صعوبة كأداء رغم محاولاتهما التواصل معهم (بالفرنسية بالنسبة إليه، وبالإسبانية بالنسبة إلى شريكة حياته) من أجل إنقاذ الموقف.
منذ تلك اللحظه، قرر حسن تعلم الأبجديات الأولى للغة الإيطالية، وتلقى دروسا أولية في بداية الألفية في المعهد الإيطالي، وعاد مؤخرا ليقوي مستواه في هذه اللغة، والآن يتكلمها بطلاقة ويفهم ما يقال ويكتب بها، ويتواصل مع الناطقين بها. لكن اللغات، في نظره، في حاجة دائما إلى التعميق، خصوصا على مستوى اللكنة والرطانة، ذلك لأن التكلم بلغة معينة يتطلب التوفر على مخارج محددة، خصوصا عندما يتعلق الأمر باللغة الإيطالية.
انطلاقا من إيماءة بنشيكر إلى موسيقية اللغة الإيطالية، قال حسن إنها أكثر موسيقية من بين اللغات الإنسانية. كل الخبراء يؤكدون على ذلك. وعندما أشار صاحب برنامج "قهيوة ولا أتاي" إلى أن اللغة الإيطالية مصدر لكل النوتات المويسيقية، قال حسن إن عدة مفردات في المعجم الخاص باللغة الموسيقية العالمية إيطالية بالأساس. ولكن في الجملة والكلمات وعندما تأتي بكلمات لتؤلف بها جملة معينة تتشكل معها موسيقى. كل الخبراء في اللغات يؤكدون ويجمعون على أن اللغة الإيطالية هي أكثر اللغات موسيقية بالفعل، وهي بالنسبة إليه لغة جميلة استعملها كبار شعراء العالم الذين أغلبهم إيطاليون، والعدد الأكبر من الشعراء حملة جائزة نوبل في الآداب هم إيطاليون. وهناك عدد كبير من شعراء الإنسانية منذ الفترة الرومانية، خص منهم بالذكر ثلة من الشعراء، ساهموا في إثراء ربرتوار القصيدة الإيطالية.
في خضم الحديث عن اللغة الإيطالية وثقافتها الأدبية، استحضر بنشيكر أنطونيو غرامشي الذي حدده حسن نجمي كمفكر وفيلسوف. ثم سأل الأول الثاني عما إذا التقى بالراحل أمبيرتو إيكو، فأجابه بأن فرصة اللقاء مع هذا الكاتب لم تتح له وأنه لم يتشرف بملاقاته رغم الدعوة التي وجهها إليه لما كان رئيسا لاتحاد كتاب المغرب عن طريق أحد أصدقائه المغاربة المرحوم أحمد الحلبة، ابن مدينة وادي زم، الذي أبلغه الرسالة ولكنه كان مغمورا بحوالي مائتي دعوة. لما وضع أحمد الحلبة الرسالة فوق مكتب إيكو بجامعة بولونيا بإيطاليا وقال له ها هي الدعوة التي حدثتك عنها، التفت إيكو وراءه وتناول علبة من الكرتون وأفرغها فوق المكتب ليظهر له حجم الرسائل، وقال له: غدا سأسافر إلى جنوب أفريقيا التي بمجرد العودة منها سأشد الرحال إلى اليابان. كانت له التزامات في الجهات الأربعة من العالم، ما يعني بطبيعة الحال أنه كان كونيا، مثقفا كبيرا، فيلسوفا لغويا، عالما سيميولوجيا. كان يتمتع بذكاء خارق وبفطنة سيميولوجية كما يقول السيميائيون. كان له ذكاء في إنتاج معنى لكل الأشياء.
في هذا السياق، عاد أبو ريم إلى ذاكرته الغنية مسترجعا استضافة الصحافية سان كلير لإيكو في برنامحها الشهير. في البداية، قالت له إن السيميائيين يصنعون المعنى ويمنحونه لكل شيء، فأثبت صحة ملاحظتها. عندها سألته عما إذا كان قادرا على إعطاء المعنى لكل شيء رد عليها بالإيجاب بما يفيد أنه يجب أعطاء المعنى لكل شيء ذي معنى، يكفي استخراجه وتقديمه للناس لأن لكل الأشياء معنى. فقالت له: أي معنى يمكن إسناده إلى لحيته؟ وكان ملتحيا آنذاك. فما كان منه إلا أن ألقى درسا عن اللحية عند أهل اليسار وأهل اليمين، وعند الماركسيين ورجال الدين، عند اليهود والمسيحيين والمسلمين. هنا تدخل بنشيكر واصفا امبرتو إيكو بالموسوعي ليعقب عليه مؤلف "شعرية الفضاء: المتخيل والهوية في الرواية العربية" بأننا أمام مثقف كبير جدا. رسوخ مكانته الكونية لم تأت من فراغ. هو أولا قارئ كبير وكاتب بنفس الحجم أيضا، فبالإضافة إلى كونه رجل فكر ومعرفة وبحث علمي نجح في كتابة روايات مثل "اسم الوردة" التي تم تحويلها إلى فيلم شهير.
في الحقيقة، يتابع نجمي، نحن نتتلمذ على هؤلاء الكبار في أفقهم ونقرأهم باعتزاز ونتعلم منهم وهم أحياء أو أموات.
للانتقال إلى محور آخر، طلب بنشيكر من ضيفه تناول أطراف الحديث عن مدينة الدار البيضاء التي احتضنت هذه الدردشة الممتعة والمفيدة. لهذا الغرض سأل بنشيكر صاحب ديوان "المستحمات" عن علاقته بمدينة أنفا وعما إذا كان يحسب على بن أحمد أو الدار البيضاء أو الرباط. فكان الجواب أن الدار البيضاء هي عاصمة منطقة الشاوية وبن أحمد هي العاصمة الصغرى لنفس المنطقة، أما سطات فنعتبرها جزء لا يتجزأ من الشاوية الكبرى. أهل هذه المدينة يعتبرونها العاصمة الحقيقية لمنطقة الشاوية، في حين أن الدار البيضاء مدينة كبرى تختزل صورة المغرب وسكانها يختزلون سكان المغرب، لا من حيث التعدد الإثني والاجتماعي ولا من حيث الذهنيات ومصادر الحياة والتعبيرات عنها، إلخ.. فضلا عن ذلك، فهي تنطوي على مختلف الطبقات الاجتماعية ومختلف أنماط الحياة. من الناحية المعمارية، اكتسبت الدار البيضاء تميزا ملموسا من خلال توفرها على أمكنة نادرة في المعمار العالمي. ويرى حسن نجمي أن عددا مهما من سكان الدار البيضاء لا يعرفون أن هناك بعض الوحدات المعمارية نادرة صممها مهندسون معماريون كبار في العالم خلال مرحلة الحماية أو في فجر الاستقلال وخلال الستينيات، خصوصا في منطقة أنفا.
في ثنايا هذا الحديث الجذاب عن عاصمتنا الاقتصادية، قال كاتب نصوص "الشاعر والتجربة" إنها تبدو بالنسبة إليه كمدينة ذات روح شاعرية. فرغم العنف والضجيج والتصارع في زحمة الحياة تنتج حالات شعرية من الروعة بمكان، كما تنتج نوعا من الرومانسك (romanesque)، ويعني به مادة منتجة للحكي الروائي والسردي في المسرح والقصة القصيرة والرواية والسينما، إلخ.. هناك كتابات عن الدار البيضاء لشعراء وكتاب كبار مثل الراحل أحمد المجاطي ومحمد الأشعري والمرحومين إدريس الخوري ومحمد زفزاف، وهي كتابات شعرية وقصصية سردية.
بعد هذه الإطلالة على الدار البيضاءالتي تفضل حسن نجمي بتقديمها لمشاهدي ومتتبعي برنامج "قهيوة ولا أتاي"، التفت بنشيكر إلى مدينة الرباط واصفا إياها بالأرضية الخصبة بالنسبة إلى التجمع النخبوي للمثقفين المغاربة. لكن ضيف البرنامج نفى صحة هذه الملاحظة على اعتبار أن الدار البيضاء تحتضن عددا من أسماء الأدباء الأساسيين لا من حيث الكم ولا من حيث الكيف، مؤكدا أن ها هنا يوجد كتاب وفنانون حقيقيون في المسرح والسينما والفنون التشكيلية والكوليغرافيا والموسيقى بمختلف تعبيراتها. الدار البيضاء أكبر من كل المدن المغربية في ما يخص هذا الجانب. فهي غنية جدا ومتنوعة للغاية. ثم إن الدار البيضاء عبارة عن مدن في مدينة واحدة وكأنها تستقطب عدة مدن؛ وأقصد بها الأحياء. لكل حي خصوصيته وذاكرته ومزاجه الخاص.
إذا أخذنا، مثلا، الحي المحمدي فهو بالنسبة إلى المتحدث رحم مفتوحة على التاريخ والمقاومة على الحياة الاجتماعية وكرة القدم والحياة العمالية بالخصوص. هو حي عمالي بامتياز استقطب فئات وشرائح وإثنيات مغربية من مختلف المناطق يحيث تجد فيه العروبي والأمازيغي والصحراوي. فيه تتواجد كل الفئات من المغرب الشرقي، من الشمال والجنوب، إلخ.. أهل الحي المحمدي يتصرفون في حيهم كما يتصرف أهل البادية داخل قبيلتهم. وهنا، شدد حسن نجمي على مسألة هامة وهي أن الحي المحمدي قبيلة حضرية بامتياز وفق تقديره الشخصي. هذه القبيلة أنتجت مجموعات غنائية أهمها "ناس الغيوان"، "لمشاهب"، "مسناوة"، "تكادة"، و"سهام". أنتجت عددا من الممثلين والممثلات في المسرح والسينما، وأنجبت عددا من الشعراء من جيل الستينيات والسبعينيات، ذكر منهم المتحدث أحمد الجوماري وعنيبة الحميري، إلخ..
واصل صاحب ديوان "فكرة النهر" حديثه عن الحي المحمدي ذاكرا أن ولد الحي وبنت الحي بالنسبة إلى أهله شيء مقدس. لا يتصرفون مع "ناس الغيوان" كفرقة تنتج الموسيقى والفرح فحسب، بل هم ابناء الدرب. الطاس كفريق كروي أيا كان القسم الذي رتب فيه يبقى له نفس الروح ونفس الارتباط؛ أي يجعلون كل ما هو حي محمدي بؤرة. حتى المريض العقلي والمجذوب والبوهالي يشكلون كائنات مقدسة بالنسبة إليهم.
لإعطاء الحوار دفعة إضافية تكسبه فرصة أخرى للامتداد، قال بنشيكر لضيفه: أنت تحن دائمآ إلى الدار البيضاء بحكم إقامتك الراهنة بالرباط، كم تأتي إلى هنا من مرة في السنة؟ على هذا السؤال، أجاب مؤلف ديوان "لك المملكة أيتها الخزامى" بأنه يزورها كلما أتيحت له الفرصة، مقرا بأنه زارها في الأيام الأخيرة ثلاث مرات، مبررا ترحاله الدائم صوب أنفا بكونه مرتبطا فيها بصداقات لا تبلى، لا تندثر ولا تنتهي. له هنا عدة أصدقاء في المسرح، في التشكيل، في الكتابة وفي الصحافة. وفي هذا المقام، أوصى حسن نجمي كليمه بألا ينسى أنه عاش في الدار البيضاء خمسة عشر سنة متتابعة بحكم عمله كصحافي بجريدة "الاتحاد الاشتراكي" من سنة 1984 إلى سنة 1999 تاريخ رحيله إلى الرباط. وقبل مغادرة الجريدة سنة 2006، ظل حضور الدار البيضاء مركزيا في ذاكرته، في سلوكه، في مزاجه، في عاداته، وفي تقاليده الشخصية والعائلية.
لإعطاء نفس آخر لهذا الحوار، وجه بنشيكر سؤالا لضيفه صاغه على الشكل التالي: إذا كان هناك عتاب، فعلام تعاتب القيمين على تدبير شؤون هذه المدينة؟ أجاب أبو ريم بأنه عندما يلقي اليوم نظرة على الرباط يجدها مدينة كالبلور على درجة كبيرة من النظافة ودائمة الاخضرار، وكل من زاره من أصدقائه الكتاب والمبدعين لا يخفي إعجابه بالرباط.
بمناسبة إقامة المعرض الدولي الاخير للكتاب والناشرين عبر أصدقاؤه عن انبهارهم بالعاصمة المغربية وأحبوها. وعلى اليوتوب. نشاهد عددا من التسجيلات لأشقاء مغاربيين حيث يقارنونها بعواصمهم ومدنهم فيجدون فرقا شاسعا. كذلك هناك مراكش وفاس وطنجة؛ هذه الأخيرة التي أصبحت مدينة كوسموبوليتية بالمعنى العميق والحقيقي للكلمة. هنا، يتساءل حسن نجمي: لماذا أهملت الدار البيضاء؟ لماذا تم التفريط فيها؟ هذه المدينة تستحق عناية كبيرة جدا لأسباب عمرانية واجتماعية واقتصادية وسياحية وأمنية كذلك. نحن إزاء مدينة تحتضن ستة ملايين نسمة؛ مع العلم أن هناك دولا في العالم العربي يقل عدد سكانها أربع مرات عن عدد سكان الدار البيضاء. نحن أمام دولة.
في هذا الصدد، أعاد مؤلف كتاب "شعرية الأنقاض: يوميات الحرب على العراق" إلى الأذهان خطاب الملك محمد السادس أمام البرلمانيين بمناسبة افتتاح إحدى الدورات التشريعية حيث عبر عن غضبه (ما يفوق مجرد انتقاد) بحضور المسؤولين الذين لم يرقوا إلى مستوى المدينة ولم يتحلوا بأخلاق المسؤولية التي يتعين عليهم الالتزام بها. ربما، اليوم هناك تحول بطيء ولكنه ملموس، من خلال اجتراح الأنفاق وسكك الترامواي ما خفف شيئا ما من حدة الزحام على الطرقات. ولكن المدينة ما زالت في حاجة إلى عقلية مغربية بروح وطنية عالية، وإلى مناضلين مؤمنين بالمدينة وبفكرة المدينة. الدار البيضاء في حاجة إلى أفكار تجعل منها مدينة مؤهلة بعمرانها وبإمكاناتها، خاصة الإمكان البشري المهم. إنها مدينة عمالية، ذات رصيد رمزي. مدينة حاضنة لحركة عمالية. يشهد تاريخها الحديث على احتضانها لحركة المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي. أنتجت رموزا في تاريخ المغرب شكلت أمثلة حية نموذجية بالنسبة إلى الأجيال المتلاحقة.
بنبرة لا تخلو من أسف، واصل الدكتور نجمي حديثه مشيرا إلى أن هذا الإهمال الذي طال عددا من المكتسبات، سواء خلال المرحلة التاريخية أو خلال تلك التي أعقبت استقلال بلادنا، حان الوقت ٠لوضع حد له.
الدار البيضاء، في نظر ضيف البرنامج، ليست أي مدينة، هي جزء من الرأسمال الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياحي للمغرب والمغاربة جمعاء.
إلى ما أتى حسن نجمي على ذكره من
أبعاد للدار البيضاء كرأسمال، أضاف بنشيكر البعد المغاربي والبعد العالمي. وفي إطار التفاعل مع مضيفه، قال الضيف الكريم إن الدار البيضاء مدينة حديثة رغم تاريخها العميق جدا. وهنا، أبدى بنشيكر ملاحظة مفادها أن كل واحد يجد له مكانا في هذه المدينة؛ الشيء الذي جعل محي "ليالي العيطة"، بشراكة مع وزارة الثقافة، يتذكر ما وصف به أحد أصدقائه المدينة من كونها تشبه امرأة هبيلة ومجذوبة، ويتذكر كيف أنه كان في ديسمبر 1986 يتجول مع الشاعر العربي الكبير أدونيس في أزقة وشوارع الدار البيضاء ومدينتها القديمة، وفي نهاية هذه الجولة قال أدونيس لرفيقه: أحببت هذه المدينة التي تبدو لي مثل مدينة يصعب أن تحتضنها بين دراعيك، أي انها أكبر من حضن، كما علق بنشيكر، قبل أن يضيف حسن أن أدونيس وجدها شاسعة، رحبة، مفتوحة ومنفتحة على جهات العالم، تستقبل الرياح من كل الجهات. هي مدينة عظيمة وحاضرة كبرى أساسية لا يمكن للمرء إلا أن يعتز بها وينتسب إليها ويعشقها؛ نظرا لذاكرتها الكروية والنضالية والإنسانية والثقافية والجمالية والفنية. الحياة اليومية فيها لا تشبه الحياة اليومية في المدن الأخرى. كمدينة تحس وأنت تغشاها، تنخرط فيها، تنتسب إليها، بأنك في فضاء غني بالرموز والعلامات. تحس بأنك مبتل بالمعنى في الدار البيضاء.
في بداية محور آخر من هذا الحوار، أخبر بنشيكر مشاهديه بأنه سيخصص للحديث عن مدينة بن أحمد، مسقط رأس ضيفه الكريم والمكان الصغير لكنه الكبير في نظره، وما قر في ذاكرته عن هذا المكان من أصوات العيطة و"الحلقة" والأسواق وثغاء الأغنام وخوار الأبقار وهي ترعى في المروج، بالإضافة إلى صهيل الخيول وغيرها من الأصوات، طالبا من صاحب ديوان "سقط سهوا" أن يضعنا أمام الشاشة الكبرى لذاكرته وحلمه وخياله ليعرض تفاصيل وصور هذا الحضن الذي ولد فيه والذي ما زال مرتبطا به بنوع من الوفاء.
اختار صاحب برنامج "قهيوة ولا أتاي" الذهاب رأسا إلى "العلوة"، مكان "العيطة"، ملتمسا من ضيفه أن يحدثنا عن ارتباطه الوجداني والأسطوري بهذا المكان. ورغبة منه في تحديد مناط كلام جليسه، طرح بنشيكر هذا السؤال: كيف تنظر إلى منطقة "مزاب" التي قلت إن حمامة نوح نزلت فيها؟
أجاب حسن نجمي بأن ما قاله نوع من التعبير لا يخلو من دعابة توحي بأن سيدنا آدم لما أنزله الله من الأعالي والجنان ووضع قدميه فوق اليابسة لم تكن هذه الأخيرة إلا تراب بن أحمد. وعندما سأله بعض الأصدقاء عن هذه القضية قال لهم: لأن هذه المنطقة بقيت كما تركها سيدنا آدم، لم تتغير.
جاءت روح الدعابة، كما يقول الشاعر، ليبين ويعبر بقليل من المضاضة عن إحساس بأن مدينة بن أحمد انعدمت فيها حاليا أشجار التوت بعدما كانت زاخرة بها، ناعتا هذا الصنف من الأشجار المثمرة ب"البلدي" والفائق الجمال إذا قورن بالصنف "الرومي" الذي كان هو الآخر حاضرا بعين المكان، والمهجن وفق منشط البرنامج.
لا زال حسن يتذكر طرق ومسالك بن أحمد وكيف أنها كانت مغطاة بججارة الرصف (pavés) وكان كل من يرتادها يشعر وكأنه يتمشى فوق شوارع باريس. كانت المدينة غاصة عن آخرها بالأشجار، ما جعل هواءها نقيا وعليلا وحباها بمناخ محلي (microclimat)؛ الشيء الذي حدا بالفرنسيين إلى أن ينشئوا فيها مستشفى لعلاج المرضى بالسل، وكان آنذاك أكبر مستشفى على صعيد القارة الإفريقية يضاهي من حيث الأهمية المستشفى الموجود بضواحي مدينة أزرو.
يواصل حسن نجمي النهل من ذاكرته الحية ليقول للمشاهدين أن ساكنة مدينة بن أحمد كانت متواضعة من حيث عدد سكانها إذ لم يزد عن خمسة عشر نسمة بينما تجاوز الآن ثلاثين ألف نسمة. ومع ذلك لم تتغير، إن لم نقل إنها أهملت كثيرا بشكل محزن ومؤسف.
ولاحظ مؤلف "الناس والسلطة" أن بن أحمد يغلب عليها الطابع الزراعي والفلاحي وهو ما يجعل من الممكن تعزيز اقتصادها المحلي بوحدات صناعية تنتج مواد غذائية اعتمادا على غلالها. ومن باب تداعي الكلام، ذكر حسن أن مدينته حاضنة لحي صناعي غير أن بناءه لم يكتمل كمشروع بفعل تسلط عدد من المنتخبين المخلين بالمسؤولية عبر تاريخها المعاصر، دون أن يعني ذلك أنها تعدم أناسا طيبين وأخيارا. وبحكم أن حسن واحد من هؤلاء الأخيرين، سأله مضيفه عن السبب الذي حال دونه وتحمل هذه المسؤولية، فأجاب بأنه لا يسكن في بن أحمد بشكل دائم، مؤكدا على أن الأمر يقتضي التواجد في المدينة وتحقيق النجاح بعد الترشح في الحي لنيل العضوية في المجلس البلدي بحيث يجب أن يكون المرء ملاصقا للناس وأن يقدم لهم يوميا خدمات مع إسنادهم ودعمهم والاشتغال معهم، أما وأنت تسكن بالدار البيضاء ثم تنتقل للإقامة في الرباط، فكيف يتسنى لك تسيير مصالح الناس؟ عبر الهاتف؟ هذا غير ممكن. يمكن للمسؤول البرلماني القيام بذلك، لأن العمل الأساسي للبرلماني يتم تحت قبة البرلمان، وبصفته ممثلا للأمة يدافع عن مدينته على المستوى المركزي في العاصمة لدى الوزرات والمصالح الحكومية المختلفة، إلخ..
على كل حال، يواصل حسن نجمي، يوجد بالمدينة أناس يمكن أن يلعبوا دورا مهما في إصلاح ما يجب إصلاحه واستدراك ما ينبغي استدراكه؛ إنما يفترض أنهم سيكونون في حاجة إلى من يساعدهم ويتعاون معهم من أجل تحقيق هذا الهدف، مع أنه ليس من السهل إقناع مسؤول حكومي بأن يسايرك لغاية تفعيل مشروع في مدينة تفتقد للموارد وتحتاج دوما لصندوق التنمية بوزارة الداخلية، إلخ..
استيحاء لما في السياسة من شجون، سأل بنشيكر ضيفه المحترم عن الحل الذي يقترحه من أجل إخراج المدينة من ظلمتها. بكل صراحة، أجاب حسن بأن ألف حل وحل وألف وصفة ووصفة تسقط في الماء؛ لأن هناك، في تقديره، وقالها بكل وضوح، إرادة معينة ضد هذه المنطقة، نوعا من السخط المنصب عليها. بالنسبة إليه شخصيا، يعتبر هذا الوضع السلبي، السيئ والمتردي لمنطقة بن أحمد، شأنها في ذلك شأن عدة مناطق ومدن أهملت (نسيت، على حد قول بنشيكر)، ناتجا عن قرار سياسي معين. للتدليل على قوله هذا، لجأ حسن إلى سجل ذاكرته ليتذكر المرحوم نوبير الأموي عندما خاطب مباشرة وزير الداخلية الراحل إدريس البصري أيام الاكتتاب لبناء مسجد الحسن الثاني، وكانت آنذاك مدينة سطات هي المدينة الأكثر ظهورا على شاشة التلفزيون مع حصولها على أعلى المداخيل. حينذاك قال الأموي للبصري: هذا غير ممكن، سيدي الوزير، كيف تحظى سطات بقدر من الدخل يفوق ما تحصل عليه الدار البيضاء التي تأوي أكثر من 70 % من أنشطة الاقتصاد الوطني؟ أجابه الوزير بأن ذلك ممكن.. فما كان من الأموي إلا أن رد عليه قائلا: اسمح لي، أنا أعرف مناطق في إقليم سطات فيها ناس في البادية يتعدر عليها الحصول على قوتها اليومي، وتعيش وضعا على درجة كبيرة من الصعوبة، ومع ذلك أرغم القروي على المساهمة في الاكتتاب، ليس لأنه يملك سيارة أو شاحنة، وإنما فقط لأن له كلبا أو دجاجة، هذا غير معقول، اللهم إن هذا لمنكر، ولا أملك إلا أن أستنكره. فقال البصري للأموي إنك لا تحوز على حجج تدعم قولك هذا، فرد عليه بأنه يستطيع أن يأتي له بعشر حجج من بن أحمد وأن يوافيه حتى بالأسماء إذا كان في حاجة إليها.
كانت هناك، يتابع حسن، دائما إرادة، لأسباب تاريخية وسياسية، ضد منطقة مزاب. ويعتقد المتحدث أن سكان هذه الأخيرة، من الناحية التاريخية، على عهد السلطان مولاي عبد العزيز، تعرضوا لمحن حقيقية تكلم عنها مؤلف كتاب "إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس"، المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان، وصاحب كتاب "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى"، أحمد بن خالد الناصري الذي وصف كيف أن الدولة المركزية مارست نوعا من التقتيل والإهانات. تخيل أن كبار منطقة بن أحمد اقتيدوا وقد لفت على رقابهم الحبال وتم سحبهم وهم ماشون على الأقدام تحت إمرة فرسان المخزن في تلك الفترة في اتجاه سجن الصويرة. من هؤلاء المعذبين من مات في الطريق ومنهم من لفظ أنفاسه في سجن الصويرة، ومنهم قياد المنطقة، يقول حسن مؤكدا على أن هذه المعطيات مذكورة في كتب المؤرخين.
منذ ذلك الوقت، "بن أحمد ما ربات الريش". وفي إحدى المرات، استدعت عمالة سطات برلماني بن أحمد، المرحوم الحاج أحمد المعروفي، لحفل أقامه إدريس البصري ودعا إليه منتخبي المنطقة ورجال السلطة والأعيان، وفي غمرة الاحتفال رفع المعروفي أصبعه ملتمسا من الوزير السماح له بالكلام ليقول له إن بن أحمد تعاني من العطش، فقال انتظر حتى يتم تزويد سطات بالماء ليمكن لك الحديث عن بن أحمد. مرة أخرى، في اجتماع آخر مع إدريس البصري، اقترح عليه نفس النائب البرلماني إنشاء وحدة صناعية في بن أحمد لأجل توفير مناصب الشغل لجزء من ساكنتها، فقال له الوزير البصري: انتظر حتى تحصلوا على الماء ليتسنى لكم بعد ذلك المطالبة بمصنع.
هنا، في هذا المقام، تذكر حسن نجمي قصة "العروبي" مع الكلب الذي وجده ذات صباح من صباحات رمضان "يشمشم" حول المطبخ فضربه وقال له: "شفتينا طيبنا شي حاجة وخبيناها عليك؟". في المساء، قبيل الإفطار، عندما انتهى أهل الدار من إعداد حساء "الحريرة" وانتشرت رائحتها في الأرجاء جاء الكلب ليحوم حول المطبخ كعادته، فعالجه رب البيت بضربة عنيفة موجعة قائلا له: "شفتك كتسابق معنا، ظال صايم؟"
لم يتمالك بنشيكر نفسه من الضحك بعد سماعه هذه القصة القصيرة، إذا جاز التعبير، التي حكاها له ضيفه للتو. ثم ما لبث أن قال مفترضا أن أبناء هذه المدينة يتحملون المسؤولية في وضعها الجامد، وهو ما تجاوب معه حسن باتفاق صريح، معلنا أنه على استعداد لأن يمده بعشرات الأمثلة الدالة على تدخل أبناء المدينة في لحظات معينة إلا أنهم يحبطون في نهاية المطاف، وهذا ما جعله يقول، متمنيا أن يكون مخطئا، إن هناك إرادة ضد هذه المنطقة لإهانتها وتركيعها. في هذه الوهلة من زمن الحوار، سأل صاحب البرنامج ضيفه عما إذا كانت هذه العقلية باقية حتى اليوم. بثقة عالية في النفس، أجاب مؤلف
كتاب "غناء العيطة: الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب" بأنها لا زالت مستمرة إلى يومنا هذا. ثم تساءل باستغراب: هل هذا معقول؟ نفس الشيء قاله في شهر غشت من سنة 1995 في ملتقى الطرق عند مخرج بن أحمد في اتجاه الكارة والدار البيضاء وخريبكة. هنا أقيمت وثاقات وخيام لاستقبال وفد برئاسة الراحلين عبد الرحمن اليوسفي والفقيه محمد البصري ونوبير الأموي وعدد من قادة الحركة السياسية والحركة النقابية. كان حسن نجمي هو من ألقى كلمة الترحيب بالوافدين مشيرا في ثناياها إلى أشياء من هذا القبيل؛ مثل اللحظات التي وضعت فيها العراقيل أمام الممارسة الديمقراطية الحقة في هذه المنطقة. كما ذكر في هذه المناسبة أن هذا مفترق طرق الذي تجتمع فيه الذاكرة والتاريخ: بن أحمد، الكارة والمذاكرة الذين ينتسب إليهم أحمر بن منصور (أحد المقاومين الذي تصدى للزحف الفرنسي الاستعماري خلال سنتي 1907 و1908)، الدار البيضاء كمدينة للمقاومة أنجبت الزرقطوني واحتضنت الحركة النقابية، خريبكة ووادي زم، مدينة 20 غشت 1955، إلخ.. وعندما قال حسن إن هذه المدينة أنجبت لنا أحد القادة النقابيين الكبار، استدعت اللباقة عدم ذكر اسمه بحكم حضوره، تفاعل معه سي عبد الرحمن اليوسفي في لحظة من زمن الكلمة التي ألقاها بالمناسبة مصرا على ذكر اسم الرمز النقابي الذي استنكف حسن عن ذكره وهو نوبير الأموي الذي نوه به اليوسفي، وخص بالذكر أيضا اسما آخر كبيرا جدا وهو أستاذهما الفقيه محمد الحمداوي، أحد الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال وابن بن احمد والزاوية التاغية والعلوة.
من كل ذلك، خلص حسن إلى أنه ينبغي تكريم هذه المنطقة. حرام أن تبقى متردية مثل نطيحة ساقطة من أعلى سفح الجبل، هذا غير معقول، على حد تعبير شاعرنا الكبير. يجب، وفقه، التفكير في المناطق المظلومة المقصية المنسية المهملة لأسباب تاريخية أو سياسية أو أمنية، إلخ.. فعلى أي حال هي جزء من هذا البلد وهذا الشعب العظيمين، وبما أن ساكنة بن أحمد جزء لا يتجزأ من هذا الشعب العظيم، يمكن، من خلال تكريم مدينة بن أحمد، أن يكرم رموزها وأسماؤها التاريخية ومقاوموها. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، أكد نجمي أن عددا من المقاومين الكبار في حركة المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الأجنبي في الدار البيضاء يتحدر من هذه المنطقة، فضلا عن المقاومين الذين مكثوا هناك وعاشوا إلى أن توفاهم الأجل.
انتبه بنشيكر إلى أننا نجد نفس الوضع في مناطق منسية كذلك، خاصة في المغرب العميق. وبالمثل، انتبه نجمي إلى أننا في حاجة إلى عدالة مجالية تتفرع إلى عدالات: سياسية، اقتصادية، اجتماعية. نحن في حاجة إلى عدالة مجالية ليعاد الاعتبار إلى المجال المغربي ككل، حيثما كانت منطقة أهملت لأسباب سياسية، مثل منطقتي الرحامنة والريف وغيرهما. نحن على علم بالمبادرة الكبرى والسامية التي تكرم جلالة الملك بإطلاقها في الريف وبتلك المماثلة لها في الرحامنة والتي تميزت بدخوله التاريخي إليها، وكيف أصبحت منطقة الرحامنة منطقة أساسية. هناك بعض البقع اعتبرت كبقع سوداء ما يعني أن هناك إرادة للدولة في إقصائها، في تأديبها وفي عقابها، لكن مع العهد الجديد الذي تولى فيه جلالة الملك مقاليد الحكم في بلادنا، قام جلالته بمبادرات مهمة في إطار أوراش، مثل تلك المتسمة بطابع حقوقي والتي أفضت إلى إنصاف أولئك الذين عانوا الأمرين في سنوات الجمر والرصاص، إنصاف اللغة والثقافة الأمازيغتين، ورد الاعتبار إليهما من خلال إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وإدراج اللغة الأمازيغية في الدروس والتعلمات والكتاب المدرسي.. كل هذه المنجزات هي مكتسبات مهمة، غير أن ما يجب القيام به هو.. وتوقف حسن عن الكلام لما قاطعه مضيفه وكأنه يريد من ضيفه أن يستفيض في الحديث عن الأمازيغية عندما ذكره بقرار الاحتفال بالسنة الأمازيغية، وهو ما سار نحوه أبو ريم، فبادر بالإشارة إلى آخر المبادرات المتمثلة في إقرار رأس هذه السنة يوم عطلة كباقي العطل، معتبرا أن هذه المبادرات مهمة جدا لأن من شأنها أن ترص الصفوف وتخلق ديمقراطية اجتماعية ولغوية وثقافية مهمة لبلادنا، ومقوية للنسيج الرمزي الذي يوحد كلمة المغاربة ويجمع صفوفهم. لهذا، يتابع حسن، لا ينبغي أن تكون هناك منطقة من المناطق أو مدينة من المدن ينتابها إحساس بالغبن، هذا غير مقبول، ولم يعد كذلك ونحن في بداية الألفية الثالثة.
في حركة تواكب البحث عن حسن تخلص مشوب بأدب، اقترح بنشيكر على ضيفه العزيز الخروج من منطقة بن أحمد مع الاحتفاظ منها بصوت العلوة الذي نشأ في نطاق ضيق ثم لبث أن اكتسى بعدا وطنيا، وكأنه منتوج قابل للتصدير، فعندما نقول العلوة يتبادر إلى ذهننا أغاني العيطة وأغاني الشيخات. أنت، سي حسن نجمي، أول من تجرأ على إسقاط كليشيهات معينة فرضت على الشيخات وارتبطت بعدة مفاهيم وتوارثتها الأجيال وأصبح الكل يستحيي من ذكر كلمة "الشيخات" أمام والديه. لقد قمت برد الاعتبار إليهن، جئت بهن إلى مدرج كلية الآداب والعلوم الإنسانية وقدمت أطروحتك وناقشتها بحضورهن. خرجت بهن من غياهب النسيان وقمت بتقديمهن إلى العالم. والآن، إذا كانت هناك للعيطة والشيخات قيمة اعتبارية، فالفضل في ذلك يعود إلى مجموعة من الأساتذة منهم أنت سي حسن وبوحميد الذي ضحى كثيرا في هذا المجال. صحيح أنك دافعت عن العيطة وغناء الشيخات وأظهرتهما كمشروع وطني وها العيطة الآن قابلة للتصدير حتى إلى العالم العربي، ألا يعني هذا أنها أخذت حقها وزاغت عن الطريق إلى حد ما، وخانت تلك الطريق التي ارتسمت لها من الأساس منذ بداياتها في منطقة بن أحمد؟
في بداية جوابه على هذا السؤال الذي شكر عليه مضيفه، أشار حسن نجمي إلى أن هناك مستويين، أولهما يتعلق بالعلوة التي هي عبارة عن قصيدة في العيطة المغربية وتندرج في غرض من الأغراض الشعرية. هنا، لأجل تحقيق مطلب التوضيح البيداغوجي، استحضر حسن أغراض الشعر العربي، الكلاسيكي الفصيح، الحديث، والشعر الشفوي عموما، من مديح، وفخر، ووصف للطبيعة، وهجاء وغزل، إلخ.. فكذلك العيطة لأن فيها شعرا شفويا عظيما وفيها أغراضا، منها ما يسمى بالساكن الذي يؤدى كغناء صوفي وروحي يبدأ دائما بذكر الله ورسوله، يليه مديح لذكر ولي من أولياء الله الصالحين، مثل الشريفي بويا رحال أوسيدي مسعود بنحساين أو مولاي عبد الله (بنشيكر: سبعة رجال) أو سيدي عبد السلام بنمشيش، بحسب كل منطقة منطقة، وعادة ما يتم هذا المديح بذكر مناقب الولي الصالح وإمكاناته الروحية والدينية والتاريخية.. العلوة مديح لعدد من الأولياء الصالحين دفيني منطقة بن أحمد مزاب. هذا ما ظهر لبنشيكر كمسح إبستيمولوجي، فيما بدا لحسن إثنوغرافيا، بل تمثله كرحلة روحية عبر المكان وعبر الزمان.
من جانبه، أبدى صاحب البرنامج إعجابه بالطريقة التي تقدم بها عيطة العلوة، وتفسير ذلك عند حسن نجمي أنها تنطوي على مقام البياتي الذي به تغنى، وأنها تؤدى باربع طرق في نفس المقام؛ فعندما تسمعها عند صاحب بلمعطي أو عند قرزز ومحراش، رحمهما الله، أو عند صالح والمكي تجد هناك بعض اللمسات، وأحسن من أداها حقيقة هو الشيخ أحمد بن قدور الذي فقدناه في السنة الماضية.
بالنسبة إلى حسن نجمي، العلوة فيها حضور جغرافي ووصف للأماكن وأولياء الله الصالحين. في بداية جواتها في منطقة مزاب تبدأ من بن أحمد وتمر تدريجيا عبر أرجاء المنطقة ككل، بحيث أن كل شيخ يعرف منطقته ويؤدي عيطة العلوة وفق خصوصيتها، مثل أحمد ولد قدور الذي هو أحسن من يؤديها لأنه تجنب التداخلات، وغنى العلوة وفق خصوصية المنطقة التي كان يعرفها جيدا، كان يقول: أنت يا بويا جيلالي، فيك العلام تشالي؛ أنت يا بويا بوزيان كذا.. ومن بعد ينتقل إلى "الحاج التاغي الطلبة فيك تلاغي"، الذي يبعد عنه ضريحه بحوالي كيلومترين. ثم يواصل جولته ليصل إلى سيدي محمد التامي الكائن ضريحه وسط المدينة، ثم إلى سيدي محمد الفكاك ولالة فاطمة لكحيلة، و"سيدي حجاج، السفينة ما تعواج"، و"سيدي محمد البهلول، مول السر المكمول"، إلخ.. هكذا، يواصل تجواله وكأنه يمشي على قدميه.
العلوة، يسترسل حسن، هي جزء من التراث الغنائي والشعري والموسيقي الخاص بالعيطة المغربية. فجميع الشيوخ والشيخات المتخصصين في العيطة، إلى جانب الفنانين الشباب الجدد الذين يؤدون هذا الفن الشعبي، أخذت بعدا وطنيا، وبعدا إقليميا لما بدأ بعض الشباب في غنائها بدول الخليج للعرب الأشقاء، ووجدناها أيضا حتى في بعض الأداءات على المستوى العالمي إما مع عرب في أوربا أو في الولايات المتحدة الأمريكية. كتبت عليها دراسات خاصة بحكم أن فيها جانبا روحيا (المقدس) وجانبا اجتماعيا.
في هذا الموضع من الحوار، تدخل بنشيكر مشيرا إلى ارتباط أغنية العلوة بالمكان بحيث أن كل من استمع إليها إلا وتذكره بالمغرب؛ وهو ما اعترف حسن بصحته مستبعدا إمكان الشك في هذه الحقيقة.
في المستوى الثاني الذي ألمح إليه بنشيكر والمتعلق بالاهتمام بالعيطة، قال حسن نجمي إنه اهتمام علمي بالأساس أثمر أطروحة أشرف عليها الدكتور إدريس بلمليح الذي اقترح أن لا داعي لكتابة العلوة في العنوان مقترحا الإشارة فيه إلى الشعر الشفوي، ويبقى بالتالي للأستاذ الباحث (حسن) أن يدون في صفحات الرسالة ما يشاء. فرد عليه حسن بلا؛ لأنه في الأساس واع بأن إعادة الاعتبار إلى تعبير شعري شفوي غنائي موسيقي لن تتم عبر إرادة الأفراد وإنما عبر المؤسسات، ولذلك أنجزت ملفات على صفحات جريدة "الاتحاد الاشتراكي". فتساءل البعض: كيف لهذه الجريدة المنتمية لليسار والتي تتناول القضايا بجدية أن تهتم بالعيطة؟ حال لسانهم يقول: هيا بنا نرى ماذا كتب، وإذا ما قرأوا ما نشره حسن تتغير نظرتهم إلى الأمور. تم تصريف هذا الاهتمام في الجامعات عبر الأطروحات، ثم عبر الكتب.
في هذا الصدد، تذكر المتحدث حسن بحراوي يوم اجتمع أعضاء اتحاد كتاب المغرب، وكان حسن آنذاك على رأس المكتب المركزي، وكيف أنه جمع بعض مقالاته وأراد نشرها في كتاب على حسابه الخاص، فحذره الرئيس من إضاعة قيمة هذا التأليف لأن الناس سوف يعتبرون أنه أنجز عملا شخصيا. وارتأى حسن أنه يجب طبع الكتاب في إطار اتحاد كتاب المغرب، ويبقى لبحراوي أن يأخذ مقدار ما يريد من النسخ، بل أن يأخذها جلها ويترك فقط منها خمسين نسخة لتبقى في أرشيف الاتحاد. ولما صدر الكتاب، أنتبه الناس إلى أن اتحاد كتاب المغرب، برصيده وتاريخه ورمزيته ومكانته ودوره الطليعي في الحركة الثقافية داخل البلد وعلى المستوى العربي، يهتم بالعيطة. في ذلك، رأى حسن نوعا من رد الاعتبار للعيطة التي نادى بلزوم تدريسها في المعاهد الموسيقية وفي الجامعات.
اعتبارا لما ورد في سؤال بنشيكر، قال حسن إنه لما ذهب لمناقشة رسالة الدكتوراه وجد أن الأصدقاء والزملاء من إدارة الكلية أعدوا له قاعة محمد حجي الصغيرة التي تأوي طاقتها الاستيعابية بالكاد ثلاثين شخصا، فنبههم إلى أن المشكل لا بد وأن يطرح انطلاقا من يقينه أن عدد الحضور سوف يكون كبيرا نظرا لأن الجريدة نشرت إعلانا عن تاريخ ومكان مناقشة الأطروحة. لإيجاد حل للمشكل، تدخل نائب العميد، وقرر أن يجري الحدث في الخزانة (المكتبة الوطنية، حاليا)، لكن نجمي اعترض بدعوى إذ ذهب إلى هناك لن يجد من يعطيه الدكتوراه وسوف يعتبر الأمر كنشاط ثقافي. عندها، طمأنه الأستاذ الجامعي بأن الأمور لن تكون هكذا، لأن هذا هو المكان الذي سبق للدكتور العلامة محمد بن شريفة أن ناقش فيه أطروحته، وكذلك الباحث الرصين محمد مفتاح، ولكن عندما تذهب إلى هناك للدفاع عن أطروحتك يكون معك العميد أو نائبه مكلفا بالتوقيع على الشهادة. فاطمأن قلب حسن وتبددت معالم المشكل وكأنها سراب.
كان الحضور حاشدا ونوعيا، وكان أن شرفه بالحضور عدد من المثقفين والأساتذة والكتاب والمبدعين الذين منهم من أتى من مدن أخرى. بدون مبالغة، كانت إمكانيات التصوير والتسجيل متوفرة. من ضمن الحاضرين، كان هناك عميد الأغنية المغربية الأستاذ عبد الوهاب الدكالي والمرحوم الطيب الصديقي والمرحومة ثريا جبران والفنانة الكبيرة نعيمة المشرقي وعدد من الإخوان من "تاكدة" و"ناس الغيوان"، ومن الفرق الغنائية حضر "أولاد بن عكيدة" (بنشيكر: خلقت حدثا في الجامعة) و"أولاد البوعزاوي" وحجيب. وهكذا صنع حدث حقيقي، وكان النقاش غنيا جدا وممتعا وطريفا.
يتذكر حسن نجمي بعض الوقائع، رغم انشغاله بالمناقشة مع الأساتذة، ومنها أن الغاية تمثلت في رد الاعتبار لتعبير موسيقي مهمل منسي مكبوت مهمش عن الثقافة القروية في المغرب وعن روح المزارع المغربي والرعاة في القرى، خاصة عند القبائل المرتبطة بالجذور العربية والتي جاءت إلى المغرب واستوطنته منذ القرن الثاني عشر الميلادي في عهد الدولة الموحدية.
منذ ثمانية قرون تقريبا، يتابع حسن، بدأت العيطة تنمو وتتبلور في الفضاء المغربي إلى أن اخذت الشكل الذي رست عليه في ما بعد. لكنها ما لبثت أن ظلمت عن جهل لما بدأ الناس يقولون إنها تحتوي على كلام خادش للحياء العام ومحرج للعائلة التي تستمع إليها، ويخلطون بين الشيخة والمومس، وهذا فيه ظلم، مع أن الشيخة تصنع الفرح. كلمة "شيخة" تعني معلمة، أستاذة في مجالها. غير أن بنشيكر لما أشار إلى أن هناك جنوحا، قال له حسن: خذ كل التعبيرات الموسيقية، خذ أي لون موسيقي في المغرب وفي العالم تجد فيه جنوحا أو انحرافا يأتيه عدد محدود من الأشخاص، لهذا لا يستقيم تعميم هذا الحكم على الآلاف الذين لا يمكن أن يكونوا جميعهم منحرفين.
بالفعل، قام حسن ببحث ميداني عبر تسعة مناطق والتقى بعدد من الشيوخ والشيخات، وصرح المتحدث، بدون أدنى مبالغة، مع أداء قسم اليمين، بأنه وجد الشيخات مثل متعبدات، زاهدات. ولا يقول ذلك دفاعا عن العيطة بنوع من التحايل الأخلاقي أو الروحي أو الديني. والشيخ لا يذهب ليغني أو يعزف إلا بعد أداء واجبه الديني. ليس هناك فرقة من الشيوخ أو "الشياخ" المؤدين للعيطة لا تتوقف عن الغناء والعزف والرقص عند رفع آذان صلاة العصر أو صلاة المغرب، ولا يستأنفون وصلتهم الغنائية إلا بعد انتهاء الأذان بوقار واحترام وتقدير . إطلاق جمل مجانية فيه ظلم ليس للعيطة ولكن للموسيقى المغربية وللشخصية الثقافية المغربية. إذا انحرفت سيدة واحدة فهذا لا يعني أنها "سمكة خنزت الشواري كلو".
وعندما سأل بنشيكر ضيفه: من أين استمدت هذه الحمية وهذه الغيرة؟ أجاب بأننا في منطقة الشاوية جزء من المناطق.. قاطعه بنشيكر ليقول له: أنت كاتب وشاعر وتنتمي للنخبة وعلى يقين بأنه يجب رد الاعتبار لهذا الفن..هل هناك جهة أو شخص حبب إليك هذا الفن؟ استعاد حسن الكلمة مؤكدا أن الأذن تتربى على تعبير موسيقي رائج في الأسواق والأعراس والحفلات. في ما يخص منطقة بن أحمد، ليس لدينا شيخات، بل لدينا "الوتايرية" كقرزز ومحراش وصالح والمكي العوني والعراش، إلخ.. هذه الثنائيات تنتمي إلى منطقة مزاب. وإذا أبناء المنطقة للشيخات يأتون بهن من مناطق أخرى. لا زال حسن يتذكر وهو مع أقرانه الصغار كيف شاهد لأول مرة فرقة المرحومة زهرة بنت مية بصحبة ثلاث نساء وهن يقمن حفلا غنائيا للترفيه عن نساء الدوار. لم يكن عندنا شيخات.. في زمن ما، أسس الشيخ النويشط، ابن بن أحمد، فرقة لكن مشروعه لم يحالفه النجاح، لكن عددا من أبناء المنطقة في الدار البيضاء وخريبكة تقفوا أثر صالح المزابي الأول، أما صالح المزابي الحالي فهو رجل فنان حقيقي موسيقيا وشعريا وكاتب لنصوص على درجة كبيرة من الأهمية، وسجلت الشيخة الوليدة في 1931 و1932 و1933 أغاني من العيطة المرساوية، وهي أولى التسجيلات التي تمت من قبل الفرع المغربي للشركة الفرنسية في نهاية العشرينيات. كانت من أولى الشيخات اللائي سجلن أغاني العيطة.
من كل ما تقدم، يستنتج حسن نجمي أن هتمامه نابع من اختيار ثقافي واختيار علمي؛ لأن الجانب الثقافي، في تقديره، ووفق ممارساته الثقافية ووعيه وإدراكه وقراءاته واطلاعه، يعاني الحقل الثقافي في المغرب من اختلالات. وإذا كان المغرب قد حقق تقدما على مستوى تعبيرات وممارسات ديمقراطية في عدد من الحقول الاقتصادية أو السياسية أو غيرها، نجد أنه في الحقل الثقافي لم تتحقق الممارسة الديمقراطية فعليا. ظلت هذه الاختلالات متواصلة. وحسب الأطروحة التي اشتغل عليها، والمصادر والمخطوطات والكتب والمؤلفات التاريخية التي استعان بها، والحفريات التي قام بها والحفر الميداني، اكتشف أن الاختلال بدأ في عهد الدولة المرينية، منذ سقوط الأندلس ومجيء المورسكيين الذين خلقوا نقطة تحول في الحياة الاجتماعية والاقتصادية وفي الحياة الثقافية المغربيتين، وساد النموذج الأندلسي في الطبخ، في اللباس وفي المهارات كلها التي جلبوها معهم، وكانوا متفوقين في الصناعة االتقليدية وهم من جاءوا بالناعورة إلى الفلاحة المغربية. حتى الخبزة المدورة من وارداتهم، وحلت محل الخبز المغربي الذي كان يدعى "تافرنوت" وذا طابع أمازيغي (الشيار، المسمن، العيش). إخواننا الأندلسيون هم أول من أدخل "النزاهة" التي تقام على ضفاف الأنهار في فصل الربيع والتي استدعت تعبيراتهم الشعرية. اتوا فعلا بإضافات وقيم مضافة للثقافة والمجتمع المغربيين، وأصبحوا في نفس الوقت نموذجا منتصرا وتبنت الدولة المغربية (المخزن) هذا البراديغم، هذا الإبدال الثقافي الأندلسي كخيار ثقافي واجتماعي رسمي، وأصبح من الضروري تقليد الأندلسيين في إقامة الأعراس، في اللباس، في طريقة الكلام، إلخ.. وهكذا ظهرت التراتبيات الاجتماعية: هذا "عروبي خماكي"، هذا "شلح قروفي"، هذا مديني، هذا يهودي، إلخ.. وانتشرت هذه اللغة التي تعبر عن الاختلال الثقافي، وانطلق إلحاق الظلم بالعناصر الإثنية والاجتماعية، وأصبحت لهجة الناس المتحدرين من شمال البلاد أو من الشرق أو المناطق العربية أو من منطقة سوس محط سخرية. وجاءت مرحلة الحماية الاستعمارية فكرست هذه الاختلالات وحدث نوع من التراتبية في النظام الثقافي الذي ينعدم فيه الإنصاف والعدل الثقافيان واللغويان، ولم تفلت الأمازيغية من هذا الذل.
هذا التنوع كله غنى وثراء، حسب بنشيكر. هذا ما أكد عليه حسن نجمي بقوله إننا في المغرب نتوفر على اثنين وخمسين نوعا وتعبيرا موسيقيا لا توجد حتى في مصر أم الدنيا. 52 لونا وتعبيرا موسيقيا لا توجد حتى في الدول العربية مجتمعة، كل واحد منها مستقل بنظامه الموسيقي والشعري. العيطة الحوزية، مثلا، فيها إحدى عشر قصيدة. توجه إلى شيوخ الحوز الآن لا تجد عندهم هذا العدد من القصائد..
يوجد عندهم أحد عشر قالبا موسيقيا ولم تبق عندهم سوى ست قصائد، عندما تطلب منهم أن يغنوا لك عيطة ما لم يبقى عندهم كلامها، ويكتفون بأخذ القالب ليصبوا فيه كلاما من الجوار. وهنا لاحظ بنشيكر أن هناك ألوانا اندثرت، فقال له حسن: يا رجل، اللغات تندثر. اليونسكو تدق ناقوس الخطر كل سنة منذرة باندثار عدة لغات إنسانية، هناك لغات في العالم يتحدث بها اليوم أقل من 100 شخص وإذا مات هؤلاء المائة تنقرض تلك اللغات الإنسانية. الفنون الشفوية هي الأخرى تنقرض. هذا الوضع الخطير أوحى لبن شيكر باستحضار دور وزارة الثقافة في هذا الشأن ومجهودها للتوثيق كما فعلت مع أنطولوجيا الآلة والملحون. قال له حسن إن هذا العمل أنجز في عهد محمد بن عيسى، وسي محمد الأشعري لما كان وزيرا للثقافة أعد 30 قرصا مدمجا تتضمن جزء من تلك التسجيلات ولا زالت موجودة، لكن يجب أن تكون العيطة من أولى الأولويات بحيث يجب الأسراع بوضعها لدى اليونسكو لتعتبرها تراثا إنسانيا لأنها الأكثر عرضة للتهجمات والعنف الرمزي. بدأت منذ القرن الثاني عشر الميلادي وفي الأسبوع الماضي تم تكريس الملحون والاعتراف به في إطار الثقافة العربية. والملحون بدأ في القرن السابع عشر. على أي أساس وقع هذا الاختيار؟ وبأي معيار تفضل هذه الموسيقى عن تلك؟ أو هذه الموسيقى لها الأسبقية على تلك الموسيقى؟ هل لاعتبار تاريخي؟ هل لأنها معرضة للانقراض أكثر من غيرها؟ (بنشيكر: هل لأنها مهددة بالقرصنة؟). ربما لأنها موسيقى في خطر، بتعبير اليونسكو، ومعرضة للاندثار. لما ماتت فاطنة بنت الحسين والحاجة الحمونية وحفيظة الحسناوية والبوعزاوي الأب ومصطفى البيضاوي، تكون مكتبات قد احترقت، وفق التعبير الإفريقي. لا يمكن تعويض فاطنة الحسين بفاطنة أخرى. لأنهم خلال سنوات عديدة حفظوا المتون وقاموا بأدائها لذلك ينبغي حماية التراث الثقافي الوطني على أسس موضوعية وواضحة. وما دام الأمر كذلك، طلب بنشيكر من ضيف أن يأخذ بهذه المبادرة، فرد عليه بأنه من غير الممكن أن يأخذ بها لأنه ليس مسؤولا. ذلك غير ممكن في ظل غياب استراتيجية ثقافية وطنية، وفي غياب حوار حول الثقافة الوطنية، وفي ظل الانقطاعات الحاصلة، في ظل المسافات الفاصلة بين المؤسسة الثقافية الرسمية والمؤسسة الثقافية الشعبية والاجتماعية. لا زال هناك من يسمي العيطة الجبلية بالطقطوقة الجبلية مع أننا نبهنا إلى أن ذلك خطأ. أولا، الطقطوفة مصطلح مشرقي، ثانيا هي لون موسيقي خاص بالسكارى في آخر الليل، فيه نوع من الارتجال، بينما العيطة أغنية مركبة، فيها المقدمة والفصول والسوسة الأخيرة والطمة، فيها نظام موسيقي وشعري مركب وملحن، فيها مقامات، إلخ..