" إن القسوة تقابلها قسوة، والشدة تقابلها شدة إلى ما لانهاية، والنتيجة تخريب الحياة، لكن اللين تقابله المحبة والتسامح ويفضي إلى بناء الحياة.
فأيهما أفضل أن تزرع شوكاً أم وردةً في طريق الإنسانية؟ ".
* * *
تُعرف " موسوعة علم النفس " العنف بأنه " السلوك المشوب بالقسوة والإكراه، وهو عادة سلوك بعيد عن التحضر والتمدن، تستثمر فيه الدوافع والطاقات العدوانية استثماراً صريحاً بدائياً، كالضرب والتقتيل للأفراد، والتكسير والتدمير للممتلكات واستخدام القوة لإكراه الخصم وقهره ".
وبالنظر إلى المصطلحات الواردة في هذا التعريف ( الضرب، التقتيل، التكسير، التدمير ) نلاحظ أنه لا يعطي العنف المعنوي أدنى اعتبار، مع أن الإساءة ( أو العنف ) باللسان أبلغ تأثيراً في النفس من العنف الجسدي في بعض الأحيان.
ويأخذ العنف العديد من الأشكال منها، العنف ضد الآخر، العنف ضد المرأة، العنف ضد الذات، العنف ضد الطفل، العنف النفسي، العنف الأسري، ومن هذه الأشكال نستطيع تحديد العنف في مستويين اثنيين هما:
- العنف المادي: كالضرب والقتل والتدمير..الخ.
- العنف المعنوي: ويشمل كل ما يسبب الإساءة للأخر ويترك أثراً في النفس كالسب والشتم والتحقير.
1- العنف والعنف المضاد:
يقال بأن " العنف يولد العنف ".
ويقول الشيرازي في كتابه " نظرية اللاعنف " " إن القسوة تقابلها قسوة، والشدة تقابلها شدة ".
ومن خلال هذين القولين نرى أن العنف لا يكون دائماً غير مشروع بل الذي يحدد مشروعيته من عدمها هو الدافع، فعلى سبيل المثال أن العنف الذي يمارسه المُسْـتَعِمر يخالف العنف الذي يقوم به المُسْـَتعْمَر، لأن عنف الأول يريد به السيطرة على المُسْـتَعْمَر ونهب خيراته وثرواته، أما عنف الثاني فهو كرد فعل على عنف الأول، ويريد به الحفاظ على حياته ووجوده، ونستطيع أن نطلق على هذين النوعين، العنف السلبي الذي يتجه إلى تدمير حياة الآخر، والعنف الإيجابي الذي يتجه إلى الحفاظ على حياة الأنا الضعيفة، ومن ذلك رؤية " فرانز فانون " في عملية إزالة الاستعمار بأنها ليست عملية قومية من حيث الشكل فقط، بل هي عملية عنيفة من حيث الموضوع، فالاستعمار في نظره مرادف للعنف السياسي والعسكري والثقافي والنفساني، ومن ثم فلا يمكن أن يَـقضي عليه إلا عنف مماثل ومعاكس في جميع المجالات.
2- مولدات العنف:
يتولد العنف عن طريق جدل القوة والضعف، فالقوي يريد السيطرة على من هو دونه، ذلك أن الحياة عبارة عن صراع وفق المنظور الغربي المسيطر، ولغة الصراع الوحيدة في حالة غياب العقل هي العنف، فيلجأ الذي يملك القوة إلى استعمال هذه اللغة بغية حيازة المزيد من الطعام والأرض والمواد الخام والسيطرة، وهذه الصورة من العنف نلمسها في عالم الإنسان على مستوى الفرد أو الجماعة ( بما فيها الجماعة العالمية ) فالاعتداءات التي تقوم بها أمريكا بعد انفرادها بقيادة العالم، وذلك بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي ضد الدول الضعيفة ( أفغانستان 2001 ، العراق 2003 ) تدخل تحت إطار هذه الصورة من العنف. هذا على مستوى الجماعة العالمية.
أما على مستوى الفرد فأبلغ مثال على ذلك هو العنف الممارس ضد المرأة سواءً أكان عنفاً معنوياً أم جسدياً، في الوسط الأسري أو في مراكز العمل، وهذا العنف نتاج شعور الرجل بالقوة، والنظر إلى المرأة نظرة دونية واحتقار وضعف.
هناك مولد آخر يؤدي إلى ظهور العنف واستشرائه بصورة رهيبة، ويتمثل في جدلية الأنا والأخر، الـ " نحن " والـ "هم " ذلك أن من يريد أن يسيطر و " يتسيد " يحاول " تنظيم عالم ينقسم انقساماً ثنائياً " كما يقول " فرانز فانون "، هذا الانقسام يؤدي إلى ظهور بيئة عنيفة يتجاذبها طرفا الصراع والغلبة للأقوى، لذلك كان فرويد يرى بأن السلم العالمي لن يتحقق في ظل الفرقة والانقسام، والسبيل الوحيد هو الاتحاد حيث يقول " إنه لا يمكن كسر العنف إلا بالاتحاد لأن في الاتحاد قوة "، ومن الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن العنف في بدايته قد يكون نتاج فكرة، وليس عبارة عن سلوك عنيف فقط تقوم به جماعة ضد جماعة أخرى، فالاستعمار الغربي لدول أفريقيا وأسيا وأمريكا كان تحت مسوغ تحضير المجتمعات بإخراجها من دائرة البداوة والتخلف إلى المدنية والتطور.
يشير علماء النفس إلى داعي آخر يولد العنف وهو الإحباط، ويفسرون هذا المصطلح بكونـه " الاضطراب في السلوك نتيجة عدم تحقيق استجابة من هدف يسعى إليه الفرد "، أو هو " حالة من يحرم من إشباع مشروع، ومن خابت آماله" بمعنى عندما يكون هناك عائق بين الفرد ورغباته فإن ذلك الفرد يحاول أن يعبئ أكبر قدر من طاقاته، فإذا استمرت التعبئة دون أن يرافقها نجاح فإنها تميل إلى التعبير عن نفسها بسلوك تدميري، وهذا ما يطلق عليه بعض الباحثين بـ " الحرمان غير المهم " و " الحرمان المهم " وهذا الأخير هو الذي يهدد الشخصية أو الحياة للفرد، والنتيجة الأخيرة هي العنف.
ويمكن الإشارة هنا أن العنف في بعض الأحيان يتجه إلى تدمير ما هو خارجي إذا كان يمتلك القدرة على ذلك كتدمير ممتلكات الغير مثلا، أما إذا كان عاجزاً عن إلحاق الضرر بالأخر فإن سلوكه التدميري سيتجه نحو الداخل أي ضد ذاته كالانتحار ( والانتحار هو عبارة عن عنف ضد الذات، شعوري وإرادي يسبب الموت ).
ويَفسر هذا السلوك التدميري من طرف الفرد ( أو الجماعة ) على أنه عملية تنفيس يحافظ الفرد بواسطته على ذاته والجماعة على وجودها من خلال تحويل نزاعات تدمير الذات إلى تدمير الآخرين، لأن الإنسان بحسب " فرويد " يطوي داخله غرائز تدميرية أو عدوانية، وهذه القوى التدميرية كما يقول " إميل دوركايم " إن لم توجه نحو المحيط الخارجي فإنها ترتد نحو الداخل سواء على صعيد الفرد أو الجماعة.
ويمكن التمثيل على هذا بما يحدث للولايات المتحدة الأمريكية بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط المعسكر الاشتراكي حيث يذهب الكثير من الملاحظين إلى أن أمريكا تحمل في داخلها العديد من العوامل التدميرية التي تفضي في أي لحظة إلى العنف بسبب الاقتصاد المترهل والفقر المتنامي والظلم الاجتماعي خاصة في صفوف السود ( الذين يمثلون نسبة 13% من مجموع العدد الإجمالي للسكان 248 مليون نسمة حسب إحصائية سنة 1998 )، فأمريكا حتى تقضي على هذه القوى التدميرية والعدوانية الداخلية تلجأ إلى الخارج البعيد بشن حروب ضد الدول الضعيفة كما أشرنا سابقاً، ولعل وصول " باراك أوباما " الأسود إلى البيت الأبيض لا يعدو أن يكون إلا عملية تنفيس للسود الذين لحقهم الأذى والظلم والتمييز العنصري من طرف الرئيس السابق " بوش الابن " وإدارته.
سعدون يخلف