مبحث الميتافيزيقا عند هايدغر - محمد المزوغي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاس1 - مقدمة:
على القارئ العربي أن يَعلَم بأنّ كلّ مَن يَنقد فِكر نيتشه أو هايدغر أو أيّ فيلسوف غربي آخر، لا يجب ضرورة أن يُصَنَّّف في خانة الإرتكاسيّين الذين يَكِنّون عداء مَرَضيّا للفكر الغربي أو يرغبون في إقصائه على أساس أنه فكر دخيل لا يتماشى مع ثقافتنا العربية الإسلامية. العالم الإسلامي يَتميّز عن الغرب المسيحي بروحانياته وتديّنه وأخلاقه الإنسانية العالية، في حين يَلهث الغرب نحو المادّة ويتشبّث بالأشياء الزائلة، ناسيا الأهمّ، أي الروح وغير مُعتنٍ بمقوّمات الدين الحقّ والأخلاق السّليمة. هذه التخمينات الرائجة في كثير من أوساط شبه المثقفين الأصوليين، تعكس الوجه الآخر لأطروحات مفكري اليمين الغربي المتطرّف ولمُنظّريه الرجعيّين الذين قَويت شوكتهم الآن وأصبحوا من دعاة صراع الحضارات وفضل الحضارة الغربية ومبادئها الإنسانية الشاملة على جميع الحضارات الأخرى. إنهم يرون أن الفكر الغربي الديمقراطي بعيد كلّ البعد عن الفكر المتأتي من الشعوب الأخرى وغريب عن تقاليد الشرق، وبالأخصّ الشرق الإسلامي الذي بَقي على علاّته وبطبيعته سجين اللاعقل والدكتاتورية وعبادة الأشخاص. هذه ليست بالأفكار الجديدة، بل إنّها الأرضيّة الإيديولوجية لكلّ هجمة استعمارية سواء غربية مسيحية أو حتى عربية إسلامية. كاتب هذه السطور يعارض كليهما، ويعتقد، في ما يخصّ عالمنا العربي الإسلامي الذي كثيرا ما كُبتت فيه الروح النقدية، أن الإشكال له استتباعات مستقبليّة مُحدّدة وخطيرة في مجال الإنتاج الثقافي والعلمي: المثقفون العرب المتعاطفون مع هايدغر وأتباعه، والمائلون إلى تبنّي أطروحاتهم الفلسفية وآراءهم حول الحداثة وما بعد الحداثة، قد يشعرون بالإمتعاض من النقد القاسي لِمَعَالمهم وقد يُصيبهم الذّعر معتقدين أن الناقد تحرّكه أغراض إيديولوجية بحتة أو، على الأقلّ، يضرّ بالفلسفة لأنّه يقدّم معطيات وأفكار مضادّة يمكن لأيّ تيّار رجعي إسلاموي قومي أن يستبدّ بها.  كاتب هذه السطور واعِ بهذا الأمر، ولا يستبعد قطّ أن يستغلّ الظلاميّون مكاسب الحداثة لتوجيهها ضدّ الحداثة ذاتها، أو أن يستثمروا النقد الموجّه لأعلام الفلسفة الغربية لصالح تمرير خطابهم الرّجعي. هذا أمر محتمل، بل وارد ومعاين مباشرة من خلال كتاباتهم وتنظيراتهم التي قطفت القشور وتركت لبّ المسائل ومغزاها. إنها عملية تحطّ من الفكر العربي وتُجهض صيرورته التقدّميّة من الأساس. فعلا، أن يستحوذ أحدهم على مكاسب النقد ويستغلّها لصالح تمرير خطابه اللاعقلاني، فهذا أشدّ التّنكيل الذي يمكن أن تخضع إليه الفلسفة والفكر الحرّ. مَن ينتَهج هذا النهج  ومن يَعتمد هذه التقنية في التنظير، فقد أوصد أمامه أبواب الحوار الجدّي وأعرض عن التفكير البناء. الفكر بصفة عامة ومنتوجات الروح والفلسفة بصفة خاصة إمّا أن تكون كلية شاملة أو لا تكون. مَن يتفلسف في نطاقه الضيّق ويكتفي بالتنظير في صلب ثقافة محدّدة فإنه يخاطر بأن يسجن مؤبدا فكره وأن يقدّم الذريعة للشّكّاك المناهضين لرفض أفكاره واعتبارها مُجرّد نزوات فرديّة لا تتقاسم همومها الإنسانية جمعاء.



كاتب هذه السطور انطلق من هذا المبدأ وسَحبَه على تفكير هايدغر، دون أن يكون مرجعه ضرورة، ثقافة معيّنة ودينا محدّدا: فيصل التفرقة هو الإنسجام المنطقي مع المبادئ الكلّية والمطابَقة مع شموليّة الفكر المبنية على قاعدة الأخوّة البشرية والنزعة السّلمية اللامشروطة.

****

إذا قصدنا بالميتافيزيقا كل تصور للعالم  يفترض وجود كائنات روحانية متعالية خارج هذا الكون تتدخل في شأنه، وتسيّره وترعى مصيره بما فيه الإنسانية، الكل أو جزء منها، فإن الميتافيزيقا قد وُجِدت في كلّ العصور وعند كل الشعوب حتى تلك التي يدعوها علماء الإناسة المحدثين، بالبدائية. ويمكن الافتراض بأنه، حسب ما جاء في تواريخ الحضارات القديمة وما أكدت علية البحوث الأنثربولوجية الحديثة، لا وجود لمجموعة بشرية تخلو ثقافتها من تخمينات وتصورات حول كائنات مُفارقة، خارج العالم، لها قوى خارقة للعادة وبقدرتها التدخل في الظواهر الطبيعية والإنسانية وتسييرها بحسب إرادتها وبمقتضى مشيئتها.

وقد تكون تلك التخمينات هي القاعدة الأولى لبروز الفكر اللاهوتي في مختلف الأديان، من تلك المتعدّدة الآلهة إلى التوحيدية، وتكوين الأنساق الميتافيزيقية المتأخرة.

إلاّ أنّ الإشكالية التي نريد الخوض فيها لا تتعلّق جوهريّا بالأساطير ولا بالأديان ولا تمس مباشرة لاهوتها وإنما بالفلسفة، وبتاريخها وتصوّراتها وبالتحديد بمفهوم الميتافيزيقا الذي تعددت معانيه وكثر فيه الأخذ والردّ.

الغاية من مقالي هذا هي تفنيد كلام هايدغر ومن جرى مجراه بخصوص موضوع الميتافيزيقا ورصد مواطن الخلل في طريقة فهمه لها والردّ على ادعاءاته بأنها المصير المحتوم للغرب منذ العصور اليونانية الأولى، وبأنه هو الوحيد (الغرب)، من دون الأمم الأخرى، صاحب مثل ذاك القلق الوجودي، والذي أنيطت بعهدته مهمّة تخليص العالم من أوهامها.

ومنذ البداية أقول بأن هذا الكلام ليس إلاّ مجرّد إدّعاءات ومزاعم لا أساس لها من الصّحة، ولا ترتكز على أرضية نظرية صلبة ومعقولة بل إن هذا الصنف من التفكير، المتسرّع في نتائجه والناقص في براهينه، الذي أدخله هايدغر ومن قبله نيتشه لا يؤدي إلاّ إلى وَأدِ الفكر ذاته والإجهاز على الفلسفة وتدميرها بالكامل.


2 ـ ما الميتافيزيقا؟:



في سنة 1929 ألقى هايدغر درسه الإفتتاحي في جامعة فرايبورغ، بعنوان "ما الميتافيزيقا؟" (Was ist Metaphysik?). ومن خلال عنوان الدرس كان من المفترض أن يتكلّم المحاضر مباشرة في موضوع الميتافيزيقا وأن يَستعرض، ولو بِعُجالة، تطورها التاريخي وإشكالاتها الراهنة والمعضلات التي جابهتها قديما وحديثا. لكن المحاضر، منذ البداية، يُبَدّد هذا الإنتظار مُنبّها مستمعيه على أنه سوف لن يتكلّم مباشرة في الموضوع المُزمع البحث فيه، أعني ماهية الميتافيزيقا، بل إنه سيتطرّق لمناقشة مسألة ميتافيزيقية محدَّدة . لأنه بهكذا عمل، حسب زعم هايدغر، نلِجُ مُباشرة في عمق الميتافيزيقا، وفقط بهذه العملية نتركها تُعرب عن نفسها.

المساءلة الميتافيزيقية هي مساءلة شاملة تَعمّ كلّ شيء بما في ذلك الطرف الذي يطرح تلك المساءلة، أي الدازاين: « إننا نحن الذين نتساءل هنا والآن، لأنفسنا» فالإنسان هو الوحيد من بين الكائنات الأخرى الذي ينبهر أمام الوجود ويضع موضع تساؤل ذاته والعالم الذي يُحيط به.

حسنا هذه مقدّمة واضحة ولا تستدعي كثير تمعّن لأنها تُعيد وتكرّر أطروحة هايدغر المركزية التي عرضها في " الوجود والزمان"، ولا تضيف شيئا جديدا لتحديد ماهية الميتافيزيقا. لكنّها غير واضحة ولا مفهومة أقواله الموالية التي زعم فيها بأن « وجودنا ـ كمجموعة باحثين وأساتذة وطلبة ـ مُحدَّد من طرف العلم (durch die Wissenschaft bestimmt) ». لنتابع بصبر أقوال هايدغر ونحاول بكلّ موضوعية وتجرّد تقصّي مسار تحاليله إن أردنا المسك بلبّ أفكاره وادراك ما يرغب في إيصاله إلى قرائه.

في البداية يتساءل هايدغر: ما الشيء الذي أصاب عُمق كينونتنا الذاتية كي يُصبح العِلم موضوع شغفنا؟ (unsere Leidenschaft). فمجالات العلوم بعيدة الواحدة عن الأخرى، إنها قطاعات متعدّدة الإختصاص ومشتتة لا يربطها الآن إلاّ التنظيم التقني في الجامعات وهي تحوز على معنى فقط من حيث غايتها العَمَلية المباشرة، « لكن تجذّر العلوم في أساسها الجوهري قد قُضِيَ عليه (abgestorben)».

النشاط العلمي الذي اكتسح الساحة الثقافية في العالم المعاصر وأصبح المعيار الأوحد للفصل بين الحقّ والباطل، هو، في نهاية المطاف ـ حسب رأي هايدغر ـ ليس إلاّ طريقة خاصة في التعامل مع الكائن. كلّ العلوم، بما هي كذلك، محكومة بمرجعيتها للعالم الخارجي، وغرضها الأساسي يقف عند حدّ البحث في مكوّناته الجوهريّة. هذه الطريقة في الإقتراب من العالَم نابعة من اختيار حرّ للكائن الإنساني. لكن هناك بالطبع تصرفات وحالات ومواقف إنسانية سابقة أو خارجة عن ميدان العلم، تتعلّق هي أيضا بالكينونة. الفكر السائد يرى أنّ العلم هو مجال الموضوعية المطلقة، لأن العلم يَرفض تدخّل الذات في بناء موضوعها، بل إنّه يُعطي « الكلمة الأولى والأخيرة صراحة للشيء ذاته (des Seiende selbst) وحسب».

هذه الموضوعية العلمية التي تُمثّل أعظم المكاسب الإنسانية، من المفروض أن تُحظى بتقدير هايدغر وأن يشيد بها كمثال لما يمكن أن يكون عليه عمل الفيلسوف أو المؤرخ أو أي مُنظّر، لكن الموضوعية العلمية بالنسبة لهايدغر تمثل نقصا كبيرا لأنها خنوع و"انبطاح" (Unterwerfung) أمام الموجود العيني الذي يتمنّى العالِم الكشف عن حقيقته.

ما هو جوهر النشاط العلمي إذن؟ هايدغر ينبئنا بذلك، دائما حسب طريقته الخاصّة في التعبير: الإنسان ككائن من بين الكائنات الأخرى، يشتغل بالعلم، وفي نشاطه هذا فإن ذاك الكائن المسمّى إنسان يُداهم، (يَقتحم) (Einbruch) الموجودات كلّها، يُكسّر من طوقها ويَلِج في أسرارها العميقة. لكن عملية المداهمة تلك لن تصل أبدا إلى هدفها المَرجُوّ، لأنّ، حسب هايدغر، ما يفحص عنه العلم هو الموجود فقط، ولا شيء خارجه.

ماذا عسانا أن نقول عن ذاك اللاشيء؟ وكيف يتعامل العلم مع انعدام الوجود؟ العلم يرفض اللاشيء (العدم) ويتركه معدوما: مِن مَسألة العدم، العلم لا يريد أن يعرف شيئا إلاّ أنه عدم. لكن، على الرغم من ذلك، حتى عندما يرفض العِلمُ الخوض في العدم فإنه في حاجة إلى العدم: ما يرفضه العلم هو في نفس الوقت ما يَطلبه.

هذه مجرد عموميات وخطابة، وميزات هايدغر الرديئة هي تطويل الطريق للوصول إلى جوهر الموضوع. نريد أن نلج في لبّ الإشكالية، أعني ما الميتافيزيقا؟ مناهجها أهدافها معضلاتها ومستقبلها، لكن هايدغر يحيلنا إلى مثال إجرائيّ، أعني ميتافيزيقا العدم أو بالأحرى عدم الميتافيزيقا.

ما العدم؟ وما علاقته بموضوع الميتافيزيقا وبالعلم؟ العدم ليس هو بِسَلب لصفة ما أو لمَحمُول معيّن، ليس هو حرمان (στερεσις) المادة من الصورة، كما في مصطلحات أرسطو. العدم، يقول هايدغر، يختلف عن ذلك مطلقا. فطِبقا لنسق المنطق العقلي كلّ سؤال وكلّ جواب هما من باب القضايا الحملية (آ هي بآ)، لكن إن كان العدم عدما مطلقا فإن السؤال والجواب الحمليّين لا معنى لهما. العقل البشري لا يمكن أن يفكّر وينتج معرفة ويوصلها إلى الآخرين إلاّ إذا عبّر عنها من خلال قضايا حمليّة، وبالتالي فإن الحديث عن عدم مطلق، غير خاضع لقوانين المنطق وخارج عن تقنين القضايا طبقا لمبادئ منطقية ثابتة، هو عبث نظري وخلف.

لكن فكر هايدغر يكمن تحديدا في هذا الخلف بالذات، لقد لعِب الرجل على الإستثارة والعبث بالفلسفة طوال حياته. وإن تتبّع القارئ صفحات مقالنا هذا فسيرى أنّ الكاتب لم يجحف أبدا في حكمه على هايدغر.

أعود إلى ما كنتُ فيه: إلى مَن سنُوكِل المهمّة في سبر العدم؟ أإلى العلم؟ لا بالتأكيد، لأن العلم يبحث في الموجودات العينية ولا يتعدّاها إلى مناطق أخرى، والعالِمُ في نشاطه النظري، يخضع لهيمنة الواقع المطلقة. إلى المنطق إذن؟ كلاّ، لأن المنطق يختزل كلّ شيء في قضايا حَمليّة على شكل موضوع ومحمول، أمّا الفكر ذاته فلا سلطة له أيضا على العدم لأن الفكر هو فكر شيء ما، والعدم ليس هو بشيء حتى يوصف ويُحكم عليه، « العدم هو أكثر أصالة من لام النفي ومن السّلب». كيف يمكن للعقل والمنطق أن يحسما الموقف بخصوص العدم؟ ألا يكون التناقض الظاهر الكامن في السؤال والجواب بخصوص العدم « يرتكز في النهاية فقط على عماء العقل في تشرُّدِه؟». هكذا يتساءل هايدغر بفائض من الخطابة التي يعجّ بها هذا النصّ.

يمكننا أن نحدس مبكرا بأن كلّ المؤشرات تدلّ على أن التجربة اليومية (بكلّ ما تحمله من ذاتوية و لاعقل) ستحلّ محلّ الفراغ الذي تركه كلّ من العلم والمنطق والعقل. هذا هو الخطاب الذي يمرّره هايدغر والفكرة المركزية التي يريد أن يوصلها قرّاءه ومستمعيه. فعلا، حتى وإن كان محظور علينا معرفة الوجود والمسك به، كما هو في ذاته عن طريق ملكات العقل النظري، فإن الحياة اليومية، على الرغم من تجزّئها، تسمح بالإبقاء على الوجود في وحدة الكلّ (in einer Einheit des Ganzen)، وحتى عندما لا نكون منشغلين بالأشياء وبأنفسنا « يُداهمنا هذا " الكلّ " مثلا في القلق الأصيل (in der eigentlichen Langweile)».

ما معنى القلق الأصيل؟ وهل هناك قلق أصيل وآخر غير أصيل؟ وما دخل هذه الحالات الوجدانية الشخصية في ماهية الميتافيزيقا؟

القلق الأصيل، يُعرّفه هايدغر بأنه « القلق العميق الذي يَغدُو ويَرُوح في باطن الإنسان مِثل الضَّباب الصّامت الذي يجمع كلّ الأشياء، كلّ الناس بمن فيهم نحن، في واقع لامُبالاة غريبة».  هذا القلق ليس بالشيء السلبي والمكروه، كما هو الأمر عند الإنسان السويّ، بل إنه، حسب هايدغر: « يكشف عن الوجود في جملته»، ولا ينبغي أن يُنظرَ إليه من جهة أنه أمر عرضيّ وعابر، بل هو على العكس من ذلك « الواقع الأساسي لوجودنا (das Grundgeschehen unseres Da-seins)».

لكن، في خضم هذه التجارب الحياتية، هناك حالة نفسية خاصة ومتميزة تضع الإنسان أمام العدم ذاته. ما هي هذه الحالة؟ يجيب هايدغر بأنها الرّعب (Die Angst). فعلا، مصطلح الرُّعب عنده يختلف جذريا عن مفهوم الخوف، لأن هذا الأخير يتحدّد طبقا لواقع مباشر ولشيء معيّن يهدّدنا من خارج، لكنّ الرعب، حتى وإن كان رعبا من شيء ما، فهو لا يُحدَّدُ بهذا الشيء أو ذاك. فالأشياء تبتعِد عنّا وفي ابتعادها تتوجّه نحونا، واضمحلال الأشياء لن يُبقيَ أمامنا إلاّ هذا اللاأحد، وعلى كلّ حال « الرعب يكشف العدم ». نحن مُعلّقون في الرّعب، أو بالأحرى الرعب هو الذي يتركنا معلّقين لأنه يُذوّب الوجود في جملته، ونحن بالتالي نشعر بالذوَبَان معه وفيه. الرعب يُفقِدُنا الكلام لأن العدم يُهاجمنا، يَنقَضّ علينا، وتَصمُت أمامه كلّ محاولة لقول "هو": هذا هو الدليل على حضور العدم: الرعب، في نهاية المطاف، يَكشف الوجود، ذلك لأن الإنسان حتى عندما تنقضي حالة الرعب العابرة فهي تَبقَى عالقة به وتَحضره دائما في ذاكرته.

أخيرا ماذا عن العدم؟ العدم يتمظهر في الرعب لا كموجود أو كموضوع، بل إنه يُصاحب (يلازم) الكائن الإنساني في جُملته، والمصاحبة هي الإضمحلال معا. ماهية العدم هي الإعدام (Nichtung) « إنها ليست إعداما للموجود، ولا تنبثق من سَلبٍ ما... العدم ذاته هو الذي يُعدِم (Das Nichts selbst nichtet) ». وهذه العدمية لها فضائلها، لأنها، حسب هايدغر « تضع الموجود هناك (الدازاين) أمام الوجود كما هو»، وفقط عن طريق هذا العدم يمكن للإنسان أن يتوجّه نحو الموجود وأن يَنشغل به. ولكن بما أن الإنسان بماهيته يتعلّق بالموجود، أي الموجود الذي هو ليس هو، والموجود الذي هو هو، فإنه، بما هو كائن هناك « يأتي دائما من العدم» والكينونة هناك تعني أساسا « أن يبقى [الإنسان] مُنغمسا في العدم (Dasein heiكt: Hineingehaltenheit in das Nichts)»، يعني أن الإنسان (الكائن هناك) هو دائما خارج الوجود في جملته، وهذا ما يسميه هايدغر بـالتعالي: دون الولوج المسبّق في العدم، فإن الدازاين لا يَستطيع أن يُحقّق التعالي.

ها نحن أخيرا حصلنا على الإجابة عن سؤال العدم: « العدم ليس هو بموضوع ما و لا هو، عموما، بشيء ما. العدم هو ما يجعل ممكنا تَمظهريّة الوجود بما هو كذلك أمام الإنسان (الدازاين)؛ العدم هو مبدأ السلب وليس العكس»، فقوّة العقل تتحطّم أمام مساءلة العدم والوجود، وهنا أصلا يُقرَّر مصير المنطق وهيمنته داخل الفلسفة: « فكرة المنطق ذاتها تنحلّ في دوّامة (Wirbel) المساءلة الأكثر أصالة». أعمق من مطابقة السلب المنطقي تبقى « صلابة الفعل الحاقد وحدّة الكُره. أكثر مسؤولية هما ألم الفشل وعناد [أو تصلّب أو قلّة رحمة] المنع. أكثر وقعا هي مرارة التخلّي». الرعب، على الرغم من أننا نبغي كَبته وإخفاءه، فهو حاضر وكالعدم  هامد و« نائم فقط (schlنft nur)» ذلك لأن « تنفّسه  كالرّجفة يخترق وجود الإنسان بأكمله»؛ رعب الإنسان الشجاع الجريء الذي « لا يقبل أيّ تعارض مع الفرح أو حتى مع لذّة العيش الرّفيه». حالة الإنسان هذه تجعل منه « الخليفة الساهر على العدم ».

إلى حدّ الآن لم يَلج هايدغر في جوهر الموضوع ولم يُجب عن سؤال "ما الميتافيزيقا؟" لكنه في الصفحات الأخيرة قدّم هذا التعريف: « الميتافيزيقا هي مساءلة ما وراء الموجود، للعودة إلى فَهمه كما هو وفي كلّيته».

وفي مساءلة العدم يحصل هذا الذهاب إلى ما وراء الموجود؛ ولكن ما علاقة الميتافيزيقا بالعدم؟ يُجيب هايدغر بأن الميتافيزيقا تشبّثت بأطروحة ملتبسة مفادها أن " لا شيء يحدث من لاشيء" (ex nihil nihil fit). فعلا، الميتافيزيقا القديمة تتصوّر العدم كـ"لاوجود"، أي كمادة غير مصوّرة وغير قادرة من ذاتها على اكتساب صورة وشكل محدّدين « الماهية هي الكائن الذي يتشكّل ويتمظهر كما هو كذلك في الهيئة (في المنظر)». لكن تعاليم العقيدة المسيحية ترفض حقيقة أن « لاشيء من لاشيء»، مُضْفية على العدم معنى آخر، أي الغياب الكلي للموجود خارج الإله، وبالتالي فإن الموجودات حدثت من العدم طبقا لمبدأ (ex nihil fit ens creatum) " من العدم حدث الموجود المخلوق". هكذا فالعدم أصبح المفهوم النقيض للكائن الحقّ، أي "الكائن الأسمى" (summum ens)، الله، أو خالق الكون. المسألة الأساسية بخصوص العدم وقع تعتيمها، والدليل على ذلك أن اللاهوت [المسيحي] لا يُعِير أية أهمية للصعوبة التالية: « إذا كان الله يخلق من لاشيء، يجب أن يدخل في علاقة مع العدم، لكن إن كان الله هو الله، فهو لا يستطيع أن يَعرف العدم، نظرا لأن "المطلق" يُقصي من ذاته كلّ عدمية». وعلى هذا الأساس فإنّ أطروحة هيجل التي تذهب إلى أنّ « الوجود الخالص والعدم الخالص هما نفس الشيء»، هي أطروحة مشروعة نظرا لأن الوجود ذاته في ماهيته متناه « ولا يتمظهر إلاّ في تعالي الدازاين الذي يُبقيه العدمُ في الخارج».

وبما أن المساءلة بشأن العدم تخترق الميتافيزيقا بأكملها، فهي تَضعُنا أمام القرار حول مشروعية مجال المنطق في الميتافيزيقا، وبالتالي تسمح لنا بإعطاء معنى آخر للفكرة القديمة التي تقول بأن " لا شيء من لاشيء". هذه القضية يعيد طرحها هايدغر على الشكل التالي: « من العدم أُحدِث كلّ موجود بما هو موجود" (ex nihilo omne ens qua ens fit). فِعْل الإحداث هنا مَبنيّ للمجهول، ومَن هو ذاك المجهول يا ترى؟ ألا يكون الله، الوجود الأسمى؟ كلاّ، بل هو الإنسان، لأن، حسب هايدغر، في عدمية الموجود الإنساني فقط، يَصل الوجود في جملته إلى اكتماله الذاتي، طبقا لإمكانيته الخاصة، أعني حسب نهائية الدازاين. وهنا يَبرز جليّا خطأ العلم، لأنه لم يُعِر الأهمية الكافية للعدم، ولذلك فإن ادّعاءه بالعلوّ والسموّ على جميع أشكال إنتاج المعنى هو أمر مثير للضحك (Lنcherlichkeit). والعِلم، إن أراد الحيازة على مكانته التي يَستحقّ، فعليه أن يعتنيَ بالميتافيزيقا وبإشكالية العدم: مُهمّة العلم لا تكمن فقط في جمع وتنظيم معارف متفرّقة، بل في فتح المجال الكلي لحقيقة الطبيعة (Natur) والتاريخ (Geschichte). فتجاوز حقل الموجودات العينية هو من جوهر الإنسان، هذا التجاوز هو الميتافيزيقا ذاتها، إذن « الميتافيزيقا تَنتمي إلى طبيعة الكائن الإنساني (Die Metaphysik gehِrt zur »Natur des Menschen«)»، وبالتالي لا يمكن أن تُختَزل في قطاع من قطاعات الفلسفة الجامعية ولا هي محكومة بمجال الفكر الإعتباطي: « الميتافيزيقا هي الحدث الأساسي في الدازاين. هي الدازاين ذاته». ثمّ، نحن لا نأتي من خارج إلى الميتافيزيقا بل، بما أننا مَوجودون، فنحن كنّا ولازلنا دائما فيها.

3 ـ الردّ على النقّاد:

لقد ذكر مؤرخو أعمال هايدغر أن تلك المحاضرة أثارت ضجّة في أوساط المثقفين وخصوصا الفلاسفة، البعض منهم اعتبرها استهتارا فكريا لا يستحقّ عناء الدّحض، والبعض الآخر أراد نَقضها وتبيين مواطن الخلل والإجحاف فيها، مثلما فعل كارناب (R. Carnap) في مقاله الشهير بعنوان " مجاوزة الميتافيزيقا عن طريق التحليل المنطقي لللّغة (ـberwindung der Metaphysik durch logische Analyse der Sprache)". لكن يَجب التريّث في الأخذ بهذه الإدعاءات المبالغ فيها وقد يكون هايدغر ذاته هو الذي أفشى هذه الأقوال، ولديّ شكوك جمة في أن تكون الأمور حدثت فعلا على تلك الشاكلة. فهايدغر من النادر جدا أن يَصدق في أقواله بخصوص ماضيه، وكثيرا ما يَعمَد إلى تضخيم شخصيته وأعماله، لكي يُغطّي المآزق الفكرية والسياسية التي أولج نفسه فيها. على كلّ حال ما يهمنا في هذا الأمر هو الكيفيّة التي أراد أن يُبيّن بها مواضع الالتباس في درسه، والسبيل الذي ارتآه لإجلاء سوء الفهم الذي خضعت له كتاباته وأفكاره، وبالخصوص تلك التي جاءت في درسه الإفتتاحي "ما الميتافيزيقا؟".

ولإنجاز ذلك أضاف سنة 1943 إلى نصه ضميمة بعنوان « تعقيب على "ما الميتافيزيقا؟" (Nachwort zu »Was ist Metaphysik?«)». فبعد أن قال كلّ شيء عن الميتافيزيقا، وبعد أن زعم بأنها صفة ملازمة للإنسان وكامنة فيه منذ البداية، بل إنها الدازاين ذاته، ارتَدّ، تراجع وحوّر من رأيه؛ قال بأن سؤال "ما الميتافيزيقا؟" يطرح تساؤلا يذهب وراء الميتافيزيقا ذاتها؛ إنه، أي ذاك السؤال، يُدَشّن فكرا دخل بعد في مرحلة مجاوزة الميتافيزيقا (Die ـberwendung der Metaphysik).

هذه جِدّة كبيرة بل تبدو، إن قارنّاها بما أعرب عنه من قبل في نصّ 1929، انقلابا واضحا، وكثيرة هي الإنقلابات والتناقضات في أقوال هايدغر وكتاباته، ولكنه في بعض الأحيان يَطلبها عمدا لكي يَستثير حساسية القارئ. إلاّ أنه في أمر ما بقي مُتمسّكا بموقفه ولم يُحوّر منه شيئا: لقد بقي متشبّثا بأطروحته التي لازمته طوال حياته، وهي أن العلم لا يبحث عن « حقيقةٍ ما في ذاتها». عمّ يبحث العلم إذن؟ وإلام يصبو؟ الجواب يمكن معرفته مسبقا، ومن السهل لكلّ من استهتر بالمكتسبات العلمية أن يتلفّظ به: العلم هو « ليس أكثر من ضربٍ مِن المَوْضَعَة  (Vergegenstنndlichung) الحاسبة للكائن»، هو شرط وَضَعته الإرادة ذاتها للمحافظة على هيمنتها على الأشياء.

إنه عداء للعلم وصل إلى حدّ الهوس: « المَوضَعة تقف عند حدّ الموجود وتحسبه على أساس أنه الوجود». هذا نقد لاهوتي للعلم يُذكّرنا بكل التيارات المناهضة للحقيقة العلمية وللمنهج التجريبي: العلم لا يعرف الأشياء في ذاتها، وإن عَرفها فهو يَرُدّها إلى أسباب مادية بحتة، لكن الموجودات ليست كلّها مادية هناك كائنات غيبية: الله الروح العدم، كلها متعالية على العقل ومفارقة للمادة. هذا هو الإعتراض الذي يقدمه الجميع، مسلمون ومسيحيون، ضدّ المكتسبات النظرية والمعرفية للعلم. لكن هايدغر هنا لا يذكر الإله لا لأنه لا يؤمن به، بل لأنه لا يرغب في إلقاء خطاب لاهوتي: لقد سئم اللاهوت، لأن الرجل لم يتعلّم في حياته إلاّ اللاهوت المسيحي وبعضا من فنومينولوجيا هوسرل التي هجرها وعاداها فيما بعد.

أقول: العلم فعلا لا يَهمّه معنى الوجود بإطلاق، لأن العلم ـ وهذا أمر جوهري وأساسي ـ يُرجِع كلّ الأشياء إلى عنصرها الأوّل، والعنصر الأول في الكون هو المادّة/الطاقة، ولا شيء يخرج منها. العلم يعتني بالفحص عن أسباب الأشياء وقوانينها ولا يَعتني بالوجود والعدم هكذا بإطلاق. وحتى العدم الذي قد يَفترضه العالم أو يبرهن عليه في المخابر، هو شيء ما، يمكن أن يقاس ويُصاغ في قوانين رياضية: المادّة النقيض (anti-matière) مثلا التي افترض وجودها الفيزيائي دايراك (Dirac) ثم وقَع اكتشافها في المخابر، أو الخلاء الكامل، أي انعدام المادّة، ليست هي بالعدم المطلق، بل عدم نسبي لأن الخلاء يملك في ذاته قوّة ما، تُسمّى طاقة الخلاء، قادرة على إنشاء كيانات مادّية من ذاتها. العلم في جوهره هو مادّي وليس هناك علم روحاني. كان على هايدغر أن يضرب العلم ويشكّك في مصداقيته لكي يفسح المجال أمام استيهاماته الأنثربولوجية: استيهامات قادته إلى ثرثرة (وهي كثيرة جدّا في كتابات هايدغر)، مثل إرادة الإرادة، والمَوضَعَة الحاسبة.

الميتافيزيقا، علاوة على تعدّد تعريفاتها، يردّها في الضميمة، إلى كونها « تاريخ هذه الحقيقة»، أي تاريخ حقيقة معرفة الوجود. إذن الميتافيزيقا هي أعلى مرتبة من العلم، لأن العلم يكتفي بمعرفة ما هو كائن، ويردّه إلى أسبابه وعلله المادّية. هذا ما يريد أن يصل إليه هايدغر وما توحي به أقواله، لكنّنا نخطئ كثيرا لو استكنّا إلى هذه النتيجة التي يرغب هايدغر في إيصالها للقارئ. نخطئ لأن الرجل يعود أدراجه، يسحب كلامه ويضيّق من صلاحية أطروحاته التي تبناها سابقا. يقول بأن الميتافيزيقا تتحرّك دائما في مجال حقيقة الوجود دون أن تمسك، عن طريق ضروب الفكر، بتلك الحقيقة، التي تبقى بالنسبة لها الأساس المجهول واللامؤسَّس. هذا طرح للمفارقات دون إعانة القارئ على المسك بتلابيب الإشكالية المطروحة والوصول إلى حدّ أدنى من اليقين؛ إنّه فكر غامض مشوّش ويدخل الشكّ حتى في كونه فكرا فلسفيا. هوسرل نفسه تعجّب من طريقة تفكير هايدغر وقال بأن تعاليم من هذا القبيل ليست من ميدان الفلسفة (لا ترتكز على أرضية فلسفية خصوصية  „nicht den spezifisch philosophischen Boden erreicht“)، وحتى إن اعتُبرت فلسفة فهي مجرّد أنثربولوجيا أو سيكولوجيا متعالية.  

وليس هذا حطّا من هايدغر بل هو نفسه الذي يقودنا إلى هذه النتيجة: لقد اعترف بأن أية محاولة لمتابعة تفكيره في المحاضرة الإفتتاحية، هو أمر مستحيل المنال، ويجابه معوقات جمّة.

أليس من المُستحسن أن يُفصح الفيلسوف عن آرائه بوضوح وأن يُقدّمها للقارئ في لغة جَليّة معللا أقواله ومدعّما إياها بالبراهين العقلية؟ أجل هذه هي أمانة الفيلسوف، ومن المفروض أن يكون الأمر كذلك، بل إن الواجب الأخلاقي ذاته والصدق مع النفس يُحتّمه. لكن نحن بإزاء فيلسوف من طينة أخرى، له آليات تفكير مغايرة، بل معارضة لآليات تفكير الإنسانية السوية. فعلا، الإلتباس الذي أحدثه هايدغر عن قصد، يُثني عليه قائلا: « مِن المستحسن أن يكون الأمر كذلك، لأنه بهذه الطريقة، تصبح المساءلة أكثر أصالة». ليس هناك جواب نهائي ولا حقيقة نهائية يركن إليها العارف « لأن المساءلة الأصلية لا يتمّ حذفها من طرف الإجابة التي عثرنا عليها». الكلّ يؤدي إلى اتهام القراء والمراجعين والنقاد بعدم فهم جوهر تفكيره، بل إنه يصف عدم الفهم هذا بأنه ناتج في غالب الأحيان عن « فقدان إرادة التفكير (Unwillen zum Denken)».

عدم الفهم يحصره هايدغر في ثلاثة اعتراضات: الأول يقول بأن نص المحاضرة يَجعل من اللاشيء الموضوع الوحيد للميتافيزيقا، لكن بما أن اللاشيء هو محض عدمية، فإن هذا الفكر يقود إلى اعتبار كلّ شيء معدوم، وبالتالي فلا داعي للعيش أو للموت « فلسفة اللاشيء هي عدمية مكتملة».

الثاني: يرى أن النصّ يُعلي من حالة نفسية واحدة، إضافة إلى أنها حالة كئيبة، أي الرعب، ويجعل منها الحالة النفسية الجديرة بالاعتبار. ولكن بما أن الرعب هو الحالة النفسية لأولئك المرهوبين والجبناء، فإن هذا الفكر « يُقصي موقف الشجاعة المُطمئنّ»: فلسفة رعب من هذا القبيل، يقول النقاد، «تُعطّل إرادة الفعل».

الإعتراض الثالث: يركّز على فكرة أن المحاضرة تَستخِفّ بالمنطق، وتجعل الحكم على حقيقية الشيء موكول لحالات نفسية عرضية: فلسفة محض الشعور هي خطر على الفكر العلمي الصحيح وعلى ضمانة الفعل.

نحن في سنة 1943، أي في أوج الهجمة النازية وحرب الإبادة التي تقوم بها الجيوش الألمانية في الجبهة الشرقية ضدّ الروس والأمة السلافية بأكملها. الكلّ يَبغي كسب الحرب التي بدأت تكلّف أرواح مئات الآلاف من الجنود الألمان، وبالتالي فإن من بين أولويات الدعاية النازية بثّ روح الشجاعة والعزم في قلوب المقاتلين. لذا فإنه في الردّ على هذه الإعتراضات، التي يسميها هايدغر عدم فهم، تعبير واضح عن تلك الهموم العملية: ضرورة التقيد بالدّعاية الرسمية واستثارة الجرأة في قلوب الشباب وحثّهم على الإقدام والتصدي للمخاطر دون الرهبة من الموت.

الجواب القويم عن هذه الإعتراضات، يقول هايدغر، هو الرجوع إلى النصّ ذاته وإعادة تأمّله. غير أن إعادة التأمّل تلك هي ليست في نهاية المطاف إلاّ إعادة تكرار لما قاله مِن تفاهات مُذلّة للفلسفة: الإنسان يبحث عن الوجود ولكنه يعثر على الموجودات؛ بخلاف الموجود العيني، الوجود لا يسمح بتمثّله وإنتاجه كموضوع. هذه البداهة القاتلة والسطحية الرتيبة، تُأسّس، حسب زعم هايدغر، لفكرة أنّ هذا الآخر، أي الوجود المغاير للموجودات، هو اللاشيء أو اللاموجود، وإدراك هذه الحقيقة الهايدغارية، يهيئنا إلى أن « نجرّب في العدم رحابة ما يضفي على أي موجود ضمانة لوجوده». إنه كلام شعري، غامض وبالأخصّ، وهذا الذي يهمّنا بالدرجة الأولى، لا فلسفي على الإطلاق، وأريد أن أعارض في كلامي هذا. فعلا، عوضا عن أن يردّ على معارضيه ونقاده، ويوضّح للقارئ لبّ الإشكالية، يتيه الرجل ويُتيّه معه قراءه. إنها الخطابة الفضفاضة والتقعّر في اللفظ التي أخمدت العقول مع الفاشية والنازية، كما تبدو من خطابات زعيميهما هتلر وموسليني، غورينغ وأتباعهما، ليس هناك ولا ذرة من البراهين العقلية أو الإستدلال المنطقي، كل ما في الأمر هو خطابة وأقوال ذات مرجعية ذاتية خالية من المعنى. كيف يُقدِم على البرهنة أولئك الرجال عديمي المبادئ؟ لا يقدرون على فعل ذلك وبالتالي فإنهم يحوّلون وجهتهم إلى ناحية أخرى، أعني ضَبابيّة الكلمات، واستثارة الدهشة والإبهار، أو الخروج من قوانين اللعبة المنطقية. هذا ما فعله هايدغر أيضا، خَطابة وشعرية، ثمّ خروج عن قواعد المنطق.

العدم هو الوجود ذاته « دون الوجود الذي ماهيته غائرة، لكنها غير مبسوطة بعد، ومقدّرة لنا من العدم في الرعب الجوهري، كلّ كائن يبقى مسلوب الوجود». هايدغر يؤكد على أن تحاليل الدرس الإفتتاحي ليس لها علاقة بمبحث الأنثربولوجيا، لأنها تُفكر في ما وراء الإنسان، وذلك انطلاقا من « الإصغاء إلى صوت الوجود والدخول في التوافق الآتي من ذاك الصوت الذي ينادي الإنسان في جوهره، كي يتعلم تجربة الوجود في العدم». إنه هراء وكلام فضفاض، وليسمح لي أحباء هايدغر بهذه الكلمات لأننا ضِقنا ذرعا بهذه الشعوذة اللغوية، التي اكتسحت الآن حتى الفلاسفة العرب، والخارجة عن أدنى معايير النثر الفلسفي السليم.

لكن هايدغر يُمعن في استثارة قرائه وفي بعثرة أفكارهم بإلقائه كلمات صوفية شعرية من قبيل « الإنسان هو الوحيد من بين الكائنات الأخرى يُجرّب، بصفته مُنادَى من طرف صوت الوجود، عجب العجائب». ما هو عجب العجائب هذا يا ترى؟ « أن الموجود هو [موجود] (daك Seiendes ist)».

ولكي لا تبدو تخميناته أمام أنصار إيديولوجيا الحرب عدمية ومعادية لروح الشجاعة المطلوبة لمجابهة المخاطر، فهو يَعمد إلى تبيين أنّ عدميته هي الوحيدة التي تبثّ الإقدام وروح الشجاعة في قلوب الناس « ماذا تكون الشجاعة إن لم تجد في تجربة الرعب الجوهري ما يدعمها؟».

أمّا بخصوص الإعتراض الثالث حول المنطق وموضوعية المعرفة فإن موقفه، كما الحال تجاه العلم والتقنية، لم يتغيّر أبدا « لماذا يَضع الدرس كلمة منطق بين ظفرين؟»، لكي يؤكد على أن المنطق هو فقط واحدة من تأويلات جوهر الفكر، تلك التي تعتمد على تجربة الوجود كما رآها الفكر اليوناني.

الفكر الصحيح ليس هو الفكر الأكثر صرامة، بل إن الفكر العلمي البرهاني ليس هو إلاّ مجرّد حساب وعدّ. عوضا عن العلم والمنطق هناك فكر جديد (فكر الحرب)، إنه الفكر الجوهري (das wesentliche Denken) الذي يخلق حتما « الحاجة التي تُلبَّى فقط في حرية التضحية». فعلا، في التضحية، يتمظهر « ذاك الشكر السرّي، الذي لوحده يسمح بتثمين المجانية التي دخل بها الوجود في جوهر الإنسان». إنه فكر حربي، لاإنساني، تعيس من جميع وجوهه، وحصيلة مخاضه، تفاهات وبلبلة  بأتمّ معنى الكلمة، والمسؤول عنها هو هذا الرجل نفسه، الذي تحوّل إلى نبيّ قومه، في لحظة كانت تحدث فيها مَجازر، في الجبهة الشرقية، لا يمكن تخيّلها.

4 ـ مجاوزة الميتافيزيقا. خطاب الداعية:

إذا فهمنا هايدغر جيّدا، يبدو أن الميتافيزيقا هي كلّ شيء ولا شيء: إنها القَدَر المحتوم للشعب الألماني خصوصا، وللغرب عموما، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هي الداء الذي ينبغي للبشرية أن تتخلّص منه لبناء عهد جديد. فهو من جهة أولى يدعو إلى تجاوزها وتَخطي اشكالاتها، ومن جهة ثانية يؤكّد على استحالة تجاوزها، ومن جهة ثالثة يدّعي أن مجاوزة الميتافيزيقا يعني الحفاظ عليها « لأن الميتافيزيقا حتى مُتَجاوَزَة لن تضمحلّ أبدا» ذلك لأن الميتافيزيقا تعود في ثوب جديد وتُحافِظ على سُموّها نظرا لأن الموجود فقَدَ من أولويّته كمُستحوِذ على زمام الحقيقة، ولم يعد هو القيمة والقاعدة. لقد انهارت قيّوميّة الموجود، وهذا الإنهيار يعني أنّ « تمظهر الموجود، أي الموجود فحسب، فَقَدَ من أولويته التي كان يتميّز بها حتى الآن». انهيار حقيقة الكينونة يَحدُث بصفة ضرورية، بما هو اكتمال للميتافيزيقا.

هنا، وبالتحديد إثر هذه العبارات المُكرَّرة في جميع كتاباته، يَهجم خطاب الداعية: خطاب ديني ـ قيامي على الشكل البروتستانتي، مع فائض من التشاؤم. والعلّة الوحيدة المسبّبة لهذا المصير القيامي المحتوم هي الميتافيزيقا: « الإنهيار يتمّ، في نفس الوقت، عن طريق سقوط العالَم الذي وَسَمَته الميتافيزيقا وخراب الأرض الناتج عن الميتافيزيقا». ولِتَوضيح تصوّره للقيامة الحالية يُضيف قائلا: « السقوط والدّمار يَجدان اكتمالهما المناسب في كون إنسان الميتافيزيقا، الإنسان العاقل، يَتموقع [في العالم] كـ"دابّة شُغل". وهذا التّموقع يَؤكد عماء الإنسان أمام نسيان الوجود (Seinsvergessenheit). لكن الإنسان يَرغَب في أن يكون هو نفسه المتطوِّع لإرادة الإرادة، حيث تَؤول كلّ حقيقة عنده إلى الخطأ الذي هو بحاجة إليه، لكي يغدو متأكدا من أنه متوهِّم». إذا تركنا عبارات "إرادة الإرادة"، فإن خُطبَة هايدغر يستطيع أن يتفوّه بها أي داعية مسيحي، كاثوليكي أو بروتستاني، لكن هايدغر الذي عنون محاضرته هذه "تجاوز الميتافيزيقا" يصل إلى حد العدمية كما هو متوقّع منه وكما هي السمة المميزة لفكره، لأن الرجل دخل في العدمية ولم يخرج منها بتاتا. الإنسان العقلاني، أي الميتافيزيقي بالنسبة لهايدغر، الذي يقضي حياته في أوهام الموجود، ناسيا إشكالية الوجود لا يُدرك «أن إرادة الإرادة لا تريد شيئا آخر غير عدمية المعدوم التي تَفرِضُ نفسها أمامه دون أن يَعرف عدميّتَه الذاتية الكاملة». ما الحلّ إذن؟ ما البديل من هذه الأوهام؟ الحل والبديل والعزاء هي الكارثة: « قبل أن يَتَرائى لنا الوجود في حقيقته الأولية، يجب أن يُكسَّر الوجود كإرادة، أن يُقلب العالم رأسا على عقب، وتُترك الأرض للنّهب، وأن يُجبَر الإنسان على ما هو مُجرّد شغل فقط». بعد يوم القيامة هذا وبعده فقط يغدو ممكنا الإبتداء من جديد لأن « في الإنهيار (im Untergang) كل شيء ينتهي (geht alles)، يعني: الكينونة تَصل، في الأفق الشامل لحقيقة الميتفيزيقا، إلى نهايتها». لكن القيامة قد حدثت بالفعل وفي وقت قريب العهد منا (من هايدغر): « الإنهيار كان قد حدث (Die Untergang hat sich schon ereignet)، استتباعات هذا الحدث (Ereignis) هي وقائع التاريخ العالمي التي وَسَمت هذا القرن. إنها تشير فقط إلى المجرى الأخير لِمَا كان قد باء بالإنقضاء». وحتى بعد الكارثة مازال لم يَبزغ بعد بصيص الأمل لأن « الحقيقة الغائبة بعدُ للوجود تتمَنّع عن أناس الميتافيزيقا. فحيوان الشغل (Das arbeitende Tier) متروك في غثيان مصنوعاته، لكي يُمزّق نفسه، لكي يُدمّر ذاته ويَنعدم في عدمية العدم (in das nichtige Nichts vernichte)». الميتافيزيقا بجميع أشكالها وفي مختلف مراحلها التاريخية هي « قَدَر واحد، وربما هي القدر المحتوم (الضروري) للغرب (das notwendige Verhنngnis des Abendland) وشرط هيمنته الطولى على العالم». وحتى بعد تلك النكبة والدمار الشامل فإن هايدغر لازال ملتزما بخطابه السياسي الشوفيني: « الإرادة الثاوية وراء هذه الهيمنة تَرُدّ الفعل اليوم على الجهة الوسطى من الغرب، جهة هي بدورها لا تَبُثّ إلاّ إرادة لكي تَرُدّ على الإرادة». ثم إن الميتافيزيقا هي مرّة أخرى « قدر بالمعنى الضيّق الوحيد المتصوَّر هنا: بما هي خاصية أساسية بتاريخ أوروبا الغربية». ماذا فعلَت هذه الميتافيزيقا؟ لقد علّقت الأشياء الإنسانية في وسط الكينونة، « دون أن يصبح وجود الكائن معروفا بتجربة مثل تجربة ثَنْيٍ كليهما (als die Zwiefalt beider)، دون أن يصبح مُجَرَّبا، مساءلا ومحدَّدا في حقيقته». إنه كلام مشوَّش وغير مفهوم، خطابة شعرية وثرثرة. لكن المفهوم هو أن هذا القدر المأساوي يتموقع في الغرب، وفقط في أوروبا وبالتحديد في المكان الأوسط، أي في ألمانيا. وهو في نهاية المطاف قدر ضروري ولا بدّ منه: لا بدّ أن يحدث في الغرب، ومن الضروري أن تكون السيرورة على تلك الشاكلة، إن وضعنا الميتافيزيقا في إطار تاريخية الوجود (seinsgeschichtlich). لا يمكن للوجود أن يَتكشّف ويُضيء الكينونة بنفسه، إلاّ إذا تبدّى الإختلاف، وانغمست الكينونة في النسيان الأقصى للوجود، وفي نفس الوقت أن يتسلّم الوجود هيمنته اللامشروطة على الكائنات كإرادة إرادة (Wille zum Willen). إن مأساة مجاوزة الميتافيزيقا في التاريخ الغربي، يجب أن يُفكَّر فيها من جهة تاريخية الوجود، وبتفكيرنا فيها على هذا النحو، فإننا نحدس بأنها علامة كاشفة ورامزة تُعلِن تجاوز نسيان الوجود. هذا هو عين الحدث (das Ereignis selbst) الذي يأتي متأخرا ولكنه يُمثّل إشعاعا تتمظهر من خلاله بداية نور كاشف. الحدث هو الأمر الوحيد الذي يُمَكّن من انتزاع مِلكيّة الموجود وشَقّ سبيل الحقيقة للكشف عن جوهر الإنسان (Menschenwesen) .

لكن الإنسان مازال يُعاني الصراع والكل يحاول الإستحواذ على القوّة، فالقوة هي دائما العامل المحدِّد. ونحن لا ندري ما القوّة التي يعنيها هايدغر ولا إرادة الإرادة، ولا الوجود الذي وصل إلى حدّ تأليهه. لكننا على  يقين من أن القوة التي يتحدّث عنها هايدغر، والتي تتمثل في زمانه (بعد الحرب العالمية الثانية) قمّة الصراع بين المعسكر الليبرالي والمعسكر الإشتراكي، يُرجعها إلى صيغة ميتافيزيقية متعالية. يقول بأنه قد خَفي على الجميع أن الصراع (der Kampf) يَجري في صالح القوّة ومُراد مِن طرفها، وأن إرادة الإرادة فقط هي التي تُفَعّل وتُصعِّد هذا الصراع. هل يمكن تفادي هذا الصراع؟ هل من الممكن خلق عالم خال من السلاح وجانح للسّلم الدائم؟ هذه أبعد الخيارات عن الذهنية الحربية لهايدغر: فعلا ضرورة الصراع وانسداد الأبواب أمام الخيار السلمي يُرجعها إلى عوامل ميتافيزيقية، إلى قدر محتوم حيث إرادة الإنسان تتفسّخ بين ضرورة متعالية، كضرورة إرادة الإرادة، وبين قَدر نسيان الوجود: « هذا الصراع هو بالضرورة صراع كوني، وبما هو كذلك، فإنه لا يستطيع أن يُؤدّي إلى أي قرار، لأن ليس هناك ما يمكن أن يُقرِّره، نظرا لأنه يبقى مُبعدا عن أي تمييز (بين الوجود والموجود)، إذن مُبعَدا عن أي حقيقة، وقُوّتُه الذاتية تَقذِف به في ما هو غير مُقدَّر: في هجران الوجود (in die Seinsverlassenheit)». وحسب نظرة هايدغر التشاؤمية لمصير الإنسان فإن غياب حالة الفتنة في العالم هي الفتنة القصوى التي يمكن أن تعيشها البشرية. ولا يُقنعنا في شيء قوله بأن غياب البؤس يعني تصوُّر أننا قد امتلكنا الواقع ومَسَكنا بحقيقة الأشياء دون أن نعرف ما هي الحقيقة ومِن غير أن نُدرك أين تكمُن الحقيقة، ذلك لأن البديل الوحيد الذي يقترحه، في مقابل هذا العماء أمام حقيقة الوجود، هو ضرورة الصراع (ein Kampf nِtig)، أي أن تَتنزّل حربٌ أخرى (عالمية ثالثة) وتُقرِّر مَن سيكون من الإنسانية قادرا على استكمال العدمية.

حول خطاب الدّاعية والعدمية التشاؤمية التي اخترقت تفكير هايدغر أكتفي بهذا القدر، ولكني لا أودّ السكوت عن الشحنة التدميرية التي تميزت بها خطاباته وأفكاره حتى بعد نهاية الكارثة. لقد كتب هايدغر هذا النص في سنة 1951 ومن المفروض أن يكون قد تعلّم الدرس وأصبح أول داعية للسلام، عاملا على تحريض الشباب على الجدية والسلم وحبّ الحقيقة. لكن الرجل لم يفعل ذلك، بل إنه واصل في نفس المسار الذي انتهجه منذ بدايته وتمادى في ترسيخه عن طريق خُطبه القيامية ومواعظه وألغازه اللغوية الخالية من أي برهان منطقي.

5 ـ أساطير هايدغر:

لقد تساءل كاتب هذه السطور عديد المرّات هل أن مُعارَضته لفكر هايدغر ونقده السلبي لمقولاته الفلسفية لها مبرّراتها الفكرية ومشروعيّتها الإيديولوجية؟ ألا تكون مجرّد تَصفية حسابات مع الماضي، مع ذكريات الشباب وثورة ضدّ المعالم الأولى؟ قد تكون تلك المواقف الرافضة مجرّد نزوات عابرة ؟ ربّما نعم وربّما لا. لكني أرجِّح النفي لأن كثيرا من الأدلّة تشير إلى صواب هذا التوجّه، والدليل الأوّل والأكثر إقناعا هو كتابات الرجل التي بين أيدينا كما هي، هذا إن لم يعمد إلى بترها وتحويرها. فنصوصه ورسائله التي خطّها بيديه تقود القارئ، الذي تخلّص من تأويلات البراءة، حتما إلى اتخاذ ذلك الموقف السلبي منه ومن أعماله وإدراك خطورتها.

وهناك دليل مساعد يؤكد هذا المنحى وهي القراءات التي قدمها بعض الفلاسفة الذين نظروا إلى نصوصه بعين ناقدة دون مجاملة أو خنوع: وبخصوص الموضوع الذي نحن بصدده، أعني الميتافيزيقا، أستشهدُ بنصّ لجون فال (Jean Wahl) الذي قرأ كتاب هايدغر "مدخل إلى الميتافيزيقا" بتجرّد وموضوعية. لقد عدّد الأساطير التي جاءت في ذاك الكتاب وحدّد مواطن الخلل في تفكيره.

يقول بأنه يجب أن نَترك جانبا موقف هايدغر من النازية ونزعته الجرمانية القومية التي أدّته إلى الإعتقاد بأن كلّ شيء يعتمد على الشعب الميتافيزيقي بامتياز، إنّها تخمينات مُضرّة بالفلسفة، فعلا يُعلّق ج. فال، قائلا: « كلّ هذا ليس بجميل» (tout cela n'est pas beau).

العنوان نفسه متشابه (ambigu) لأن "المدخل إلى الميتافيزيقا" (Einführung in die Metaphysik) المزعوم هو ليس إلاّ تجاوزا (ـberwendung) للميتافيزيقا، أو بالأحرى يزعم أن يكون كذلك. فعلا، هذا المدخل يُعنَى بشيء آخر غير الميتافيزيقا. ما هو هذا الشيء؟ إنه الحالة الراهنة التي هي عليها أوروبّا. فطبقا لطبيعة العلاقة التي يرسيها الأشخاص مع الوجود تُحلّ معضلة الوضع الذي تجد فيه أوروبّا نفسها بين كمّاشة أمريكا وروسيا. مَن ذا الذي يضطلع بمهمّة تخليص أوروبّا من هذه الكماشة؟ إنها قوى الشعب الألماني التي يجب استثارتها وتحريكها من جديد.

هايدغر يُصرّ على أن الإشكال الأساسي في الميتافيزيقا يتلخّص في السؤال التالي: لِمَ الوجود عوضا عن العدم؟ ذلك لأنه مقتنع بأنّ تأرجح الموجود بين الوجود والعدم أمر يُثير مشاعر الرعب الفلسفي. هذا الخليط من الدعوة للشعب وللفلسفة، يُمكن أن يُسبّب كثيرا من الأذى (tant de mal) خصوصا إذا جاء من طرف أستاذ وفيلسوف من الدرجة الأولى مثل فيخته أو هايدغر.

ما دخل الرعب والعدم في القضايا الفلسفية؟ وما شأنها بحياة الفيلسوف في نشاطه النظري؟ حسب الحسّ السليم وبسيط مبادئ العقل، ليس هنالك من علاقة ضرورية بينهما. يقول فال (Wahl) « بالنسبة إلينا، مقتنعين بأن العدم هو عدم، وبأن الرّعب يجب تَقبّله، إن كان ضروريّا، ولكن لا يجب استثارته أو استحداثه [إن كان نافلا]، لا ننساق معه إلاّ في النصف الأوّل، أو بالكاد في ذاك النصف ». لكن، قد يعترض هايدغر قائلا بأنه ليس هو الذي يخلق الرعب، بل إنه يُخلق خارج إرادتنا ويَنبَع من الوجود ذاته، يُجيب فال: « نحن هنا بحضرة الأسطورة الأولى التي يقدّمها لنا هذا الكتاب الذي يزخر أساطير، علاوة على ثرائه وكثافته بالواقع ».

الوجود وقول الوجود هما نفس الشيء « في كلمة وجود، الكينونة تنفتح بما هي كينونة »، لكن كلّ هذا ـ يُعلّق فال، « ليس بالأمر المدهش، أو من الغرابة بمكان». ليس من المدهش أن تكون لفظة "وجود" لفظة غير محدّدة المعنى. في كلّ مرّة نستعمل كلمة وجود، نحن على وعي من أننا نقول شيئا ما، لكن هذا لا يعني أن الوجود ذاته هو شيء ما محدّد المَعالم. ثمّ إن هذا اللاشيء (الذي هو ليس بالعدم المحض بل عدم شيء ما من بين الأشياء الأخرى) ليس إلاّ معنى لفظيّا، نظرا لأنه لاشيء. وليس هذا بالأمر الفاضح (il n'est pas scandaleux) لأن الحسّ السليم يُحتّم ذلك، على الرغم من أنطولوجيا هايدغر.

مارتن هايدغر ينسب إلى فلاسفة اليونان الأوائل ما أسماه بـالحقيقة المُحَقِّقة (la vérité véritative)، أو ربّما موضعة الوجود وتشيّؤه الذي حَكَم تاريخ الفلسفة منذ أن استحدث أفلاطون نظرية المثل. الحاضر اعتُبر الكائن، والكائن هو الحاضر (le présent est considéré comme étant, et l'étant comme présent)، تلك هي الخطوة الأولى، أو ربّما الثانية في مسار انحطاط الوجود. الأولى تتمثّل في استبدال الوجود بالموجودات. يجب الإنطلاق من هناك كي نُكرّر ونعيد مجدّدا البداية الأولى ("كما لو أن ذلك أمر ممكن"، تعليق ج. فال)، أي فجر الفكر الغربي. لأجل ذلك يجب بَسط التعارضات الأربعة: الوجود والصيرورة؛ الوجود والظاهر؛ الوجود والفكر؛ الوجود والقيمة.

يجب أوّلا العودة إلى الينابيع الأولى والنهل منها، يعني أن نخطو خطوة بعيدة إلى الوراء، هكذا يَنصحنا هايدغر. فلنعد إلى السابقين على سقراط، لأن بداية النهاية حدثت مع أفلاطون وأرسطو.

« الجزء الرابع من الكتاب مخصّص بأكمله إلى التأمّل في فكر بارمنيدس ـ هرقليطس، شخصية أسطورية نشأت من الإعتقاد بأن كلّ عظماء الفلاسفة فكروا دائما في شيء واحد، ومن الهوس الألماني (هولدرلن ونيتشه) بوجود حقيقة محايثة للفكر الإغريقي».

لم يركن هايدغر إلى فكرة واحدة بخصوص أولئك العظماء، لقد تعدّدت البدايات، بل انقلبت إلى النقيض من فترة لأخرى « فلنسأل أنفسنا أوّلا ما هي البداية الحقيقية للفكر اليوناني؟ هل هي بارمنيدس ـ هرقليطس كما يقال هنا [المدخل إلى الميتافيزيقا]؟ هل هي أنكسيمندر كما يُقال (أو كما سيقوله) في "شعاب" (Holzwege)؟ هل هوميروس ـ هسيود كما يقول أفلاطون؟ ولنتساءل، فيما بعد، هل أن بارمنيدس فكّر في الوجود من خلال حقيقة الوجود، كما يقول هنا، أم أنه لم يفكّر في الوجود من خلال حقيقة الوجود، كما جاء في "شعاب"؟ فلنتساءل أو نُعيد التساؤل: هل أن استعادة البداية أمر ممكن؟ ولنتساءل أخيرا: أليس هناك تناقضا بين إرادة العودة إلى الجذور والقول بأن عظماء الفلاسفة فكروا دائما في نفس الشيء؟ (بعبارة أخرى، تناقضا بين ما نسميه بالنزعة نحو المبدأ "l’archisme" وما ندعوه بالمصادرة على المطلوب "Tautologisme" ) ».

هايدغر يرى أن « وراء التعارض بين الوجود والظاهر، كما وراء التعارض بين الوجود والصيرورة، ما نجده هو الفيزياء (physis) بمعنى الوجود، لكنه الوجود ـ الظاهر، الوجود ـ الصيرورة .... الوجود هو الظهور "تtre, c’est paraître" ». إلى ماذا تُحيل هذه الأفكار؟ ومن الذي روّج لها من بين الفلاسفة؟ « هنا ندرك ـ حسب ج. فال ـ القرابة بين فكر هايدغر وفكر نيتشه، وجيمس وهوسرل». فعلا، هؤلاء الفلاسفة يجمعهم شعار واحد: « إعادة الإعتبار إلى سطح الأشياء؛ إلى الظاهر الجميل. فلتكن لنا الإرادة لأخذ الأشياء كما هي معلومة "as they are known as" (James)، أن ننظر إلى الظواهر كجواهر (هوسرل)».

« أوديب ملكا هي تراجيديا الحقيقة »، هايدغر رجع إلى أوديب ملكا، كما فعل فيما بعد، حينما عاد إلى أنطيغون، لكي يفسّر علاقة الوجود والفكر عند بارمنيدس ـ هرقليطس. « ماذا يكشف لنا مثال أوديب ملكا؟ أوّلا أنّ الرأي (doxa)، قبل أن يكون الظاهر الأفلاطوني، كان القلب المنظور للـ "kleos" الشهرة الإلهية». ج. فال يعترف بالقيمة الكبيرة لبعض تحاليل هايدغر في هذا الفصل: في كيفية فحصه عن العلاقة بين الفيزيس (الطبيعة) والحقيقة (alethea)، حول الرّأي (doxa) كمَجد، حول الدازاين.

نعود إلى أوديب: لقد قتل هذا الأخير لايوس (Laios) في مفترق طرق ذي ثلاثة مسارب، وهذه الأمثولة تعكس التصوّر الذي أدخله بارمنيدس على مفهوم الحقيقة « بالتركيز على الطرق الثلاثة، نجد أنفسنا أمام قرار ثلاثي يؤكّد قيمة بارمنيدس، ونيتشه شاعر الظاهر وبوهم (Bِhme)، لاهوتي اللاّوجود». وهنا أيضا، يقول ج. فال بأن هناك مقاطع ذات جمال خلاّب، تزخر عمقا، خصوصا حينما يُبرهن هايدغر على أنّ الصيرورة هي ظاهر الوجود، والظاهر هو صيرورة الوجود.

إلاّ أنّ تحاليل هايدغر على الرغم من جمالها وعمقها لا يمكن أن تحجب الحقيقة، والحقيقة هنا هي أنّ « بالنسبة إلى بارمنيدس ـ هو نفسه يقول ذاك ـ ليس هناك طرق ثلاثة صحيحة، ولا حتى إثنان: هناك طريق واحد [...] فطريق الظاهر وطريق اللاوجود هما نفس الطريق العادمة (même voie néante) «

إن  تأويل هايدغر لقصيدة بارمنيدس لا يخفي اعتباطيته وتعسفه، وج. فال يركّز تحديدا على هذه النقطة: « لكن إن استطعنا أن نقول بأن فكرة الطّرق الثلاثة: لها علاقة جدّ ضعيفة بفكر بارمنيدس، يُمكننا ويجب علينا أيضا القول بأنّ وصف الطريق الثالث، الوحيد الصادق، الوحيدة الحقيقي عند بارمنيدس، لا يتوافق مع الطريق الصحيح والحقيقي عند بارمنيدس. إنّها، كما أوعزنا إليه سابقا، متأتيّة من كاتب وهمي (auteur fictif): بارمنيدس ـ هرقليطس، اخترعه هايدغر كما عمل أحد نقاد الفنّ المشاهير على اختراع [شخصية] "Amico di Sandro" (صديق صاندرو). هنا عندنا "Amico di Sandro e Piero" (صديق صاندرو وبيارو) المُختَرَع من طرف فيلسوف مهمّ بلا شكّ، لكنه نشر عمله هذا في سنة 1935 ثمّ أعاد نشره سنة 1953، واسمه هايدغر».

وقبل أن يصل إلى هذا الإستنتاج، فقد نبّه ج. فال قراءه، على التحفظات والشكوك التي تعترض تحاليل هايدغر « فلنشر إلى أنّ فكرة قوّة الظهور هي أسطورة؛ ولنشر أيضا إلى أنّ تأويل الرّأي (doxa)  على أنه الإقامة، هي أكثر من مشكوك فيها». وبالتالي فإن بارمنيدس حينما يكتب « ليس هناك إلاّ طريق واحد، فهو يفكّر فعلا بأنه لا يوجد إلاّ طريق واحد؛ إن كان بارمنيدس يقول: العدم غير موجود، فهو يفكّر حقيقة بأنّ العدم غير موجود. إذن كلّ هذا الجزء من تفسير هايدغر لبارمنيدس، يذهب في الدخان (s’en va en kàpnos, en fumée).

لكي نذهب مرحلة أبعد في تحاليلنا ـ هكذا يزعم هايدغر ـ  يجب الإستعانة بالشّعر العَالِم وطلب المساعدة من الفكر المفكّر بواسطة الشعر التراجيدي. وهنا تدخل جوقة أنتيغون (Antigone)، حيث تُذكَر فيها كلمة (dikè) "العدالة"، والتي تعني، حسب هايدغر، فوزيس، وهايدغر يزعم البرهنة على ذلك من خلال بعض الشذرات لأنكسيمندر وهرقليطس، والتي هي حسب ج. فال: « مصطنعة إلى درجة أنه يمكننا القول بأن هذين الفيلسوفين لا يتكلّمان عن نفس فكرة العدالة». وهنا تبدأ المهزلة، علاوة على الأساطير التي رأيناها أعلاه « التفكير (noein) هو (في رأي هايدغر) عنف يستخدمه الإنسان ضدّ الطبيعة .... الإنسان بقرار عنيف يُجَمِّع، عن طريق اللوغوس، الوجود. ولكن أليس الوجود ذاته مُجَمَّعا؟ نحن هنا بإزاء تجميع مُضاعَف (بالقوّة الثانية) (à la seconde puissance) وبإزاء العنف نحو المُجمَّع الذي هو الطبيعة، والتي هي بدورها عنف بما هي تجميع للأضداد. هذا ما قرأه هايدغر في نصّ سوفكليس (Sophocle)» .

إلى هذا الحدّ لا يمكن أن يخفى موضوع اللغة الذي هو من بين المواضيع العزيزة على هايدغر، ولكنه هنا يربطها، كما الطبيعة، بالصراع والعنف: « هناك هجوم للإنسان على الوجود عن طريق اللغة. إنها القطيعة الفاتحة. ذاك الذي اعتُبر في كتابات أخرى راعٍ وحارس للوجود ها هو الآن المحارب الذي يتصارع مع الوجود، يقبض عليه ويروّضه لأنّ الوجود حرب». هذا أمر معروف عند هايدغر كما أشرت إليه من قبل وهو أن الوجود هو صراع وحرب وهذه الإيديولوجيا تفشّت في أوساط المثقفين والفلاسفة اليمينيين قبل الحرب العالمية الثانية ولم يَنج منها سوى القليل. « لكن هذا العنف ـ يواصل ج. فال ـ يجب أن يستكين، ينبغي أن يؤول إلى السكون. عن طريق عنف الإنسان، الطبيعة، التي هي عدالة ـ صراع (dikè-polemos) تُقَاد إلى الظاهر والإستقرار. ذاك هو الفنّ، درجة قصوى تسمح بها التقنية (teknè) التي هي ليست بفنّ. عن طريق الفنّ يمكن أن نستمدّ الوجود من وراء الموجود؛ واللغة في جمالها تنتصر على اللغة القبيحة. العمل [الفني] والفوزيس مرتبطان. التقنية في أساسها تعبير عن الطبيعة، الوجود، انفتاح الوجود. لكنّ الإنسان، على الرغم من ذلك، سائر نحو الفشل والدمار (l’échec et la ruine)، فأرقى لحظاته هي تقريبا مثلما وصفها هرقليطس: كلّها قمامة. بالتقنية وبالإعراض عنها، الإنسان يَنكَسِر أمام الوجود، أمام المُهيمِن». هنا يقول ج. فال، هناك مقاطع من أجمل ما كتبه في هذا المؤلَّف.

ومع ذلك فإن ج. فال، يتردّد في اتّباع هايدغر والانقياد وراء هذه التيولوجيا الأنطولوجية: هل الوجود هو الذي يَفرض تلك القطيعة؟ هل الوجود هو الذي يقطع (يكسر ذاته) في تمظهره؟

ثمّ هناك سؤل آخر غالبا ما استوقف شارحي هايدغر: هل الوجود (Sein) يمكن أن يكون دون الدازاين؟ وفي هذه المسألة كما يقول ج. فال، هناك تطوّر في فكر هايدغر؛ لأن حاليّايبدو أنه ماح للقول بأن الدازاين لا يمكن أن يكون دون الوجود، وبالمثل فالوجود لا يمكن أن يتجوهر دون الدازاين. لكن "المدخل إلى الميتافيزيقا" ـ يُؤكّد ج. فال ـ يمكن، دون أن يتجاوز المثالية والواقعية، أن يأخذ مكانه في تاريخ المثالية ومكانا، ليس أقلّ جمالا، في تاريخ الواقعية. فإلتباس عبارة: "تَرْك الوجود" (Lassen Sein)، تسمح بتأويل مثالي وبتأويل واقعي، بحسب اختيار المعنى المراد بها: كفعل الوجود (le faire être)، أو ترك الوجود (le laisser être) .

في نهاية الكتاب، يعيد هايدغر وضعنا أمام الإختلاف الأنطولوجي؛ لكن حسب ج. فال هذه الفكرة لا معنى لها بالنسبة للفكر الهلنستي الذي يطالبنا بإعادته.

الحكم النهائي الذي استخلصه ج. فال من قراءته "المدخل إلى الميتافيزيقا"، قاس ولكنّه في جوهره صائب: « نحن أمام عدد من الأساطير (Nous sommes devant un certain nombre de mythes): أسطورة الحقيقة كخاصّية الموجود، أسطورة الحضور والظهور. أسطورية هي قوى الظاهر والصيرورة. أسطورة أيضا بارمنيدس الهرقليطي هذا الذي يذهب إلى أن الجوهر هو صراع. أسطورة اعتبار المثال الأفلاطوني أساسا وبالذات كـ"هيئة". أليس أيضا بِضَرب من الأسطورة يُراد العثور عند بارمنيدس على فكرة الإختلاف الأنطو ـ أنطولوجي؟ لأنه ليس هناك إختلاف بين الموجود والوجود عند بارمنيدس ولا يمكن أن يكون. فعلا هذا الإختلاف الأنطو ـ أنطولوجي الذي يركز عليه هايدغر، بالكاد يمكن التعبير عنه باليونانية، في الوقت الذي يرغب في العودة إلى الفكر اليوناني [....] والإسترجاع ذاته أليس هو بالأسطورة؟ كيف السبيل لاسترجاع اللحظة الأولى؟ هل هناك لحظة أصليّة؟ وما فِعلُ البداية هذا، أو بالأحرى ماذا سيكون لو وُجد حقّا؟».

إنها أساطير مُحيّرة لذهن القارئ ومخجلة لكلّ من عزّت عليه الفلسفة، و ج. فال عبّر عنها أحسن تعبير في نصّه هذا. ولكن النقد الوحيد المسموح توجيهه إليه هو أنه قد غابت عنه أنّ ما أسماه بـ"ذاك القدر من الرومنطيقية الحاضر في كتاب هايدغر"، أعني تركيزه على الإرتباط الوثيق بين اللغة والشعب (العرق)، ليس هو بالرومنطيقية البتّة بل عنصرية مزرية وقومية متعجرفة.

العديد من المفكرين عارضوا هايدغر في ترجمته المحرّفة وتأويلاته الاعتباطية التي أسقطها على شذرات الفلاسفة السابقين لسقراط، واعتبروها من باب الخيال، وأذكر بالخصوص الدّارسة كورنيليا دي فوغل (Cornelia de Vogel). والبعض الآخر، مثل كارل لوفيث، عابوا عليه نظرته التشاؤمية للعالم، وتصغيره الإنسان وأعماله إلى حدّ الامحاء أمام سيل الوجود والأحداث. في "المدخل إلى الميتافيزيقا" يقول هايدغر بأن « الانحطاط الروحي للعالم (Der geistige Verfall der Erde) هو في مرحلة متقدمة إلى درجة أن الشعوب مهددة بفقدان آخر قوّتها الروحية». هذه الفلسفة التي تُجذر الفقر والبؤس، كما قال دي فايلهانس (de Waelhens)، لا تؤدي في نهاية المطاف إلاّ إلى العدمية: « فلنترك هذا ولنتَمَسّك بقوّة بالفَقرِ، (πενία)، والبؤس الجوهري لفلسفة هايدغر، تلك، على الأقلّ، التي عبّر عنها في "الوجود والزمان". لأنّ هايدغر في كتاباته الكبرى الأولى يُركّز، دون كَلَلٍ، على الرضاء بالنهائية، على حالة التيه التي أفضينا إليها، على تفاهة أعمالنا وجهودنا... يجب قوله لأنه صحيح: فلسفة هايدغر الأولى هي التعبير المكتمل، الجليّ وفي بعض الأحيان اللاّذع، عن عدمية انهزامية».

لكن هذه العدمية هي، في واقع الأمر، انهزامية في الظاهر؛ فقط في الظاهر. يكفي قراءة أي نص من نصوص هايدغر حتى نتفطّن إلى أن تلك العدمية متساوقة مع نظرته القياميّة للعالم والأشياء، والدليل على ذلك تركيزه الدؤوب على الانحطاط والأفول، واستخدامه لتعابير كارثية مثل: "قتامة الدنيا" (Verdüsterung der Welt)، "هروب الآلهة" (die Flucht der Gِtter)، "تدمير الأرض" (die Zerstِrung der Erde)، "تدجين الإنسان" (die Vermassung des Menschen)، "الهجمة الشيطانية" (der Dنmonische Andrang). لكن أفكاره القيامية لا تقف عند هذا الحدّ، بل إنه استكملها، كعادته، بإثارة مشاعر الخوف والرهبة من المخاطر المتأتية من أعداء يتربصون للإنقضاض على الشعب الوسط، أي الشعب الميتافيزيقي بامتياز. هذه هي النظرة الأسطورية السائدة في أوساط النازيين واليمين المتطرّف في ذاك الوقت: أساطير مصطنعة للاستهلاك اليومي بهدف تخدير أذهان العامة وبثّ الرعب في قلوبهم، والغاية الأخيرة هي تَهيأتهم لخوض حرب يُقرَّر فيها مصير القوى المتصارعة ومَن سيُهيمن على العالم. إلاّ أن هايدغر لم يكن من العامة، بل إنّ الرجل مُتحفّظ تجاهها، ويعتبرها كتلة "الهُمْ" المتجانسة التي تعيش على الإستهلاك اليومي خارج عالم الأصالة المخَصّص لأقلّية قليلة من الناس. كان على هايدغر، الفيلسوف المتبصّر، الذي وصلت شهرته الآفاق، ألاّ ينساق مع تلك النظرة القيامية؛ كان عليه أن يُثقّف العامة وأن يُخرجها من الـ"هم" الجاهل. لكن هايدغر لم يفعل ذلك، ولو فعل ذلك لما كان هايدغر ولما أنتج فلسفته على تلك الشاكلة، لأن فلسفته، في واقع الأمر، مرتبطة وثيق الارتباط بنظرته للعالم وخياراته السياسية.

ففي الكتاب الذي من المفترض أن يكون أبعد عن هموم السياسة وأكثرها تعاليا عن الأحداث الراهنة، بحكم موضوعه، أعني الميتافيزيقا، نعثر على تصريحات قيامية من هذا القبيل: « أوروبا هذه، بعمائها الذي لا دواء له، تجد نفسها دائما على وشك أن تطعن ذاتها، هي الآن بين مقبضة روسيا وأمريكا. فعلا روسيا وأمريكا هما، من وجهة نظر ميتافيزيقية، نفس الشيء، إنهما التكالب المُشين على التقنية المفرطة، والتنظيم دون جذور ». نحن بين أسنان الكماشة، فشعبنا، الذي يتموقع في الوسط، يخضع لأعنف أصناف الضغوطات، « إنه الشعب الذي يجابه الخطر الأكبر، ومع كلّ ذلك، فهو الشعب الميتافيزيقي [بامتياز] ».

ما الحلّ إذن للخروج من هذه الأزمة المُفتعلة التي تُحدّق بالشعب الميتافيزيقي؟ الحلّ معروف، وهنا تتكلّم الرجعية، إنّه حلّ خيالي لمُشكلة خياليّة: « لا يمكن لهذا الشعب أن يضطلع بمصيره إلاّ إذا استثار أوّلا في ذاته صدى (Widerhall)، إمكانية صدى لهذا القدر وإذا تصوّر تراثه بصفة خلاّقة».

الفكرة التي يعبّر عنها هايدغر، واضحة وبسيطة ولا تحتاج تأويلات ملتوية أو تسويغات مُشطّة، إنّها فكرة قومية خالصة وصلت عنده إلى حدّ الهوس المرضي. ولكن الرجل كي يواري خطورة كلامه وما يحمله من مواقف استعلائية عنصرية عمد إلى تقنيته المعهودة، ألا وهي الغموض والتلاعب بالكلمات الشيء الذي يُخضع قارئه إلى توتّر ذهني ويُرغمه أيضا على تعدّد التأويلات: « كلّ ذلك يؤدي إلى أن هذا الشعب [الألماني] بما هو شعب تاريخي (geschichtliches)، يُعرّض نفسه وبالتالي يُعرّض تاريخ الغرب، من مركزه المستقبلي، في المجال الأصلي لهيمنة الوجود». لا نفهم هذه الطلسمات اللغوية، وأراهن على أنه لو اطّلع عليها أحد من غير المُشتغلين بالفلسفة لأصابه الذهول والقرف. لكن علينا التأني: هذا الرّكام من الكلمات يمكن فكّ ألغازه وكشف مغزاه فقط بعد بضع صفحات حينما "يرحم" هايدغر قارئه ويقول بأن المسألة الأساسية، مسألة الموجود بما هو كذلك في كليته، وطرح اشكالية الوجود تمثلان أسّا جوهريا « من أجل استفاقة الروح (für eine Erweckung des Geistes) وبالتالي من أجل عالم أصيل للدازاين التاريخي، والتصدّي لخطر عتمة العالم ولكي يتولّى شعبنا المهمّة التاريخية [المنوطة بعهدته]، لأنه يَقبَع في وسط الغرب».

هذا كلام خطير جدّا، سواء في الظرف الزمني الذي ألقاه أمام مستمعيه (1935)، أو حينما أعاد نشره (1953)  دون الوعي بوقع كلامه هذا ودون أن يختلجه أي تأنيب للضمير. ولكن خطورة هذا الكلام لم تمُرّ على الفلاسفة والدارسين الجديّين حتى أولئك الذين لا يَكنون أيّ عداء مسبّق لهايدغر. ألفونس دي فايلهينس (Alphonse de Waelhens) في مقال له حول "المدخل إلى الميتافيزيقا"، وحينما اعترضته عبارات هايدغر أعلاه علّق عليها قائلا: « هناك كثير من الإلتباس، وبالأخصّ الإيعاز إلى " قوى روحية"، التي تبدو أنها تُمكّن من تأويل رحيم نسبيّا (une interprétation relativement bénigne) لهذه السطور المدهشة». إلاّ أن الكاتب يُقصِي هذه الإمكانية (التأويل الرحيم)، نظرا لأن هايدغر، عندما رغب في تحديد الروحي والروح، رجع إلى خطاب العِمادة، ذاك الخطاب المشهور والكارثي (son fameux et catastrophique discours rectoral)، والذي لم يُنكر منه أيّ شيء. فايلهانس يَختم كلامه بعبارات مريرة جدّا مُذكّرا كلام هيجل الذي قال فيه بأن الفيلسوف لا يجب أن يَدّعي النبوّة بل ينتظر الغروب، واكتمال الأحداث، لكي يسرِّح طائر مينارفا (l'oiseau de Minerve). وبالمناسبة، يواصل فايلهانس، فإن ذاك الاكتمال كان كارثة مرعبة انطلقت من الفضائل (المزعومة ميتافيزيقية) لذاك "المركز" الذي أشاد به هايدغر، والذي كاد أن يؤدي إلى تدميره بالكامل « نأسف أنه من الواجب التذكير بهذه الأشياء اليوم».

6 ـ ضرر الهايدغارية:

قلتُ في المقدّمة بأن « الفلسفة إمّا أن تكون كلية شاملة أو لا تكون. مَن يتفلسف في نطاقه الضيّق ويكتفي بالتنظير في صلب ثقافة محدّدة فإنه يخاطر بأن يسجن مؤبدا فكره وأن يُقدّم الذريعة للشّكّاك المناهضين لرفض أفكاره واعتبارها مُجرّد نزوات فرديّة لا تتقاسم همومها الإنسانية جمعاء». ولقد برهنتُ أن تفكير هايدغر مُركَّز في مجمله على قسط من الإنسانية ولا يخرج من هموم الغرب ومن أطره الثقافية. هذه النظرة الإقصائية تلمّحت من خلال طرحه لاشكالية الميتافيزيقا، لكنها في حقيقة الأمر حكمت تصوّره للفلسفة، وإن عوّضنا كلمة "ميتافيزيقا" بكلمة "فلسفة" فإن موقف هايدغر الإقصائي لن يتغيّر اطلاقا.

يكفي تصفّح نصه المتأخر بعنوان "ما الفلسفة؟" حتى نتيقّن من ثباته الدائم على نفس المنحى: القول بأن الفلسفة هي مسألة تَخصّ العقل هو قول غير مُرضٍ؛ سؤال الفلسفة يَفرِض علينا اتّباع طريق آخر، كي لا نَتِيه في التمثلات الاعتباطية الظرفية. الطريق هو مباشرة أمامنا، ولكنه خلفنا: كيف الجمع بين الاتجاهات المتعاكسة؟ الأمر سهل. لأن، بالنسبة لهايدغر، كلمة فلسفة تتكلّم اليونانية (Das Wort Philosophie spricht jetzt griechisch)، والكلمة اليونانية، فقط لأنها يونانية، هي منهاج وطريق، وبالتالي فإن هذا الطريق يتموقع، بمعنى ما، أمامنا وفي الوقت نفسه وراءنا. هايدغر يودّ أن يُعرّف مُستمعيه هذا الطريق (diesen Weg).

الفلسفة هي أوّلا وقبل كل شيء أمر يخصّ وجود العالم اليوناني، «ليس هذا فقط (Nicht nur das) الفلسفة تُحدّد أيضا الأساس الصميمي لتاريخنا الأوروبي الغربي (die φιλοσοφια bestimmt auch den innersten Grundzug unserer abendlنndisch-europنischen Geschichte)». لا مجال للشكّ في هذه الحقيقة، فالتّعبير «فلسفة غربية ـ أوروبية» هو مجرّد تحصيل حاصل. الفلسفة هي بوتقة مغلقة لا يدخل فيها ولا يخرج منها أي شيء: إنها اليونان، أوروبا أي الغرب، وكفى. ونحن العرب؟ أين تراثنا الفلسفي الذي امتدّ إلى عدة قرون؟ أين الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد؟ أين الفلسفة الصينية والهندية؟ حسب أقوال هايدغر نحن في الدرك الأسفل، علينا أن نذرّ الغبار على رؤوسنا ونَنعَى لِحَظّنا التعيس الذي حَرَمنا من الولادة في الغرب.

أريد أن أنبّه القارئ إلى أن هايدغر قال كلاما من هذا القبيل، بأكثر حدة وأشدّ عنصرية في محاضرته بروما لسنة 1936، أي في أوج الدكتاتورية الموسلينية وفي خضمّ الجوّ القاتم المخيم على أوروبّا والطغيان والقهر والتسلّط المفروض على كامل مستعمرات الغرب. في مثل هذا الجوّ ألقى هايدغر محاضرة في روما الفاشستية بعنوان " أوروبّا والفلسفة الألمانية". الرجل يتحدّث عن الفلسفة الألمانية وعن أوروبّا والمستمع يَتَرَقب كلاما في الفلسفة عامة، يتناول مهمتها وأهدافها والقيم النظرية والعمليّة التي يمكن أن تبثّها في الناس، من المفروض أن يكون الأمر كذلك لكن منذ البداية يُمَوقع خطابه في إطار ضيّق ويَكتفي بالنظر إلى الفلسفة من زاوية ألمانية بحتة تستنفذ، حسب اقتناعه، الفلسفة عامّة: « في هذه المناسبة سيُحَاوَل قول شيء ما عن الفلسفة الألمانية، وبالتالي عن الفلسفة ككلّ». ثمّ يضيف ـ وهذا هو الشيء الذي يهمّنا: « إن وجودنا التاريخي يُجرِّب، بانزعاج ووضوح متناميين، كيف أن مستقبله محكوم بـإمّا أو (aut-aut): إمّا خلاص أوروبا أو تدميرها. لكن إمكانية الخلاص تفترض شرطين اثنين: 1) المحافظة على الشعوب الأوروبية من التأثير الآسيوي؛ 2) تجاوز حالة الإنبتات والتجزئة التي هم عليها».

كل من اطّلع على الخطابات السياسية السائدة في زمانه وفي عالمه إلاّ واستطاع بيُسر مَوقَعَة كلام هايدغر، لقد انجرّ مع الخطاب الشوفيني الإقصائي، واعتبَر الفلسفة حكرا على ألمانيا فقط. بعد عشرين سنة، وفي مدينة فرنسية كانت قد عانت من ويلات الدمار، وبعد أن وُضع في وطنه أمام مسؤوليته، ونال حظه من التأنيب، ها هو يُعيد الكرّة، لا ليُصلح من أفكاره ويُهذّبها أو ليتملّص من جانبها القومي العنصري، بل ليُعيد تكريسها مرة أخرى. لقد فعل كما فعل قديما، إنه يركّز بشدّة على اليونان، ويُماهي بينهم وبين الغرب وأوروبا، ويجعل من الفلسفة حكرا عليها.

وأظنّ أنه قد فعل ذلك لكي يُقصي من حلبة الانتاج الفكري شعوب العالم أجمع، وخصوصا شعوب الشرق بما فيها العالم العربي الإسلامي. والدليل على ذلك أن العودة إلى جذور الفكر اليوناني، هي في جوهرها عودة اقصائية، من حيث أنها لا يمكن أن تكون، على كلّ حال، عنصر توحيد للإنسانية جمعاء، بل هي عامل تمييز واختلاف. هذا ما يقوله هايدغر نفسه في درسه عن الشاعر الألماني هولدرلن: « إسم هرقليطس » لا يعني « فكر إنسانية في ذاتها " allerweltmenschheit an sich" تشمل العالم بأسره. بل هي الإسم الذي يُعبّر عن قوّة خلاّقة للوجود التاريخي الغربي ـ الجرماني، في أوّل مواجهة له مع العنصر الآسيوي».

حول هذا الصراع الملحمي بين الغرب والشرق، الذي قاد اليونان إلى التمركز في مستعمراتها بآسيا الصغرى، وبناء استقلاليتها الذاتية ووعيها باختلافها عن الشرق، لم يفعل هايدغر إلاّ أن كرر أقوال منظري النازية وأتباعهم (كارل شميت مثلا). « لا يجب أن ننسى ـ هكذا يكتب في سنة 1937 ـ أن اليونان لم يصبحوا ما كانوا عليه، بانغلاقهم في مكانهم، فقط عن طريق المواجهة العسيرة والخلاّقة، ضد العنصر الأكثر غرابة عنهم والأكثر مناهضة لهم، العنصر الآسيوي، وصلوا إلى ذروة وحدتهم وعظمتهم التاريخية ». هايدغر يتبنى هنا فكرة المؤرخ ياكوب بوركهارت التي تذهب إلى أن الصراع المفتوح مع الفرس، أي في أدبيات العنصريّين العرق الأكثر غرابة عنهم، مَكّن اليونان من الحيازة على استقلالهم والوعي بتناقضهم الجوهري مع البرابرة.

إذن العنصر الشرقي الآسوي يبقى في ذهنية هايدغر النقيض الطبيعي لليوناني، أي للغربي وهذا الأمر يهمّنا نحن العرب والمسلمين بالدرجة الأولى. أثناء دروسه على هولدرلن، التي ألقاها تقريبا في نفس الفترة التي ألقى فيها "مدخل إلى الميتافيزيقا"، بعد أن أعلن بأن «الزعيم» (Führer) يُحيل إلى عالم « أنصاف الآلهة » (Halbgِtter) وبأن يكون أحدنا « زعيما » هو من « القدر » (Schicksal)، وبأن القدر هو إسم يَرمز إلى « أنصاف الآلهة » يُضيف، لرفع أيّ "التباس" يُقرّبه من الشرق، الذي يعني به هنا العالم العربي الإسلامي، قائلا بأن القدر الذي يتحدّث عنه ليس له علاقة بـ « التصوّر الآسيوي للقدر»، ذاك التصوّر الذي يَتمثّل القدر على أنه « الاضطراب (Dahintreiben) دون إرادة ودون وعي، في حتميّة خانقة، والتي تجرف [المرء] ببساطة (einfach dahinwنlzend)، في خضمّ كلية (Allheit) الكينونة المنغلقة في ذاتها».

لقد اختلطت تخميناته الشبه فلسفية بخياراته السياسية الشوفينية إلى حدّ أنه لا يدري ما يجيب حينما يسأل عن السبب في انخراطه في صفوف الحزب النازي، التبرير الوحيد والدائم الذي قدّمه لتفسير إلتزامه بالنازية هو اهتمامه بخلاص الغرب، وبالتحديد بمركزه: « الإنسان الغربي »، « الدازاين الغربي » (abendlنndisches Dasein)، « القوة الروحية للدازاين »، « ضرورة التصدّي لمحاولة اجتثاث الغرب »، « التهديدات المُحدّقة بالغرب »، « تحقيق نجاته »؛ هذا هو قاموس هايدغر العاطفي نحو الغرب والذي لازمه طوال حياته.


****

الفلسفة هي في جوهرها إبداع يوناني بحت، وأن تكون يونانية لا يعني شيئا أكثر من أنّ: « الغرب وأوروبا، وهما فقط (und nur sie) في صميم صيرورتهما التاريخية (Geschichtsgang) الأصلية فلاسفة». وهذا الأمر يُدعّمه ويبرهن عليه بروز وهيمنة العلوم، التي وَضعت بصماتها على كوكب الأرض بأكمله، وما كان ذلك ليتحقق لولا أن المسار التاريخي الأوروبي كان مسارا فلسفيا. إن التراث الفلسفي الذي ورثناه ـ يُضيف هايدغر ـ يَبقَى في حد ذاته تراثا فريدا من نوعه (einzigartig bleibt) وبالتالي وحيد المعنى.

ليس موضوع المساءلة فقط هو يوناني، من حيث المنشأ؛ إنه يوناني أيضا الضرب الذي يُطرح به هذا السؤال. ونحن أهل الغرب جميعا دون تخصيص، يقول هايدغر، ننتمي إلى ذلك الأصل، حتى وإن كُنا لم نَنطق ولو مرة واحدة في حياتنا بكلمة فلسفة. هذا يعني أن الإنسان الغربي يولد فيلسوفا حتى وإن لم ينطق في حياته قطّ بكلمة فلسفة، حتى وإن كان أجهل الجهّال. لن أتوقّف عند هذه الترّهات.

السؤال ما الفلسفة لا يُرجَى من ورائه الوصول إلى معرفة ما، وبالتالي فهو لا يُلبّي أي اهتمام فيلولوجي تأريخي. إذن ما المغزى مِن طرح هذا السؤال ومن محاولة الاجابة عنه؟ هايدغر يُكرّر دون مَلل أطروحته المركزية التي تُمَثل الخيط الواصل في مجمل محاضرته. المغزى من السؤال والهدف الأوحد منه: « هو أنه سؤال تاريخي يُواجه مصيرنا. بل إنه أكثر من ذلك: فهو ليس "سؤالا"، إنما هو السؤال التاريخي الذي يخصّ وجودنا الأوروبي الغربي (sie ist nicht „eine“, sie ist die geschichtliche Frage unseres abendlنndlisch-europنischen Daseins)».

إذا ما أسلمنا أنفسنا إلى المعنى الأصلي لسؤال ما "الفسلفة؟"، فإننا سنجد مُتّجَها في مستقبل تاريخي. لقد وجدنا الطريق (wir haben einen Weg gefunden)؛ السؤال ـ سؤال الفلسفة ـ يَنقل الوجود اليوناني إلينا الآن، ويُورّثه الأجيال اللاحقة وهكذا إلى الأبد.

لقد انطلقنا من سؤال ماهية الفسلفة، وإن كان هذا السؤال نابعا من حالة احراج فالفلسفة بما هي فلسفة تصبح إشكالية (fragwürdig worden sein). كيف يمكن أن تغدو لنا الفلسفة إشكالية؟ « من الواضح أننا نستطيع أن نطرح سؤالا من هذا القبيل إلاّ إذا ألقينا مسبقا نظرة على الفلسفة. ولأجل هذا من الضروري أن نَعرف مسبقا ما هي الفلسفة. هكذا نُدحَر في دور. و يبدو أن الفلسفة ذاتها هي هذا الدور».

لكن في حقيقة الأمر هذا الدّور المنطقي، هو دور مُفتَعل، وإذا سلمنا به فإن كل المعرفة الإنسانية وكل العلوم، المَبنيّة على المعاينة والحدّ المنطقي، تغدو لا قيمة لها أصلا. ما معنى أنّ مَن يسأل عن شيء ما (الفلسفة مثلا) عليه أن يَعرف ما هو؟ ألا يمكن لشخص أن يسأل ويُفتّش ويبحث لأنه لا يعرف مسبقا ذاك الشيء؟ ثم لماذا أعطى هايدغر في آخر محاضرته تعريفا للفلسفة؟ وكيف استطاع أن يُخرج نفسه من حلقة ذاك الدور؟ فعلا، لكي يتخلّص من أسر ذلك الدور اقتفى أثر الكلمات وحمّلها معانٍ قومية شوفينية: « الكلمة اليونانية φιλοσοφια هي التي تدلّنا على الإتجاه». لماذا الكلمة اليونانية فقط؟ يُجيب هايدغر، وهذه يعتبرها ملاحظة أساسية، «لأن اللغة اليونانية، ليست هي فقط، بكل بساطة، لغة مثل اللغات الأوروبية المعروفة. اللغة اليونانية، وهي فحسب، عقل/خطاب (λογος)». وإذا أصغينا إلى الكلمة اليونانية بآذان يونانية فسنجد أنفسنا مباشرة حذو الشيء ذاته، الذي هو أمامنا، وليس في مقابل مجرّد عبارة لفظيّة. وبناء على هذه المسلّمة فإن الجواب يسترسل مباشرة. فسؤال ما الفلسفة؟ « يتمثّل في استجابتنا إلى ما تَتّجه نحوه الفلسفة. وهذا هو وجود الموجود»، الاستجابة تلك تجعلنا نُصغي إلى نداء الفلسفة كما تَعَقّلها اليونان. إذن التعريف الجامع للفلسفة هو هذا: « الاستجابة المُتَحمَّلة شخصيّا والجارية والمتكلّمة حسب نداء وجود الموجود، هي الفلسفة».

لا يهمّنا في نص هايدغر التعريف الغامض والشخصي جدّا للفلسفة، ما يهمّنا أكثر هو تركيزه المبدئي على تلك الصفة المتفرّدة للفلسفة وجعلها خاصة فقط بالغرب وأوروبا، والزعم بأنّ مَن يتفكّر الفلسفة عليه أن يستمع إليها بآذان يونانية، يعني غربية. لقد كفّ التفكير عن أن يكون شموليا تواصليا، وأصبح مجرّد لعبة داخل عالم مخصوص ولغة معينة.

محاضرة "ما الفلسفة؟" التي ألقاها هايدغر في (Cerisy-la-Salle) تَرجمَها جون بوفريه (Jean Beaufret) بِمَعيّة كوستاس أكسيلوس (Kostas Axelos)، ونُشرت سنة 1968. ميشال فوكو، حسب مؤرخ حياته إيريبون (Eribon)، تابَع يوميّا دروس جون بوفريه في تاريخ الفلسفة، وكان مُعجبا به أشد الاعجاب ومفتونا بدروسه. ومن المحتمل جدّا أن بوفريه مَرّر له الإعجاب بهايدغر، والدليل على ذلك أن فوكو اعترف قائلا بأن « هايدغر كان دائما بالنسبة لي الفيلسوف الأساسي ... لديّ هنا الملاحظات التي دونتها على هايدغر عندما كنتُ أقرأه ـ عندي الأطنان! ـ وهي أهمّ من تلك التي أخذتها من هيجل أو من ماركس. إن كلّ سيرورتي الفلسفية كانت مُحدّدة بمطالعتي لهايدغر». على الرغم من مبالغات فوكو المعهودة، علينا أن نُصدّقه في اعترافه هذا، لأن واقع أفكاره يتطابق ما اعترافاته. وأذكُر بالخصوص، نَفيه لوجود فلسفة، وقوله بوجود فلسفات، ثم وقوفه ضد العقلانية والتنوير والنزعة الإنسانية، وخصوصا نظريته الكارثية في ما أسماه بالمثقف الخصوصي (l’intellectuel spécifique).

لقد ألقى عليه، في يوم ما، أحد المفكرين الإيطاليين هذا السؤال: « ما هو دور المثقفين اليوم؟ إذا لم نَكُن مثقفين عُضويّين (أي ذاك الذي يتكلّم بصفته ناطقا باسم تنظيم عالمي)، إذا لم نكن مالكين، أو أسياد حقيقة، أين نحن؟». المثقف الكوني هو العدو الأول لفوكو، إنه المزاحم الأخطر لنمطه في التفلسف وبالتالي يجب التصدي له بشدّة ونقض صورته المتعارف عليها، ولفعل ذلك فإنه استخدم نفس التقنية: يرسم كاريكاتورا للشيء، ويعمد إلى تضخيم بعض الأجزاء وتقزيم البعض الآخر، ثم يُلقي بحكمه السلبي طبقا لتلك الصورة المشوّهة. يقول بأنه لمدّة طويلة من الزمن فإن مثقف ما يسمّى بـاليسار أخذ الكلمة واعتُرِف به كأنه سيّد الحقيقة والعدالة. فالناس يُصغون إليه أو يَدّعي بأنهم يُصغون إليه كمُمَثّل للكلّي. أن تَكون مُثقفا، يعني أن تَكون إلى حدّ ما وَعيَ الجميع (تtre intellectuel, c’était être un peu la conscience de tous). إن صورة المثقف هذه، حسب ما يَدّعيه فوكو، منقولة من الماركسية، بل من ماركسية باهتة: « المثقف هو الصورة الناصعة والمشخَّصة لكلّية، تَكُون البروليتاريا الشكل القاتم والجماعي لها».

لكن منذ بضعة سنوات أصبحنا لا نطلب من المثقف أن يلعب هذا الدور، هكذا يردّ فوكو بكل حزم. ماذا حدث؟ لقد ظهر صنف جديد من الترابط بين النظرية والممارسة أنهى عهد الكُليّة والشمولية، « فالمثقفون كفّوا عن الإنشغال بالكلّي النموذجي، العادل ـ وـ الصادق ـ للجميع (le juste- et- le- vrai-pour-tous)، لكن بقطاعات مُحدّدة، في نقاط مضبوطة، حيث تُمَوقِعهم إما ظروف عَمَلهم أو ظروف حياتهم». هذا هو إذن المثقف الخصوصي الجديد الذي يُجابه اشكالات خاصة متمَوقعة وليست عامة شاملة. إنه كلام قهّار حقا؛ إنها الهايدغارية في معناها الأكثر شراسة وتَقوقعا. انظر إلى تلك العبارة المَنحُوتة على الشكل الهايدغاري (le juste- et- le- vrai-pour-tous): هذا المثقف الخصوصي هو كارثة مُدمّرة لا تَذر شيئا من صورة المثقف التي اعتدنا عليها إلاّ وهَمّشتها أو مَحتها بالكامل. يعني أن غزو العراق، أو طوفان تسونامي، أو المجاعات في البلدان الفقيرة، لا تَهمّ المثقف الباريسي الساكن في الدائرة العاشرة، أو المثقف الألماني الذي يقطن في أحواز مدينة فرايبورغ، وذلك لا لشيء إلاّ لأن ظروف عمله وشروط حياته لا تسمح له بمجابهة هذه الإشكالات والالتفات إلى الكوارث التي تحدث في أماكن من الأرض بعيدة عنه بعدا سحيقا. ولا يَهمّ إن تُركت الساحة خاوية للمتعصبين كي يُفسّروا بأسباب غيبية تلك الكوارث، ويؤوّلوها على أنها أمارات الساعة أو أنها غضب من الله.

هذا هو أثر الهايدغارية، لقد مَرّر له بوفريه هذه الأفكار والتَصقت بذهنه، فشَنّ حملة على المفكرين والكتاب الأحرار، وتهجّم على المثقفين الكونيين مُتّهما إياهم بالسطحية ومتنبّئا بقرب أفولهم، ثم دعا إلى شيء هو، بِجِدّ، في عداد الخلف، أعني ما أسماه بـ"حقيقة علمية جِهَوية" (vérité scientifique « locale »). إنها مفارقات جدّ رهيبة ولكننا إن علمنا مأتاها والجهة التي أوحت بها إليه والتي استخرج منها أطنانا من الملاحظات فإننا لا نعجب من ذلك أبدا.

لكن فوكو بالنسبة للكثير من المثقفين العرب  هو مفكر من طينة أخرى، فهو الوحيد الذي استمع إلى صوت المكبوتين والمهمّشين. لقد استوعب ميشال فوكو، حسب رأيهم، الدرس النيتشوي وفجّر مكبوتات الخطاب الفلسفي فأصبح يستمع إلى لوغوس المكبوتين والجنون والمتهتّكين والمجانين ولوغوس الجنس.

نحن نعجب حقا، نعجب كيف يَستقِي مفكرٌ ما، درسا في الرفق بالمهمشين والضعفاء والمجانين والمرضى، مِن رجل مِثل نيتشه يقول بالحرف الواحد، في "أفول الأصنام": « إن المريض هو طفيليّ المجتمع („Der Kranke ist ein Parasit der Gesellschaft“)»، والأطبّاء لا ينبغي عليهم أن يَمدّوا المرضى بالدواء، بل بالقرف (Ekel) ويُشعروهم بالدونية وبأنهم مجرد حشرات؟

لم يتحدّث فوكو طوال حياته إلاّ على الغرب (من موقع فرنسي): عقل غربي، جنون غربي، تنوير غربي، أنثربولوجيا غربية وقد استحوذ على مقولاته ضمير النحن، في جميع معانيه وصيغه الاقصائية. تاريخ الأفكار الذي اهتمّ به فوكو هو تاريخ متموقع في زمان مخصوص وفي ركن محدّد من خارطة العالم: أعني أفكار الغرب وبالتحديد أوروبّا. ليس هناك في كتابات فوكو ولو إشارة واحدة أو صريحة تدلّ على أن تحاليله تمتدّ خارج رقعتها الجغرافية. أعطوني كتابا واحدا يتطرّق فيه إلى اشكاليات تهمّ الانسانية جمعاء، ليس هناك كتاب واحد، لأنه لو أقدم على هكذا عمل لنقض نفسه بنفسه ولتخلّى نهائيا عن مقولة المثقف الخصوصي التي هي أتعس ما خلّفه لأتباعه.


محمد المزوغي، أستاذ الفلسفة بمعهد الدراسات العربية والإسلامية. روما

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟