الإديولوجيا السياسية وتجلياتها في نشأة "علم الأصول" من خلال كتاب "الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام" للدكتور عبد المجيد الصغير - محمد سمير سرحان

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

إن أول ما ينبهنا عليه الكتاب، هو أنه يصعب علينا القول بالفصل بين علمي "الأصول"    و" الكلام"، " مادام أن هناك تداخلا وتواصلا بين العقدي والعملي في التجربة الإسلامية الأولى"[1] خصوصا وأن المصنفين في علم الأصول كان أغلبهم ذا مرجعية كلامية، إذ أن الجانب العقدي يمثل ذلك التوجيه النظري أو الإيديولوجي للممارسات العملية داخل المجتمع، وخصوصا الممارسة السياسية نظرا لأهميتها في تحقيق استقرار المجتمع والسهر على تنظيمه.

لقد كان الهدف من إثارة هذا الموضوع هو الوقوف على تلك العلاقة الجامعة بين العالم والسلطان، والتي كما يصفها الأستاذ الوضيفي " علاقة مهادنة ومنافسة تارة، وموالاة وصراع تارة أخرى"[2]، وما كان ذلك كله إلا لأجل الاستئثار بالنص الشرعي من طرف السلطان وتأويله حسب ما تقتضيه  مصلحته الخاصة ، ومن جهته  يسعى الفقيه أيضا لحفظ هذا النص من التلاعب به على يد السياسيين ولي عنقه. وهذا مادفع الشافعي لوضع قانون يضبط به بعض المصطلحات الأصولية التي أصبحت مشحونة بشحنات سياسية كمصطلح البيان الذي عرفه بأنه "اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع"[3]

وما كان ذلك منه إلا لأجل إعادة النظر من جديد في تلك المصطلحات والمفاهيم، في سعي منه لجعل تلك المصطلحات ذات معاني شرعية محضة لا تكاد تفهم إلا من طرف العالم المتخصص الذي يدرك أسرارها وحقيقتها الشرعية، وذلك حتى لا يتسنى لأحد أن يتجرأ على تفسير النص الشرعي أو تأويله حسب الهوى، " وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول اللهﷺ أن يقول إلا بالاستدلال بما وصفت في هذا وفي العدل وفي جزاء الصيد،  ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق"[4]ماخلق صراعا بين العالم أو الفقيه ورجل السياسة أو السلطان.

وحتى إذا رجعنا إلى ذلك التقسيم الذي وضعه الأصولي للحكم الشرعي، أي تلك الأقسام التكليفية الخمسة ومتعلقاتها، فإننا سنجد أنه أراد من ذلك توسيع دائرة السلطة العلمية، " التي يتحدث باسمها الفقيه الأصولي، والتي لا يستطيع أحد، مهما علت منزلته السياسية أو العلمية، الإفلات من هيمنتها ومن الخضوع لمنطقها"[5]

وربما كان ذلك هو الدافع الذي جعل الشافعي رحمه الله يؤسس للبيان في رسالته ويقوم بتقنين وضبط وسائل فهم النص الشرعي، ذلك حتى يبين أن العلم يعلو ولا يعلى عليه، وأن السلطان بسلطته وهيمنته يجب أن يخضع لسلطة العلم، وهذا يمكن أن يكون أيضا سببا لرفض الشافعي بالقول بالاستحسان والاستصلاح...الخ من الأصول التي اعتبرها الغزالي ((موهومة))[6]
فيكون بذلك " اهتمام الشافعي بضبط أصول تلك الشريعة هو إذن اهتمام بجوهر الحياة الإسلامية ذاتها وبمشاكلها المعاشة"[7]

   هذا كله يجعلنا نقول بأن نشأة "علم الأصول" لم تكن فقط بهدف وضع قواعد تضبط الدارس للنص الشرعي وتحفظه من الوقوع في الخطأ والحمل المغلوط للمعاني، بقدر ماهو حفظ للنص الشرعي نفسه من التحريف والتزييف على يد الماسك بزمام السلطة أحيانا باسم "المصلحة" أو ماشاكلها من المصطلحات الأصولية التي رفض بعضها الشافعي بحجة أنها ليست من أصول التشريع.

هذا كله وغيره من الاعتبارات الأخرى دفع بعض الفقهاء إلى ان يتقربوا من البلاط في محاولة منهم لخلق هدنة تعطي استقرارا وتوازنا للحياة السياسية ومعها الاجتماعية أيضا للأمة الإسلامية. بينما نجد البعض الآخر اختار اعتزال السياسة " إما لأن السلطان أراد ان يبعده، أو لتخوف العالم من السقوط في حبال السلطة واستدراجه، أو لتخوفه من ضياع علمه بعد احتضانه من طرف السلطان"[8]

إن هذا الصراع الذي نشب بين العالم والسلطان، والذي خرج منه كلا الطرفين بنتائج مُرضية نسبيا، بتقرب الفقيه من السلطان في محاولة منه للتكيف مع الوضع الجديد الذي فرضته الدولة السلطانية البديلة لدولة الخلافة، تولدت عنه محاولات جديدة لتجديد أصول هذه الشريعة وحفظها من الضياع، ولقد كان في مقدمة من نادى بإنقاذ الشريعة الإمام الجويني الذي " توقع فساد القرون اللاحقة بدء من القرن الخامس الهجري"[9] ماجعله يدعوا إلى مراعاة مقاصد الشريعة كبديل جديد، أو كتجديد لعلم أصول الفقه بالتحول من الظنية إلى القطعية، لأجل إصلاح ما يمكن إصلاحه، ذلك أن ماحصل من أزمات سياسية " عمق من حدة فقدان الثقة برجل السلطة السياسية "[10] في قناعة منه بأن الرجوع إلى المقاصد جلبا للمصلحة ودفعا للمفسدة بالنظر في كليات الشريعة وضرورياتها، هو البديل الشرعي الذي بإمكانه ان ينقذ الأمة ويخرجها من ظلامها وأزمتها خصوصا على المستوى السياسي، من هنا انكشفت فكرة المقاصد التي نادى بها الجويني، والتي ستتفتق وتظهر جليا مع الشاطبي في حدود القرن الثامن هجري.

وغير بعيد عن الجوني وجهوده في السعي إلى إصلاح ما أفسده السلطان وحاشيته من الفقهاء، فإن الشاطبي هو الآخر، وفي ظل تلك الظروف السيئة التي تعيشها السياسة في المجتمع الأندلسي، سينادي هو الآخر بمقاصد الشريعة كبديل للأصول التي يغلب عليها الظن كثيرا.

إن مادفع الشاطبي للإهتمام بمقاصد الشريعة والإعتصام بها من الوقوع في البدع والمحدثات والفساد الذي أضحى منتشرا في القرن الثامن الهجري، هو شعوره بالغربة اتجاه مجتمعه الذي أصبح مجتمعا يعتبر العوائد والتقاليد المخلوطة بالبدع هي عين السنة،  "فصار كل نقد لها يعتبر عين الابتداع وخروجا عن الإجماع"[11]، وما كان ذلك من الشاطبي إلا لأجل تقرير قواعد قطعية يضع من خلالها قطيعة ابستيمولوجية مع كل ما هو من قبيل الظن، وهذا ظاهر من خلال القاعدة التي قررها في الموافقات بأن أصول الفقه قطعية، ويرجع   ذلك لأمرين: "أحدها أنها ترجع إما إلى أصول عقلية، وهي قطعية، وإما إلى الإستقراء الكلي من أدلة الشريعة، وذلك قطعي أيضا[...]، والثاني: أنها لو كانت ظنية لم تكن راجعة إلى أمر عقلي، إذ الظن لا يقبل في العقليات، ولا إلى كلي شرعي، لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات"[12]، وربما أراد بذلك الشاطبي انتقاد ما انتشر في زمنه من اهتمام بالمختصرات والفروع الفقهية واعتبارها أصولا، ما أدى إلى ضعف الفقه والأصول، وبالتالي ما يتوقع أنه سيؤدي إلى ضياع الشريعة.

خلاصة:

إن الهدف من هذه القراءة السريعة للكتاب، هو رصد تلك العلاقة القائمة بين " علم الأصول" والواقع السياسي للمجتمع الذي لا شك أن له دور مهم في تأسيس "علم الأصول" وتطوره، خصوصا وأن هذا الأخير يقع موقع التجاذب، تجاذب بين النص الشرعي باعتباره الموجه الذي يرسم للأصولي خريطة الطريق ويلزمه بعدم الخروج عنها، وبين الواقع ((المزيج)) الذي يفرض على هذا الأصولي – باعتباره جزء من هذا الواقع – أن يشارك في العمل السياسي بأي شكل من الأشكال، ولذلك نجد أن الفقيه قد ساق مجموعة من المصطلحات الأصولية والفقهية، بل وحتى المقاصدية ليبرر بها موقعه السياسي الجديد الذي فرض عليه ضرورة، والذي في الغالب نجد فيه الفقيه يلتزم الصمت في كثير من المواقف والمستجدات والطوارئ التي يعرفها المجتمع يوما بعد يوم، إما تخوفا من صاحب السلطة، وإما لعجزه وعدم قدرته على الاجتهاد، " وبذلك انفلت زمام الأمر والمبادرة من يد الفقيه الجامد، بل وحتى من يد العالم المجتهد، وانتقل – دون رجعة – إلى رجل السلطة والعصبية السياسية، المستفيد الوحيد من هذا التردي"[13]

 

بيبليوغرافيا:

  • الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة / الدكتور عبد المجيد الصغير / دار المنتخب – بيروت – لبنان/ ط.1 – 1994
  • أصول الفقه ومقاصد الشريعة بين جدلية العالم والسلطان من خلال كتاب الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام / الدكتور المصطفى الوضيفي/ مجلة أنفاس المغربية بتاريخ يناير 2012
  • الموافقات في أصول الشريعة/ أبو إسحاق الشاطبي/ تحقيق محمد عبد القادر الفاضلي/المكتبة العصرية – بيروت – لبنان/ط 2003
  • الإعتصام/ أبو إسحاق الشاطبي/ تحقيق أحمد عبد الشافي / دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان/ ط.3/ 2017
  • الرسالة/ محمد بن ادريس الشافعي/ اعتنى به د.ناجي السويد/ المكتبة العصرية – بيروت – لبنان/ ط.2015

 

 د.عبد المجيد الصغير / الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام – ص41[1]

[2] د. المصطفى الوضيفي/مقال بعنوان: أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية جدلية العالم والسلطان/   عن مجلة أنفاس الإيلكترونية /يناير2012

 محمد بن ادريس الشافعي/ الرسالة – ص16[3]

 نفس المصدر – ص17-18[4]

 الفكر الأصولي/ ص- 189 [5]

 ينظر المستصفى للغزالي /ص 305[6]

 الفكر الأصولي/ص - 167[7]

 أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية بين جدلية العالم والسلطان[8]

 نفس المصدر[9]

 الفكر الأصولي – ص354[10]

 نفس المصدر – ص 455[11]

 أبو إسحاق الشاطبي/ الموافقات/ج1 – ص 15 بتصرف[12]

 الفكر الأصولي – ص617[13]

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟