القاعة فسيحة ومضاءة بنور باهر متناسق مع الألوان التي طليت بها الجدران التي تفنن التلاميذ المفتونين بالألوان في تزويقها رفقة أستاذ الرسم الذي جمعهم في ناد يمارسون فيه أنشطتهم الإبداعية. تدافع التلاميذ على الدخول. علا الضجيج وارتفع اللغط كل يبحث عن الرقم الملصق على الركن الأيمن من المقعد. حِيزَت الأماكن وتناثروا فوق المقاعد وأطبق على القاعة صمت، تطلعت العيون إلى الظرف المختوم بين يدي الأستاذ. كان كل التلاميذ في لهفة لمصافحة ورقة الامتحان. بعض العيون اخترقت الظرف وتسللت إلى الكلمات تتهجاها تسترق النظر علها تلتقط بعض الحروف. شردت الأذهان وبحلقت العيون. وفجأة دق الجرس معلنا بدء الحصة، فازداد نبض القلوب وارتفع صوت وجيبها وخيم الصمت على القاعة فلم يعد الأستاذ يسمع غير الأنفاس تعلو وتنخفض. صوت نزع اللاصق من على الظرف بدا كمثل هبة ريح قوية ارتجت له الأجساد وتردد صداه في أرجاء القاعة.
سُحبت الأوراق من داخل الظرف في حركة عمد الأستاذ إلى جعلها تثير مزيدا من التطلع في نفوس أعياها الانتظار. وبدأ توزيع الاختبارات على التلاميذ. ما إن وُضِعَت الورقة الأولى فوق طاولة التلميذ الذي قُدِّر له أن يكون مجاورا لمكتب الأستاذ المراقب، حتى بدأت الوشوشات، وتحول الهمس إلى كلام مسموع. سرت كلمات مشفرة بين الممتحنين. تحركت الشفاه فالتقطت الآذان المرهفة تلك المبهمات وفكت شفرتها: النمذجة، الهوية، الفن.
صمت مطبق يعم القاعة من جديد، لحظات اكتشاف وتجلٍّ وانصبت العيون على الأوراق وانشدت الأذهان للكلمات، وراح التلاميذ يقرؤون الأسئلة، يتأملون ويتألمون. ارتفع صوت من وسط القاعة يشق الصمت الذي كان مخيما "عَوْجُونا"، علت على إثره الهمهمات واختلطت المشاعر بين مستبشر ومتذمر. نقر الأستاذ بأصابعه نقرات خفيفة على المكتب فعاد الهدوء إلى القاعة. بعض الوجوه علاها الوجوم، وطفت الفرحة على أخرى. لكن لا مفر، على الجميع أن يفكر، أن يكتب، أن يحلل، أن ينثر أفكاره ويعرضها، أن يُجري الامتحان.
وعلى الذين أعيتهم الحيلة وعجزوا عن التفكير أن يُمضوا نصف الوقت، على الأقل، داخل القاعة محاصرين بين مطارق الأسئلة العصية ونظرات الأستاذ المراقب. الغش ممنوع، بل محاولته تعتبر شروعا في ارتكابه ويوجب من العقاب الذي يتدرج من إلغاء الامتحان إلى الحرمان من اجتياز الامتحان سنة أو أكثر. القانون هنا يعلو ولا يُعلى عليه. يطبَّق بصرامة. لا مجال للتأويل أو الاجتهاد. الكلمات قليلة والعبارت واضحة، لا مجال للتساهل أو المخاطرة. كل زلة تعني السقوط في هاوية لا تصل إلى قرارها أيدي المنقذين.
صوت صرير الأقلام يشق الصمت. وبدأ المداد ينزل مدرارا يعانق بياض الصفحات العطشى. صراع مرير بينهما، فلا المداد جف ولا البياض تضاءل وانصاع، كل يريد أن يبسط سطوته على الآخر، كل يتحدى الآخر، غريمان منذ الأزل...تناثرت الأفكار نتفا متجاورة، تطايرت حباتها وعلى رأس القلم أن يلتقطها ويرتبها في خيط دقيق لكنه متين، رخو لكنه عنيد. جاست الذاكرة صفحات وكتبا وانتقلت من رواق إلى رواق، ولجت أبواب كراسات ودفاتر، وجمعت ما تناثر من جذاذات وتلاخيص.
مضت ساعة. ازداد التركيز، وحُبِّرت المسودات. الأذهان تتنكب الأفكار وتعركها وتعجنها وتطوعها لتقدمها في النهاية لقمة جاهزة ناضجة لمصحح قد يستسيغها وقد يمجها متقززا.
يقف الأستاذ المراقب قبالة التلميذ صارما ومحايدا، تلتقط أذناه كل شاردة وواردة، تبصر عيناه كل حركة. عليه أن يكون يقظا ثابتا. تحوّل كامل جسده إلى آذان وعيون تصغى كلها وتبصر. هو أيضا يجلس يوما مثلهم على مقعد يجتاز مثل هذا الامتحان. شعر بالملل وفجأة خطر له خاطر غريب، لمَ لا يترك هؤلاء التلاميذ في ما هم فيه، يخوضون امتحانا عدّوه مصيريا، النجاح فيه يعني انفتاح أبواب الحياة أمامهم على مصراعيها متناسين أن دروب الحياة كثيرة ومتشعبة. وعنَّ له أن يجرّب الغوص في عقولهم. بدت له الفكرة طريفة أول الأمر فلم يتردد في المضي فيها رغم ما فيها من عنت ومشقة، فعليه أن يمتلك مفاتيح تلك العقول، وعليه أن يكون بارعا في فك الأقفال التي ربما علا بعضها الصدأ.
جال بنظراته متفرسا الوجوه وتوقف عند ذاك الذي يقبع في الركن الأيسر من القاعة يطحن طرف القلم بأضراسه، يصعّد بصره تارة إلى السقف ويصوّبه تارة أخرى إلى الأسفل. كان يحرك رأسه كأنه يعد الحاضرين واحدا واحدا. سأل مرتين عن الوقت. رسم خطوطا متداخلة فوق الورقة المسودة ثم التقطها ولاك جزءا منها وضعه بعد ذلك فوق الطاولة، وكرمش ما بقي منها وظل يلهو به بين يديه. في هذا العقل المضطرب قرر الأستاذ الغوص. هاله ما رأى، رأى هذا التلميذ يقف على الشاطئ يتطلع نحو البحر، يمشي ويجيء في توتر باد وقلق ممض، أوراق نقدية تظهر حافاتها من جيب سرواله الدجين، يتقي الشمس بيديه، يرفع بصره إلى الأعماق، فجاة يصل ما يشبه المركب، يجري نحوه ويرتمي فيه، لم يكن وحده، كانوا ثلة من أنداده. استدار المركب ومضى شاقا العباب ميمما الضفة الشمالية للمتوسط.
ترك هذا التلميذ واضطراب مياه المتوسط. وتسلل بين أفكار تلميذة جالسة أمامه، لم ترفع بصرها عن أوراقها منذ خطّت الحرف الأول. روى مداد كلماتها الورقة أو كاد. لم يتوقف ذهنها عن الوثوب وراء الأفكار ولم يَعْيَ من اللهاث خلف الشواهد والأقوال، ولم ينثن أمام التقلبات والزوابع. اجتاز الأستاذ كل تلك الأكوام من الآراء والمواقف والبراهين ليجد نفسه في عالم ضاج بسيارة فارهة ووظيفة مرموقة ومسكن أنيق. رأى خدما وموظفين يرتعدون لمجرد سماع صوتها، ورآها محاطة بهالة من العسس والرجال الأشداء الأقوياء الذين لا يترددون في إطلاق الرصاص على كل من تسول له نفسه الدنو من مملكتها.
في وسط القاعة جلس تلميذ بشعر متناثر على وجهه، عيناه غائرتان، ينوء تحت حمل ثقيل لا يفصح عنه. هاب التطفل عليه، فكر في أن أقفال عقل هذا الفتى عتيقة وصدئة وكثيرة، لكن ذلك لم يمنعه من المحاولة، فما إن تجاوز بابا حتى صده آخر. تجاسر أكثر. وفي لحظة خاطفة عبر تلك الحواجز والأسلاك التي أحاط بها هذا الفتى ذاتَه فاستقبلته رايات سود وبيارق مختلفة وأصوات ارتطام سيوف. رأى جيادا وفرسانا بدروع قوية وجنودا يتمترسون وراء أكوام من الرمل في استعداد لخوض هجوم على عدو لا يرونه. رأى طعنا وتخريبا وخنادق وصلوات خوف تؤدى فوق ظهور الخيل ورؤوسا متطايرة وأوصالا مقطوعة ودماء تسيل بلا توقف. عقل هذا الممتحن ضاج بصور من عمق التاريخ ملوثة بدماء الأبرياء وجرائم التتار والمغول، سبايا وأسرى ويتامى وثكالى وأرامل. كاد يتقيأ من هول تلك الفوضى فأسرع بالانسحاب قبل أن يطاله رمح من تلك الرماح المجنونة فيبقر بطنه.
على اليمين من مقعد ذلك التلميذ جلست تلميذة على حافة الكرسي كأنها تتأهب للجثو على ركبتيها. بدت قلقة متوترة، تسابق الزمن كأنها تستعجل الخروج من القاعة. لم يجد صعوبة في اختراق حواجزها فنطّ بيسر، وجد نفسه وسط حديقة غنّاء، احتفال ورقص وموسيقى صاخبة، طاولات ضاجة بكل أنواع الأكل والشراب، قبلات وأضواء ساطعة وملابس بألوان زاهية وأشجار وارفة وأروقة طويلة بعض أبوابها مشرعة، والأخرى موصدة تصدر منها همهمات وتنبعث منها أضواء خافتة بلون الفرح داخلها. رغب في الانغماس في تلك اللذائذ لكنه كبح جماح فرسه لا تعففا بل أيمانا بأن أوان كل ذلك قد فات ووجد نفسه يقف في المحطة الخطأ وفي التوقيت الخطأ. جرى مسرعا لا يريد أن يلتفت وراءه، وترك ذلك العالم الموحل لمن هم أهل له.
ثلاث ساعات مرت. ولم يغادر أي تلميذ القاعة. فلا المداد جف، ولا معين الأفكار نضب، ولا الأوراق اكتفت مما خُطَّ فوق بياضها.
ما زال الصمت يخيم على القاعة، لا صوت يعلو فوق رغاء العقول. تضطرم نيران الأفكار وتتأجج. فتاة في الركن الأيسر من القاعة طلبت من الأستاذ المراقب أن يمدها بورقة تحرير. سار نحوها، مد يده بالورقة واحتمى بها ليرتمي بين تلافيف عقل تلك التلميذة. تاه بين الهدايا والعطورات وباقات الورد الملقاة في كل ركن من أركان ذلك العقل، الرسائل الغرامية المحبّرة بمياه الورد ودموع العيون، رسائل تبوح بالشوق والعشق واللهفة، مطرزة بصور قلوب تضطرم بنار الهيام، وعود ومواعيد ولقاءات، هاتف محمول ضاج بأرقام ورموز وبرسائل إلكترونية لا تحصى، حاول قراءة بعضها فلم يُفلح، أراد أن يجمع شتاتها عساه يظفر ببعض ما يرشده إلى كاتبها ففشل، كانت مكتوبة بلغة غير اللغات التي تعلمها.
ترك كل ذلك وراح يتأمل ساعته اليدوية. خلال النصف ساعة المتبقي من زمن إجراء الاختبار انتقل سريعا من عقل إلى عقل فرأى أهوالا وفظائع، صورا لفناني وفنانات ولاعبي كرة قدم، ألبومات موسيقية وأغان مقززة كلماتها. رأى شواطئ وملابس صيفية خليعة وسجائر ومخدرات وعلب خمر وفخاخا منصوبة على أهبة الانطباق على فرائسها. رأى عذابا وألما ويتما وفقرا وظلما وخوفا وترددا وتجاسرا وعنادا وصبرا وكفاحا. رأى زنازين ضيقة وصحاري شاسعة وبحارا ممتدة. لكن الغريب في الأمر كله أنه لم ير لا النمذجة ولا الهوية ولا الفن فتساءل عمّا كتبته هذه العقول الضاجة إلا بما طُلِب منها.
أنقذه الجرس عندما دق معلنا انتهاء زمن حصة الامتحان. جمع التحارير وخرج يسابق الزمن حتى لا تلتهمه ضواري ذلك العالم الموحل.