جَنْكِلِفيتش وألعاب الحياة ـ هادي معزوز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse01083" لا يوجد شيء أكثر نَجاعَةً إلا هاته اللحظة في حياتنا، هذا الصباح المُتناهِ في الصغر، هذا الهامش المُتَحَجِّبُ القابعِ في سماء الأبدية، هذا الربيع الصغير جدا الذي لا يأتي إلا مرة واحدة، ثم يختفي بعدها."
ــ الفيلسوف جنكلفيتش ــ
" ما الزمن إذن؟ إذا لم يستفسرني شخص ما عليه فأنا أعرف ما هو، أما إذا طلب مني أحدهم تفسيرا له، آنذاك أجدني عاجزا عن الإجابة"
ــ القديس أوغسطين ــ 
" بهاء لحظة ما، يتجلى تحديدا في عكس الموت والفقدان، وغنيمتها هي أن ما يموت هو الموت نفسه، حتى وإن كان هذا الموت في اللحظة الميتة... هناك أيضا سرقة للحياة مقارنة مع الموت."
ــ الفيلسوفة سينثيا فلوري ــ

من منا لم يحس في حياته، بل في يوم واحد من حياته بسكون صباح ربيعي أو صيفي، حيث الهدوء سيد المكان، بسماءه الصافية النقية، وعبيره وأريجه الذي يدخل أحاسيسنا ووجداننا بدون استئذان، حيث الروح تسمو بنا إلى أقصى أقاصي الكينونة المنسية، على إيقاع موسيقي رخيم مُتَغَنِّجٍ، في تصور يعجز العقل على تفسيره وإدراكه، حيث نستشعره بالإحساس المرهف بدل العقل، ونستمتع بجلاله وجماله بأرواحنا لا بأفكارنا، انطلاقا من هاته اللحظة وجوهرها التي وضعنا فيها الفيلسوف المعاصر الشهير جنكلفيتش، يدعونا هذا الأخير إلى العودة للنظر في الفكر الفلسفي انطلاقا من فلسفة الحياة، مانحا إيانا مفاهيم لصالح أخرى، وأبعادا جديدة بدل ما أرسته صرامة الفلسفة الألمانية والإنجليزية والفرنسية على حد سواء، وإن كان الرجل يمتح من نضوب عدة، يبقى أهمها فلسفة كل من القديس أوغسطين الذي لا يخفي إعجابه به، وصولا إلى هايدغر مرورا بنيتشه وبرغسون.

من المعلوم أن التاريخ الإشكالي للفلسفة المعاصرة، يضعنا أمام منعرج كبير جدا، بنى صرحه كلا من شوبنهاور، كيركجارد ثم نيتشه، حيث انعتقت الفلسفة من التخوم التي رسمها هيجل، لتعدو بعدئذ فلسفة موت، وكينونة، كما أصبحت فلسفة حياة وعود أبدي، بدل خضوعها لتلك الصرامة الكانطية الهيجلية، أي أنها أصبحت فلسفة إنسان في علاقته بالحياة، قبل أن كانت فلسفة عقل تحاول أن تفسر كل شيء بقواعد ثابتة لا تغيير لها، هكذا وجد جنكلفيتش نفسه أمام هذا التغير الذي لحق بالفلسفة، والذي ساهم فيه حدثا آخر كان له كبير أثر على فلسفته، والذي ليس إلا الفترة الممتدة بين الحربين، حيث غلب اللامنطق على المنطق، وحيث الفكر سلك طريقا آخرا تجلى في ظهور نزعات لا عقلية لقيت كبير ترحيب من طرف الشباب كما الناضجين، من قبيل النزعات السريالية والعبثية والرومانسية الجديدة... واضعة العقل وصرامته في قفص الاتهام، إذ الحداثة التي تعتبر الابنة المدللة للعقل هي التي صنعت لنا أفتك الأسلحة، وهي التي ساهمت في وحشية الإنسان التي أصيب بها إبان عقود النصف الأول من القرن العشرين، حينها كان لزاما للجميع أن يعود لفلسفة نيتشه خصوصا، أي فلسفة الحياة التي تحط من قيمة العقل معوضة إياه بالجسد، والتي تُقَزِّمُ من المنطق لصالح إرادة القوة التي لا منطق لها.
إن أغلب المشتغلين على التاريخ الإشكالي للفلسفة خاصة المعاصرة منها، يؤكدون أن فلسفة نيتشه قد أحدثت قطيعة في طريقة التفلسف ، وهكذا وبدل التأريخ مثلا للعقل، أصبحنا أمام طريقة أخرى للتأريخ والتي ليست إلا الجينيالوجيا la génialogie، حيث إماطة اللثام على الهامش كهامش، من هنا أصبحنا مثلا نؤرخ للجنون والمرض، كما للحب وطريقة الأكل، مثلما نؤرخ كذلك للجِنسانية واللاوجود، وعليه فإن جل هؤلاء المشتغلين يرون أن فلسفة نيتشه عملت على إنزال الفكر الفلسفي من طابعه التجريدي المحض إلى طابعه الحياتي، حيث الفلسفة نمط عيش وفن حياة، حيث الفلسفة لا تقتصر على القراءة والكتابة فقط، وإنما يجب أن تتبدى في طرق عيشنا، في حبنا للآخر كما في رفضه، وفي علاقتنا بالوجود كما في علاقتنا بالعدم، هكذا سار اغلب الفلاسفة الذين جاؤوا بعد نيتشه على نفس منوال أستاذهم، حيث نذكر مثلا فلسفة كل من هايدغر، كارل ياسبرز، فوكو، سارتر، ميرلوبونتي، دولوز، دريدا وآخرون...
في نفس السياق وعندما نعود لهؤلاء الفلاسفة أنفسهم، نجد أنهم لم يتمكنوا من تخطي نيتشه والتمرد على فلسفته في الحياة، أي القذف بها نحو الأمام، بقدر ما كانت قراءتهم قراءة دياكرونية diachronique لا سانكرونية synchronique، بعبارة أخرى كنا تقريبا أمام فلاسفة تجريديين بدل فلاسفة استطاعوا إكمال وتطوير évoluer ما قام به فيلسوف المطرقة، حيث ابتعدوا على ارتداء زِيِّ ومعطف فلسفة الحياة كما أريد لها، معوضين إياه بزي فلسفة الحياة التجريدية، في هذا السياق إذن ظهر الفيلسوف جَنكلفيتش Jankélévitch، فما هي يا ترى أهم قراءاته للفلسفة؟ وما هي أبرز المفاهيم التي اعتمدها مجالا لتفلسفه؟ 
عندما دعانا كل من نيتشه وهايدغر إلى العودة للفلاسفة الطبيعيين، من خلال البدء العظيم والمعجزة الإغريقية، كانت دعوتهما هاته تحمل رسالة مفادها أن الثلاثي الإغريقي: سقراط، أفلاطون ثم أرسطو، قد انزاحوا عما تقتضي أن تكون عليه الفلسفة، حيث ابتعدوا عن الحياة لصالح الميتافيزيقا، وأهملوا الإنسان لصالح المنطق، عكس الفلاسفة الذين كانوا قبلهم حيث تميزت فلسفتهم بالركون في الأرض والطبيعة بدل الصعود إلى عالم الأفكار، لقد فهم فيلسوفنا جنكلفيتش الرسالة جيدا، عندما وجد أن الحياة يؤسسها الغياب بدل الحضور، وتؤسسها اللحظة بدل الزمن، ويصنعها النسيان بدل التذكر، مما جعله يركز نظرته الكبيرة على اللحظة كما الغياب، وعلى النسيان كما العدم، خاصة في كتابه الذي لا يخلو من غرابة في عنوانه : «  le je ne sais quoi et le presque rien. » حيث يدعونا فيه إلى الاستمتاع والإحساس بكل لحظة تهبها لنا الحياة، هاته اللحظة لا يمكن أن تحدد بامتداد الزمن بقدر ما أنها خالدة في الإحساس كما في الوجدان، وعليه فإن الزمن ليس هو زمان الحضور، بقدر ما أنه زمن اللحظة كحضور، والحال أن العيش في اللحظة كما أكدت ذلك الفيلسوفة الفرنسية سينثيا فلوري Cynthia Fleury، لا تدل على الانتظار المجهول، بقدر ما أنها تتأسس على دعوتها للقدوم، حيث نحن من يجب عليهم الذهاب نحوها وإن كان ذلك يتطلب منا كبير شجاعة وإقدام، لأن إدراك اللحظة هو إدراك للذات وإدراك للحياة كذلك، أي أن الانخراط في هاته الفلسفة ليس يدل على التوفر على نصيب كبير من المعرفة فقط، بل إن شجاعة الفعل تستوي وشجاعة التفلسف.
والواقع أن لعبة الحياة هاته تكتمل عندما نحس بهاته اللحظة، نحس بها ولا نفسرها، لأن وجودها خارج عن كل إدراك عقلي، وبما أنها كذلك فإنها خارج كل زمان، لهذا يضرب جنكلفيتش مثالا على ذلك في مؤلفه سابق الذكر، عندما يضعنا أمام صباح ربيعي بأريجه كما ببهاءه، حيث لا يجب ترك هاته اللحظة تمر مرور الكرام، بقدر ما وجب الانخراط فيها عودة للذات من جانب، وعودة للحياة وكنهها من جانب آخر، بل إن الانخراط فيها مثلا تنجم عنه عديد المظاهر من قبيل ربط تلك العلاقة الحميمة بين الإنسان والطبيعة، عندما طوعها العقل وحولها إلى منبع لخدمة الإنسان، إضافة إلى مسألة  الابتعاد عن كل ما يمكنه أن ينسينا جوهر الوجود وفي هذا إشارة مبطنة لما جاء به هايدغر، الذي أكد أن الفن والشعر هما السبيل الأوحد نحو إدراك الوجود الأصيل، بل إن رسائل فيلسوفنا نحو هايدغر لم تتوقف عند هذا الحد، بقدر ما أنه أدلى بدلوه في تلك العلاقة الشهيرة بين الوجود والزمن، فما هو الجديد الذي جاء به جنكلفيتش في هذا الشأن؟
إن الاهتمام بسؤال الزمن في فلسفة جنكلفيتش تكرست تحت وطأة أكبر الأحداث التي عاصرها الرجل إبان القرن العشرين، والتي ليست إلا ما وقع في الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين، لهذا كان لزاما علينا أولا تأمل الزمن كزمن، وليس كأحداث وقعت في الزمن، أي أن الزمن ليس هو ما يقع في الزمن، بقدر ما أن الزمن هو ما يمكن سرقته من الوعي، بعبارة أخرى الزمن هو تلك الأشياء التي تمت سرقتها من الوعي بما أن هذا الأخير يضفي طابع الحضور ويؤمن بالأحداث كأحداث وقعت أو أنها ستقع، أي أن الوعي عندما يسقط في هذا الفخ فإنه يقتل اللحظة لصالح الإدراك العقلي، أما على النقيض من ذلك فإن الحياة ليست تتجلى في الأحداث الواقعة، بقدر ما أن الحياة تتجلى في تلك الأحاسيس التي تضربنا دون أن نجد السبيل إلى تفسيرها، الأحداث يصنعها الإنسان القوي، والحياة تصنعها اللحظة خارج القوة، هذا ويضيف جنكلفيتش في نفس معرض حديثه على الزمن، عندما يؤكد أن هذا الأخير أي الزمن ملازم لكل ما هو موجود وجودا أصيلا، عندها فالحقيقة زمنية أي أن الوجود نفسه زمن l’être c’est le temps، وهو الذي لم ينتبه إليه هايدغر حينما سقط في فخ الزمن كرونولوجيا chronologique، بدل قراءته وفق طبيعته الأنطولوجية ontologique، لكن لعبة الزمن والتي تتولد عن لعبة الحياة، تكمن في أن الزمن صعب تعريفه إن لم نقل غير ممكن بتاتا، فالزمن حسب جنكلفيتش :" ليس شيئا بقدر ما أنه لا شيء تقريبا  إنه أول الاشياء غير المُعَرَّفَةِ، وفي المقابل فهو الشكل القبلي لكل ما هو غير مُعَرَّفٍ" بيد أن الزمن وإن كان يتميز بهاته الخاصية فهو موجود le temps est، وعلة وجوده تكمن في أنه لا ينقطع عن التغير، إنه يخضع لصيرورات دائمة بيد أنه يبقى زمنا في كل حال من الأحوال، أي أنه ثابت كزمن ومتغير أيضا كزمن، إن عوده عَوْدٌ أبدي، بيد أن هاته العودة هي عودة المتغير وليس عودة الثابت، le temps, .même s’il donne l’impression de revenir au même, ne ce répète jamais
إن الزمن وبما أنه كذلك فهو غير مرتبط بالحضور من جهة، كما أنه ليس يخضع لثلاثية الماضي والحاضر فالمستقبل، زمن الحياة كحياة هو اللحظة، لكن ليست اللحظة التي أرسى دعائمها نيتشه والتي وظفها هذا الأخير لتصديع زمن الميتافيزيقا، فأخذت بدورها طابعا ميتافيزيقيا صرفا، وإنما اللحظة التي تُعاش والتي نحس بها كلحظة، هاته اللحظة ترتبط بالحياة عندما تولِدُ الإنسان من جديد، أي أن الإنسان عندما يقبل بلعبة الحياة هاته، فإنه يقسمها إلى لحظات، لكل لحظة سياقها ومجالها، كما لكل لحظة سحرها ووقعها الخاص، من هنا على الإنسان أن يعيش كل لحظة بما تستحق، إنه بولد من جديد وهو ما يضع للنسيان سلاحا كبيرا لمواجهة ما تخاف منه الحياة، كما يعتبر معملا لصناعة الأمل المستمر في الحياة، مما يجعل اللحظة متفوقة دوما على الموت.
لا مِرْيَةَ في أن الفلسفة اهتمت بشدة بسؤال الموت، بيد أن وَقْعَ فلسفة جنكلفيتش على الموت، وضعنا في سياق آخر مغاير تماما لما قاله الفلاسفة قبله، حيث أن سحر اللحظة يقتل الموت، عندها وبدل أن تموت الحياة، تقتل الموت نفسها مادامت الحياة مرتبطة باللحظة، أي أنها خارجة عن الحضور والتغير، وكما قلنا من قبل، وبما أن اللحظة خالدة في اللحظة، فإن الموت يصعب عليها التمكن منها، بما أنها ـ الموت ـ لا تتمكن إلا من الأشياء الخاضعة للحضور، هكذا فإن ما يموت هو الموت نفسه، بل إنه حتى في اللحظة السائرة إلى الموت نجد أن نفس اللحظة تسرق الحياة من الموت، عندها تفقد الموت حياتها لصالح الحياة، فتتوسع دائرة الحياة وتتقلص دائرة الموت فتقتل الحياة الموت بدل العكس، من هنا فاللحظة وكما تقول سينثيا فلوري يمكن أن تقتلعنا من الفناء متفوقة بذلك على الإحساس بالموت.
لا شك أن فلسفة الألفية الثالثة تكاد تختلف عن الفلسفات السابقة، كأننا أمام حقبة جديدة في التاريخ الإشكالي للفلسفة، ومنه فقد بات لزاما علينا اليوم أن نصنع فلسفة للحياة بمنطق عملي محض، وليس من بعد نظري جاف، وذلك بناءً على إشكالات واقعنا الحالي، المتميز بهيمنة التقنية الرقمية وما يرافقها من استلاب تام للإنسان، ناهيك عن عصر السرعة هذا الذي بتنا ضحية له، إضافة إلى ابتعادنا شيئا فشيئا عن تلك العلاقة البدائية بيننا وبين الطبيعة، حيث كنا جزءا لا يتجزأ منها، فلنتأمل هاته العلاقة اليوم كي نخلُصَ إلى أن الإنسان الحالي بات أكثر تعاسة من ذي قبل، من ثمة فهي فرصة للعودة ولو لمرة في حياتنا إلى فلسفة جنكلفيتش حيث للحياة منطقا آخرا أكثر إعجابا بها، وأسمى ارتباطا بلحظاتها التي يمكن أن تضفي على الإنسان طابع الأبدية المطلقة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟