يشكل مذهب أهل الإعتزال أحد المذاهب الكلامية الكبرى في تاريخ الإسلام, حيث حاول مشيخة المذهب إعادة قراءة موضوعات الله و العالم و الإنسان إعتمادا على العقل المحض و بحضور قرآني , و رغم اختلافهم فقد اتفقوا في المنهج و الأصول و كانوا في ذلك يصدرون عن نزعة نقدية أسست للهدم و البناء بشكل مسؤول و مهذب , فساهموا في إنشاء لاهوت وقف صلدا و صامدا أمام الزنادقة و المجوس..فصح بحق أن يكون علم الكلام المعتزلي رياضيات العقل التجريدي.
و نظرا لكوننا لا نقدم هنا دراسة كاملة تحيط بعناصر المذهب فسأقتصر على عرض عام لنظريتهم في المشكل الإنساني و الطبيعي و كذلك مسألة المسائل و التي منها انطلقوا لفهم العالم و الإنسان , إنها مشكلة الذات و الصفات مع ذكر لبعض من رجالاتهم بشكل وجيز.
ولعل ما يلحظه القارئ لفكر المعتزلة هو منهجهم التحليلي للميتافيزيقا و مشكل الحرية اعتمادا على ملكة العقل الحرة , و هو موقف يذكرنا بعكس ما قام به أهل العرفان و الذوق حينما فكروا في اللغة و هدموها هدما فأسسوا بذلك لعالم لغوي خاص أقرب للغو بمخالفته لمنطق اللغة الطبيعية , و بانبنائه على كيان عجيب قوامه الهمس و الغمز اللغوي و الرمز و الإشارة.
لقد رأت الصوفية في اللغة العادية نفس ما رآه علماء الرياضة والمنطق: عقبة أمام المعرفة, فأنتج العقل العلمي و المنطقي لغة أسست على الرموز الرياضية و المنطقية يسهل تطويعها في مجال البحث العلمي و حاجات الإنسان اليومية. و على الرغم من أن اللغة الطبيعية تستطيع استيعاب القضايا العلمية الكبرى إلا أن فك رموز الكون المكتوب بلغة حسابية صارمة و تحقيق التقدم في هذا المجال يلزم استخدام أسلوب المعادلات الرياضية و كذلك يوجب إتباع لغة منطقية تفي بغرض التعبير الدقيق لدنيا الفكر بعيدا عن الإعتبارات السيكولوجية.. فكان أن إنتهى العلم الدقيق و المنطق إلى طريقة لقراءة العالم عكس المتصوفة الذين هدموا اللغة من أجل هدم العالم و المعرفة فأسقطوا حالاتهم النفسية على الخالق و رسله..عليهم السلام فأنطقوهم بعجائب الأمور.
و إذا كانت لغة المتصوفة, في حالات الفناء و الإتحاد و الشطح.. منتجة للاعقل و الباثولوجيا فإن العلم الدقيق بنى بلغته الصارمة نسقا معرفيا منتهاه فك طلاسم الوجود بمنهج علمي ينتج اليقين, و لم يتنكب الطريق كالدراويش لإزدرائهم حضور العقل في كل عمليات التفكير العليا .. وبتزويرهم معاني الطبيعة و اللغة و الوحي تحت مسمى منهج الذوق الذي يعطي معنى يختلف عن ما نفهمه نحن بعقولنا من الأشياء.
فالمعنى موجود بثبات في الكون و القرآن و ما علينا سوى قراءتهما من أجل فهم المعنى الواضح.. و كذلك أقول كفى من الصراخ و العويل و أكذوبة التأويل المتعدد..أو فهم خاص -عالم- للعلماء و فهم -هابط- للرعاع و العامة-الدهماء -و هذا تقسيم قديم في التاريخ كرسته الفلسفة المشائية.. و كان إبن رشد أحد الذين إرتكبوا خطأ فادحا بتقسيم المعرفة إلى نوعين : معرفته هو و أستاذه أرسطو و معرفة الرعاع..و هذا غاية في الدجل. فخالق العباد لم يميز بين الناس إلا بالتقوى, أما العلم: فعقول البشر جميعا قادرة على إستيعابه و فهمه , فهو لا ينتج, و إنما: يكتشف .إن المعنى يسكن مصادر المعرفة و ما العقل والحواس سوى وسائل..و المشكل ليس في اللغة..بل في سلوك الإنسان الفكري و إحترامه لشروط التفكير الصحيح..أو لا.
لماذا نقول أن القرآن يحتاج لعلم كبير حتى يفهم كنهه ؟ لماذا ندعي أن عقل العالم غير عقل الإنسان العادي ؟ ما هذا ؟ ما معنى العقل و العلم؟؟ لماذا نؤمن بأن ما يفهمه الإنسان البسيط غير ما يفهمه الإنسان العالم.. هل أرسل الخالق كتابا غامضا لا يفقهه سوى بعض العلماء , الصوفية,الأئمة,الفلاسفة ؟هل نادى القرآن بالطبقية في العلم ؟ و هل عقل الفلاح و بائع الرثاث لا يعرف بميزانه العقلي الغريزي تعلق فهم النصّ بمعرفة سياقه العام و الخاص و فهم من المخاطب و المخاطب و شروط الزمكان و الثقافة... لفهم النص؟ إن القرآن ندد فقط و ناقش العقل المكتسب لتأثيره القوي على العقل الغريزي و بالعقل الغريزي نستطيع أن ننسف الثقافة المكتسبة و كذلك حث العقل الغريزي على إعادة النظر في الكون و المكتسبات..و أثبت قدرته في الوصول إلى الحقيقة و بالرغم من ذالك لن يعذبه إلا إذا بلغه الوحي الإلهي و رفضه.
و الإيمان بالله هو أساس و نتيجة للعلم به والنظر و البراهين متعلقة بالهدى و التقوى ..
لهذا تجد علماء كبار أغنوا الحضارة الإنسانية بعلمهم و لكن ضلوا الطريق إلى الله ,ضلوا الطريق إلى الجنة..بينما تجد راعي غنم بفطرة طاهرة - لن يحصل عليها العالم إلا إذ كابد المحن و انتقل من الحيرة و الشك بسبب العقل المكتسب إلى الأمن النفسي و الإطمئنان ..- يعيش أعلى درجات الخشوع النقي و الطهر الديني حيث لا مكان هناك للنفاق.. إلا فيما ندر. أوليس هذا بالعلم أي الإيمان الذي يريده الله تعالى للعبد ؟ أوليس العلم هو معرفة الله و طاعته حتى الممات ؟ فالعلم يؤدي إلى الإيمان حيث تعيش الهدى و هي مرحلة تطمأن فيها أنك على طريق صحيح و أن لا مجال للعب..
فراعي الغنم عندما يقرأ القرآن أو يستمع إليه ينحني ملتزما به إنحناء لن يذقه العالم إن وجد .
و إن كان هذا العالم موجودا فهو نادر جدا .و هذا العلم منشؤه إستخدام العقل الفطري و هذا الأخير نجده عند راع بين الجبال...و ما أقوله هنا يلاحظه من عاش و ناقش و لا حظ حياة البدويين .ثم سؤال ثان :
لماذا ليس هناك تأويل متعدد لسلوك الطبيعة ( كينونة الأمر الإلهي) إلا عندما تكون النظرية العلمية مجرد نظرية أي : إحتمالات و فروض لم يبرهن بعد عن صحتها و ثباتها أمام النقد ؟ فهناك دوما حقيقة علمية واحدة يتفق عليها كل البشر فيكون إختلاف العلماء فيما بعد عن مصدر .. تلك الحقيقة و ليس الحقيقة ذاتها , و هذا الأمر ينتمي إلى فلسفة العالم ,عندما يتفلسف العالم, و فلسفة العالم غير العلم ذاته , فيكون العالم المتفلسف خارج القفص الصارم للمنهج العلمي و بذالك يتيح الفرصة لثقافة الأجداد للتعبير عن نفسها فينسب له العلم و هو ينتج الخطأ قياسا على إنتاجه الصائب في العلم الدقيق..
والفلسفة هي نهاية العلم و بدايته.
فلنعد إلى المعتزلة العقلانية..
و إذا كان الأمر كذلك فلنطرح السؤال عن معنى العقل الإعتزالي ؟؟
و لماذا قابلهم أصحاب المذاهب الأخرى بضرب كف بكف و الصراخ و النحيب ؟
و لماذا أسموهم بمجوس هذه الأمة ؟ بل العجيب أن النسابة بمنقرها الطويل قالت بدون إستحياء و لا خجل أن النبي (ص) قال :
القدرية مجوس هذه الأمه فإن مرضوا فلا تعودوهم , و إن ماتوا فلا تشهدوا جنائزهم !! ؟ أمر عجيب و جرأة كبيرة..فالقدرية مصطلح مستحدث لوصف من دافع عن حرية الإنسان في خلق الأفعال و أنكر القدر السالب لها. و كان ذلك بعد موت النبي (ص) .
وهل فعلا من قال بأن الله تعالى لا يرغم أحدا على الكفر أو الإيمان مجوسي؟ فالقرآن ممتلئ و يفيض بآيات تطفح بهذا .. و هذا الحديث الكاذب يضاهي قول الإمام الشافعي :
إذا وجدتم السنة ( الحديث) فاتبعوها و لا تلتفتوا إلى أحد . كان من الأولى أن يدعوا إلى القرآن أليس كذلك؟؟
فقد حكم سلبا و طعن في الله تعالى و هو يدري ما يقول طبعا..
يعتبر العقل عند المعتزلة الحجة القائمة بذاتها , المستقلة بكيانها, لذالك فهي غير محتاجة لدليل تحتج به فالعقل هو كل العلوم الضرورية المركوزة في المكلف و هي سبيل لتحقيق المعرفة بالنظر و التفكير في الأدلة و هو قوة تحصيل العلم و التمييز بين الأضداد و الأشياء.
العقل إذا هو القادر وحده على البحث بشكل منظم في القضايا الوجودية لإدراك كنه الحياة و سننها و كذلك لمعرفة حسن الأشياء و قبحها , و العقل يحتوي قوانين ركبت فيه أساسا لانتاج قراءة صحيحة للعالم ..طالما رافقته الحرية في البحث و النظر.
إن العالم ليس بكائن مغلق , تحتويه الألغاز ..بل على العكس فهو شديد الوضوح يحتاج فقط لعقل حر للتبحر في أركانه القصوى.
و حرية العقل تلزمه القدرة على تبني موقف أو إعتقاد.. معين أو تركه بدون ضغط و إلزام خارجيين كتدخل الإرادة الإلهية في تغيير مجرى الإختيار الإنساني الحر و لذلك فالعبد منتج أو قل خالق لأفعاله و ان شئت فكل إنسان مشروع لنفسه , يفعل ما يشاء بدون إكراه خارجي. و لعل هذا الإعتقاد يهدم أساس الإيمان بالجبر الإلهي , فالقدر لا يضطرك جبرا لكي تزني , تكفر , تسرق , تحكم بالسيف , تكفر, تؤمن , تفعل الخير ..فالمسألة مسألة إلتزام حر و ليست مسألة إلزام..
ليس هناك حتمية في مجال أفعال العباد , فالعبد قادر على فعل الخير و الشر بينما الخالق لا يفعل سوى الخير .
فالإنسان عند المعتزلة ,حالة خاصة , و إذا كان حرا مريدا لأفعاله ..لزم أن يخضع للثواب و العقاب و هذا الأمر صاغه الفلاسفة كمبدأ فلسفي للبرهان على وجود الله تحت إسم البرهان الأخلاقي و الذي مفاده :
أنه من المستحيل أن تنتهي حياة البشر على الأرض بالفناء بدون حياة أخرى حيث سيعاقب الظالم على ما ألحقه بغيره من ظلم و كذلك ليثاب المحسن و يتمتع المظلوم بالعدل و الإنصاف.
و بما أن الدنيا الحالية لا نرى فيها هذا النوع من القسط لزم أن يكون هناك خالق للناس سيتولى في الآخرة مسألة الحكم بين العباد بالقسط.فالعقل السوي الغريزي ـ الميزان ـ لا يقبل العبث.
فكما ترى فالنسق المعتزلي ـ متناغم الأطراف ـ أزاح بالفعل الجمود الفكري و إنقض بالحجاج و الأدلة لنقض نظرية الجبر الإلهي .. دفاعا عن الإرادة الحرة و تنزيها للخالق تعالى عن الظلم .
و بطبيعة الحال فالمعتزلة ساهموا في بناء علم الكلام , و علم التوحيد في تاريخ الإسلام لم يعرف التشاؤم و هو يناقش الله و العالم ..كما ضاعت فلسفة اليونان و حكمة الهند.. في أحضان العدمية .. مستنقع نيتشه ,فيلسوف اللامعنى , و السبب البسيط هو عدم الإيمان بخالق أسمى و أكمل علما من قدراتنا المعرفية.. فإنكار الخالق ـ و هذا قمة الغباء المستكبر ـ أدى الى أن دب الإرهاب و الضياع إلى نفوس هي أقرب في بنائها إلى بناء العنكبوت فراحت تؤسس لفلسفة الجنون و التصحر العقلي.. مناقضين بذالك فلسفة الوحي حين صاغ نسقا نهائيا في الطبيعة و ما ورائها مرورا بالوجود الإنساني.
و ليس هناك من شك في إطلاع المعتزلة على فلسفة يونان و فهمهم إياها و إن كان ذالك تأسيسا لنقدها موضوعا و منهجا مؤسسين بذلك نظرة جديدة في الوجود و المعرفة.. لم تكن إمتدادا للفكر الهيليني و إن تأثرت بمفاهيم يونانية إحتوتها كذلك نحل متعددة كالديصانية وا لمانوية الممتلئة بالأفكار الغنوصية و اليونانية..التي هاجمت الإسلام فكان لها حضور قوي في فكر السهروردي المقتول و إبن سبعين و إبن عربي..الذين محوا الفوارق الموجوده بين الخالق و المخلوقات . هذا الأمر الذي جالده رواد الإعتزال بقوة كبيرة لطمس ما يناقض القرآن المقروء عقلا , أو قل أن المعتزلة حاربوا الملل و النحل في ضوء العقل المحض و هو يتأول القرآن عقلا .
فالمعتزلة أخضعوا التراث اليوناني.. الذي هاجمهم كما أخضعوا القرآن للعقل المحض و ظلوا أوفياء لأسسهم الفكرية سواء إتفق النص الديني معها أو لا , فهم يرفضون نصا دينيا لا يقبله عقلهم , بل يقومون بتأويل له دعما لمبادئهم الفلسفية, و كانوا يقومون بهذا كفلاسفة مسلمين , مومنين بالوحي ..
و إعتمادا على هذا صاغوا نظريتهم في الله و العالم فرأوا أن :
الله تعالى شيء لا كالأشياء , ليس بجسد و لا مادة و لا جوهر و لا جزء و لا عرض.. و لا يتحرك و لا يسكن و ليس له جهة , خارج الزمكان , منزه عن الشريك و الولد و الصاحبة , غير مدرك بالأبصار و لا يشبه الخلق بوجه من الوجوه , اي هو خالق الأشياء , أزلي , غير محدث فهو الأول و غيره محدث..فالله تعالى كما جاء في مقالات الكعبي :عين واحدة.
و لا يخفى عليك أن هذا كان ردا على هجوم المعتقدات اليونانية , و النصارى .. و المجسدة ..
و يمضي المعتزلة : فالله خلق الخلق على ما خلق , و ليس على مثال سابق ( أفلاطون) .. كما نفوا صفات الله تعالى كصفات قائمة بالذات تشاركه القدم , و أنه تعالى أعطى للعدم وجودا, و العدم شيء ذو ماهية.
و قول المعتزلة هذا قد يؤدي للظن أنهم ارادوا بذلك قدم العالم كما عند إبن رشد..و لكن مرادهم غير هذا : فقد أثبتوا ازلية الخالق وحده فهو الأول ..و المشكلة قائمة في فهم الخصوم لمعنى العدم و حمولته المعرفية المعتزلية , و العدم كما نعلم لا شيء , حتى لا يكون الأمر متماشيا مع المثل الأفلاطونية أو الهيولي عند أرسطو .
إن المعتزلة تؤمن بأن الله تعالى خلق الخلق و الخلق غير أزلي و إذا فالخالق وحده هو الأزلي و هذا و اضح في نقدهم لفكرة المحرك الأول الذي يقتصر دوره على تحريك العالم , و الطبيعة عند المعتزلة محدثة , فعل لله , فهو علتها , فلا مجال هنا للقول بقدم العالم .
و السياق العام للمعتزلة ينفي شيئية المعدوم , فالعدم ليس بمادة أولى , و الكون الحالي لم يصبح كما هو الآن بعد ما كان على حالة و طبيعة أخرى في العدم , و قول المعتزلة بشيئية المعدوم كان من أجل حماية التنزيه و التوحيد , و لم يهدفوا الى القول بقدم العالم , و لم يتأثروا بفلسفة يونان لأن هذا الأمر يناقض التوحيد عندهم , و قصدهم بشيئية المعدوم يعني : أن حقيقة الوجود الحالي كانت ثابتة في علمه تعالى قبل إنتقال الوجود من حالة العدم إلى حالة الوجود تماما مثلماأن حقيقة العالم الأخروي ثابتة في علمه قبل تحققه في الوجود و هذا صريح في القرآن و كلنا يعلمه ..فلا داعي للقول بأن المعتزلة تأثروا باليونان..
ونظرا لخطورة العقائد فقد توجه المعتزلة بالنقد لكل فكر يعارض مبدأ التوحيد , فآمنوا بنفي الصفات الزائدة على الذات و أنه ليس كمثله شيء و أدى هذا إلى القول بخلق القرآن و قالوا كما أسلفنا بما ينقض الجبر فدافعوا عن مذهب الإختيار و حرية الإنسان في خلق أفعاله , و أن الله لا يفعل القبيح و لا يخل بما هو واجب ..و لا يظلم و لا يجور ..فانتهوا إلى أن الله عادل و أن القبح و الحسن ذاتيان في الأفعال نافين بذالك القدر الإلهي.
و بما أن الله لا يظلم أحدا ,فالعبد مسئول عن معتقده و سلوكه, فان الوعد و الوعيد يلزم تحققه في الآخرة لإن الكافر غير المومن الصالح, و قالوا أن الفاسق يحمل صفة الكفر و الإيمان في نفس الوقت و لقصور العقل الانساني فالله هو الأقدر على إصدار الحكم عليه إعتمادا على مقدار الكفر و الإيمان ـ ايهما أكبر ـ لتحديد مصيره أنار أم جنة .كما شكل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أصلا من أصولهم . فأسسوا بهذا بنية اللاهوت رفقة من قام بالرد عليهم و لا شك أن المعتزلة و الأشأعرة إرتكبوا أخطاء و لكن هذا لا يقدح في ما أضافوه معا للحضارة الإنسانية. و الآن سنعرض فقط لشيخين من شيوخ الإعتزال إختزالا للوقت و تخفيفا على من لا يملك الرغبة في القراءة..
كان ابو الهذيل العلاف أحد الشيوخ الكبار المنافحين عن مذهب الإعتزال و المدافعين عن عقائد الاسلام و كان نسيج و حده , و عالم دهره , ولم يتقدمه احد من الموافقين له و لا المخالفين...كما جاء في كتاب المنية و الأمل ,وكان مولده سنة أربع و ثلاتين و مائة و كان مولى لعبد قيس .
توفي العلاف عن سن إختلفوا فيها و الأرجح انه كان طويل العمر و مات ايام المتوكل سنة خمس و ثلاثين و مائتين حسب نفس المصدر.
و حسب المصادر فالعلاف تفرغ للبحث و دراسة الفلسفة اليونانية .. و ناظر العديد من ممثلي مختلف الملل و النحل , و كان يقطعهم بما قل و دل , كما كان زاهدا عابدا و إن رموه بالكفر..مخلصا للإسلام خائضا جليل الكلام و مساهما في تأسيس دقيقه , بانيا بذلك نسقا رائعا جعله يتعرض لنقد الزنديق إبن الروندي .. فانبرى الخياط , أحد شيوخ المعتزلة لتأليف كتاب الإنتصار كرد فعل للرد على إبن الروندي .
كان العلاف أستاذا للنظام ـ ابن أخته ـ و روح مذهبه لا تخالف المعتزلة إلا في بعض الفروع , فسنقتصر فقط على عرض بسيط لبعض من آرائه .
فالله تعالى عنده ذات و هي عين الصفة , و الله ليس بجسم ...و وجهه تعالى هو نفسه و نفسه هي هو تعالى و يده نعمته , فالعلاف يثبت الذات و الصفات , إلا أن الصفة هي عين الذات , كما آمن العلاف بأن الخالق يقدر على فعل واحد و هو الأصلح لإنقاد الحريه الإنسانية في إتيان الأفعال , مقررا أن العباد في هذه الدنياأحرار مخيرين و في الآخرة مجبرين , لا يقدرون على شيء , لانها دار جزاء و ليست بدار عمل , كما قال بإنه تعالى لا يستطيع إتيان ما دون الأصلح لينسب الشر و الخير للانسان و بذالك إقتصر فعل الله على فعل الخير فقط و مؤدى هذا تقييد القدرة الإلهية بالإستطاعة الإنسانية .. و للعلاف مذهب في الارادة الإلهية : فإذا اراد الله تعالى خلق شيء ما يقول له كن فيكون و إرادة الله تعالى قديمة و هي عين الذات و محدثة قبل خلق الكون و هي صفة للفعل , و الإرادة المحدثة غير الشيء المحدث , و هي لا في محل . و مراد هذا القول قد يكون ان العلاف جابه النصارى المومنين بقدم كلمة الله ـ المسيح ـ فجاء رأيه المنكر لقدم الكلمة دفاعا عن التوحيد و التنزيه و لا علاقة له بالمثل الأفلاطونية القديمة و التي في محل .
و يرى كذلك انه تعالى خالق الذرات و هي مخلوقة يحكمها الزمن .. لها بداية و نهاية , و الخالق يفعل فيها ما يشاء بإرادته تعالى , و بهذا يخالف ذرات اليونان الأزلية عند أبقورس و ديموقريطس ..
فالعالم عند العلاف يتكون من الذرات , في إتصالها ينشأ الكون و في إفتراقها يفسد و الله تعالى من يحركها و يفعل فيها ما يشاء , و هو قادر على تجزئة الجسم حتى يصل إلى مستوى يقف فيه الإنقسام و هنا الإختلاف بينه و بين تلميذه النظام و الذي سنعرض له في الحلقة القادمة لنرى أن علماء الكلام أنتجوا كلاما تقف الفيزياء الحديثة بجانبهم بعض الشيء.
و الإيمان بالله هو أساس و نتيجة للعلم به والنظر و البراهين متعلقة بالهدى و التقوى ..
لهذا تجد علماء كبار أغنوا الحضارة الإنسانية بعلمهم و لكن ضلوا الطريق إلى الله ,ضلوا الطريق إلى الجنة..بينما تجد راعي غنم بفطرة طاهرة - لن يحصل عليها العالم إلا إذ كابد المحن و انتقل من الحيرة و الشك بسبب العقل المكتسب إلى الأمن النفسي و الإطمئنان ..- يعيش أعلى درجات الخشوع النقي و الطهر الديني حيث لا مكان هناك للنفاق.. إلا فيما ندر. أوليس هذا بالعلم أي الإيمان الذي يريده الله تعالى للعبد ؟ أوليس العلم هو معرفة الله و طاعته حتى الممات ؟ فالعلم يؤدي إلى الإيمان حيث تعيش الهدى و هي مرحلة تطمأن فيها أنك على طريق صحيح و أن لا مجال للعب..
فراعي الغنم عندما يقرأ القرآن أو يستمع إليه ينحني ملتزما به إنحناء لن يذقه العالم إن وجد .
و إن كان هذا العالم موجودا فهو نادر جدا .و هذا العلم منشؤه إستخدام العقل الفطري و هذا الأخير نجده عند راع بين الجبال...و ما أقوله هنا يلاحظه من عاش و ناقش و لا حظ حياة البدويين .ثم سؤال ثان :
لماذا ليس هناك تأويل متعدد لسلوك الطبيعة ( كينونة الأمر الإلهي) إلا عندما تكون النظرية العلمية مجرد نظرية أي : إحتمالات و فروض لم يبرهن بعد عن صحتها و ثباتها أمام النقد ؟ فهناك دوما حقيقة علمية واحدة يتفق عليها كل البشر فيكون إختلاف العلماء فيما بعد عن مصدر .. تلك الحقيقة و ليس الحقيقة ذاتها , و هذا الأمر ينتمي إلى فلسفة العالم ,عندما يتفلسف العالم, و فلسفة العالم غير العلم ذاته , فيكون العالم المتفلسف خارج القفص الصارم للمنهج العلمي و بذالك يتيح الفرصة لثقافة الأجداد للتعبير عن نفسها فينسب له العلم و هو ينتج الخطأ قياسا على إنتاجه الصائب في العلم الدقيق..
والفلسفة هي نهاية العلم و بدايته.
فلنعد إلى المعتزلة العقلانية..
و إذا كان الأمر كذلك فلنطرح السؤال عن معنى العقل الإعتزالي ؟؟
و لماذا قابلهم أصحاب المذاهب الأخرى بضرب كف بكف و الصراخ و النحيب ؟
و لماذا أسموهم بمجوس هذه الأمة ؟ بل العجيب أن النسابة بمنقرها الطويل قالت بدون إستحياء و لا خجل أن النبي (ص) قال :
القدرية مجوس هذه الأمه فإن مرضوا فلا تعودوهم , و إن ماتوا فلا تشهدوا جنائزهم !! ؟ أمر عجيب و جرأة كبيرة..فالقدرية مصطلح مستحدث لوصف من دافع عن حرية الإنسان في خلق الأفعال و أنكر القدر السالب لها. و كان ذلك بعد موت النبي (ص) .
وهل فعلا من قال بأن الله تعالى لا يرغم أحدا على الكفر أو الإيمان مجوسي؟ فالقرآن ممتلئ و يفيض بآيات تطفح بهذا .. و هذا الحديث الكاذب يضاهي قول الإمام الشافعي :
إذا وجدتم السنة ( الحديث) فاتبعوها و لا تلتفتوا إلى أحد . كان من الأولى أن يدعوا إلى القرآن أليس كذلك؟؟
فقد حكم سلبا و طعن في الله تعالى و هو يدري ما يقول طبعا..
يعتبر العقل عند المعتزلة الحجة القائمة بذاتها , المستقلة بكيانها, لذالك فهي غير محتاجة لدليل تحتج به فالعقل هو كل العلوم الضرورية المركوزة في المكلف و هي سبيل لتحقيق المعرفة بالنظر و التفكير في الأدلة و هو قوة تحصيل العلم و التمييز بين الأضداد و الأشياء.
العقل إذا هو القادر وحده على البحث بشكل منظم في القضايا الوجودية لإدراك كنه الحياة و سننها و كذلك لمعرفة حسن الأشياء و قبحها , و العقل يحتوي قوانين ركبت فيه أساسا لانتاج قراءة صحيحة للعالم ..طالما رافقته الحرية في البحث و النظر.
إن العالم ليس بكائن مغلق , تحتويه الألغاز ..بل على العكس فهو شديد الوضوح يحتاج فقط لعقل حر للتبحر في أركانه القصوى.
و حرية العقل تلزمه القدرة على تبني موقف أو إعتقاد.. معين أو تركه بدون ضغط و إلزام خارجيين كتدخل الإرادة الإلهية في تغيير مجرى الإختيار الإنساني الحر و لذلك فالعبد منتج أو قل خالق لأفعاله و ان شئت فكل إنسان مشروع لنفسه , يفعل ما يشاء بدون إكراه خارجي. و لعل هذا الإعتقاد يهدم أساس الإيمان بالجبر الإلهي , فالقدر لا يضطرك جبرا لكي تزني , تكفر , تسرق , تحكم بالسيف , تكفر, تؤمن , تفعل الخير ..فالمسألة مسألة إلتزام حر و ليست مسألة إلزام..
ليس هناك حتمية في مجال أفعال العباد , فالعبد قادر على فعل الخير و الشر بينما الخالق لا يفعل سوى الخير .
فالإنسان عند المعتزلة ,حالة خاصة , و إذا كان حرا مريدا لأفعاله ..لزم أن يخضع للثواب و العقاب و هذا الأمر صاغه الفلاسفة كمبدأ فلسفي للبرهان على وجود الله تحت إسم البرهان الأخلاقي و الذي مفاده :
أنه من المستحيل أن تنتهي حياة البشر على الأرض بالفناء بدون حياة أخرى حيث سيعاقب الظالم على ما ألحقه بغيره من ظلم و كذلك ليثاب المحسن و يتمتع المظلوم بالعدل و الإنصاف.
و بما أن الدنيا الحالية لا نرى فيها هذا النوع من القسط لزم أن يكون هناك خالق للناس سيتولى في الآخرة مسألة الحكم بين العباد بالقسط.فالعقل السوي الغريزي ـ الميزان ـ لا يقبل العبث.
فكما ترى فالنسق المعتزلي ـ متناغم الأطراف ـ أزاح بالفعل الجمود الفكري و إنقض بالحجاج و الأدلة لنقض نظرية الجبر الإلهي .. دفاعا عن الإرادة الحرة و تنزيها للخالق تعالى عن الظلم .
و بطبيعة الحال فالمعتزلة ساهموا في بناء علم الكلام , و علم التوحيد في تاريخ الإسلام لم يعرف التشاؤم و هو يناقش الله و العالم ..كما ضاعت فلسفة اليونان و حكمة الهند.. في أحضان العدمية .. مستنقع نيتشه ,فيلسوف اللامعنى , و السبب البسيط هو عدم الإيمان بخالق أسمى و أكمل علما من قدراتنا المعرفية.. فإنكار الخالق ـ و هذا قمة الغباء المستكبر ـ أدى الى أن دب الإرهاب و الضياع إلى نفوس هي أقرب في بنائها إلى بناء العنكبوت فراحت تؤسس لفلسفة الجنون و التصحر العقلي.. مناقضين بذالك فلسفة الوحي حين صاغ نسقا نهائيا في الطبيعة و ما ورائها مرورا بالوجود الإنساني.
و ليس هناك من شك في إطلاع المعتزلة على فلسفة يونان و فهمهم إياها و إن كان ذالك تأسيسا لنقدها موضوعا و منهجا مؤسسين بذلك نظرة جديدة في الوجود و المعرفة.. لم تكن إمتدادا للفكر الهيليني و إن تأثرت بمفاهيم يونانية إحتوتها كذلك نحل متعددة كالديصانية وا لمانوية الممتلئة بالأفكار الغنوصية و اليونانية..التي هاجمت الإسلام فكان لها حضور قوي في فكر السهروردي المقتول و إبن سبعين و إبن عربي..الذين محوا الفوارق الموجوده بين الخالق و المخلوقات . هذا الأمر الذي جالده رواد الإعتزال بقوة كبيرة لطمس ما يناقض القرآن المقروء عقلا , أو قل أن المعتزلة حاربوا الملل و النحل في ضوء العقل المحض و هو يتأول القرآن عقلا .
فالمعتزلة أخضعوا التراث اليوناني.. الذي هاجمهم كما أخضعوا القرآن للعقل المحض و ظلوا أوفياء لأسسهم الفكرية سواء إتفق النص الديني معها أو لا , فهم يرفضون نصا دينيا لا يقبله عقلهم , بل يقومون بتأويل له دعما لمبادئهم الفلسفية, و كانوا يقومون بهذا كفلاسفة مسلمين , مومنين بالوحي ..
و إعتمادا على هذا صاغوا نظريتهم في الله و العالم فرأوا أن :
الله تعالى شيء لا كالأشياء , ليس بجسد و لا مادة و لا جوهر و لا جزء و لا عرض.. و لا يتحرك و لا يسكن و ليس له جهة , خارج الزمكان , منزه عن الشريك و الولد و الصاحبة , غير مدرك بالأبصار و لا يشبه الخلق بوجه من الوجوه , اي هو خالق الأشياء , أزلي , غير محدث فهو الأول و غيره محدث..فالله تعالى كما جاء في مقالات الكعبي :عين واحدة.
و لا يخفى عليك أن هذا كان ردا على هجوم المعتقدات اليونانية , و النصارى .. و المجسدة ..
و يمضي المعتزلة : فالله خلق الخلق على ما خلق , و ليس على مثال سابق ( أفلاطون) .. كما نفوا صفات الله تعالى كصفات قائمة بالذات تشاركه القدم , و أنه تعالى أعطى للعدم وجودا, و العدم شيء ذو ماهية.
و قول المعتزلة هذا قد يؤدي للظن أنهم ارادوا بذلك قدم العالم كما عند إبن رشد..و لكن مرادهم غير هذا : فقد أثبتوا ازلية الخالق وحده فهو الأول ..و المشكلة قائمة في فهم الخصوم لمعنى العدم و حمولته المعرفية المعتزلية , و العدم كما نعلم لا شيء , حتى لا يكون الأمر متماشيا مع المثل الأفلاطونية أو الهيولي عند أرسطو .
إن المعتزلة تؤمن بأن الله تعالى خلق الخلق و الخلق غير أزلي و إذا فالخالق وحده هو الأزلي و هذا و اضح في نقدهم لفكرة المحرك الأول الذي يقتصر دوره على تحريك العالم , و الطبيعة عند المعتزلة محدثة , فعل لله , فهو علتها , فلا مجال هنا للقول بقدم العالم .
و السياق العام للمعتزلة ينفي شيئية المعدوم , فالعدم ليس بمادة أولى , و الكون الحالي لم يصبح كما هو الآن بعد ما كان على حالة و طبيعة أخرى في العدم , و قول المعتزلة بشيئية المعدوم كان من أجل حماية التنزيه و التوحيد , و لم يهدفوا الى القول بقدم العالم , و لم يتأثروا بفلسفة يونان لأن هذا الأمر يناقض التوحيد عندهم , و قصدهم بشيئية المعدوم يعني : أن حقيقة الوجود الحالي كانت ثابتة في علمه تعالى قبل إنتقال الوجود من حالة العدم إلى حالة الوجود تماما مثلماأن حقيقة العالم الأخروي ثابتة في علمه قبل تحققه في الوجود و هذا صريح في القرآن و كلنا يعلمه ..فلا داعي للقول بأن المعتزلة تأثروا باليونان..
ونظرا لخطورة العقائد فقد توجه المعتزلة بالنقد لكل فكر يعارض مبدأ التوحيد , فآمنوا بنفي الصفات الزائدة على الذات و أنه ليس كمثله شيء و أدى هذا إلى القول بخلق القرآن و قالوا كما أسلفنا بما ينقض الجبر فدافعوا عن مذهب الإختيار و حرية الإنسان في خلق أفعاله , و أن الله لا يفعل القبيح و لا يخل بما هو واجب ..و لا يظلم و لا يجور ..فانتهوا إلى أن الله عادل و أن القبح و الحسن ذاتيان في الأفعال نافين بذالك القدر الإلهي.
و بما أن الله لا يظلم أحدا ,فالعبد مسئول عن معتقده و سلوكه, فان الوعد و الوعيد يلزم تحققه في الآخرة لإن الكافر غير المومن الصالح, و قالوا أن الفاسق يحمل صفة الكفر و الإيمان في نفس الوقت و لقصور العقل الانساني فالله هو الأقدر على إصدار الحكم عليه إعتمادا على مقدار الكفر و الإيمان ـ ايهما أكبر ـ لتحديد مصيره أنار أم جنة .كما شكل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أصلا من أصولهم . فأسسوا بهذا بنية اللاهوت رفقة من قام بالرد عليهم و لا شك أن المعتزلة و الأشأعرة إرتكبوا أخطاء و لكن هذا لا يقدح في ما أضافوه معا للحضارة الإنسانية. و الآن سنعرض فقط لشيخين من شيوخ الإعتزال إختزالا للوقت و تخفيفا على من لا يملك الرغبة في القراءة..
كان ابو الهذيل العلاف أحد الشيوخ الكبار المنافحين عن مذهب الإعتزال و المدافعين عن عقائد الاسلام و كان نسيج و حده , و عالم دهره , ولم يتقدمه احد من الموافقين له و لا المخالفين...كما جاء في كتاب المنية و الأمل ,وكان مولده سنة أربع و ثلاتين و مائة و كان مولى لعبد قيس .
توفي العلاف عن سن إختلفوا فيها و الأرجح انه كان طويل العمر و مات ايام المتوكل سنة خمس و ثلاثين و مائتين حسب نفس المصدر.
و حسب المصادر فالعلاف تفرغ للبحث و دراسة الفلسفة اليونانية .. و ناظر العديد من ممثلي مختلف الملل و النحل , و كان يقطعهم بما قل و دل , كما كان زاهدا عابدا و إن رموه بالكفر..مخلصا للإسلام خائضا جليل الكلام و مساهما في تأسيس دقيقه , بانيا بذلك نسقا رائعا جعله يتعرض لنقد الزنديق إبن الروندي .. فانبرى الخياط , أحد شيوخ المعتزلة لتأليف كتاب الإنتصار كرد فعل للرد على إبن الروندي .
كان العلاف أستاذا للنظام ـ ابن أخته ـ و روح مذهبه لا تخالف المعتزلة إلا في بعض الفروع , فسنقتصر فقط على عرض بسيط لبعض من آرائه .
فالله تعالى عنده ذات و هي عين الصفة , و الله ليس بجسم ...و وجهه تعالى هو نفسه و نفسه هي هو تعالى و يده نعمته , فالعلاف يثبت الذات و الصفات , إلا أن الصفة هي عين الذات , كما آمن العلاف بأن الخالق يقدر على فعل واحد و هو الأصلح لإنقاد الحريه الإنسانية في إتيان الأفعال , مقررا أن العباد في هذه الدنياأحرار مخيرين و في الآخرة مجبرين , لا يقدرون على شيء , لانها دار جزاء و ليست بدار عمل , كما قال بإنه تعالى لا يستطيع إتيان ما دون الأصلح لينسب الشر و الخير للانسان و بذالك إقتصر فعل الله على فعل الخير فقط و مؤدى هذا تقييد القدرة الإلهية بالإستطاعة الإنسانية .. و للعلاف مذهب في الارادة الإلهية : فإذا اراد الله تعالى خلق شيء ما يقول له كن فيكون و إرادة الله تعالى قديمة و هي عين الذات و محدثة قبل خلق الكون و هي صفة للفعل , و الإرادة المحدثة غير الشيء المحدث , و هي لا في محل . و مراد هذا القول قد يكون ان العلاف جابه النصارى المومنين بقدم كلمة الله ـ المسيح ـ فجاء رأيه المنكر لقدم الكلمة دفاعا عن التوحيد و التنزيه و لا علاقة له بالمثل الأفلاطونية القديمة و التي في محل .
و يرى كذلك انه تعالى خالق الذرات و هي مخلوقة يحكمها الزمن .. لها بداية و نهاية , و الخالق يفعل فيها ما يشاء بإرادته تعالى , و بهذا يخالف ذرات اليونان الأزلية عند أبقورس و ديموقريطس ..
فالعالم عند العلاف يتكون من الذرات , في إتصالها ينشأ الكون و في إفتراقها يفسد و الله تعالى من يحركها و يفعل فيها ما يشاء , و هو قادر على تجزئة الجسم حتى يصل إلى مستوى يقف فيه الإنقسام و هنا الإختلاف بينه و بين تلميذه النظام و الذي سنعرض له في الحلقة القادمة لنرى أن علماء الكلام أنتجوا كلاما تقف الفيزياء الحديثة بجانبهم بعض الشيء.