يتعلق هذا الموضوع بدراسة سوسيولوجية للدكتور ابراهيم حمداوي حول "الجريمة بالمجتمع المغربي" الذي صدر عن منشورات دار القلم الرباط سنة 2013، حيث تكون هذا الكتاب من 156 صفحة، وهو في الاصل دراسة ميدانية أنجزها بأحياء مدينة الدار البيضاء من اجل فهم هذه الظاهرة في المجتمع المغربي انطلاقا من تحديده لمفاهيم واستناده لمجموعة من النظريات التفسيرية لظاهرة الجريمة.
فكيفما كنا مجرمين أو غير ذلك، سواء كنا واعين بالانتهاكات والخروقات التي نقوم بها أو غير واعين، فإن عدم احترام قاعدة أو قيمة نجد تفسيره في اختلالات فردية أو اجتماعية أو هما معا. وترتبط هذه الاختلالات إضافة إلى التغير الاجتماعي بالاضطرابات التي يعرفها المجتمع في فترة ما، فالجريمة لا تجد أسبابها في الفرد أو الأسرة أو جماعة الرفاق فقط رغم أهميتها، وإنما ترتبط بالتغيرات السوسيواقتصادية والسياسية التي يعرفها المجتمع، وهنا يطرح صاحب الكتاب فكرة اللامعيارية أو الانوميا كاختلال رئيسي لظهور سلوكات منحرفة، فظواهر الانحرافات يمكن تحليلها على ضوء ميكانيزمات اجتماعية مختلفة، يعتبر البناء الاجتماعي أولها لفهم العلاقة بين الجريمة والتغير الاجتماعي من جهة والعمليات أو العوامل التي لها علاقة بهذا التغير من جهة أخرى أبرزها؛ التحضر ، الهجرة، العوامل السكانية والأسرة بالإضافة الى التغيرات التي تطال الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية والقيمية التي يعرفها المجتمع.
وقد تمت الإشارة في هذا الكتاب إلى أن المجتمع الإنساني لم يخلو من الظاهرة الإجرامية في كل زمان ومكان، فهي في تزايد مستمر لظروف واعتبارات قد تكون فردية أو جماعية ارتبطت بالتنظيم الاجتماعي. فالجريمة في هذه الدراسة إذن تجد تفسيرها من خلال تحليل بنيات المجتمع لفهم العلاقة بين التغير الاجتماعي والجريمة " أي التحليل البنيوي" هذا التحليل سينصب على التغير والأشياء التي تقاومه أو تعيقه. وبناءا على ذلك، تمت دراسة التغيرات التي مست المجتمع المغربي منذ استقلاله من جميع جوانب حياته وخلخلة جل بنياته.
وتكمن أهمية هذه الدراسة في مدى ملاءمة نظرية اللامعيارية والتحضر والطريقة الحضرية في الحياة للتطبيق على المجتمع المغربي في فترة التغير السريع، وعلى هذا الأساس تم طرح الإشكالية التالية:
• هل السلوك الإجرامي ناتج عن التغيرات العامة والبارزة التي عرفها المجتمع المغربي، والتي مست بنياته التي تمثل بعضها في الهجرة من القرية إلى المدينة، وما نتج عنها من تحضر أو شبه تحضر، وما ارتبط بها من زيادة في عدد السكان في المدن خصوصا في محيطها، وأثار التحضر على الفرد والجماعة من صراع القيم والمعايير ....الخ؟
وللإجابة عن هذه الإشكالية ارتأينا تقديم خلاصة لأهم الأفكار التي جاء بها كتاب "الجريمة في المجتمع المغربي" للدكتور إبراهيم حمداوي.
قراءة لأهم الأفكار التي تضمنها كتاب "الجريمة في المجتمع المغربي":
إن أول ما تمت الإشارة إليه في هذا الكتاب هو تحديد المفاهيم التالية:
مفهوم الجريمة: لقد تناول د.حمداوي مفهوم الجريمة من خلال 3 أبعاد أساسية ألا وهي: البعد القانوني ـ البعد السيكولوجي ـ البعد الاجتماعي، ففي إطار القانون الجنائي عرف المشرع المغربي الجريمة في الفصل 110 من القانون الجنائي "الجريمة فعل أو امتناع مخالف للقانون ومعاقب عليه بمقتضاه". ويعتبر فعل ما جريمة عند إحداثه اضطرابا وضررا من داخل المجتمع. أما في الفقه الجنائي؛ فقد اختلفت التعاريف لمصطلح الجريمة حسب الركنين "المادي والمعنوي"، ونجد على أن هناك بعض التعاريف التي تقوم على أساس الركن المعنوي للجريمة وأخرى تهتم بالركن القانوني، الشيء الذي يدل على وجود اتجاهين مختلفين:
الاتجاه الشكلي أو القانوني يعتبر الجريمة كل عمل مخالف للقانون الجنائي.
الاتجاه الموضوعي الذي يرى في الجريمة فعلا من شأنه إلحاق الضرر بمصلحة المجتمع والأفراد.
يتضح إذن أن المشرع لايجرم سوى الأفعال التي تحدث اضطرابا في المجتمع والتي يضفي عليها طابع الجريمة سواء كانت ايجابية أو سلبية، وهذا يعني أن المشرع يستعمل سلطته للتحكم في مبدأ شرعية التجريم والعقاب، واستنادا إلى الضوابط والمبادئ التي تراعي أساس المصلحة العامة في المجتمع، هذا إضافة إلى مفهوم أن الجريمة لا يتحقق إلا بوجود نص قانوني يجرم الفعل أو الامتناع عن الفعل والتي يجب أن تتوفر فيه ثلاث أركان أساسية وعند غياب واحد منها لا يمكن إضفاء صبغة الجريمة على ذلك الفعل أو الامتناع ، ويتعلق الأمر بالركن القانوني والركن المادي والركن المعنوي.
أما من الناحية السيكولوجية فقد أشار علماء النفس إلى الجريمة على أنها سلوك معاد للمجتمع كأي نوع آخر من أنواع السلوك الشاذ أو الغير السوي الذي يحتاج إلى العلاج كباقي الأمراض العقلية الأخرى، من صراعات نفسية تدفع للجريمة. يقوم د.حمداوي هنا بالإشارة إلى برت الذي يرى بان التصرفات الإجرامية ما هي إلا انطلاق للدوافع الغريزية انطلاقا مرا لا يعيقه عائق وانه من الممكن النظر إلى أنواع الاغتصاب والجرائم الجنسية وغيرها على أنها تعبيرات لغرائز معينة، ويتجه الكسندر أيضا إلى أن السلوك الإجرامي يكون نتيجة للاضطراب في قوى الشخصية الثلاث : الهو والانا والانا الأعلى في تكيفها مع القانون الأخلاقي السائد في المجتمع.
وبصفة عامة يرى أصحاب المدرسة النفسية أن كل فعل إجرامي يعبر عن صراعات نفسية تدفع للجريمة.
وفي نهاية تعريف الجريمة ينتقل صاحب الكتاب للناحية السوسيولوجية، حيث اعتبرت؛ هي ذلك الفعل الذي تعتقد الجماعة انه يشكل ضررا على مصلحتها الاجتماعية، أي ذلك الفعل الشاذ والضار في نفس الوقت، فهو انحراف عن المعايير والضوابط المجتمعية للسلوك سواء نص القانون على اعتباره جريمة أم لم ينص على ذلك، وقد تباينت آراء الفقهاء بشأن المعنى الاجتماعي للظاهرة الإجرامية؛ فمنهم من ربط بين الجريمة ومخالفة كل قواعد الأخلاق لا بعضها، ومنهم من ربط بين الجريمة وبين القيم الاجتماعية.
ثم انتقل بعد ذلك لتعريف مفهوم آخر لا يقل أهمية عن المفهوم الأول وهو التغير الاجتماعي، الذي اعتبر من المفاهيم التي صعب تحديدها في مجال العلوم الاجتماعية لكون كلمة التغير في حد ذاتها محايدة تماما، لان مضمونها يتغير مع الزمن وهذا ما دفع الكثير من الباحثين في هذا الموضوع إلى الانطلاق من افتراضات دون أن تتضمن دراساتهم وأبحاثهم تعريفا واضحا لمعنى التغير.
ويشير في هذا الصدد للباحثانSmith و F.R Alenاللذان انطلقا من المفهوم، إلى كون التغير الاجتماعي هو التغيرات أو التعديلات بأي شكل للعملية أو النمط أو الصورة الاجتماعية. أما فروجرز فقد اعتبر التغير عملية وليست حالة وبذلك فهو مستمر لان ليس له بداية ولا نهاية.
أما مور فقد اعتبر التغير الاجتماعي :هو ذلك التحول ذو الدلالة في البنى الاجتماعية ولكي يعتبر أي تحول تغير اجتماعي يجب أن يتكامل على نحو ملائم مع المجتمع لكي يترسخ، ويشير هذا التعريف إلى السلوك الاجتماعي الفعلي والى التغير الثقافي وهذا يوضح المزج بين التغير الاجتماعي والثقافي من خلال هذا التحديد، نفس الشيء بالنسبة لبتريم سوركين ومالينوفيسكي بان الجانب الاجتماعي والاقتصادي غير قابل للانفصال، في حين يرى علماء آخرون ضرورة التمييز بين التغير الثقافي والاجتماعي حيث تم اعتبار التغير الاجتماعي جزءا من التغير الثقافي.
ويطرح هذا الكتاب مشكلة أخرى مضافة لمشكلة تحديد مفهوم التغير الاجتماعي ألا وهي كيف نقيس هذا التغير؟ فما يمكن قوله الآن هو أن الجهود غير ناضجة لوضع قياس عام، وتمثل المؤشرات الاجتماعية احد الاتجاهات الرئيسية في دراسة التغير الاجتماعي، وقد صنف ليند كينيث هذه المؤشرات إلى ثلاث فئات: مؤشر الرفاهية ـ مؤشرات الإشباع والمؤشرات الاشباعية.
ثم ينتقل لتعريف مفهوم السلوك الإجرامي: من حيث كونه سلوك مضاد للمجتمع وموجه ضد مصلحته العامة، فعند الحديث عن هذا السلوك ينبغي توفر مجموعة من العناصر؛ كالضرر ـ أو أنه يجب أن يكون هذا السلوك الضار منصوصا عليه في قانون العقوبات ـ أو توافر القصد الجنائي...وغيرها.
ثم انتقل بعد ذلك الى نظريات التعلم التي تفسر جانبا من السلوك الإجرامي كما أشار كل من skinner و Bandura، هذا الاخير الذي يقول في نظريته عن التعلم الاجتماعي، المركزة بشكل كبير على دور البيئة في تشكيل السلوك الإجرامي، مثالا لذلك الطفل الذي ينتبه للنماذج العدوانية في بيئته ، ويقوم باستدماجها ليكررها في مواقف لاحقة وذلك بإعادة إنتاج نفس الأنماط السلوكية، أي انه يقوم بإحداث تغير على المستوى السلوكي.
إضافة إلى ذلك هناك عوامل أخرى مرتبطة بالأسرة لما لها من اثر كبير في اضطراب سلوك الطفل، كموت احد الوالدين ـ الطلاق ـ الخلافات ـ الإساءة النفسية والجنسية...وغيرها.
أما بخصوص الحجم الإحصائي للجريمة، لوحظ تضخم لعدد القضايا الزجرية سواء على مستوى القضايا المعروضة على قضاء الحكم أو التحقيق أو النيابة العامة.
وأن الفئة الأكثر ميلا لارتكاب الجريمة هي فئة الشباب وتتركز هذه الجرائم بالأساس في المدن الكبرى، إلا انه ومهما كانت الإحصائيات فهي تبقى ناقصة لوجود أرقام سوداء ولا تعكس الواقع الحقيقي للجريمة بقدر ما تعكس مجهودات الجهات المختصة.
بعد ذلك قام الباحث بالتطرق إلى المبادئ التي تفسر الظاهرة الإجرامية؛ كالتحضر، التنمية الاقتصادية والوسط شبه حضري ووسائط التنشئة الاجتماعية.
إن التحولات التي اجتازها العالم القروي عبر الصيرورة الزمنية منذ بداية القرن كمكننة القطاع الفلاحي والصناعي التي حلت محل الأدوات والوسائل التقليدية للإنتاج، والبيت الإسمنتي الذي حل محل الخيمة أو النوالة وغيرها التي يمكن اعتبارها مظهر من مظاهر التغير الخارجية التي يعترف بها الجميع.
وقد اعتبر التغير أو التحول سمة العصر، التي مست قيم الشباب وعاداتهم، وانعكس ذلك على سلوك الأفراد والجماعات وعلى علاقات الأجيال، هذا التحول الكبير هو تحول تاريخي يتعلق بمرور المجتمع القروي من موقع القوة إلى موقف الضعف.
ثم تطرق بعد ذلك لمبدأ التحضر كمبدأ تفسيري لظاهرة الجريمة، بحيث نجد أن غالبية الأسر في المغرب تميل إلى الأسرة النووية، مع اختفاء نمط الأسرة الممتدة التي كانت سائدة في المجتمعات القروية من قبل، وذلك أدى إلى اختفاء ونبذ القيم السائدة واكتساب قيم جديدة قد يكون لها تأثير على السلوك الإجرامي لكون الأولى لم تعد تتلاءم والوضع الاجتماعي والاقتصادي الجديد، حيث تنعدم القدرة على التكيف والاندماج الكلي في المجتمع، وتفشي ظاهرة البطالة وانعدام فرص الشغل، التهميش والفقر...مما يجعل الجو ملائما لتكبر الجريمة، وبذلك يؤدي اختفاء الصور التقليدية للضبط الاجتماعي واضطراب الحياة الأسرية إلى حدوث الجريمة والجنوح. فالحياة المدنية تتميز بقلة الضبط الاجتماعي بسبب الهجرة، وفي غياب الإحساس بالمسؤولية يفكر الفرد في الوسيلة السهلة لتحقيق غاياته
وان خصائص المناطق المستقبلة للمهاجرين والتغير السريع الذي تخضع له المدن المحيطة، بالإضافة إلى القيم السريعة التغير المصاحبة للتصنع والتحضر وضعف السلطة... يؤدي ذلك إلى فشل سريع من هذا المجتمع على إكمال دراستهم أو الاندماج داخل الحياة التي تفرضها المدينة، مما يؤدي ذلك إلى مشكلات خطيرة والى سهولة ارتكاب الجرائم ونمو ثقافة فرعية إجرامية، ويقول في هذا الصدد عبد الرحمن المالكي ˮ الاندماج هو صيرورة يتمكن من خلالها فرد أو مجموعة من الأفراد من الانخراط في صيرورة أخرى[...] وكل فشل في الاندماج يجعله في حالة عدم تلاؤم وتوافق مع المعايير والقيم السائدة في المجتمع.
وتتميز الحياة المدنية بالاختلاف والتباين على مستوى العمر ـ الثقافة ـ الانتماء الطبقي والسياسي والديني ـ الأصول العرقية والثروة... ومع هذا الاختلاف لا يمكن القول بمعيار واحد للسلوك، وبالتالي خرق القانون في حالات كثيرة لا تتبعه عقوبة في الحياة الحضرية، وهذا ما يدفع الأفراد إلى خرق القانون كلما أتيحت لهم الفرصة، ومثالا لذلك يشير د. حمداوي للأفراد الذين يحصلون على الثروة بيسر، ويكون إنفاقها أيضا بنفس اليسر، مما يجعل تصرفاتهم لا تراعي الضوابط الاجتماعية.
فالتحضر وما يصاحبه من تغير اجتماعي سريع يؤثر في الشخصية وفي التنظيم الاجتماعي وفي ثقافة المجتمع عن بعضها البعض( أي انعدام الانسجام) الشيء الذي يزيد من إحساس الفرد بالفردانية التي تعتبر من شيم الحياة الحضرية، وميوله إلى الحياة المادية، وذلك بالبحث عن الكسب غير المشروع ونشأة ثقافة إجرامية.
ثم بعد ذلك يشير صاحب الكتاب للتنمية الاقتصادية كمبدأ تفسيري في حدوث الجريمة، انطلاقا من الدراسات السوسيولوجية التي توضح أهم التغيرات التي شهدها العالم القروي وما هي إلا نتيجة للتدخل الاستعماري وفرض نمط الإنتاج الرأسمالي، فقد كان هدف المستعمر من الإصلاحات التي قام بها؛ إضعاف القطاعات الإنتاجية واستنزاف الثروات الطبيعية لخلق التبعية.
إن التغيرات الاقتصادية الحادة والسريعة تجد تبريرها في الاعتماد الاقتصادي المرتبط بالظروف الاقتصادية الخارجية والدولة، هذا من جهة ومن جهة أخرى فالاستقرار السياسي والاقتصادي في المغرب لها علاقة بالسياسة الاقتصادية التي تتبعها الدول الأجنبية للحفاظ على مصالحها الاقتصادية في البلدان النامية، ولقد درس العديد من الباحثين في الجريمة وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية.
إن فهم الآليات التي تتحكم في كل هذه التغيرات الاجتماعية تمكننا من فهم الجريمة وأسبابها، وبهذا الغرض ينبغي فهم تبعات التغيرات الاجتماعية والاقتصادية وما ينشأ عنه لتقويم أثارها من حيث علاقتها بالجريمة (فتباهي الأغنياء بثرواتهم مثلا يؤدي إلى تنافس الفقراء لهم).
يمكن القول بان الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تمر منها المجتمعات المتخلفة كالمغرب والمتغيرات السريعة التي تحصل في كل مجال تمارس ضغوطا معينة على انساق القيم والأفعال وذلك بتخلي المجتمع عن وسائل الضبط والردع التي كانت سائدة في المجتمع التقليدي، في الوقت الذي عجز فيه المجتمع المعاصر عن خلق آليات وسن قوانين بوثيرة التغيرات الاجتماعية وهو ما يجعل الأفراد لا يمثلون ولا يتمثلون للقيم الملائمة وبالتالي يصير السلوك مشكلة.
ففي الحياة الحضرية طفت مجموعة من المشاكل والجرائم المختلفة، ويلاحظ في المغرب مثلا أن سارقي الماشية أو أشياء مادية قليلة يعاقبون في حين أن سارقي المال العام قليلا ما يحاسبون؛ هكذا فسر صاحب الكتاب المشاكل الموجودة في الحياة الحضرية في المجتمع المغربي.
كما انه يشير إلى أن الوسط شبه الحضري يشكل مدخلا لتفسير الجريمة لتميزه بالبناء الغير المهيكل وبقلة أو ضعف التجهيزات التحتية والاجتماعية والبعيد عن المركز لكونه يوجد على هامش الأحياء وفي مواقع غير صالحة للبناء والسكن، مما يجعله بعيد عن الاستفادة من الخدمات الاجتماعية أو الثقافية التي تمكن الفرد من عدم الإحساس بالإحباط من جراء التهميش والفقر، وينحدر غالبية سكان هذا الوسط من البادية أو من الأحياء الهامشية الأخرى، لذلك فهو وسط غير حضري(قروي/حضري) أو في صور الانتقال من القرية إلى المدينة، وبالتالي فهذه الازدواجية تخلق لديه ازدواجية على مستوى المعايير أيضا لأن السكان لم يأتوا من قرية واحدة بل قرى مختلفة أي أعراف وتقاليد مختلفة، ومن شأن هذا التفاوت والازدواجية أن تخلق التثاقف والاختلاف والتباين في أنماط التفكير وهو ما يدفع الأفراد في غالب الأحيان إلى انتماءات أو تكتلات لضمان مصالحهم الخاصة، كما أن الفقر والحرمان الذي يعاني منه هذا الوسط في مقابل الوسط الحضري الذي ينعم بالخيرات، يولد الشعور بالغيرة والإحساس بكل أنواع الظلم المتمثلة في التهميش وهو ما يدفع أبناء هذه المناطق شبه الحضرية إلى التعاطي لكل أنواع الجريمة والانحراف.
ثم ينتقل بعد ذلك لوسائط التنشئة الاجتماعية في الوسط شبه الحضري كمدخل لتفسير الجريمة، حيث اعتبر الأسرة كمؤسسة حديثة العهد في هذا الوسط، لكونها منتوج المهاجر القروي الذي يتجه نحو تكوين أسرة نووية، لا تتطابق مع النموذج الأسري للأسرة الممتدة، وهو ما يطرح مسألة الاندماج السوسيوثقافي، ويوضح التغير في ثقافة الأسرة، والقيم المرتبطة بها، وهذا مؤشر للتحول من العلاقات الحميمية إلى العلاقات الثانوية تحت تأثير ضغط التحضر.
ثم يضيف بأن هذه الأسر تتميز بمستوياتها التعليمية المتدنية لان اغلب القرويين لا يكملون دراستهم لظروف كثيرة وبمستوياتها الاقتصادية المتدنية كل هذه الأمور تجعل المهن داخل هذه الأحياء تقليدية ولا تكفي في كل الحالات للاستجابة للميولات والأهداف وهو ما يدفع إلى أشكال الجريمة كرد فعل على الفشل في الحياة. ويرجع هذا لقلة المؤسسات التعليمية بالنسبة للابتدائي وانعدامها بالنسبة للأطر الثانوية، وأمام هذه الندرة يلاحظ كثرة أماكن اللعب والتي يمكن اعتبارها كمراكز التكوين في الجريمة، إلى جانب ذلك تسجل نقصا حادا في مراكز التكوين والتربية والتشغيل وهذا ما يدفع إلى التفكير في الهجرة للخارج على أساس أنها حل أو الارتماء في أحضان الانحراف.
من هنا يتضح بأن درجة مساهمة التربية في التغير الاجتماعي يظل مرهونا دائما بمدى تناغمها وتجاوبها وارتباطها الجدلي والعضوي بما هو سياسي واقتصادي ثقافي واجتماعي في إطار خطة شاملة للتنمية.
وبالتالي فجميع القيم التي يقدمها المجتمع شبه الحضري لم يستطع أن يتقمصها أو يتبناها نظرا لمسافة الاجتماعية التي تفصل بينه وبين الوسط الاجتماعي الذي افرز النموذج الذي يتطلع إليه باعتباره نموذجا.
وفي مقابل تلك البنية يرى الأستاذ حمداوي أن هناك بنية فكرية واقعية تمثل شق القيم التي تربى عليها الفرد في المجتمع القروي المنقحة من خلال مجموع القيم الاجتماعية التي تبناها خلال حياته بالمدينة . ويستند في هذا الصدد عن ما أشار إليه دوركايم بخصوص اختلال التوازن بين الإشباع وإرضاء الحاجات وبين الآمال المنشودة بفعل الانكماش الاقتصادي أو الكوارث الاقتصادية ذلك أن الكثير من الأفراد قد يفقدون القدرة الشرائية بفقدانهم لوظائفهم، هذه الوضعية الجديدة وهذا التغير الحاصل يدفع الفرد إلى رفع الكوابح عن الحاجات لتزداد توقعاته للإشباع وبذلك تخرج عن نطاق ضبطها. ويتفق ميرتون مع دوركايم في كون اللامعيارية تنتج عن التفاوت بين الحاجات وبين إشباعها. فالأفراد الذين لا يستطيعون تحقيق أهدافهم يكونون أقرب إلى ارتكاب الجرائم اعتقادا منهم بان أهدافهم مشروعة، ثم يضيف بأن توقعات الأفراد لاتتقلص مع الفرص المتقلصة عندما ينحدر الاقتصاد، وأنه في الاقتصاد المزدهر تبقى الأهداف مقبولة ثقافيا لاتزيد عن مقدار القدرة، ثم يرجع صاحب الكتاب لدوركايم الذي يرى أن هذه الأهداف المقبولة ثقافيا يجب ان تبقى نفسها خلال الانحدار الاقتصادي وتزداد خلال النمو الاقتصادي.
فمن خلال هذه الدراسة يتبين بان عوامل التغير الأساسية في المجتمع المغربي هي عوامل خارجية (الاستعمار، التدخلات الخارجية على جميع المستويات) وأخرى داخلية متفاعلة معها (الهجرة من القرية إلى المدينة التي أدت إلى التحضر السريع وارتفاع في نسبة السكان وخلق أحياء جديدة شبه حضرية وحضرية)، كما ان المغرب عرف حالة ركود اقتصادي خلال الثمانينات مما أدى إلى نتوء حالة اللامعيارية على نطاق واسع نتجت عن تفاعل هذه العوامل مع بعضها البعض"التحضر والهجرة"، وفي العقد الأخير عرف المغرب طفرة اقتصادية واجتماعية وسكنية مما أدى إلى رفع مستوى المعيشة وارتفع معه مستوى البطالة، وكل هذا أدى إلى تفاوت اجتماعي حقيقي أدى إلى حالة اللامعيارية تجلت في انفصال الطموحات عن إمكانية تحقيقها.
ـ إن سرعة نمو المدن الصناعية وزيادة مؤسساتها وتعقد العلاقات الاجتماعية فيها وتغير مستويات المعيشة بتغير الظروف الاقتصادية والسياسية وتبعا لزيادة عدد السكان، وما تبع ذلك من هجرة الأفراد من الريف إلى المدن، ومن تحسن وسائل المواصلات أدت إلى انحلال الروابط الأسرية وانخفاض المعايير الأخلاقية وكنتيجة لهذا كله يضعف الضبط الاجتماعي، وهو الأمر الذي يتطلب معايير ومجهودات جديدة للتوفيق بين القديم والجديد، أي لتحقيق الاندماج الاجتماعي.
خاتمة
لقد اعتمدت هذه الدراسة السوسيولوجية"الجريمة والمجتمع المغربي" على عدد من المناهج منها المنهج المقارن ومنهج المسح الميداني فضلا عن استخدام الوسائل الاحصائية، حيث اعتمد على عينة مكونة من 70 مجرم و قام بجمع البيانات من خلال الملاحظة المشاركة والمقابلة التي تضمنت اسئلة اختصاصية في احياء مولاي الرشيد وسيدي مومن والتشاركية وللامريم بالدار البيضاء بالمغرب ما بين سنتي 2004 و 2009، يتبين أن صاحب الكتاب اعتبر ظاهرة الجريمة مرتبطة بالأساس بالاختلالات الناتجة عن التغيرات الحاصلة داخل المدينة، كالهجرة القروية للشباب خصوصا التي لها دور كبير في التحضر غير المهيكل ويؤدي إلى تقسيم عمل عشوائي وبالتالي إلى زعزعة القيم والعادات والمفاهيم السائدة، حيث تظهر قيم جديدة تجعل المال هو الأساس"الاكتساب المادي" مما يؤدي إلى تفكيك العلاقات وغياب الحس الجماعي وظهور الحس الفردي والأناني، وبالتالي إلى التحرر والانحراف وهذا كله نتيجة للعنف الاجتماعي والتغيرات الاجتماعية.وتبقى هذه الدراسة من بين الدراسات القليلة الموجودة في الخزانة السوسيولوجية المغربية التي تناقش الظاهرة الاجرامية.