استيقظت على مضض، فقد نامت مع ظهور أول خيط نور، التفتت إلى زوجها النائم بسلام، تأملت ملامحه الملائكية و هو يغط في نوم عميق، ربتت على شعره في حب و نهضت ، فمنذ زواجهما الذي مرت عليه السنة، كانت تحب أن تنهض قبله لتختار له ما سيرتديه، تجهز فطوره بحب و اهتمام كبير ثم توقظه، لكنها اليوم تشعر بعياء شديد بسبب توالي ليال من الأرق و التفكير.
توجهت إلى الحمام و هي تجر رجليها جرا و كأنهما باتتا عاجزتين عن حملها، نظرت إلى صورتها المنعكسة في المرآة و تأوهت، عيناها اللتان أسرتا زوجها من أول لقاء و أوقعته في شباك حبها، قد نشر التعب النفسي الذي تحسه بظلاله السوداء حولهما و غزت تجاعيد رقيقة جوانبها.. لتمتص بعضا من سحرها، أطلقت زفرة عميقة تعتق بها آلامها المسجونة بداخلها و التي تحاول جاهدة كتمها عن زوجها.
يا إلهي ارحمني و اهدني إلى حل يبعد عني أذرع ذاك الأخطبوط البغيض، لكم بت أكرهه.
دفعت باب مكتبها و كأنها تفتح أبواب الجحيم، تأففت و أنفها يلتقط رائحة عطر مديرها الذي يتعمد دوما أن يتركها وراءه، فزاد شعورها بالغثيان، تداعت فوق كرسي مكتبها و هي تحس بارتخاء في عضلات ساقيها.
فكرت كثيرا في تقديم استقالتها لكن القرض الذي أخذته من الشركة لتواجه به مصاريف زفافها، أصبح كحبل ملتف بعنقها يشدها و يأسرها بهذه الشركة. حتى زوجها لم تستطع أن تبوح له بما يؤرقها فهي تعلم أن طباعه و غيرته ستدفعانه لا شك إلى قتله، و تكون بذلك قد دمرت عشها السعيد.
حملت الهاتف و ركبت رقم صديقتها، أجابها صوتها الدافئ من الجهة الأخرى يسألها عن أحوالها، فلم تشعر إلا و الدموع تنهمر على خذها و هي تحكي لها تفاصيل مأساتها.
وضعت سماعة الهاتف و ثورتها متأججة في داخلها كنيران تتآكلها، فللحظة أملت بأن تمدها صديقة الطفولة بالحل، لكنها وقفت عاجزة أما حساسية الموضوع، فأول ما بدر إلى ذهن صديقتها كحل هو التوجه للشرطة لتقديم شكوى ضد المدير لكن الحل سرعان ما استبعد لصعوبة الإثبات في مثل هذه القضايا، إذ سيكون كلامه مقابل كلامها و لن تجني إلا فضيحة قد تنتهي بعلم زوجها بالأمر.. و بالتالي لن تزيد الطين إلا بلة.
أحست بهموم العالم تحط فوق رأسها، روحها تترنح كالعصفور الذبيح، تاهت نظراتها في أرجاء مكتبها و كأنها سجينة تبحث عن منفذ للفرار، فجأة وقع نظرها على فاتح الأظرفة الموضوع على مكتبها، امتدت يداها بلاشعور للإمساك به و عيناها تلمعان بشكل غريب و هي تنظر إلى الباب الذي يفصل بين غرفة مكتبها و غرفة مكتب المدير، أخذت تقلبه في يديها و عقلها يرسم خطته الجهنمية للخلاص، فهي لن تقبل بالعيش يوما آخر في هذا الجحيم.. أجل لم يبق لها خيار، إنه طوق النجاة، و حياتها في كل الأحوال ضاعت بسبب جبروت ذاك الوحش المتسلط، ستقتله بيديها و لن يهمها شيء بعد ذلك ما دامت العدالة قاصرة عن حمايتها فستقتص لنفسها بنفسها.
تعالت الأصوات بداخلها تحاول ردعها و أخرى تأيدها حتى نشبت الحرب في كيانها، وضعت جبينها على سطح مكتبها لعل برودته تطفئ النار المتأججة في أعماقها و تهدئ من روعها ثم بدأت في التفكير في كيفية إنجاح خطتها.
صوت خطوات تقترب، باب يفتح، رفعت رأسها لترى مديرها و قد سبقته رائحة عطره تعلن قدومه، ابتسم إليها تلك الابتسامة التي باتت تمقتها، ابتسامة الواثق من نصره، تمنت لو تقفز من وراء مكتبها و تطعنه بسلاحها، لكنها تريثت حتى لا تفشل في خطتها فتكون نهايتها.
ابتسمت إليه لتشجعه على الاقتراب منها أكثر، نظرت إليه بإغراء حتى غدا كفراشة يسحبها النور إلى هلاكها، اقترب.. و كل خطوة يخطوها اتجاهها كان تقربه من حتفه وتزيد من تسارع نبضها. حَمَّلَتْ قبضتها كل غضبها، حقدها، معاناتها، أرق ليال طوال، و كل الشر الذي قد يكون مترسبا في أعماقها و انهالت عليه بالطعنات حتى تمدد على الأرض سابحا في حقل دمائه القذرة، ظلت هي تنظر له بحقد و كأن موته لم يشف غليلها.
سمعت صوت الباب يفتح و صرخة مدوية اهتزت لها جدران مكتبها و المكاتب المجاورة، انتفضت في قوة، التفتت حولها في فزع، فالصرخة لم تخرج من كابوسها... فركت عينيها تمحو آثار غفوة رحلت بها إلى لاوعيها، جلبة و أصوات أقدام، سارعت إلى مصدر الصوت الذي لم يكن إلا غرفة مكتب المدير.
هرولت لترى ما الذي وقع، دفعت الباب فوجدت زملاءها يملؤون المكتب ينظر بعضهم إلى البعض مستفسرين عما حدث و مديرها غارق في دمائه و فاتح أظرفة مغروس في قلبه.
نظرت إلى زملائها تبحث عن جواب، فلم تجد إلا حيرة و تساؤلا في عيون الرجال و راحة كست أسارير النساء و فرحة عجزن عن وأدها كجوار تلقين خبر العِتْقِ من قيد العبودية بعد موت المالك المستبد، إذن لم تكن الضحية الوحيدة العالقة في شباك العنكبوت، تنفست الصعداء و ارتدت قناع الحزن و الحيرة.