انتبهت أشجانُ من نومها مذعورةً, صوتُ ارتطام وجلبة بالخارج, نورُ الغرفةِ قضى نحبه بقيلولة التيار, تحسستْ وقع الأصواتِ, مناشرُ الغسيل تصطك وتذروها الرياح, زخاتُ المطر تطرق النوافذ كمن يعاقب.
تأففتْ قائلة: وليلة ممطرة طويلة...نهضتْ متثاقلة الأعطاف, تتحسس هدى أقدامها مستعينة بيديها, بالكاد استطاعت أن تنير شمعتها, ألقتْ نظرة على صغيريها...أكرم و رماح, الصغير يضمُّ صدرُهُ أقدامَه منكمشاً, أتراه البرد أتى عليه ؟ أم احتياجه لأبيه وحنانه المسلوب؟ تمددتْ بجانبه ...أشعرته بقربها وحنانها, أحكمتْ غطاءه, انتبه الصغير لشذا أنفاسها, وبلا قصدٍ طوقتْ ذراعُه عنقها, راحتْ تعبثُ بخصلات شعره, تحاول منحه أماناً تفتقده, وحين استغرق فى نومه ....أزاحتْ يده برفق وانسلتْ إلى مضجعها, لفها القهر والبردُ, خاصم النوم مقلتيها, اتخذتْ زند الأرق وسادةً, أسندتْ السريرَ إلى ظهرها, تمنتْ أن يكون لقلبها وعينها أفواه لتصيحَ من فرط ما تحمل من آلامٍ, ضرب النومُ ستاراً بينه وبين مآقيها, أرختْ الجفونَ وراحتْ تقلبُ سنواتِ عمرها, شعرت بانصهار الحياة من جبينها بفعل مجتمع لا يرحم, خيطُ الليل يلفظها فى هوة الوحدة, وأنين الدمع يكسو محياها, دمعاتٌ تتدلى من رموشٍ ذابلة, كأن الكلَّ يعلن حداداً على وأدِ أنوثة هذا الجسد, ترتعش أنفها ويضطربُ عرنينُها متخلياً عن بعض الكرامة ليشارك فى تأبين مشاعرها, لا تسمع أشجان إلا هديراً بداخلها كمدِّ البحر وجزره.
لقد خرجتْ من سنوات الجامعة منكسرة الفؤاد على تجربة قاسية, لكن سرعان ما وافقتْ على زيجةٍ جديدةٍ, ظنتْ أنها قد تنسيها وترمم ما انكسر من مشاعرها, لكنها أفاقت سريعاً على زوج لا يرى إلا ذاته, لا يعيرُ لمشاعرها انتباها, ولا يمنحُ حساسيتها المفرطة التفاتة, أتى على ما بقى لديها من أنقاض تجربة مضتْ, رمى بأنوثتها فى هوة عميقة, شفافية وجدانها لديه ضرب من التصنع, وقف حجر عثرة فى طريق طموحها, أغلق كل الأبواب المشرعة فى فضاءات نفسها, أرادها ألا تعمل فأذعنتْ,
بدلاً من شدِّ أزرها لتكمل دراستها العليا...هدد ووعد ورفض باصرار, وبمرور الأيام زادتْ دائرة الصمتِ بينهما اتساعاً, وتكاد من قطرها تنفرجُ.
كانتْ بجواره ...لكن بينهما من السدود والحواجز ما لا يأملُ تسلقه, تجمدتْ مشاعرها نحوه, علا صوته بألفاظٍ نابية تأففتْ منها جدران غرفتها, كان الأولادُ شهودا على سياطِ كلماته, عقد ونصفٌ من الزمان تحملتْ جبروته وقسوته, أنانيته المفرطه عجزتْ قواها على صدها وخارتْ, وكل ذلك من أجل ولديها....وها هى توشكُ أن تخسرهما, ومقبلة هي على فقدان ذاتها إن استمرت معه, صارت المهدئات قرينتها, وبقية من ثقة تكاد تنفك عنها, تأثر الولدان سلباً فى تحصيلهما, شحذتْ كل أسلحتها كأنثى, واستدعتْ قواها التى تخلت عنها لسنوات, وكان قرار الانفصال حفاظا على ولديها, وبرغم ألمه وبرغم اهتزاز أركانها, جاهدتْ أن تبدو متماسكة, أفرغت كل رغباتِ الدنيا من ذاتها, تحاول غسل أدران سنواتٍ عجافٍ, شعرتْ كأنها تخففتْ من حمل ثقيل, ربطتْ على قلبها صخرة وراحتْ تغرق من أجل حياة ولديها, فهلاكها واحتراقها فيه نجاتهما, استمتعتْ بالعطاء والذوبان من أجلهما, لكن ها هى تشعر بين الفينة والأخرى ان قلبها مازال بكراً, ومشاعرها تبدو كحبات قمحٍ فى سنبلة ممتلئة لم تُحصد بعد, وبرغم عقدها الرابع الذى انفلتتْ حباته, لكنها تشعر انها هى التى طويتْ لا أيامها, هزت رأسها ولسان حالها يقول: لا يهم.
صارتْ كمن يدور فى فلك الصغيرين, تمنح وتهب وتعطى بلا حدود وبلا انتظار ردٍّ, انتبهت على دمعاتها, حر الدمعة يفضح ما بداخلها, عواصف الليل تمنعها من الخروج إلى شرفتها, مكانها المفضل وياسمينتها البيضاء, كلاهما اعتاد الشكوى للآخر, كم تحملتْ وقاستْ؛ قسوة أب...هجر حبيب...لا مبالاة زوج, وراحت تتساءل: هل سأظل بين رحى الأيام هكذا مكلومة؟ اختمرت عواطفها, وطلقت قلبها إلا من صغيريْها, عليها أن تفنى وتحترق من أجلهما, وحين لاح لديها معنى الاحتراق راحت عينها صوبَ الشمعة النازفة وضوئها, هاهى الشمعة على ضعفها وتلاعب الأنفاس بمقدراتها ....تنير لنا دربا فى ليلة مظلمة, هى نقطة الضوء ومركزه, تماما مثلى, فانا وهى صنوان فى هذا المكان وهذه الدنيا, تأملتْ شمعتها....إنها أضفت دفئاً على برد غرفتها, ومنحت ضوءً ندرك به ما حولنا, ورسمت ظلالاً واهية على جماداتٍ حولها, ودموعها على جانبيها تسيل ثم تتجمد من جديد, تعلمت أشجان من شمعتها درسا ووعته, وراحتْ تصيغ الدفء واقعا فى نفوس من حولها, وتهب الضوء الناتج من احتراق قلبها لينير درب الصغيرين, ونسجتْ ظلالا من الأمان على عيونهم, ووصلته ببرِّ والديهما, ومن دموعها نظمتْ عقداً تُسبِحُ حباته حين تئنُّ قائلة:لا كرب وأنت رب.