من المعلوم أن التفكير الفلسفي أقام منذ أفلاطون أهمية أساسية للمفاهيم و الاشتغال عليها نظرا لما ينشأ عن تعدد المعاني للكلمة الواحدة من سوء تفاهم أو مغالطات سفسطائية مقصودة, حيث خصص أفلاطون عدة محاورات لتحديد مفاهيم مثل العدالة و النفس و الوجود و غيرها ,و هو نفس الأمر الذي دفع أرسطو بعده إلى إحصاء المغالطات المتعلقة بالألفاظ و استعمالاتها في كتابه " الدحوضات السفسطائية ". و قد خصص العديد من الفلاسفة المسلمين كذلك مؤلفات تعنى بدلالات الألفاظ المنطقية و الفلسفية يمكن أن نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الفارابي في كتابه "الحروف" و الغزالي في "كتابه معيار العلم". رب أمر بمثل هذه الأهمية جعل فيلسوفا معاصرا مثل جيل دلوز يعرف الفلسفة نفسها بكونها " إبداع للمفاهيم ". في هذا السياق , يمثل الاشتغال الفلسفي على معنى الهوية أهمية كبرى في التفكير الفلسفي سيما في العصر الراهن إذ هو لفظ متعدد الاستعمالات , مثقل بالدلالات , يستخدم في المنطق و الميتافيزيقا و العلوم الإنسانية كالانتروبولوجيا و علم النفس و علم الاجتماع وحتى في الخطاب السياسي و الإعلامي.
إنه لفظ ثخين , لزج يصعب الإمساك بتلابيبه مما جعل لالند صاحب المعجم الفلسفي الدقيق يصرح ان لفظ Identique يمثل " احد المفاهيم الرئيسية للفكر و ومن ثم يستحيل تحديده " و هو الأمر الذي ولد حوله مجادلات عقيمة في كثير من الأحيان. و نستطيع القول بشيء من الثقة عن الهوية في مجال المجتمع و الثقافة: إنه معنى لم يغادر أرض الإيديولوجيا و جغرافيتها و ربما لن يبرحها لزمن طويل. فما العمل إذن إزاء لفظ بهذا القدر من الالتباس ؟ هل يستطيع المعجم أن يساعدنا على إدراك معناه أو معانيه؟ أي دلالة ميتافيزيقية يتضمنها هذا اللفظّ؟ هل يقبل المغايرة و الاختلاف ؟ هل تنسب الهوية للشخص أم يمكن أن نسحبها على المجتمع و الثقافة ؟ هل الهوية بسيطة أم مركبة؟
ـ الدلالة المعجمية :
الهويّة : في العربيّة بضم ّالهاء هو مصدر صناعيّ من "هو" كقولنا العالميّة و الإنسانيّة و الخصوصيّة نقول الهوية, تحديد الهوية يكون بالإجابة عن سؤال : من هو فلان؟ إذ نذكر اسمه و/أو وطنه و...بهذا المعنى نتحدث عن هوية الشخص المدنية على نحو ما يوجد في بطاقة التعريف أو بطاقة الهويّة . و لكن قد نتحدّث كذلك عن هويّة شعب من الشعوب و هوية أمة من الأمم لنجيب عن سؤال : من هو الشّعب ؟ و من هي الأمّة ؟. فنقول: شعب عربيّ وأمّة عربيّة مثلا تمييزا لهما عن غيرهما من الشعوب أو الأمم. كما أننا يمكن أن نجيب عن سؤال : من هو فلان ؟ بذكر انتمائه لشعب من الشعوب أو أمة من الأمم نحو قولنا عربي و فرنسي و...حيث نخرج من الدائرة الضيقة للفرد المعزول إلى دائرة علاقته ببني قومه أي بغيره من الأفراد المنتمين إلى نفس المجموعة البشرية. و قد يقال اللفظ على الأشياء فنتحدث عن هوية الشيء للإجابة ع "ما هو الشيء؟" فيصبح اللفظ رديف ماهية الشيء. و عند ذلك يحيل على جوهر الشيء الذي لا يتغير تمييزا له أولا عما قد يلحق به من الأعراض التي تتغير فتمثل الأعراض الغيرية و ثانيا تمييزا للشيء عن غيره من الموجودات. حيث نجد أنفسنا في قلب الفلسفة المثالية التي تعتبر أن هوية الموجود هي جوهره الثابت أبدا الذي يميزه عن لواحقه العرضية أولا و عن غيره من الموجودات يقول الفارابي في هذا السياق في كتابه " التعليقات " : " هويّة الشيء , و عينيّته , و وحدته و تشخّصه , و خصوصيّته و وجوده المنفرد كلّ واحد. و قولنا إنه هو إشارة إلى هويّته و خصوصيّته , و وجوده المنفرد له الّذي لا يقع فيه اشتراك . و الهو هو معناه الوحدة و الوجود , فإذا قلنا زيد كاتب معناه زيد موجود كاتب.". و هكذا فالهوية تعني أساسا ما يميز موجودا ما عن غيره من الموجودات أي خصوصيته و في السياق الذي يعنينا هنا تعني ما يميز حضور الفرد الثقافي في العالم أو خصوصية حضوره الثقافي في العالم. فهل يمكن أن نفصل بين هوية الفرد الشخصية و هوية الفرد الثقافية؟
ـ الهوية الشخصية و الهوية الثقافية :
ما يقال عن الهوية الشخصية هو إجابة عن سؤال : "من هو الشخص ؟ " في مختلف لحظات وجوده على الرغم من التغيرات الهائلة التي يمكن أن تحدث له و يمكن أن تدرك هوية الشخص في هذه الحالة من الخارج من قبل الغير حيث يدرك الشخص من خلال ملامحه الخارجية , وهي عملية خطيرة إذ يمكن أن ينزل بالشخص إلى مرتبة الموضوع و لا يعامل حينئذ إلا باعتباره كائنا دونيا لا يرقى أبدا إلى مرتبة الذات المدركة إنه الآخر الموضوع الذي تسلب إنسانيته منه على نحو ما يحدث في العلوم الإنسانية التي تتوسل المنهج التجريبي المأخوذ عن علوم الطبيعة. و يمكن أن يدرك الشخص هويته بنفسه في مختلف فترات وجوده عند الإجابة عن سؤال : "من أنا؟", حيث يكون الشخص الذات المدركة و موضوع الإدراك في نفس الوقت و تتمثل الخطورة حينئذ في بقاء الشخص سجين ذاته على نحو ما أشار إليه غاستون بارجيه في كتابه " من القريب إلى المماثل" حين يقول : " إن الذاتية هي وحدها الوجود الحقيقيّ و لكنها بطبعها غير قابلة للتواصل." إن الإجابة عن سؤال من هو الشخص ؟ أو من أنا ؟ قد يراها البعض في المظهر الخارجي الذي يمكن ملاحظته تجريبيا فيختزل الشخص في بعده المادي بينما قد يقيدها الأنا في الوعي التأملي فيختزل الشخص في بعده الفكري الخالص.
فكيف يمكن للشخص أن يتحرر من هذه الثنائيات التي تمثل تهديدا مزدوجا لنمط وجوده في العالم فمن جهة كونه موضوع تسلب منه إنسانيته فيتحول إلى وجود في ذاته مثله مثل الأشياء , و من جهة كونه ذات منغلقة على نفسها يتحول إلى "أنانة" (من أنا) لا يمكنها أن تتواصل مع غيرها مع ما يمكن أن ينجر عن ذلك من إقصاء و عنف على نحو ما يشهده عالمنا المعاصر من تنامي للحروب و القتل باسم الدين و الطائفة و القومية؟
لعل معنى الهوية الثقافية في الانتروبولوجيا المعاصرة يساعدنا على التحرر من هذه المعضلات إذ يفترض أن هوية الشخص لا تتحدد إلا في علاقة بغيره رغم تميزه عنهم. إذ تتضمن الهوية الثقافية ما يشترك فيه الشخص مع غيره من بني مجتمعه في نمط الحياة ونسق القيم و الرموز عموما أي الثقافة التي تمثل مرجعية أو إطارا للتمييز بين الصالح و غير الصالح بتعبير تايلور. وهي عينها أي الثقافة هي التي تميزه عن غيره من الأشخاص المنتمين إلى ثقافات أخرى. و هكذا فالثقافة في الحقيقة ثقافات مما يدعونا إلى ضرورة الاعتراف بالاختلاف الذي يعني في دلالته الانتروبولوجية الحق في أن يكون لكل شخص مرجعية ثقافية مختلفة , تميزه عن غيره و لكن هذا الاختلاف لا يعيق تواصله مع الغير المختلف عنه في نمط الحياة و نسق الرموز و القيم , كما لا يبرر المركزية الثقافية التي سيطرت على الانتروبولوجيا زمن الاستعمار حينما اعتبرت الثقافات الأخرى غير الأوروبية متخلفة و بدائية مما جعل كلود ليفي ـ ستروس يتصدى لها محررا بذلك الانتروبولوجيا من النزعة الثقافية المركزية التي تبين أنها نزعة عنصرية عملت على تبرير الهيمنة الاستعمارية على الآخر. حيث بين ك. ليفي ـ ستروس أن الاختلاف الثقافي هو نتيجة لشروط الحياة الجغرافية و التاريخية التي عاشتها المجموعات البشرية التي عمرت مناطق مختلفة من الأرض و يدل على القدرة الخلاقة للعقل البشري في الـتأقلم مع شروط الحياة المختلفة فلا يجب أن ننتظر من مجموعة بشرية تعيش في شمال الكرة الأرضية أن تكون لها نفس نمط عيش وثقافة خاصة بمجموعة بشرية تعيش في الجنوب . و هذا الاختلاف الثقافي لا يلغي وحدة العقل البشري أو كونيته بما أن المنهج البنيوي الذي اعتمده ك.ليفي ـ ستروس في دراساته الانتروبولجية بين أن هناك بنية واحدة تحكم العلاقات الاجتماعية وبنية واحدة تحكم أنساق الرموز فللغة نفس البنية رغم تعدد اللغات و للأساطير نفس البنية رغم تعدد الأساطير و لعلاقات القرابة مثلا نفس البنية رغم تعدد المجتمعات, و عليه فكونية ما يعرف باللاوعي البنيوي كونية التنوع و الاختلاف و ليست كونية المتماثل و المتطابق و هي كونية التواصل و ليست كونية الإقصاء إذا ما تم التحرر من النزعة المركزية. و هو أمر تعمل فلسفة ما بعد الحداثة على تفكيكه و تجاوزه مفسحة المجال للهامش على حساب المركز و للمختلف على حساب الهوية المنغلقة وللهوية المركبة على حساب الهوية البسيطة .
وبالرغم من الإسهامات الجليلة التي قدمتها الانتروبولوجيا البنيوية و فلسفة مابعد الحداثة في هذا المجال لا بد أن نشير إلى أننا نشهد اليوم عودة قوية لخطاب الهوية القومية و الدينية كرد فعل على الاعتراف بالهويات المتنوعة داخل الدولة القومية الواحدة مما ينذر بخطر الانغلاق على الذات و تنامي سطوة الحركات العنصرية في بلدان المركز يقابله انغلاق هوية آخر في بلدان الأطراف أو الهامش مما ينذر كذلك بحروب قادمة باسم الهوية إن لم تكن الآن هي بصدد الوقوع في بلدان مختلفة من العالم حيث صورة الموت المعمم تداهمنا في نشرات الأخبار اليومية وحيث يستولي علينا الشعور بأن الاعتراف بالمختلف أمر صعب المنال في العصر الراهن على الأقل.