العالم لا يسير بصدفته التي ربما كان يؤمن بها الإغريق قديما، كما أن علاقات الأفراد فيما بينهم ليست مبنية فقط على منطق رياضي محض، منطق لا يؤمن بالعبث حتى في لعبة البوكر، والنرد، والورق... بقدر ما أنه محسوب بلغة الأرقام ولا شيء غير ذلك، لهذا قد لا نجد أنفسنا معصومين من طرح أسئلة لطالما رددها الأمي وغير الأمي، الغني والفقير، والكبير والصغير، العامي والفيلسوف، رجل السياسة ورب أسرة منهوكة جدا،إذ أين بتنا نعيش اليوم؟ وإلى أين سنسير؟ كيف أصبحنا نفكر؟ ولماذا لا نستطيع أن نريد ونحلم ونفكر خارج المألوف والعادة على غرار عظماء التاريخ؟
كل مجتمع وكما علمتنا كتب التاريخ والفلسفة والسياسة يسير وفق مصالحه المرجوة، لقد سلك العالم طريقا من بين ملايير الطرق التي كان سيسلكها، وفق إرادة قوة كان لها ما أرادت، لهذا أصبح يحكمنا منطق فوق طبيعة الإنسان التي تدعي القوة والحرية، إذ منذ انتقال هذا الكائن من حالة الانغماس في الطبيعة إلى التعالي عليها، تغيرت حالته ومعها تغيرت الحياة برمتها، على العموم ساهمت النقود كمحطة تحول كبيرة غيرت مسار حياتنا، كما لعبت الأديان نفس الدور وبعدها كان للعلوم النصيب الأكبر من ذلك، اليوم نعيش عصر هيمنة الاقتصاد ولا شيء غيره، من ثمة فإن أول حكمة يجب أن ننالها وبقدر كبير من التركيز والحذر هي أن ما نعيشه لسنا نحن المتحكمين فيه، إذ وحدها الحجارة بريئة ولا شيء غيرها، ووحده الإنسان مسلوب الإرادة عكس باقي الكائنات الأخرى، حيث الإنسان لا يريد ما يريد، أما ثاني ما ينبغي نيله فليس يكمن إلا في معيشنا اليومي، في أفكارنا كما في اعتقاداتنا، في اختياراتنا كما في مبادئنا، وفي أحلامنا كما في غاياتنا، الأفكار تصنع كما تصنع الملابس، تضعنا في إطارها الصارم، أنها تصنع حياتنا بكل بساطة.
كيف نفكر اليوم كمغاربة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تحتم علينا أولا نهج منطق مقارن، والحال أن هاته المقارنة ستحتمل طريقين لا ثالث لهما، الأول دياكروني من خلاله سنضع الثقافة المغربية على ضوء التاريخ التعاقبي التجاوزي التقدمي، والثانية سانكرونية تتأسس على منطق البنية الحاكمة، تساءل الحاضر بغض النظر عن الزمن وتعاقباته، على العموم كل هاته الأشياء تحدث أمام أعيننا دون أن نجد فرصة فهمها أو القفز عليها، من ثمة سنلعب في هذا المقام على وتر التعليم والسياسة والحس المشترك.
1 ــ في التعليم: إن أية أمة مهما كان تاريخها ضاربا في عمق الماضي كالصين مثلا، أو كانت جديدة لا تاريخ لها كالولايات المتحدة الأمريكية، يمكن أن تصنع لنفسها شأوا وقوة بتربية أجيالها على مبادئ العطاء والمواطنة والمنافسة، كما على سلطة العقاب، المدرسة إيديولوجيا الدولة وجهاز تملكه من خلاله تصنع وعي الأفراد، فكما قد تبدو لنا مكانا من خلاله نربي الأجيال، فهي أيضا سلاح تستغله السلطة لتسريب ولتحقيق أهدافها، المدرسة تصنع سقف أفكارنا وطموحاتنا من خلال المقررات والمناهج التربوية.
2 ــ في السياسة: من البلادة بمكان أن نفصل اليوم بين السياسة والاقتصاد، الاقتصاد يحرك السياسة والعكس بالعكس، هذا ولا مرية أن السياسة هي تلك الطريقة التي تنهجها الدولة نحو مواطنيها كما شركائها، السياسة مشروع ولعبة قمار، قد توصلك إلى ما تريد وقد تجني عليك، بيد أن الخسارة في السياسة لا تنتهي ونهاية اللعبة، حيث الخاسر يقدم تنازلات ويصبح لعبة طيعة في يد المتفوق، شأنه في ذلك شأن تلك العلاقة الشهيرة التي تربط بين السيد والعبد، والحال أن هاته اللعبة تسير نحو ما لا يحمد عقباه، إذ الخاسر سياسيا خاسر اقتصاديا، من ثمة فإن هاته الخسارة تجعل المتفوق يصنع أفكار المتفوق عليه كي يطبقها هذا الأخير على أفراده، تجنبا ودرءا لمنافسة قريبة الأجل، إن الخاسر يفترض فيه أن يكون لاعبا جيدا، كي ينبعث من رماده وإلا فإنه سيزول إما عاجلا أو آجلا.
3 ــ في الحس المشترك: الحس المشترك هو سقف رأي العامة التي تكون مجتمعا ما، حيث يتأسس على اعتقاداتنا وتمثلاتنا حول الدين والسياسة والتاريخ والعلاقات فيما بيننا، أساسه الإشاعة والفكرة المطلقة والحقائق البديهية وإن كانت هي والخطأ سيان، هذا ويختلف الحس المشترك من مجتمع إلى آخر حسب البنية الفكرية والتاريخية علما أن الحس المشترك قد يكون قابلا للانتقال من موقعه الارتكاسي إلى قوته الخلاقة، كل جهاز دولة يقف ويسهر على الحس المشترك ولا شعوره الحاكم، بناءً على آلياته التي يشتغل بها، كالإشاعة، ووهم التفوق، والتفسير الخرافي، وصناعة الأحلام، وثقافة الإلهاء...
عندما نضع الثقافة المغربية على ضوء تاريخها، نجد أنها كانت دوما ثقافة قنوعة تغيب فيها الفاعلية والإبداع لصالح هيمنة التفكير الماورائي، من ثمة استطعنا أن نلخص عدي القرون في لحظة واحدة، لقد أعدنا إنتاج الأب مرارا وتكرار إلى يومنا هذا، والويل كل الويل لكل من يتجرأ على زعزعة سلطة هذا الأب، فلنعد إلى رواية أولاد حارتنا مثلا أو كتاب الأنثى هي الأصل، أو بعض الأصوات التي تنادي بالمساواة في الإرث... حتى نعثر على السلطة القوية جدا التي يتسيدها الأب، صحيح أن هاته السلطة وهمية استمدناها من إرثنا التاريخي حيث الآلهة ذكور والأنبياء ذكور والحكام ذكور أيضا، اللهم بعض الإنفلاتات التاريخية، لكنها في نفس الآن ثابتة جدا، إن الإيديولوجيا المغربية وعلى المستوى الأنثروبولوجي تتأسس على سلطة أبوية جوفاء، فلا هي أعطت الفرصة للمرأة والابن، ولا اتصفت بالطابع الخلاق.
في سياق آخر وعلى مستوى الهم الفكري، لم يُكتب لنا أن تغلبنا عن التاريخ، مغيرين مساره على غرار كوبرنيك وديكارت وداروين وماركس وفرويد، إننا نمجد المفكرين الذين يقرؤون التراث، التراث عودة للماضي والركون في مشاكل الماضي يبعدنا عن إشكاليات الحاضر فنسقط في مشكلة التراكمين الكيفي والكمي، صحيح أننا في حاجة ماسة لقراءة التراث وفهمه لكن ليس من المعقول أن نقرأ التراث كتُراثيين، والحال أن من بين أشد المعضلات سطوة هو عندما نتكلم باسم التراث ونعتبره قدرا لا محيد عنه.
إن التقدم يحتاج لحامل سياسي واقتصادي وفكري، يحتاج للإيمان بالواجب والقانون، كما يبتغي منا التوفر على حس العمل دون التفكير في مقابل مادي، يخبرنا التاريخ أن اليابان أرسلت بعثتها إلى أوربا في نفس الوقت الذي أرسل فيه الحسن الأول بعثته التي حصل لها ما حصل، إننا نقارن هنا بين الإرادة اليابانية التي وجدت حاملا لها، وبين الإرادة المغربية التي غابت فيها كل الإمكانات الفاعلة لأجل الإنجاح.
الإيديولوجيا المغربية أيضا تتأسس على فكرة ارتكاسية تخلق هوة سحيقة بين نقطة الضعف ونقطة القوة، أي بين الحقيقة والخطأ، والحال أن الإنسان الفاعل هو الذي تمكن من تحويل نقط الضعف إلى نقط قوة، لا يجب أن ننظر إلى الخطأ كعائق بقدر ما أنه محرك إبستيمولوجي يمنحنا تشخيصا قويا لحالتنا، ويضعنا أمام وهننا وامتيازاتنا، من ثمة كان لابد من التخلص من البراديغم الأرسطي الذي يؤطر كل الاشياء وفق منطق الصواب، وتعويضه بالبراديغم الإبستيمولوجي الذي يفهم، يتصور، يفسر، يستنتج ثم يقدم حلولا لتغيير البنيات الثابتة مؤمنا بأن خطأ اليوم هو صواب الغد.
والحق أن الإيديولوجيا المغربية أيضا لا تنفك تلعب على منطق الطاعة هروبا من المجادلة والحوار والحجاج، أن تطيع معناه أن تقتل فيك الابن لصالح الاب، والواقع أن قتل الابن هو قتل للمستقبل على حساب الماضي، الإيديولوجيا المغربية إيديولوجيا ماضوية لأنها إيديولوجيا الطاعة، إنها تحتكم إلى منطق التطبيق دون طرح السؤال، حيث تعتبر كل تجديد خروج عن المألوف، من ثمة فإنها ما استطاعت أن تنفلت من قبضة عقلية القطيع ومبدأ النحن ضد مبدأ الأنا الفردية التي لها تصوراتها واعتقاداتها في قتل صارخ لمنطق الاختلاف.
من بين المشاكل التي انقلبت اليوم على الإيديولوجيا المغربية هو ركونها إلى تفسير كل الاشياء تفسيرا دينيا، الظواهر والحالات والوضعيات التي نوجد فيها، علينا أن ننظر إليها بعين التفسير الموضوعي القائم على التجربة والملاحظة، وليس عن طريق التسليم الديني الذي يرجع كل الاشياء إلى حكمة السماء، من ثمة نتجاوز فينا الإنسان الفاعل معوضين إياه بالإنسان المفعول به.
كجماع للقول في ما تم التطرق إليه، يجب أن نعلم تمام العلم أنه من الوهم بمكان الاعتقاد أن الإيديولوجيا من صنع الطبقة المهيمنة، الإيديولوجيا تصنع نفسها بنفسها عن طريق الطبقة المهيمنة وليس العكس، حيث أنه سيكون من غير المنطقي أن نفكر اليوم تفكيرا يتأسس على قبول منطق الاختلاف، والدعوة إلى قتل الأب، والاستماع إلى من يخالفونا الرأي بعقولنا وأذهاننا، كما أنه سيكون من شبه المستحيلات أن يغير الفرد منا سلطته الذكورية نحو منطق التبادل المتساوي، الإيديولوجيا المغربية إيديولوجي الرجل الشرقي وإن كنا جغرافيا أقرب من الرجل الغربي، كما أن عيبها يكمن في أنها مسكن للاختراق من طرف الأفكار الإرتكاسية، ومقاومة بالطبيعة لكل أشكال الأفكار الفاعلة والخلاقة، الإيديولوجيا المغربية تخاف من الانفتاح عن الآخر الفاعل خوفا من المقارنة، لهذا استغلت الدين كي تجعل جنته في عالم أخروي بدل التفكير في خلق جنة في الأرض، والحال أن أكبر جريمة يمكن أن نقترفها هي عندما نقتل فينا الإنسان الشجاع ونعوضه بالخنوع.