عمليا، لا يوجد في الفكر المعاصر عمل يشبه مؤلفات هابرماس، من ناحية طابعها المعماري وقدرتها على التعبير النقدي. أفقها الأكبر هو الوصول إلى سبر كنه التوسع الاجتماعي للعقلانية في العصر الحديث، وهمها النهائي ليس شيئا آخر في العمق سوى تأسيس فضاء الديموقراطية على أسس عقلانية، خالية من أي تجذر متعال. يتميز تصور الحداثة الذي يخترق أعمال هابرماس بالتأكيد على القطيعة العميقة بين الوحدة الأولية للعالم وبين الإنسان، ويتميز في نفس الوقت بإرادة دائمة للوصول إلى اندماج غير مرضي للمجتمع، عن طريق استعمال العقل. تأتي العقلانية من تمزق وحدة العالم، ولكنها هي، وهي فقط، التي ستسمح للمجتمع الحديث بأن يصل إلى تعبير جديد. يرى هابرماس بأن تاريخ النظرية السوسيولوجية، بعد ماركس، ليس شيئا آخر غير تاريخ انفصال نظرية معينة حول الحركة عن نظرية حول المنظومة، الشيء الذي أدى إلى العجز عن إدماج هذين النظامين داخل مفهوم معين عن المجتمع، قادر على التعبير عن المنظومة والعالم المعيش.
I – قطيعة المفهوم المتوحد للعالم
العالم المعيش:
يرى هابرماس أن أية دراسة عن الحياة الاجتماعية لا يمكن أن تستغني عن التفكير في اللغة، باعتبارها عنصرا أصليا مكونا للشخصية الإنسانية، ولإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية. يستعمل هابرماس مفهوم العالم المعيش لكي يصف عالم الدلالات الأولية التي يبحر فيها الفرد. والحال أن العالم المعيش، في صيغة هوسرل، هو أفق الأشياء، العالم الحاضر دوما للأشياء التي تعطى في التجربة المباشرة للحياة[1]. أفق حاضر مع بنيته الخاصة به، ومع انسجامه ووحدته الحقيقية، على أسس بعض أشكال السببية المكانية والزمانية الما-قبل علمية. العالم المعيش، الواقعي والما-قبل نظري، يسمح بوجود وقائع أخرى (عالم العلم، عالم الفن) ولكنها وقائع تحيل دائما، في نهاية المطاف، إلى الواقع الأولي للحياة اليومية. لئن كانت العوالم كلها ذات شكل منسجم، على المستوى الرمزي، فإن الانسجام النهائي لجميع هذه العوالم يحيل، ويستند على الانسجام والدلالات الداخلية للعالم المعيش. تجد هذه الدرجة الأولى في إدراك العالم مكملا لها في المقصدية، ما دام يتم الافتراض بأن للذات نية في الذهاب إلى الكائنات والأشياء. خاصية المقصدية هي وصف العالم المعيش باعتباره متداخل الذوات وخاضعا لآفاق مختلفة. تبقى تصورات وتفاعلات الفاعلين متجذرة في عالم معيش، ما قبل نظري وأنطولوجي، وهو الأساس اليومي للواقع الذي نرتبط به، قبل أية نظرية أو حتى أي تفكير.
مع ذلك، فإن هابرماس يعي بعض حدود مفهوم العالم المعيش. أولا وقبل كل شيء، يعرف بأن هذا المفهوم، الذي تم رصده على مدار فلسفة الوعي (سواء لدى هوسرل أو شوتز-ليكمان) ينطلق دوما من وعي أنوي "يرى بأن البنيات الكونية للعالم المعيش تعطى بوصفها شروطا ذاتية ضرورية لتجربة العالم المعيش الاجتماعي، المنظم بشكل ملموس، والذي يطبعه الماضي"[2]. يدل هذا على أي حد تبقى "الذات الحاسة" هي المرجع النهائي للتحليل، ما دام العالم المعيش يرجع، في نهاية المطاف، إلى مظاهره الثقافية وحدها، وما دام يستعمل بوصفه سوسيولوجيا واسعة –كما هو الحال لدى بيرجر وليكمان خصوصا. يرى هابرماس بأنه يجب بالأحرى تفسير مفهوم العالم بوصفه مفهوما إضافيا لمفهوم الفعل التواصلي[3]، ما دام يشكل الخلفية التي تسمح بالتراضي التواصلي بين الناس. أفق مشترك ينجز ويتسع بمجرد ما يتقدم الحوار[4].
ثانيا، يعي هابرماس أيضا بأن العالم المعيش إذا كان يستجيب، في إطاره الأصلي، لإرادة الفلسفة الظاهراتية لمعرفة العالم من الداخل، أي عن طريق إقامة رباط لا ينفصم بين الذات والموضوع، فإنه يجازف بالتحول، في إطار السوسيولوجيا، إلى مفهوم محافظ وجامد، غير قادر على عرض الصيرورة التاريخية التي أدت إلى عدم مركزة صور العالم، دافعا هذا الأفق إلى تجميد سيرورة إنتاج المعنى الاجتماعي. الأكيد أن المعرفة السوسيولوجية تظل متجذرة في ما قبل الفهم النظري المدشن للعالم، الذي يتوفر عليه الفاعلون. لكن المهم، من وجهة نظر سوسيولوجية، وخاصة بالنسبة لقراءة عن الحداثة، هو هذا الانفتاح الأولي على العالم، وأيضا سيرورة اختلاف المعنى المنجز داخله[5].
نحو لا مركزة صور العالم:
سيعرف الطابع المتوحد للعالم المعيش تطورات مهمة، كلما دخل هو نفسه في سيرورات العقلنة والاختلاف، الخاصة بالتحديث. يرى هابرماس أن التعارض كبير بين التصورات الأولى التي يتوفر عليها الناس عن العالم، والتي تلحم مختلف مظاهر الحياة في الجذر المشترك الوحيد للأسطورة، وبين اختلاف تمثلات العالم الخاصة بالمجتمعات المتقدمة. الأسطورة هي المعرفة الخاصة بالمجتمعات التي لم تولد مجالات ثقافية مستقلة، والتي يقوم فيها العالم المعيش، نتيجة لذلك، بضمان التراضي بطريقة آلية تقريبا. تدعي المؤسسات البالية توفرها على سلطة لا مراء فيها. وبالفعل يتمظهر العالم المعيش داخلها بوصفه مجموعة منسجمة من المعتقدات الثقافية، ذات أنظمة شرعية وهويات شخصية متداخلة بعضها في بعض، ويعاد إنتاجها بواسطة النشاط التواصلي. لكن التطور الاجتماعي –وهذه أطروحة هابرماس الكبرى- يفترض اختلاف مجالات الخطاب، الشيء الذي يفرض إيجاد مبادئ تراض جديدة. عندئذ يحدث انقلاب في التوازن الآلي الذي يعطيه العالم المعيش للفاعلين داخله: "يتغير التوازن مع لا مركزة صور العالم. كلما تصاعدت لا مركزة صور العالم، الذي يتوفر على احتياط الذخيرة الثقافية للمعرفة، كلما امتنعت الحاجة للوفاق عن التدثر بعالم معيش مقاوم لأي نقد. وكلما كان من الضروري أن تشبع رغبة التفاهم هذه عن طريق التأويلات التي ينجزها الفاعلون ذاتهم، مثلا بواسطة اتفاق جزافي لأنه ذو دافع عقلاني، كلما كان مسموحا لنا أن نتوقع اتجاهات عقلانية للحركة. لذلك يمكن سلفا إعطاء البعد الذي يسمح بتحديد عقلنة العالم المعيش، انطلاقا من التضاد: "الاتفاق المفروض بطريقة معيارية" مقابل "الوفاق الذي يتم الحصول عليه بطريقة تواصلية"[6]. شيئا فشيئا، يتنصل الاتفاق بين الذوات من التدثر بعالم معيش مقاوم لكل نقد، ويجب، أكثر فأكثر، أن يتم الحصول عليه عن طريق التأويلات التي ينجزها المشاركون أنفسهم.
نتيجة لاختلاف المجالات هذا، يفترض العالم المعيش بعض الخصائص الشكلية. تنبثق بالخصوص ادعاءات مختلفة عن الإبراء(*)، تلزم بالتوصل إلى وفاق تواصلي دائم. هكذا يؤسس مفهوم العالم المعيش فكرة العقلانية التواصلية ذاتها، بوصفها "إمكانية للتنويه خطابيا بالادعاءات التي تسعى لنقد الإبراء"[7]. لنلاحظ أن هابرماس يعتبر إرادة تأسيس علاقة اجتماعية على الإمكانيات التفكيرية للأفراد ممارسة تنهض على عناصر مباشرة وما قبل تفكيرية. مع ذلك، فليس بمقدور تلك الممارسة سوى أن تجعل تلك العناصر أكثر إشكالية كلما زاد انتشارها. ستنبثق من تدمير الصورة الأسطورية ثلاثة مجالات خطابية (العلم، الأخلاقية، الفن) تتطابق مع المفاهيم الشكلية الثلاثة للعالم (الموضوعي، الاجتماعي، الذاتي). فوق ذلك، يسمح كل واحد من هذه العوالم بوجود ادعاءات إبراء مختلفة (الحقيقة المقولاتية، العدالة المعيارية، الصدقية الذاتية)[8]. في الحداثة، يجب على الإنسان أن يؤسس عقلانيا حركاته داخل هذه المجالات الثلاثة. في هذه الاختلافية الاجتماعية تتقزم مناطق تداخل أو تلاقي مختلف المعتقدات ذات الخلفية، المكونة للعالم المعيش، وعندئذ فإن النشاط التواصلي يستعمل داخل فضاء أكثر اتساعا[9].
ستؤدي لا مركزة صور العالم إلى علاقات مختلفة للعالم، بارتباط مع عقلانية الفعل. في هذا المضمار يميز هابرماس بين أربعة أنماط من الحركة: الغائية، المحكومة بمعايير معينة، الدرامية، التواصلية. حتى وإن اعترف عن طيب خاطر بأن داخل كل نمط من أنماط الحركة، يوجد دائما مكون غائي (ما دمنا نجد مصداقية "الفاعلين في قدرتهم على الفعل باتجاه هدف معين، وما دمنا نعطيهم أهمية عندما نرى مشاريعهم في الحركة تتحقق"[10])، فإنه يؤكد على مشروعية صنافته بسبب تعدد أشكال الوصل المفترضة من طرف التفاعلات: الوصل عن طريق تفاقم حسابات التمركز الذاتي للفوائد، الوصل بوصفه اتفاقا حول القيم المشتركة، الوصل بوصفه علاقة تراض بين جمهور معين وهؤلاء الذين يتقدمون أمامه، وأخيرا الوصل من خلال سيرورة تعاونية في التأويل[11].
مع ذلك، فهو يؤكد على أولوية معينة للفعل التواصلي. يدافع جذريا عن فكرة أن "الفعل التواصلي يدخل في حسابه الافتراض المسبق الإضافي لوجود وسيط لغوي تنعكس داخله علاقات الفاعل بالعالم بوصفها كذلك"[12]. طبيعة الفعل التواصلي ذاتها هي التي تجبر اللغة بالفعل على العمل كوسيلة للتفاهم، يتوصل بفضلها المشاركون في التواصل إلى التفاهم حول ما يهم العالم الموضوعي، العالم الاجتماعي والعالم الذاتي. في الفعل التواصلي "يدعي المتكلم حقيقة الملفوظات أو الافتراضات المسبقة للوجود، ويدعي دقة الحركات المنظمة حسب الشرعية، كما دقة مجالها المعياري، ويدعي الصدقية بالنسبة للتواصل في التجارب المعيشة بصورة ذاتية"[13]. لهذا السبب، لئن كان وصف بنيات النشاط الموجهة مباشرة نحو النجاح يكفي بالنسبة للحركات الغائية، فإنه لا بد من تحديد الشروط التي تمكن من إنجاز وفاق معين بواسطة التواصل بالنسبة للنشاط الموجه نحو التفاهم المتبادل، عندئذ فإن الهدف لن يكون شيئا آخر غير إنتاج انخراط مشروط عقلانيا، ليس بواسطة الإكراه، ولكن بواسطة وفاق يستند دائما على معتقدات مشتركة.
ولكن مفهوم العالم المعيش، يكتب هابرماس، فضفاض وغير قابل لأن يستعمل مباشرة لأجل أهداف نظرية، ما دام لا يرسم حدودا لمجال محدد، قادر على إنتاج هيرمينوطيقا(*)معينة. وإذا بهابرماس يستنتج: "العالم المعيش مكون بوصفه كذلك. وهذا المكون يسعى إلى التفاهم المتبادل، بينما تشكل المفاهيم الشكلية إطارا مرجعيا يمكن أن يكون أرضية للتفاهم المتبادل: المتكلم والسامع يتفاهمان بشكل متبادل، انطلاقا من عالمهما المعيش المشترك، حول إحدى وقائع العالم الموضوعي، الاجتماعي أو الذاتي"[14]. تسمح هذه التمييزات بفهم لماذا يقوم الفعل التواصلي، تحت المظهر الوظيفي للتفاهم المتبادل، بنقل وتجديد المعرفة الثقافية، ولماذا يقوم، تحت مظهر سلوك الحركة، بالإدماج المجتمعي وبتأسيس التضامنات، ولماذا يخلق، تحت مظهر إضفاء الطابع المجتمعي، هويات شخصية. مع هذه السيرورات في إعادة الإنتاج الثقافي والاندماج الاجتماعي، وإضفاء الطابع المجتمعي، تتطابق الثقافة (احتياط المعرفة)، المجتمع (نظام شرعي للانتماء إلى جماعات اجتماعية وتضامنات معينة)، والشخصية (كفاءة الكلام والحركة لأجل التفاهم المتبادل)، وكلها مكونات بنيوية للعالم المعيش[15].
من الصعب ألا نرى إلى أي حد يفترض مفهوم الفعل التواصلي لدى هابرماس مسافة جذرية بين الفرد والعالم. خارجية الفرد إزاء وضعيات الحركة تدفع هابرماس إلى حد مفهمة هذه الأخيرة (الوضعيات) باعتبارها تقطيعا يمارسه الفاعلون في العالم المعيش بارتباط مع الموضوعات (التيمات) المحددة حسب منافع المشاركين[16]. مع ذلك، فإذا كان يضع حدودا للطابع الإشكالي لتقطيع الوضعيات، فإن هذه الخلفية المكونة من البديهيات الثقافية ومن تضامنات الجماعات المتشكلة حول بعض قيم وكفاءات الأفراد، الذين أضفي عليهم الطابع الاجتماعي، أبعد من أن تقصي ضرورة أن يتفق الأفراد على ما يحدث في العوالم الثلاثة: الموضوعي (الظرفيات والأحداث)، الاجتماعي (العلاقات بين الأشخاص) والذاتي (التجارب المعيشة). هكذا يسمح الطابع اللاممركز للعالم بالاستدعاء المتواصل لمختلف المعايير الإبرائية في كل وضعية، مثلما يسمح بتبني مواقف متطابقة مع باقي العوالم، إزاء كل واحد منها, ما دمنا نستطيع مثلا، إزاء الطبيعة الخارجية، تبني، ليس موقفا موضوعيا فحسب، ولكن أيضا موقفا متطابقا مع المعايير وموقفا تعبيريا. يرى هابرماس أن الحداثة تتماهى بقوة مع هذه الاختلافية، وهو ما يفترض إذن تعارضا يزداد اتساعا بين العالم المعيش نفسه، المتجذر في بديهيات غير إشكالية، وأجواء يمكن داخلها الوصول إلى وفاق هش دائما[17].
II – ثنائية الحداثة:
من هذا المفهوم حول العالم المعيش، وخصوصا من إعلاء قيمة تداخل الذاتية، سيتوصل هابرماس إلى أهم ما تحتوي عليه انتقاداته ومقولاته التحليلية للمجتمع الحديث، مقترحا تصورا ثنائيا عميقا للحداثة.
العمل والتفاعل:
يرى هابرماس أن العمل، بوصفه محورا لهيمنة الإنسان على الطبيعة، لن يكون بوسعه أن يعطي صورة كاملة على أشكال أخرى من التفاعل الناتجة بواسطة اللغة. لا يمكن تجزيء هذين الشكلين في الحركة. يجد هابرماس هذا التمييز، الذي سيعمل فيما بعد على تجذيره، في الدراسات التي خص بها، في سنوات الستينات، فلسفة هيجل في يينَّا. يرصد هابرماس في تلك الفلسفة ثلاثة نماذج من العلاقات الجدلية، في اللغة، والعمل، والعلاقة الأخلاقية أو التفاعل بين الأشخاص. بيد أن الأهمية التي يوليها لهذه النماذج تعود بالأساس لكونها لا تتعلق بمراحل في مسار تطور الروح، ولكنها تتعلق بأشكال مختلفة من التوسط[18].
إن ثنائية هذين الشكلين في الحركة ستكون إحدى أهم الخيوط الناظمة الثقافية في منهجية هابرماس. لذلك، ورغم أنه يظل قريبا من إرادة الانعتاق الحاضرة لدى ماركيوز، فإنه يستبعد الفكرة التي ترى بأن العلم أو التكنولوجيا قد يستطيعان التخلي عن دورهما في الهيمنة الاجتماعية، ويعملان لصالح انعتاق الإنسان. ويقول بأن هذه الإمكانية الطوباوية غير متوفرة، طالما أن تطور العلم يظل مرتبطا بالعقلانية الغائية، المؤسسة على نموذج العمل. على العكس من ذلك، توجد إلى جانب هذا الشكل العقلاني نماذج أخرى في الفعل التواصلي، الذي يكمن نموذجه الأولي في التفاعل، والذي يبقى مع ذلك عقلانيا بشكل أساسي. يتمرد هابرماس على أية إمكانية للاعقلانية، كما تدل على ذلك رغبته في الافتراق عن الاستدعاءات لعقل غرائزي أو رومانسي، كما هو الحال لدى ماركيوز، أو جمالي، كما هو الأمر بالنسبة لأدورنو، وكما تدل على ذلك، فيما بعد، معاركه المختلفة ضد جميع الاتجاهات اللاحديثة في الفكر المعاصر[19].
يرى هابرماس أن التمييز بين العمل والتفاعل هما أصل إحدى النقائص الأساسية للمادية التاريخية، ولفسادها الثقافي داخل تصور وظائفي للمجتمع. داخل هذا التصور لا يتم تقييم واستيعاب الأحداث والممارسات إلا بارتباط مع الدور الذي تنجزه في السيطرة البشرية على الطبيعة. سيتوصل هابرماس إلى نقد التصور التقنوي أو الأداتي للسياسة على حساب الإلزامات التواصلية لديموقراطية المداولة. في النهاية، عندما يقدر القيمة الحقيقية لحاجات الوفاق التواصلية للناس في المجتمع، سيرفض اختزال إعادة إنتاج الحياة الاجتماعية في بعد العمل فقط، كما هو الأمر لدى ماركس. يرى هابرماس بأن التفاعل الذي تتوسط فيه اللغة في مثل أهمية العمل بالنسبة لاندماج المجتمع[20]. طبيعي أنه لا يتجاهل المكانة التي أولاها ماركس للهيمنة والإيديولوجية بوصفهما عوامل اندماج المجتمع. لكن، على اعتبار أن ماركس لم ينجح حقا في التمييز بين العمل والتفاعل، فإنه لم يستطع، مثله مثل الكتاب الذين يعلنون انتماءهم للمادية التاريخية، سوى أن يؤول التفاعل انطلاقا من الفرضيات المعرفية للعمل فحسب.
يرفض هابرماس العلاقة الوثيقة، والوحيدة تقريبا، التي يقيمها ماركس بين التقدم والهيمنة المتواصلة والمتنامية للإنسان على الطبيعة. يذهب إلى القول بأن الحاجة إلى الاتفاق التواصلي، الموجود في المجتمعات البشرية، والمتفاقم بواسطة لا مركزة صور العالم، هو بعد تاريخي مهم بدوره في التطور الاجتماعي. من هنا، يعطي هابرماس تصورا آخر للحياة الاجتماعية. لا يتعلق الأمر إطلاقا برفض التحكم المتنامي للإنسان على الطبيعة لحساب تصورات رومانسية، جمالية أو لا عقلانية. بالعكس تماما، فإن جوهر مشروعه الثقافي هو مقاومة هذه المعزوفات اللاحديثة، وذلك بتأسيس تصور أكثر اتساعا للعقلانية[21].
غير أن هذا التمييز الأولي سيستأنف ويتبدل عندما يرتبط بمختلف مقولات العقلانية، وهو الأمر الذي سيشكل، بلا شك، التعمق الثقافي الأكثر أهمية لدى هابرماس[22]. عندئذ فقط سينجح في إقامة جدل للحداثة مختلف عن الجدل الذي يقترحه الإرث الفيبري.
طريقان للعقل:
يواصل هابرماس التمييز بين هذين النموذجين في الحركة بواسطة نظرية عن العقلنة الاجتماعية. بالفعل، فإذا كان في فترة أولى يميز بين العمل والتفاعل بوصفهما ممارستين اجتماعيتين غير قابلتين للتقزيم، فإنه في فترة ثانية يربطهما بأشكال معرفية محددة تستجيب لسيرورات مختلفة في العقلنة. هكذا ينتج العمل والتفاعل نظامين فرعيين مختلفين في الحركة. الأول منظم حول حركات مقاصدية، والثاني حول حركات تواصلية.
يرى هابرماس أننا ننجح في الخروج من الصورة الكالحة للحداثة، المسقطة على استمرارية الحدوسات الفيبرية، فقط عندما نأخذ جديا في الحسبان هذا الواقع المزدوج للعقلانية[23]. يمكن تلخيص هذه الأفكار بالقول إن هابرماس يدرس فيبر من خلال ثلاث سلاسل من المشكلات. أولا ينتج فقدان الوهم انفصال الرؤيات التقليدية للعالم، ويفقد الناس معنى القيم، ويتيهون في قلق حياة ليست لها أهداف مطلقة. يرى هابرماس بعد ذلك أن العقلانية الفيبرية هي سيرورة في اختلاف المجالات تتطابق مع العوالم الثلاثة في نظريته هو نفسه، والتي تنحو منحى شكلنة لا تكف عن الاتساع. ويرى فيبر أخيرا بأن إرث الأنوار لم يكن هو الازدهار الإنساني، وإنما عبودية البشر التي شجعها استبداد العقلانية الأداتية التي اكتسحت كل قطاعات الحياة الاجتماعية. تم تأويل لوكاتش والجيل الأول في مدرسة فرانكفورت داخل مربع العقلانية الأداتية هذا. لكن برفضها استدعاء عقل من طراز هيجلي (نظرا لأحداث القرن العشرين) فإن هذه النظريات تظل بدون نموذج بديل. في مواجهة خلاصات هذا الجيل الأول (عدم وجود تقدم ما في التاريخ البشري، واختزال السياسة في تنامي التحكم بالأفراد) فإن هابرماس يعتقد أن بمقدوره تقديم تشخيص آخر للمجتمع الحديث.
يرى أن العالم الذاتي لا يمكن له أن يتأسس عن طريق الاختزال إلى العالم الاجتماعي أو الموضوعي. والحال أن هذا هو الذي يحدث بالضبط في الفعل الغائي الذي يحرم التفكير بحق في العالم الذاتي. الحركة الأداتية فعل يمارس على العالم قصد صنعه بتوافق مع إرادة الإنسان. يختزل كل مشكل داخل هذا النموذج إلى خيارات الوسائل الأكثر ملاءمة للوصول إلى الأهداف المرجوة. لئن كانت الحركة الاستراتيجية تدخل في حساباتها قرارات باقي الأفراد، فإنها لا تفعل هذا إلا إذا اختزلتها إلى أشياء. أما واقع الفعل التواصلي فإنه يختلف عن ذلك تماما. هنا يفترض الوفاق والتراضي المنشود القبول المسبق بفردانية الآخر. لم يعد الأمر يتعلق فحسب بالوسائل والغايات، ولكن أيضا بمعايير ذاتية متداخلة. لا يتحدد الفعل التواصلي باستعمال اللغة فقط (طبيعي أن ثمة جملة من الحركات الاستراتيجية تساهم فيه)، ولكنه يتحدد أيضا بارتباط مع ادعاء الإبراء الذي ينشده الفاعلون[24]. "يمكن التمييز بين الحركات الاجتماعية في ارتباط مع الموقف الذي يتبناه المشاركون، بحسب إن كان هذا الموقف موجها نحو النجاح أو التفاهم المتبادل"[25]. هذان واقعان شديدا الاختلاف يبرران، حسب هابرماس، التمييز بين شكلين من العقلانية. يكمن المجهود الأساسي في تأسيس العقلانية التواصلية، داخل إطار النظرية، عن أفعال اللغة.
يستخرج هابرماس إذن مقاربة محددة لموضوعة العقلانية. داخل هذه المقارنة لا يمكن فهم العقلنة إلا باعتبارها تصعيدا للعناصر المعقولة التي تستند عليها حركة ما، وعن طريق إنماء القدرة على تأسيس سلوكنا في مجالات مختلفة. إذن ستكون العقلانة حمالة أوجه مختلفة، حسب نمط الحركة التي تطبق فيها، وحسب توجيهها نحو التفاهم المتبادل، أو نحو النجاح، أو باتجاه إنجاز الأهداف. هذان النمطان الأخيران في الحركة، الذين ليسا سوى إمكانية خاصة بالفعل الغائي، يفترضان قدرة على إنجاز هدف من خلال الوسائل الملائمة[26]. يرى هابرماس أن الحركة الغائية تتعقلن عندما تتصاعد فعالية الوسائل التقنية أو الصلابة المصطفاة للأهداف. يبدو هابرماس دارسا للعقلانية الأداتية في منحى فيبري، ولكنه مع ذلك لا يماهي انتشارها مع سيرورة التحديث. في الفعل التواصلي لا يمكن للعقلنة سوى أن تعني إقصاء العناصر الإكراهية التي تشوش التواصل والتحديد المتنامي للتراضي عن طريق الحجاج.
كما فهمنا، فإن هابرماس يهدف إلى إيضاح أن ثمة، داخل سيرورة العقلنة ذاتها، نمطين مختلفين ولازمين للعقلانية، يجبر توترهما الحداثة على إيجاد تعبير معين. ولكن بالخصوص، وعلى اعتبار أن هابرماس يقطع مع كل بقايا فلسفة التاريخ، فإنه من الواضح أن قدرة العقلنة لدى مجتمع ما هي نفسها ذات طبيعة تاريخية، فهي إذن متغيرة. لا يمكن ابتداء تعريفها بوصفها سمة خاصة لموضوع معين في التاريخ. هكذا فإن إمكانيات العقلنة تظل مفتوحة وتاريخية بشكل جذري: "يبقى منطق التاريخ دون "ضمانة ميتافيزيقية" ولا ينتمي سوى إلى سلوك الناس"[27].
يرى هابرماس أن الفاعل ليس بمقدوره أن يختار بين الفعل الغائي والفعل التواصلي. حتى ولو ظهر أنه يعطي أحيانا أولوية معينة للفعل التواصلي. لا يمكن إعادة إنتاج البنيات الرمزية الخاصة بالعالم المعيش إلا من خلال سيرورة التراث الثقافي والاندماج الاجتماعي وإضفاء الطابع المجتمعي. وفي هذا المنحى فإن تلك البنيات تفترض مسبقا الفعل موجها نحو التفاهم المتبادل. لكن من جهة أخرى تتجذر الحركة الغائية في العالم المعيش وتفترض وجود عناصر مؤسساتية، بدونها يصبح تنسيق الحركة إشكاليا. لهذا السبب، حتى وإن كان يعترف بالبعد الغائي، الحاضر في كل شكل من أشكال الحركة، فإنه مع ذلك يخلص إلى أولوية الفعل التواصلي، ليس فقط لأنه يسمح بإقامة إدعاءات إبرائية فوق العوالم الثلاث، ولكن أيضا لأن الحركة الغائية مرتبطة بالدلالات الرمزية والعلاقات المؤسساتية والقدرات التفكيرية للفاعلين[28]. في الحداثة تصبح أفعال التواصل مستقلة عن التفاعلات الاستراتيجية. يرى هابرماس، الذي يحذو في هذه النقطة حذو دوركهايم وبارسنز، أن سياقات التفاعل لا يمكن تثبيتها فقط عن طريق الحركة المتبادلة للفاعلين، الذين يتحركون بارتباط مع أهدافهم، بل بالعكس فإن على المجتمع أن يدمج في نهاية المطاف بواسطة النشاط التواصلي[29].
المنظومة والعالم المعيش:
سيتم إدماج هذين النمطين للحركة بشكل تحليلي داخل مجالين جد مختلفين في الحياة الاجتماعية. يرى هابرماس أن كل نمط من أنماط الحركة، على اعتبار أنه ينتج تصورا معينا للعقلانية، يؤدي من جهة إلى تنامي قدرات التحكم الاجتماعي، ومن جهة أخرى يؤدي إلى اختلاف متصاعد لمختلف الميادين المكونة للعالم المعيش (الثقافة، المجتمع، الشخصية). يحاول هابرماس تجذير هذين الشكلين للحركة في ميادين مستقلة، مع معايير تنسيق محددة للحركة. إنه مقتنع بأن تفسير سيرورة إعادة الإنتاج الرمزية للحياة الاجتماعية في الحداثة، بمساعدة المقولات الخاصة بالفعل التواصلي، والمتجذرة في العالم المعيش، يحتاج إلى ملحق تفسيري يعطى لنظرية المنظومات في دراسة إعادة الإنتاج المادية للمجتمعات الحديثة. يحيل مفهوم المنظومة إلى مقاربة اجتماعية انطلاقا من بنيات وإلزامات وأشكال الاندماج المنظومي. وعلى العكس يؤكد مفهوم العالم المعيش على البعد الاجتماعي الخاص بالفاعلين. هناك حيث التحليل السوسيولوجي لا يأتي من التأويل المنظومي بقدرما يأتي من الاتجاهات الثقافية الممكنة التصادمية لدى الأفراد.
يرى هابرماس أن التطور الاجتماعي يؤدي إلى اختلاف متصاعد للمنظومة والعالم المعيش بسبب تصاعد تعقيد الأولى، وعقلانية الثاني. في هذه الحركة العميقة لم يعد العالم المعيش شاملا لمجمل النظام الاجتماعي ولكنه لا يصبح سوى نظاما فرعيا، من بين أنظمة أخرى، حتى ولو "ظل العالم المعاش هو النظام الفرعي الذي يحدد حالة النظام الاجتماعي في عمومه"[30] ما دامت العناصر الخاصة بالأنظمة الاجتماعية في حاجة، بطريقة أو بأخرى، إلى التجذر فيه حتى يمكن لها أن تصبح مؤسساتية. لا يتردد هابرماس في الاحتفاظ –لأجل المجال التواصلي- بالدور الأساسي الذي يعطى تقليديا لعناصر إعادة الإنتاج المادية. إنه يرى بالفعل أن سيرورة التعلم ليست محددة فقط داخل مجال القوى الإنتاجية، ولكنها توجد أيضا وخصوصا لدى قوى الإدماج الاجتماعي، التي تحدث انطلاقا منها التجديدات التي تفتح الطريق فعليا نحو التطور الاجتماعي[31]. مع ذلك، ونظرا لدرجة الاختلاف الخاص بالمجتمع الحديث، فإن الإواليات (الميكانيزمات) المنظومية تفترق أكثر فأكثر عن البنيات الاجتماعية التي يحدث بواسطتها الإدماج المجتمعي. باختصار فإن التنظيمات في الحداثة تدخل من الآن في علاقة متبادلة من خلال وسائل تواصل أزالت اللغة. لكن لا تكفي ملاحظة هذا التعقيد المتنامي الخاص بالمجتمعات الحديثة. يجب فوق ذلك تفسير كيف أصبح ممكنا تطور إواليات الإدماج المنظومي ولماذا ينبثق بعض منها في لحظة معينة. "على أسس اتجاهات معممة أكثر فأكثر للحركة، تنشأ شبكة أكثر فأكثر سماكة لتفاعليات تفتقد توجهات معيارية مباشرة، ويجب تنسيقها بواسطة طرق أخرى. لأجل إرضاء هذه الحاجة المتنامية في التواصل، فإننا نتوفر على التفاهم المتبادل بفضل اللغة، ولكننا نتوفر أيضا على إواليات الانقطاع التي تقلل من تكاليف التواصل ومخاطر الشنآن"[32].
في الفعل التواصلي لا يفترض العالم المعيش وفاقا حول العالم فحسب، ولكن أيضا تفاعلات نؤكد ونجدد بواسطتها الانتماء إلى مجموعة اجتماعية، كما الهوية الشخصية. على العكس من ذلك، تعمل المنظومات الاجتماعية بواسطة إلحاقات منظومية، منتزعة من العوالم المعيارية، وتشتغل بوصفها أنظمة فرعية مستقلة تجمد عالما آخر ومختلفا، عالما موازيا للعالم المعيش، تتقوى داخل تلك الأنظمة الفرعية وسائط تواصل تتجه إلى تكثيف أو استبدال التفاهم المتبادل بوساطة اللغة. وبعبارة أخرى، فإن التمييز بين المنظومة والعالم المعيش يحيل لدى هابرماس إلى اختلاف بين إواليتين في اندماج المجتمع: الاندماج الاجتماعي والاندماج المنظومي. فبيما يفترض الاندماج الاجتماعي مشاركة الفاعلين وإعادة خلق دائمة للتراضي عن طريق التواصل، فإن الاندماج المنظومي ينجز بواسطة عناصر غير شخصية وبطريقة غير معيارية. مع ذلك، فإن هذا التمييز غير واضح، ويمكننا بحق أن نتساءل حول جواز فكرة الاندماج المنظومي المحروم من كل عنصر معياري.
بعدما يعدل تفكير بارسنز يؤكد هابرماس على أن المال والسلطة وحدهما وسائط للاندماج المنظومي، ما داما يتأسسان انطلاقا من إكراهات مشروطة تجريبيا، بينما تستند الأشكال التواصلية المعممة، مثل السمعة أو القيمة الوظيفية، الحظوة والتأثير، على بعض أشكال الثقة المشروطة عقلانيا قبل كل شيء. وحدها الأولى تهدف، حسب هابرماس، إلى أخذ مكان التفاهم المتبادل. يرى هابرماس، بعكس بارسونز، أن اللغة ليست وسيلة للاندماج المنظومي، ولكنها الأساس الذي يستند عليه العالم المعيش، الذي يغفله تحليل بارسنز. المال والسلطة يشكلان الوسيطين الكبيرين في المجالات الاختلافية للاندماج المنظومي، ألا وهما الاقتصاد والسياسة. مع ذلك فهما معا ينهلان نبعهما المعياري النهائي من عالم معيش يغمرهما. وسائط الضبط (المال والسلطة) "لا تعمل سوى على تبسيط الإلحاقات المعقدة للغاية لدى الفعل الموجه نحو التفاهم المتبادل، لكنها إذ تفعل ذلك تظل مرتبطة باللغة والعالم المعيش، مهما كانت عقلانيته"[33]. والحال أن هذا التبديل لوسائط الضبط باللغة في تنسيق الحركة ينتهي تدريجيا إلى الافتراق بين التفاعليات والعالم المعيش. وسائط، مثل المال والسلطة "تقعد التجارة العقلانية لأجل غاية ذات قيم كمية وقابلة للعد، وتجعل من الممكن إحداث تأثير استراتيجي معمم على قرارات مشاركين آخرين في التفاعل، وذلك بالتفافها على سيرورات تكوين تراض عن طريق اللغة"[34]. في النهاية لا نحتاج قط إلى عالم معيش حتى نتأكد من تنسيق الحركات.
لنلاحظ أن ثمة توترا بين نظريته في الحركة وتصوره للأنظمة الاجتماعية[35]. فإذا كانت الأولى مبنية بقوة داخل مربع تفكير حول العالم المعيش، وتبعا لقطيعة الصور الواحدية للعالم، فإن الثاني بالعكس يتأكد انطلاقا من نموذج وظيفي. يحصل الربط بين الاثنين في العمق، بواسطة الهم الأساسي للاندماج. انشغال يسمح بإقامة علاقة بين البحث عن التراضي بواسطة التواصل وبين تأويل معين للإلزامات المنظومية للنزعة الوظيفية. هنا، على مستوى البناء المعماري الإجمالي للفكر تتأكد الأولوية التحليلية التي يعطيها هابرماس للمنطق المنظومي على حساب سوسيولوجيا الحركة. أحيانا يصل الإبدال إلى حد محاولة استبدال الفاعلين الاجتماعيين بمقولات تحليلية. عندئذ يتحدد المجتمع الحديث، قبل كل شيء، بتقاطع لإواليات الاندماج، بل اكتساح قطاع اجتماعي لقطاع آخر. في العمق، إن قوة مشروع هابرماس وحدوده ينهلان من نفس المنبع، ألا وهو إرادته في إقامة تشابه جذري بين الحاجة إلى الوفاق، التي يرى أنها تشكل أساس الفعل التواصلي، وإرادته في استبدال هذا الإكراه على مستوى تحليل للمجتمع بأسره. من المحتمل جدا أن يكون هذا هو أصل انجذابه نحو نظرية بارسنز حول المنظومات، ومقاومته، بل عدائه، لنظرية لوهمان حول المنظومات[36]. لا تتم في العمق محاكمة كلا النظريتين إلا اعتبارا للمكانة التي تعطيانها للتوافق المعياري في اندماج المجتمع.
III – أمراض الحداثة:
لنلخص. تنطلق أعمال هابرماس من التمييز بين شكلين محوريين للحركة، العمل والتفاعل. وكلاهما ينتج مفهومين عن العقلانية، متعارضين بشكل جذري، ويؤديان إلى مبدأين مختلفين في اندماج المجتمع، يستند كلاهما في نهاية المطاف على عالمين اجتماعيين متمايزين، ألا وهما نظام المنظومات الاجتماعية وميدان العالم المعيش. في القطاع الأول، تترافق العقلنة مع اتساع التقنية والمعرفة الاستراتيجية؛ في الثاني تعادل العقلنة تحرير كل الإكراهات التي تثقل التواصل. في النهاية، فإن التصور الذي يتوصل إليه هابرماس بخصوص الحداثة إنما هو ثنائية عميقة بين عالم العقلانية الغائية، الخاص بالأنظمة الفرعية الاجتماعية، وعالم العقلانية التواصلية، الخاص بالحياة اليومية.
والحال أن هذا التوازن الضروري للسير الجيد للحداثة سيصبح ذا بعد واحد، لصالح إواليات الاندماج المنظومي. فإذا كان هابرماس في الصيغة الأولية لتفكيره يولي أهمية بالغة لصعوبات اندماج المجتمع من وجهة نظر المنظومات الاجتماعية، فإنه، عكس ذلك، في مرحلة تالية يهتم بالأحرى باكتساح متطلبات الاندماج المنظومي للعالم المعيش. في الحقيقة ليس ثمة تناقضا بين الحصيلتين النقديتين، لكن تغيير زاوية النظر يكتسي دلالة قصوى.
مخاطر الأزمة في الرأسمالية المتقدمة
الدراسة التي يخصصها هابرماس لأزمات الرأسمالية المتقدمة في بداية سنوات السبعينات يحركها اعتقاد كبير. بسبب الدور المتنامي للإدارة، فإن الأزمات الاقتصادية الدورية الخاصة بالرأسمالية تتجه للتحرك نحو الميدان السياسي، ما دام للدولة، من الآن فصاعدا، دخل كبير في المسائل الاقتصادية من خلال تقنييها وإدارييها. حتى وإن كان ممكنا لمخاطر الأزمات أن تحدث في مستويات مختلفة، وحتى لو كانت لها دلالة مختلفة، فإنها تحيل في نهاية المطاف إلى التناقض الأساسي للمجتمع الرأسمالي، الواقع بين متطلبات الإنتاج الاجتماعي والملكية الخاصة للربح[37].
يميز هابرماس ببين أربعة أنماط من الأزمة. أزمة اقتصادية تحدث عندما لا ينتج النظام الاقتصادي الكمية الضرورية للخيرات القابلة للاستهلاك. أزمة عقلانية عندما تعجز الدولة عن الاستجابة في نفس الوقت للحاجة إلى تخطيط الاقتصاد والحاجة للإبقاء على إواليات الملكية الخاصة لتراكم رأس المال، عندما لا يأخذ النظام الإداري في حسابه الكمية الضرورية للقرارات العقلانية. عدم حل هذا التناقض يفتح الطريق ثالثا نحو أزمات الشرعية بالمعنى الحرفي، حيث تحدث هوة بين الدوافع الضرورية لاشتغال النظام السياسي-الاقتصادي والدوافع التي ينتجها النظام الاجتماعي-الثقافي. أخيرا، يمكن لكل هذا أن يؤدي إلى أزمة دافع motivation، عندما لا يقدم النظام الاجتماعي- الثقافي الكمية الضرورية للمعنى، كي يكون دافعا للحركة[38].
سبب معاناة المجتمعات الرأسمالية المتقدمة من أزمة الشرعية يعود إلى انتقال نتائج الأزمة الاقتصادية نحو مجالات السياسات العمومية والدافع الفردي. في هذه المرحلة يشبه التصور الهابرماسي للاتجاهات نحو الأزمة –الخاصة بالرأسمالية المتقدمة- الطريقة التي عالجت بها المادية التاريخية تناقضات الرأسمالية. في هذه المرحلة أيضا يمكن أن نرصد تأثير النماذج المنظومية على تفكيره. رغم الأهمية التي يوليها سلفا إلى التفاعل والعالم المعيش فإن تمثله كله يخضع لإلزامات تمثل وظيفي للمجتمع. الأكيد أنه ينقل قلب الأزمة نحو النظام الاجتماعي-الاقتصادي، ولكن الدولة تظل هي الحلقة الضعيفة. في هذا التمثل الكلاسيكي تحدث أزمة اشتغال الرأسمالية المتقدمة في العمق نتيجة التنافر بين العالم المعيش والنظام.
لنلاحظ أن السلطة الحكومية في هذا التمثل تشكل "موردا بريئا بقدرما هو ضروري". على كل حال فإن تدخلات الدولة الاجتماعية في مجال حياة مواطنيها تحدث تلقائيا ولا تطرح ظاهريا أي إشكال. والحال أن اتساع القانون والبيروقراطية، تماما مثل التأثيرات المضادة للإنتاجية، التي تسببها السياسة الاجتماعية للدولة، وأيضا إضفاء الطابع العلمي على الخدمات الاجتماعية، ليست جميعها وسائط غير فاعلة وبلا خطر، وما أبعدها أن تكون كذلك. ينير هابرماس هذه الوضعية عندما يعرض الهفوة الأساسية في الدولة الألوهية، وهي الهفوة الملازمة جوهريا لليوتوبيا الخاصة بها، ألا وهي أن مع نجاحها "ينتهي الأمر بشبكة من المعايير الحقوقية، التي لا تكف عن التضخم، والبيروقراطية الدولتية والمضادة للدولة، إلى تغطية الحياة اليومية للمستعملين المحتملين والفعليين"[39]. عندئذ تصبح هذه الصيغة الثانية مختلفة، وينتقل الاهتمام من أزمة الرأسمالية المتقدمة إلى التحكم المتنامي في حياة الأفراد. يظل التمثل الأول الذي يقدمه هابرماس للأمراض الخاصة بالحداثة متأثرا بالمادية التاريخية، ويبدو أنه يريد بلورة إمكانية لتجاوز المجتمع الرأسمالي. يؤكد التمثل الثاني الذي ينتمي للتصور الفيبري اكتساح الإواليات المنظومية للحياة اليومية.
استعمار العالم المعيش
يؤدي تطور المجتمعات الحديثة إلى تعقيد متنامي للمنظومات الاجتماعية، وكذلك إلى تحول لأشكال التوازن الاجتماعي. في هذا السبيل، فإن افتراق المنظومة والعالم المعيش، وهو الافتراق الذي كان أساسا للتصور الثنائي للحداثة، تتم ترجمته في النهاية داخل تقسيم بين المنظومات الاجتماعية (خاصة المنظومات الفرعية الاقتصادية، السياسية والإدارية) وبين العالم المعيش. في النهاية فإن الفعل التواصلي الذي يشكل وسيلة لإعادة إنتاج البنيات الرمزية للعالم المعيش، والذي تتكفل به في الحداثة أنظمة حركة متخصصة في وظائف إعادة الإنتاج الثقافي (المدرسة) أو الاندماج الاجتماعي (القانون) أو المجتمعي (العائلة)، هذا الفعل التواصلي يطرد بواسطة إواليات الاندماج المنظومي، وخاصة المال والسلطة.
يؤكد التصور المعياري الذي ينحته هابرماس عن الحداثة على الترابط الذي يجب أن يوجد بين شكلي الاندماج. يرى هابرماس بأنه يستحيل فهم مجتمع حديث خارج اتجاهات الفاعلين، ودون الاستناد على مفهوم المنظومة. لكن هذا الترابط ليس متوازنا في الواقع. يرى هابرماس أن المسافة القائمة بين شكلي العقلانية هي التي تفسر سخريةL’Aufklarüng(*): "يعد الانفصام المنجز بشكل واسع بين النظام والعالم المعيش شرطا ضروريا للانتقال من مجتمعات الطبقات التراتبية في الإقطاعية الأوروبية إلى مجتمعات الطبقات الاقتصادية في الحداثة الأولى. غير أن النموذج الرأسمالي للتحديث يمتلك الخاصية التالية: تم إفساد البنيات الرمزية للعالم المعيش، أي أنه تم تشييئها بواسطة متطلبات المنظومات الفرعية التي أصبحت اختلافية ومستقلة من خلال المال والسلطة"[40]. في التحديث، وعلى خلاف الخطاطة الماركسية، ينتهي الأمر بالبنيات الفوقية (عن طريق التسويق والبيروقراطية وقوننة العلاقات الاجتماعية) إلى استعمار الأساس التواصلي للمجتمع.
لكن الرؤية ليست تبسيطية. يشعر هابرماس مثلا بمبالغات المعيارية القانونية الخاصة بالمجتمعات الحديثة، وبالإرادة المتنامية لتلك المبالغات في الضبط المتصاعد كل مرة لعدد كبير من قطاعات الحياة العامة والخاصة. وهو بذلك يعي خطر الاستعمار الحاضر في الاستعمال المتنامي للعلاقات الشخصية والعائلية والمدرسية أو الثقافية، داخل عوالم أصبحت معيارية. مع ذلك، فهو أبعد من أن يرى فقط المظاهر السلبية في هذه السيرورة. فهو يعبر كذلك عن إرادة الدفاع عن الاندماج الاجتماعي أمام خضوعه لمتطلبات الاقتصاد والإدارة، والحيلولة دون أن تتحول المجالات المعاشة (المدرسة، العائلة، السياسة الاجتماعية) إلى مبدأ في إضفاء الطابع المجتمعي، لن يكون بالنسبة لها سوى سببا في عدم اشتغالها[41]. بعبارة أخرى، لا تكمن الهيمنة على الإنسان فقط في تصاعد العقلنة، وخاصة البيروقراطية، كما هو الحال لدى فيبر. إن نقص عقلنة العالم المعيش هو سبب انفصاله عن المنظومات. هذا تشخيص مختلف. جواب هابرماس على الصراع الكبير في الحداثة سيكون أيضا مختلفا.
هنا يجد تحليل الحركات الاجتماعية الجديدة إطاره. تتسم الصراعات الاجتماعية الجديدة بوصفها إمكانية للاحتجاج تنبثق من مجال إعادة الإنتاج الثقافي والاندماج الاجتماعي. نشاطاتها تحت –مؤسساتية أو خارج برلمانية، وتجد جذورها في عجز راجع لتشيء العالم التواصلي، وهي لا يمكن أن تحل بواسطة تعويضات جديدة يمكن احتمالا للدولة أن تعطيها. "باختصار، لا تولد الصراعات الجديدة من مشاكل إعادة التوزيع، ولكنها تولد من أسئلة تطال نحو grammaire أشكال الحياة"[42]. كلما استعمر التجمع الاقتصادي-الإداري العالم المعيش، كلما رأينا ظهور تعامد للصراعات الاجتماعية. تضاف إلى الصراعات القديمة، الموجودة في مركز الاقتصاد، والتي تحيل مباشرة إلى سيرورة الإنتاج، مشاكل جديدة موجودة في المحيط الإنتاجي، والتي يبدو أن موضوعتها الوحيدة المشتركة هي نقد النمو. نظرا لأن ميلادها مرتبط باستعمار العالم المعيش، فإن الحركات الاجتماعية الجديدة تتميز بردود أفعال دفاعية (بالاستثناء الملحوظ للنزعة النسوية) تنشط للحفاظ على المجالات البنائية للتواصل، وفي نفس الوقت للاستيلاء على أرضيات جديدة. بل إن هابرماس يتحدث عن تحويل للصراعات، المتمركزة حول أدوار الأجير والتشاركي، باتجاه أدوار المستهلك والزبون. الواحد لا يزيد في إمكانيات الإنجاز الذاتي البشري، والآخر لا يوسع من إمكانيات التحقيق الذاتي.
إذا كان الطابع المأساوي للتاريخ، لدى فيبر، يوجد بالأحرى في الانقسامات الداخلية الموجودة داخل المجال الأخلاقي، والموجودة بالتالي فيما فوق عالم العقلانية –ولكنها أحيانا يمكن أن تتجه ضدها- فإن رؤية هابرماس، التي مهد لها الشاب لوكاتش والجيل الأول في مدرسة فرانكفورت، تتجه بالأحرى إلى جعل صراع الحداثة ينخرط في فضاء تضاد بين عالمين من العقلانية، عالمين متكاملين ولكن ينتهي الأمر بأحدهما إلى النمو على حساب الآخر. ينتهي هابرماس إلى إعادة صياغة جديدة للتناقض الجذري بين موضوعية قواعد المنظومة وذاتية الفاعلين. داخل هذا الفضاء الثقافي يجب فهم انزياح واستمرارية المشروع الفيبري. في مقابل اعوجاج الأنوار الحاضر في أعمال فيبر، ليس من المبالغة أن نفهم أعمال هابرماس بوصفها اعوجاجا نقديا للاعوجاج المأساوي لدى فيبر(*). لئن كان كل مجتمع يتوفر على شكلين من الاندماج، المنظومي والاجتماعي، المتكاملين والذي يرتبط كل منهما بالآخر، فإنه يظهر عندئذ أن استعمار العالم المعيش في العالم الحديث إنما هو بعد واحد (وواحد فقط) من إمكانيات الحداثة. فوق ذلك، وعلى اعتبار أن هذا الاتجاه يبدو مبلبلا للتناغم الضروري بين النظامين الاثنين، فإنه يمكن دون تردد أن يعتبر مرضا. الحداثة، كما تطورت، ليست سوى إحدى البدائل التاريخية الممكنة.
IV – وعود الحداثة:
تتوفر المجتمعات الحديثة على ثلاثة مصادر لكي تستجيب لحاجاتها في الضبط: المال والسلطة والتضامن. يرى هابرماس أنه لا بد من إعادة التوازن لمجالات تأثيرها، وبالخصوص لا بد للمجتمعات الحديثة أن تبدي قدرتها على الرفع من قوة الإدماج الاجتماعي، المرتبط بالتضامن، في مواجهة المال والسلطة الإدارية. يكمن إذن المشكل الحقيقي للحداثة في استخراج إرادة سياسية قادرة على التأثير في ترسيم الحدود بين مجالات الحياة المبنية على التواصل من جهة، والدولة والاقتصاد من جهة أخرى. وهو موقف يتطلب تعميم الفكرة المعيارية عن السلطة الديموقراطية. هذا النهج يجعل هابرماس ملتزما بالبحث عن أسس أخلاق للحوار، حتى يتوصل إلى تأسيس عقلاني للديموقراطية.
من غير الممكن أن نفصل هذا الجهد عن المسألة الكبرى التي يستوحيها مجموع مؤلفاته، ألا وهي إرادته لتثبيت الديموقراطية في بلد لا يمتلك تقليدا ديمقراطيا حقيقيا، مثلما أن جهده هو وضع الديموقراطية في مربع تصور عقلاني للحداثة. هذا هو سبب الدور المركزي الذي تحتله، في مؤلفاته الفلسفية المحضة، إرادة إعادة بناء الأخلاق الكانطية انطلاقا من المبادئ المعيارية التي تفترضها الأفعال التواصلية، وكذلك حرصه، السوسيولوجي أكثر، على تأسيس الإطار الديموقراطي على معايير متجددة. مع ذلك، وعلى اعتبار انخراطه في الأطروحة الفيبرية حول قنوط العالم، فإنه يضطر لصياغة مفهوم كوني غير متعالي للأخلاق. إذا كانت أعماله حول الأخلاق خارج اهتمامنا الحالي بكثير، فإنه يجب مع ذلك أن نفهم الأفكار المبلورة لها قبل أن نستعرض أفكاره حول الديموقراطية[43].
من الأخلاق إلى الديموقراطية
ما العمل، عندما يموت الله، لكي لا يصبح كل شيء مباحا؟ يرى هابرماس أن هذا السؤال، ذا الطبيعة الأخلاقية، مرتبط جوهريا بنظرية عن المجتمع الحديث، بمجرد ما تهدف هذه النظرية لأن تكون شيئا آخر غير انعكاس تحليلي بسيط للتعقيد المتنامي للمجتمع. لا بد إذن من إقامة علاقة قوية بين نقد الصراع الخاص بالحداثة وبين نظرية عن الانعتاق مع القبول رغم ذلك، ومنذ البداية، بنهاية كل رغبة، مهما ضعفت، فيما يخص وجود ذات كبرى مفترضة للتاريخ. والقبول كذلك، تبعا لقنوط العالم، باستحالة تأسيس إعادة نظر نقدية على عناصر غير دنيوية.