سيكون من الغريب إثارة أمر العقلانية المنفتحة الآن، في هذا الزمن وفي هاته الظرفية الفكرية، وقد أطلق الفيلسوف الألماني كانط أولى شرارتها خلال نهاية القرن الثامن عشر، ثم عرفت منعطفا جديدا مع باشلار إبان القرن العشرين حيث لبست معطفها الإبستيمولوجي الصِّرف، وبعده هابرماس الذي أعاد قراءة العقل من خلال الحداثة وكون أن هذا الأخيرة هي بمثابة ذلك المشروع الذي لم يكتمل بعد كي نحكم عليها وعلى عقلها، من ثمة وإذا استطاع فلاسفة الحقبة الحديثة أن يفكروا في كيفية اشتغال العقل بمنطق التفكير في التفكير، فإن هناك زاوية لازالت معتمة شيئا ما، ربما كان من الأجدر لفت الانتباه لها في هاته الظرفية الحالية وليس قبلها، ألا وهو منطق قراءة العقل فلسفيا لكن مع ضرورة النهل من معطيات التاريخ وخصوصيات الثقافة والمجتمع، بعبارة أخرى سنكون أمام دعوة مضمرة للإشتغال على العقل المحلي وليس الكوني، على العقل بصيغته العربية وليس بمنطقه العالمي.
بعد تعرفنا على أوربا خلال غزوها للعالم الإسلامي العربي، تعرفنا أيضا على أنفسنا، لقد كانت الحماية بمثابة المرآة التي عرَّت المستور، كما كانت أيضا تلك اليد التي نشرت غسيلنا بكل جرأة، من هنا طُرِحت إشكالية المقارنة بين الشرق والغرب، بين التقليد والحداثة، وبين التقدم والتخلف، لكن وبما أن التاريخ ماكر أحيانا فإنه ليس يمكننا الاختلاف على مآل تلك الأسئلة، وكيف أنها بقيت حكرا على المثقفين فقط، والحال أن ما سبق ذكره هو القاسم المشترك بين ما قلناه آنفا على العقل الأوربي في بداياته والعقل العربي لحد الساعة، الأول تمكن من التأسيس للإنسان وللعقل على حد سواء، لكن الذي لم يكن منتظرا هو أنه بقي يتخبط بين النظر والإبستيمولوجيا وهو ما جعله عقلا عقيما تجاه مشاكل المجتمع والصراع الطبقي والاستغلال بشتى أنواعه المادية والرمزية... لقد بقي عقلا ترنسندنتاليا رغم عديد المحاولات إلى أن تحقق له المراد مع الماركسية.
في نفس السياق سقط العقل الإسلامي بين براثن عدم الفاعلية، سيكون من المغامرة اعتباره عقلا ترنسندنتاليا، بقدر ما يمكن اعتباره وبقليل من الحيطة عقلا ضيق النظر، عقلا لا زال يخشى من بعض الأسئلة، والتي لو تم طرحها بجرأة لأثرت على المجتمع وعلى الذهنيات، من قبيل سؤال الإصلاح الديني، والمساواة بين الرجل والمرأة، والعمل وفق القانون وروح القانون، وتقبل مبدأ فصل السلط، والإيمان بالاختلاف الخلاق... من هنا كانت الدعوة إلى العودة للعقل وبنياته، ليس العودة طبعا لفهم تكوينه والتي تم العمل على بنائها مع المفكرين حسين مروة وعابد الجابري ـ لكن لم يكتب لها الاستمرار حيث انتهت مع انتهاء أصحابها ـ وإنما العودة إلى قراءة العقل وفهمه بناءً على خصوصياتنا وخصوصيات العالم، لهذا فإن إزالة اللثام على العقل المنفتح هي أولى الخطوات نحو منافسة اللاعبين الكبار.
من جانب آخر سيقول قائل أن ما سبق ذكره في هذا المقام قد كتبت حوله مؤلفات عدة من طرف مفكرين من العيار الثقيل، والحق أن هذا هو عين الصواب ومربط الفرس، صحيح أن جل مفكرينا قد حاولوا وبكثير من الدقة العمل على تكريس عقل منفتح لا يقتصر على جوانبه النظرية الصارمة وإنما على فهم بيئة هذا العقل، والحال أن هذا الأمر قد بدأ منذ فجر تاريخ الحضارة الإسلامية، إذ أين يمكن تصنيف كتابات المعتزلة التي كانت لها الجرأة على طرح أسئلة تحاول الفصل بين الدين كدين وبين عوالق اعتقادات المجتمع التي تسيء للدين أكثر مما تستقبله كممارسة روحانية وكتفسير للوجود؟ وهل تمكنا فعلا من استثمار ما جاء به علم العمران الذي عمل هو الآخر على تفكيك بنية المجتمع من خلال ثقافته السائدة، وأيضا انطلاقا من مجموع ممارساته اليومية التي تفيدنا في كل حال من الأحوال من فهم كيف نفكر، وكيف ننظر لبعضنا لبعض، وكيف تؤثر البيئة على نمط عيشنا.
عندما نرجع إلى ما سبقت الإشارة إليه، سنرى أننا أخلفنا موعدنا مع التاريخ حينما تجرأ مفكرونا على الدعوة إلى عقلانية منفتحة، لكن وبعودتنا على بدء، لابد من الانتباه إلى مكمن هذا الخلل، والإجابة على سؤال: لماذا لم نستثمر تلك الدعاوى الكبرى لإعمال العقل بدل الخرافة خلال الحقب الغابرة، ثم لإعمال مبدأ الإنسان بدل التشييئية التي باتت طبعا وليس تطبعا، والواقع أنه عندما تسود تشييئية الإنسان بدل التأسيس للإنسان، تختل أطراف المعادلة، ومعها يغيب منطق المحاسبة لأن القوي قوي بنفوذه وبأصله وحسبه وماله وليس قويا باحترامه للواجب وتطبيقه للقانون، وهذا هي عين التخلف طبعا.
من ثمة فإن المستفاد مما سبقت كتابته في هذا الشأن، هو أننا لسنا في حاجة فقط للقراءة التي تُشَرِّحُ المجتمع، أو القراءة التي تقرأ بِنْياتِ عقلنا، صحيح أنها هي المنطلق لكنا ستبقى حبيسة رفوف المكتبات ونقاشات الصالونات الفكرية لا غير، وعليه فإن التأسيس لعقلانية منفتحة هو التأسيس لكتاب متحرك ينفلت من برودة المكتبة إلى خيوط عقولنا، كتاب لا نراه فقط في المعارض وغنما في سلوكياتنا، لهذا فإن المشكل ليس يكمن في ماذا نكتب، مادمنا نتوفر على مفكرين كبار، وإن من يستمع لما يكتب هؤلاء المفكرين، إننا بحاجة إلى السياسي المتصالح مع الفكري، لا السياسي الذي يضع الفكري في آخر القائمة، السياسي هو الذي ينفذ، لكن وكما لا يخفى على أحد فإن السياسي أصبح بمثابة عائق إبستيمولوجي لبناء العقل الإسلامي العربي بناءً معطاءً، وعليه فإن تحقيق مطلب العقلانية المنفتحة التي لازلنا بعيدين عنها بمئات السنوات الضوئية، لهو أمر يوجب أن يدخل لاعب ثالث والذي ليس إلا الاقتصادي، بالتالي وكجماع للقول فيما سبق ذكره، فإن الخوض في أمر العقل والعقل المنفتح هو حديث الساعة وذلك انطلاقا مما باتت تعرفه المجتمعات العربية من سوء فهم كبير للدين، وابتعاد أكبر عن الإنسان العاقل، وشرخ أكبر من كبير بين ما نؤمن به وما نمارسه، لهذا بات لازما اليوم إخراج محتويات مؤلفاتنا في هذا الشأن من برودة رفوف مكتباتنا إلى الشارع والإدارة والبيت والمؤسسة.