يقف الإنسان دوما مشدوها أمام الطبيعة التي لا يمكن إلا أن تكون دوما فيه وبمحاذاته، في كل الأمكنة وفي كل الأزمنة، في الخيال كما في الأحلام، وفي الحضور كما في الغياب، والحال أن هذا الأمر يطرح أمامنا جملة من الأسئلة التي سنعرضها على القراء، ليس من باب الإجابة عليها وما أمكن ذلك، وإنما بغية إعادة قراءة العلاقة بين الإنسان والطبيعة وما أعسره من أمر، وبين الاثنين نقف أمام سيرورة وتاريخ طويل مشروط بقوانين هاته الطبيعة، وعليه فهل نُقِرُّ حقا أن الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة، أم نعتبره جسما خارجها لا يخضع لضروراتها خاصة البيولوجية منها؟ ما الذي يريده الإنسان من الطبيعة ومن العالم على حد سواء؟ ماهو هدفه وما هي غايته؟ وهل استطعنا فهم الطبيعة كما ينبغي أن يكون عليه الأمر أم أنه كلما اعْتَدَدْنا بما نعتقده إنجازات منا، كلما توسعت الهوة بيننا وبين الطبيعة؟
لا مِرْيَةَ في أن أغلب الفلاسفة الذين تعاقبوا داخل عجلة التفكير الفلسفي احترفوا محاكمة الذين كانوا قبلهم، خذ بنا مثلا سقراط الذي يقال أنه هو من أنزل الفلسفة من السماء، أي من التفكير في أصل العالم، إلى الأرض أي إلى الإنسان، وهو القائل "أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك"، ولنعرج عند أرسطو الذي اعتبر أن عالم المثل الأفلاطوني عالم محايث للطبيعة phisika وليس مفارقا له، وصولا إلى هايدغر الذي أقر في ما مرة كون أن الفلاسفة الذين كانوا قبله غرقوا في الميتافيزياء إلى أخمص القدمين حيث يعتبر نيتشه آخرهم، مرورا طبعا بديكارت الذي وضع طاولة ممسوحة حيث تاريخ الفلسفة يبدأ من غاليلي... إن هاته المحاكمات قد ساهمت بشكل أو بآخر في وقوع منعرج ليس بالهَيِّنِ في تاريخ الفلسفة، والذي يتجلى أساسا في تحول كتب الفلاسفة إلى نص يحاكم الفلاسفة السابقين وهكذا دواليك، والواقع أن هذا الامر هو الذي أثر على علاقة الإنسان بالطبيعة من جانب فهمها، لأن الفلسفة لوحدها من تستطيع فك شيفرة هاته العلاقة.
للإنسان علاقة عجيبة بالطبيعة، يحاول فهمها ولا يستطيع الانفلات من قبضتها وفي نفس الآن يريد تطويعها وإخضاعها إليه باسم العلم والتقنية، وهو ما أحدث بعدئذ أزمة في وجود الإنسان من جهة وفي الطبيعة من جهة أخرى، الإنسان في جميع أنشطته اليومية يريد أن يصنع لنفسه طبيعة أخرى، لكن عيب هذا الكائن أنه لا يعرف ما الذي يريده، عندما نعود إلى بدايات الإنسان يمكن العثور على طرف الخيط الأول في هاته المسألة، ألا وهو الانغماس الكلي للإنسان في الطبيعة، والمٌتَبَدّي في مجموع طقوسه الدينية والسحرية والروحانية التي لم تكن إلا لتربط الإنسان في الطبيعة وليس بالطبيعة، لقد ظهر السحر كطقس لإبعاد غضب الطبيعة، ثم أخذ الأمر منحى شبه تجريدي عندما خضع الإنسان لثنائية المعبود والعابد، حيث الآلهة هي من بإمكانها إيقاف جبروت الطبيعة، لكن في نهاية الأمر وبصورة كاريكاتورية لم تكن الآلهة سوى بعض عناصر الطبيعة كالشمس والنار وبعض الحيوانات... إلى أن ظهر الإله بمفهومه التجريدي ليس كعنصر في الطبيعة وإنما كخالق لها، هكذا أمكن للأديان التوحيدية أن تجد شيئا مفارقا للطبيعة لكن من أجل تفسيرها وفهمها.
عندما نقول الفيزياء فإننا لا نشير إلا للطبيعة، الفيزياء كلمة إغريقية الأصل "فيزيقا" أي الطبيعة أو كل الاشياء الخاضعة للمقولات العشر لأرسطو، لكن مالذي تقوم به هاته الفيزياء اليوم؟ إنها تحاول البحث في كيفية اشتغالها ميكروفيزيائيا من أجل تطويع الطبيعة لا غير، كتحقيق أكبر قدر من السرعة مثلا، أو فهم كيفية سير الكون واشتغاله وأصله وهو ما نعثر عليه في الماكروفيزياء، ثم مسألة السفر عبر الزمن من خلال الفيزياء النسبية... في نفس السياق وعندما نضع أيدينا على البيولوجيا أي علم الأحياء فإنها لا تخرج من هاته الدائرة حيث التغلب على أفتك الأمراض باسم الطب، أو دراسة الإنسان من خلال نظرية التطور... وقس على ذلك باقي العلوم الأخرى، إنها تعتبر الإنسان جزءا من الطبيعة وفي الطبيعة أيضا، لكنها تحاول أن تسمو به فوق باقي الكائنات باعتباره أرقاها.
إن ما أغفله الفلاسفة بسبب انغماسهم في فلسفة المحاكمات الفكرية، وما أغفله العلماء أيضا، هو عدم فهم الطبيعة في جوهرها، قد يكون الأمر صعبا بالنسبة للعلوم بما أنها لا تفكر حسب هايدغر، وأيضا بما أنها لا تطرح سؤال الماهية على الأشياء، لكن الفلسفة وبدل أن تخوض في هذا اللغز، انتقلت من السماء إلى الأرض وهي أول نكبة يتعرض لها هذا الفكر، ثم ثانيا وبسبب غاليلي وديكارت، حيث الطبيعة ليس يمكن فهمها إلا بلغة الأعداد والرموز، ومن ذلك الإبان أي منذ وضع ديكارت ثنائية الذات أي الإنسان، والموضوع أي الطبيعة، اعتقد هذا الكائن أن الطبيعة وجدت كي تخدمه، بل إنه وبواسطة العقل الذي يتميز به سيتخلص من جملة من الضرورات التي تفرضها الطبيعة عليه، كالجاذبية والطيران والسرعة والتغلب على أفتك الأمراض والتنبؤ ببعض الظواهر الطبيعية قبل حدوثها... لكن لم يكن يعرف أحد أن الطبيعة ليست من البراءة في شيء وأن لها نظاما دقيقا تسير وفقه، فوق إرادة الإنسان وفوق عقله.
الإنسان كائن يسير نحو الانقراض على غرار باقي الكائنات الأخرى، ليس لأنه سبب ذلك، وإنما جشعه يعجل بهذا الأمر، والحال أنه كلما اعتقدنا امتلاكنا للطبيعة كلما أسأنا الفهم لها ولأنفسنا، نحن جزء لا يتجزأ منها، والفرق بيننا وبين الأسد أو الحيوانات الضارية، هو أننا نأكل اللحوم مطبوخة وهم يأكلونها نيئة، بل إن أجدادنا كانوا يلتهمونها نيئة قبل عملية إضرام النار، إننا نشترك مع كل الكائنات أيضا في حب البقاء والخوف من الموت... لكن بتسلطنا على الطبيعة بدأنا ندفع ثمن تسرعنا، الغابات بدأت تصغر مساحاتها لأننا في حاجة للخشب كي نصنع منها ديكورات أو نتدفأ به، أو من أجل توسيع الأراضي لزرعها بداعي تكاثر الإنسان مقارنة بالقرون الماضية، في مقابل ذلك صنعنا مكانا أطلقنا عليه اسم "حديقة الحيوان" ـ كأن الإنسان ليس "حيوانا" على غرار تعاريف الفلاسفة، علما أن الحيوان من الحياة ـ نتفرج فيه على باقي الكائنات مقتحمين حميميتها واضعين إياها في مكان من الصعب أن تتكيف معه، نفس الشيء نجده في الحدائق التي نتفنن في زرع أشجارها بطرق هندسية، الطبيعة لا تقبل هذا الأمر، والطبيعة أيضا ترفض مزاحمتنا لباقي الكائنات الأخرى في الغابة كما في البحر، وفي الجو كما الجبل...
لقد كان لهايدغر كبير فضل في إثارة هذا الذي ذكرناه، لكن قوله بقي حبيس الفكر الفلسفي دون أن يتعرف عليه رجال السياسة ورجال الاقتصاد كبار التجار في العالم، ربما كي يعيدوا النظر في عديد الأمور، والحال أن التقنية كقدر لامتلاك الطبيعة زاد من نسيان الإنسان كينونته، نحن الآن غير موجودين بتاتا بما أننا نسينا وجودنا كوجود، لذلك كنت دوما أرفض بأدب أن يقدم لي شخص باقة ورد مثلا، بما أن تلك الوردة زرعت وفق نظام صارم، في حقل للورود، صاحبه يفكر في أكبر قدر من الربح، كي يبتاعه فرد ما، ثم يقدمه هدية لفرد آخر بمناسبة ما أو بدونها، تعبيرا على حبه واحترامه وتقديره له، بيد أن الوردة التي تقدم، هي وردة منسِيٌّ وجودها لأنها لم تنبث وفق نظام الطبيعة في مكان، وأننا نعتني بها لغاية ما، وهو ما ينتفي وسؤال الكينونة، من ثمة وكجماع للقول فيما سبق، فإنه على الإنسان أن يكف على ما يعتقده بخصوص علاقته بالطبيعة بداعي امتلاكه لها، مؤمنا أن لها نظاما رياضيا إذا ما اختل منه جزء صغير تحدث الكارثة، وربما هذا الذي نعيشه اليوم، وعليه فإن مهمة الفلسفة حاليا هو العودة لتلك العلاقة بين الإنسان والطبيعة، كي تزيل واو الفصل، لتعوضه بأداة وصل، بما أن الإنسان في الطبيعة وليس في صالحه التعالي عليها أو العمل على تسخيرها في خدمته...