" لقد ولَت كلَ الأنساق الفلسفيَة و هاهم الإغريق يضيئون دربنا و خاصَة منهم إغريق ما قبل سقراط"
لئن وضعت الفلسفة المعاصرة موضع السؤال كلَ البديهيات التي قامت عليها الحداثة -كمفهوم الذات الديكارتي أو الروح المطلق الهيجلي و غيرهما من " الأحكام المسبقة" التي قدَمت نفسها ك "حقيقة" ثابتة لا شكَ فيها و كمقولات بعيدة عن الريبة و الظنَ – فإنها ذهبت إلى أبعد من ذلك بأن عادت عودة تسآليَة لمواضيع قديمة ظنَنا أنها قد نسيت و امحت باسم ابتسار أحديَ لا يرى في الفكر سوى تطوَرا مستمَرا راسما خطَا مسترسلا كأنما التاريخ كتلة واحدة لا انقطاع فيها و لا تشققَ.
و تجد هذه العودة ما يشَرع لها فيما قام به الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه عندما استرجع المسألة التراجيديَة الإغريقية استرجاعا قائما على الجمع بين العمل الفيلولوجي الصارم و التأويل الفلسفي و هو ما عبرَ عنه حول المسألة الهوميريَة سنة 1869 قائلا :
" إن كل نشاط فيلولوجيَ يجب أن يكون موَجها و مؤطَرا ضمن تصَور فلسفيّ للعالم"
بهذا القول يعلن نيتشه و هو لا يزال يمتهن الفيلولوجيا دخوله لرحاب الفلسفة مؤولا و مسائلا خاصَة و قد اجتمعت فيه المرجعيَة الفنيَة بعشقه الأوَل لفاغنر و المرجعيَة الأدبيَة الشعريَة بقراءته لهولدرلين و المرجعيَة الفلسفيَة بعودته لكانط و شوبنهاور و تضافرت جميعا لتؤدَي إلى قراءة التراجيديا الإغريقية قراءة تأويليَة ترتفع بالفكر اليوناني من مجرَد معطيات تاريخيَة إلى مستوى التصَور الفلسفي الفنيَ المثبَت في إطار الحنين إلى اليونان ذلك الحنان الذي يهدف إلى محاكاة أصل مفقود.
إن المحاكاة هنا ملتصقة بهاجسين أولَهما هاجس التأويل الذي يتمخَض عن رغبة في الفهم بعيدا عن المناهج الكلاسيكَية و ثانيهما هاجس الانصهار في الكلَ و العودة إلى الأصل و هو ما ترويه لنا قراءة نيتشه للتراجيديا الإغريقية في كتاب "مولد التراجيديا الإغريقية"الصادر سنة 1872.
يتعلَق الأمر إذن بالمحاكاة من جهة كونها عمليَة أمثلة لتاريخ اليونان و من جهة تحقيقها للفنَ التراجيدي من خلال الدعوة " الديونيزوسيَة" للانسجام مع الطبيعة.
لا تعني المحاكاة[1] عند نيتشه ما ألفناه في محاورات أفلاطون بما هي تقليد لمثال أو نموذج أصليَ و لاهي بالمعنى الأرسطي استكمالا للطبيعة و تقليدا لفضائله و إنما هي عند نيتشة رغبة و اندفاع و نزوع للأصل لا لغاية تقليده بل من أجل إحيائه و إعادة بنائه و السكن إليه. فنيتشة يستحضر روح التراجيديا تمثلا أي جاعلا من القدامة التاريخيَة الفعليَة قدامة مثاليَة و مفاد ذلك أن قراءة التراجيديا الاغريقيىة فلسفيَا اقتضى ضرورة تخيَلها و ابتداعها إدراكا لجوهرها و إنصافا لها فكأنما نيتشة هنا يقول لنا " نحن لم نقرأ التراجيديا الاغريقيىة بعد" و هذا هو مجال التأويل بامتياز.
يعيد نيتشة كتابة القديم بحثا عن الأصل لا كمعطى بل كسياق لخلقه و كأنه الأساس الذي يتعلَق الأمر بتأسيسه باستمرار لذلك فاَن استعادة مسألة التراجيديا الإغريقية ليست بعودة لاهية أو عابثة بل هي خالقة و مستحدثة لقطعة موسيقيَة نعيد عزفها لننقذها من براثن النسيان و نخرجها من الأرشيف الذي دفنت فيه و كذا الأمر بالنسبة لثقافة بأكملها نحادثها و نستحدثها لأننا لا نفهم إلا ما أعدنا بناءه.
قرأ نيتشة التراجيديا الإغريقية بحدسين : حدس نقدي يسعى إلى نزع كلَ التشويهات التي طالت الثقافة اليونانيَة و التي حوَلتها إلى أرشيف من المعطيات التاريخيَة و حدس فلسفيَ فنيَ يرى في عناصر التراجيديا تآلفا و تناسقا عجيبين فالمسرح التراجيدي يقوم على عنصر العظمة و هو ما يٌلمح في شساعة الفضاء و امتداده بحيث يسع عشرون ألف متفرج و هو مؤثث بدمى عملاقة أما من جهة الزمان فالعظمة متجسَدة في طول المدَة الزمنيَة لدوام المسرحيَة وهو يوم بأكمله الأمر الذي يتجاوز الطاقة البشريَة ناهيك عن طول النصوص التي يحفظها الممثلَ و الذي يقوم بمجهود جبَار ليتفاعل مع هذه العوامل المحيطة به .
ثمَة شيء عظيم يختفي خلف هذه العناصر المؤثثة للمسرح و هي التناسق الذي يجمع بينها إذ هو تناسق يحاكي التناسق الذي نجده في الطبيعة و لعلَ هذا السياق ليس إلا تمهيدا لا لخروج اليوناني من الابتذال اليومي و استغنائه عن رتابة النظر فحسب بل لانضمام المتفرج إلى جوَ فنيَ حارق يجمع بين المنشود و المجهول فالدخول إلى المسرح يشكل لحظة مغامرة جديدة يعيشها الأثيني من الممثل إلى المتفرَج. انَ الممثل الذي يتكبَد جهد الحفظ و يتقمَص الدور نراه يتفاعل مع عناصر المسرح إلى أن تصير مألوفة و طبيعيَة كأنها تنبع منه و يقول في ذلك نيتشة:
« l’acteur qui dans son costume figurait une élévation au-dessus de l’humanité commune , éprouve en soi un grandissement grâce auquel les paroles mélancoliques et pathétiques d’Echylle devenaient pour lui une langue naturelle »
"إن الممثل في هيأته المجاوزة لما اعتادت عليه الإنسانية يستشعر عظمة تجعل كلمات اسخيلوس المأساويَة و المثيرة للشفقة لغة مألوفة بالنسبة إليه"
يتماهى الممثل في لحظة أولى مع روح الشعر الذي ينطق به و كأنه يحاكي روح الشاعر نفسه و تعلو هذه المحاكاة لتلمس العنصر الذي قدَ منه الشعر و الشاعر معا و هي الطبيعة.
و الممثل لا يوهم المتفرَج بل هو يحاول أن يخرج عن ذاتيته و فرديَته ليلتحق بآخريَة مطلقة يتصَرف بموجبها و هي حسب نيتشة روح ديونيزوس الذي يجعل الممثل خادما له يتحَرك تحت إملائه و ينزع إلى الذوبان فيه .
ديونيزوس كما هو معلوم اله النشوة و السكرة أي هو رمز الإفلات من كلَ القيود و الإسراف في الملذات الجسديَة و لذلك فان كلَ من يحاكيه مآله الهلاك أي التوحَد مع الكلَ و الخروج المطلق عن الفرديَة و الشعور بحدود الجسد . إن المحاكاة بهذا المعنى تصطبغ بدلالة صوفيَة مفاتيحها التوَحد و الانصهار و الفناء و هذا بالضبط ما يقوله نيتشة :
« dans le phénomène Dionysiaque , l’artiste a déjà dépouillé sa subjectivité »
"يتجرَد الفناَن من ذاتيَته في الظاهرة الديونيزوسيَة"
يخرج الممثل عن طوره في جوَ كبير من الاحتفال ليصير عنصرا من عناصر الطبيعة إلى درجة ينجذب فيها اهتمام المتفرًج و روحه فيصير هو الآخر واقع تحت إشكالية المحاكاة لأنه اندمج في إيقاعية ديونيزوس . فالمحاكاة في الفن التراجيدي ذوبان في الأصل و التقاء وجدانيَ متجانس بين الأرواح : إنها حكاية باطنيَة تحاك بين المتفرَج و الممثل و الطبيعة . فالمتفرَج الذي يحضر التراجيديا بحرقة و تشوَق ينجذب مع الممثل إلى عنصر التماثل بينهما و يتم ذلك عبر مرحلتين : الإصغاء إلى ما يقوله الممثل لينصهر معه ثم الإصغاء إلى عين ما يصغي إليه الممثل أي إلى الصوت الأوَل أو إلى المعين الذي ينهل منه الممثَل.
ثمَة في فكر نيتشة في هذه اللحظة ما يثير الانتباه إذ في حديثه عن المحاكاة كانصهار في الطبيعة إشارة إلى مسألة أعمق و هي التذكر فكلَ العمليَة تتم بواسطة التذكر الذي نجده أولا كرغبة عند المتفرج في حضوره للمسرح التراجيدي و ثانيا كفعل تحقق عند الممثل الذي يحَن إلى أصله تذكرا و استحضارا و تذكيرا لغيره من المتفرجين و لذلك فان "كل فنًان إنما هو محاك" حسب قول نيتشة .
إن محاكاة الفنان للطبيعة عودة و سكن لأصل ما بل حياكة للنسيج الذي قدَ منه العالم و الوحدة السابقة على كلَ قسمة و كلَ فرز و التي تشكل حسب نيتشة فضاء يتصالح فيه الأفراد فيما بينهم و مع الطبيعة التي" تزهر بلقائها الجديد مع ابنها المفقود".
نخلص من هذا القول أن المحاكاة هي العنصر الرئيسي الذي يتحقق من خلاله هدف الفن التراجيدي و هي علاوة على ذلك فنَ إصغاء لعنصر الطبيعة الذي تتحرَك معه كلَ الحواس و ترقص الروح. و تقودنا مسألة المحاكاة كدعوة ديونيزوسيَة إلى مسألة الطبيعة و الثقافة خاصَة و أن نيتشة لا يتمثل التراجيديا الإغريقية بحدس ديونيزوس فحسب بل بحدس أبولون العاقل الواضع للحدود و الراسم لملامح الفرد و هو يرمز إلى المدينة و يدخله نيتشة في المسرح التراجيدي من خلال الجوق الذي يشكل دعوة لإيقاف "سرح النظر " و الحدَ من استرسال المتفرَج في غيبوبته . إن الجوق هو عنصر التفسير و يشبهه شليغل ب "المتفرَج المثالي" لأنه يتدخلَ لينقذ اليوناني من الهلاك و يحفظ له فرديَته فيرفع إلى الجهر كلَ سرَ و يسَطر حدود الخيال و يتلقى النظر على قدر الطاقة و بذلك يشكل لحظة أساسيَة لاكتمال التراجيديا الإغريقية فهي ليست شيئا آخر سوى وليدة الصراع الديونيزوسي/ الأبولوني إذ لابدَ للاتقاد الأقصى الديونيزوسي أن تأتيته سكينة أبولون.
تمثل المحاكاة في نظر نيتشة أساس التراجيديا الإغريقية لكنها محاكاة مزدوجة تعكس الإنسان في بعديه الأرضي و الالاهي أو العقلي و الجسدي و هي مما لاشك المسألة الأهم التي يدور حولها الفكر اليوناني.
[1] eidôlon