مقدمة:
تبدو ظاهرة التدين لصيقة بالوجود الاجتماعي للإنسان الواعي ولذلك تطرح على كل إنسان ينتمي الى جماعة يتصرف في شؤونها نظام سياسي معين، وهي ظاهرة يبحث فيها أيضا كل عاقل ومفكر وقد اهتم فيلسوف الرجة كارل ماركس بالدين بشكل مباشر صريح وبطريقة ضمنية منذ بداية مشواره الفكري وبشكل مبكر ولذلك شكل الدين وحده من بين كل المسائل النظرية والعملية المنطلق والمدخل إلى بقية المسائل الفكرية وهو ما جعل المسألة الدينية تبرز في هذا السياق بقوة وبكثافة وتحتل قيمة نظرية وعملية على صعيد منظومة ماركس المعرفية وعصره.
ان المعضلة الرئيسية التي يتصدى الفكر المعاصر لحلها هي المعضلة الدينية لأن صلابة الخطاب الديني وشموليته تصطدم بمرونة الواقع وحدثية صيرورة التاريخ وأن أهم الصعوبات التي تواجه العقول الحرة على صعيد التفكير الفلسفي في الديني هي النزول من عالم النص إلى عالم الواقع والتوفيق بين المحتوى المطلق والثابت للنص الديني وبين حركة الواقع النسبية، وعندما تجعل نخبة من الاكليروس من لغة النص ميدان عملها وتحرص على نقل عالم القداسة النصية وتفسيرها والتعبير عنها باستخدام اللغة العادية فان الدين يصبح الحقل الرئيسي لقلب العلاقات الحقيقية بين الإنسان والله وبين الذات والموضوع ويسقط الإنسان خارج الصفات التي تخص نوعه.
يمكن أن نقسم آراء النقاد والمؤرخين حول علاقة ماركس بالعامل الديني إلى فريقين: الأول يصنفه ضمن التيار الإلحادي اللاأدري الذي ينكر وجود الله والغيب والبعث ويحارب الدين بلا هوادة ويمثله مارسيل نوتش وواكنهايم [2] وبولتزير وغيره كثير وفريق ثاني يعدل الموقف الأول ويلطف اللغة ويعتبر ماركس قد تعامل مع الدين تعاملا فلسفيا تاريخيا عقلانيا وأنه يبحث باستمرار عن القاع الإنساني في التجربة الدينية والإمكانيات الهائلة التي تتضمنها الأديان في أية مشروع انعتاقي تحرري ويمثله غرامشي وماوتسي تونغ وروزا لكسمبور وبدرجة أقل ألتوسير وبيير بيغو. [3]
لكن السؤال الذي يطرح هنا هو: ماهو الطابع النوعي الخاص الذي اكتسبه العامل الديني ضمن الخطاب الفلسفي لماركس؟ هل باستطاعتنا أن نستنبط أصالة فكر ماركسي على الصعيد الديني؟
هل صحيح أن الماركسية مثلها مثل أي فلسفة ملحدة تعادي الدين وتعتبره أفيون الشعوب؟ هل تقوم الماركسية بمحاربة الدين ومعارضته في المطلق أم أنها تنزل الدين في إطاره التاريخي وسياقه الاجتماعي مثله مثل أي فكرة بشرية أخرى؟ ألا تعامل الدين من زاوية فلسفية وعقلية وتاريخية؟
هل هذا الموقف المناهض هو فريد ومبتكر وخاص بها أم أنه يمتد إلى أصول عميقة وبعيدة في التفكير البشري؟ ألا ينطلق من رؤية تضع الإنسان وليس الله مركز اهتمامها وتفكيرها وتضع الحياة الدنيا وليس الآخرة هدفا لها؟
هل يصح وصف الماركسية بالفلسفة الملحدة إذا ما كانت متفقة مع الأديان في مناهضة استغلال الإنسان للإنسان؟ ما الفرق بين الإيمان والإلحاد إذا كانا ينطلقان من مشكلة واحدة ويقفان على الأرضية نفسها؟ ألا تكون في هذه الحالة الماركسية فلسفة لاهوتية تنطلق من مشكلة الله لتعلن رفضه؟
إن الإشكالية المركزية التي نسعى إلى إبرازها هي: هل أن الدين مشكلة تعترض البشرية في طريقها إلى الوعي بذاتها أم عامل مهم من عوامل التقدم والنهوض؟
عندئذ يمكن تقسيم هذه الإشكالية إلى مجموعة من الأسئلة الفرعية هي:
هل أن الماركسية هي التي تحارب الدين ام أن رجال الدين هم الذين يحاربون النزعات الفلسفية العقلية والتحررية التي تشهر بهم وتمثل خطرا يهدد مصالحهم واستمرارية السلطات التي يدعمونها؟
هل تأتي شدة هجوم رجال الفكر على المؤسسة الدينية من أن هذه الفلسفة هي من حيث الجوهر فلسفة مادية دنيوية أم أن ذلك كان نتيجة الموقف المحافظ الذي يتخذه رجال الدين من الصراع الاجتماعي والسياسي وتحالفهم مع الطبقات المسيطرة ضد الطبقات المحرومة؟ ألا توجد علاقة بين إنكار الماركسية لمبدأ الملكية الخاصة وإبداء العديد من التحفظات تجاه العامل الديني؟
من جهة مقابلة هل يحمي الدين الملكية الخاصة ويبرر تراكم الثروة على شكل الإنتاج الرأسمالي أم أنه يشرع للملكية العامة ويحرم الاحتكار والربا واستئثار طبقة اجتماعية بمعظم الثروات ويرفض كل أشكال التفاوت واللامساواة والظلم على الصعيد الاجتماعي؟
ماذا تعارض بالضبط الماركسية من العامل الديني؟ هل تقف ضد الدين مطلقا وتعتبره مجرد مرحلة تاريخية يمر بها الفكر البشري ونمط من العلاقات التي يقيمها الإنسان مع نفسه والآخر والعالم في ثوب معتقدات وطقوس أم أنها تعارض تدخل رجال الدين ومؤسساته في أمور الحياة اليومية والسياسية باسم فكرة متعالية يصبغون عليها القداسة والاطلاقية؟
لماذا يتحفظ الماركسيون على مشاركة رجال الدين في السياسة ولا يعاملونهم كبشر يعبرون عن مصالح مطموحات الطبقات الاجتماعية التي ينحدرون منها وليسوا مقدسين ولا مفوضين من طرف الله ولا يمثلون الدين؟
هل تقول الماركسية بأن الأديان هي سبب الحروب والنزاعات التي شهدها التاريخ البشري أم أنها تعترف بكونها ساهمت في ترسيخ ثقافة السلم والتسامح والتكافل بين الأفراد والمجموعات والدول؟
ألا يجب أن تدافع الماركسية عن نقاء الدين وعن إيمان ما بعد الدين وكاعتراف فردي بالحقيقة الوجودية ضد التشويه والتحريف الذي يتعرض له في الحياة العامة؟
أليس من الأجدر أن يتبنى الماركسيون فكرة لاهوت الثورة والأرض والتحرير حتى يفكوا العزلة عنهم ويتصالحوا مع واقعهم الحضاري وثقافتهم الوطنية ويدافعون على إعطاء الشرعية لأحزاب مدنية تقدمية ذات مرجعية دينية؟
أليس من الأجدر أن يدور حوار جدي ومسؤول بين رجال الدين والإيمانيين من جهة والعلمانيين والناشطين الوضعيين حول فكرة المجتمع المدني وحقوق الإنسان والتنمية والديمقراطية دون ادعاء العصمة والقدسية ودون إنكار الدين وإلغاء مسائل الإيمان والعقيدة؟
تتمثل خطة البحث في مشكل الدور الذي يعطيه ماركس إلى العامل الديني في تجاوز النظرة التبسيطية التي تعتبر الماركسية فلسفة ملحدة والتفطن إلى الدور الحساس الذي يلعبه الدين في تأخر المجتمعات وتقدمها ولذلك اخترنا مفصلة عملنا إلى ثلاث لحظات منطقية هي:
- الاغتراب الديني والنظر إليه كانعكاس إيديولوجي كاذب للعالم.
- نقد الدين هو الشرط الممهد لكل نقد سواء للمجتمع أو للاقتصاد أو للثقافة والفلسفة.
- الدين شيء حقيقي له قاع أنساني ويمكن أن يكون دعامة للرفض والاحتجاج والثورة.
ما نراهن عليه هو تفادي النظرة التبشيرية الدعوية لقضايا الإيمان ونقد كل توظيف نفعي واستعمال أداتي للدين والبحث عن الإدراك العلمي لهذه المسألة في واقعنا التاريخي وعلمنته بشكل انسي قصد التعويل عليه كعامل مساعد في كل دمقرطة ممكنة للفضاء العمومي.
1- حقيقة الاغتراب الديني:
" لم يتجاهل ماركس المسيحية تجاهلا تاما بما أنه اهتم بالناحية الاجتماعية . وقد جاء من مدارس مسيحية..." [4]
من المعلوم أن ماركس لم يعش أزمة دينية في سنوات الشباب مثل عدة فلاسفة آخرين تجعله يثور على كل المعتقدات التي ورثها بحكم التنشئة التربوية ولكنه لم يبد ميلا شديدا تجاه اللاهوت مثل بقية عامة الناس ولم يكن حريصا على إقامة الشعائر الدينية أو متحمسا لها وإنما توجه منذ البداية نحو التفكر والاستبصار والبحث عن نظرة معتدلة إلى هذه المسائل الشائكة.
اللافت للنظر أنه أنجز رسالة دكتوراه حول المادية القديمة انحاز فيها إلى التصور الطبيعي عند أبيقور على حساب النزعة المادية الميكانيكية الفجة التي نجدها عند ديموقريطس بل انه كان أميل إلى تبني الأفكار الفلسفية التي تنقد الاتجاه المثالي وتعترض على الأفكار الغيبية وترفض الأقوال الميتافيزيقية باعتبارها تتجاوز عالم التجربة وتبتعد عن الواقع الموضوعي وكان بالتالي أميل إلى الإيمان بديانة الطبيعة والتي جعلته يستمد أفكاره الدينية من الهيجليين اليساريين وخاصة فيورباخ الذي نادى بإحلال المعرفة الإنسانية مكان المعرفة الإلهية.
هذا الموقف ظهر جليا للعيان عندما مال ماركس إلى تبني الأفكار العلمية المبتكرة في عصره وخاصة نظرية داروين البيولوجية في التطور واقترب من المناهج الوضعية التي شيدها أوغست كونت والنقدية الكانطية وأعجب بالتحاليل الاجتماعية الاقتصادية لبعض الاشتراكيين رغم إغراقها في الطوباوية وهجومه الكبير على علم الاقتصاد الليبرالي.
إن الأساسي في نظرة ماركس للدين هو ربطه لهذه الظاهرة الثقافية المنتشرة في الوسط الشعبي بالعزاء الوهمي والسعادة المزيفة وقد فسر فيلسوف البروليتاريا تشكل الظاهرة الدينية بعملية الانعكاس الكاذب للواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه الإنسان، وقد أدى ذلك إلى اعتبار الدين سبب ظهور الوعي الزائف ووقوع الناس في الاغتراب والبقاء في وضع مقلوب.
في هذا السياق يقول أنجلز في مناهضة ديهرينغ:" كل دين لم يكن سوى انعكاس خيالي في أدمغة البشر لقوى خارجية تهيمن على الوجود اليومي..."
إن الدين يقيد أياد الإنسان بواسطة إكليل من الزهور وصورة المقدس عند المتدين هي صورة الأزهار موضوعة على القيد ولاسيما وأنه يمكن أن يكون مصدر شقاء الإنسان وبؤسه ويعطل البشر عن الانصراف نحو تغيير واقعهم ولذلك نجد ماركس يصرح في مقدمة لنقد فلسفة الحق عند هيجل:" إن الدين زفرة المخلوق المضطهد وضمير عالم ليس له ضمير، كما هو روح الأوضاع التي ليس لها روح...انه أفيون الشعب."
على هذا النحو يعرف الناطق الرسمي باسم الطبقة العاملة الدين بأنه تعويض خيالي وجزاء معنوي وعزاء عن الشقاء الواقعي في هذا العالم لأنه يمكن أن يقدم توفيقا وهميا خالصا للتعارضات الواقعية القائمة ويمتص التناقضات ويلغي التباينات بشكل التفافي، انه مجرد تعبير عن الإذعان والسلوى وعقيدة سلبية تلجأ إلى تبرير علوي وتحث على الخنوع والركون، انه انعكاس للشقاء الواقعي ويكون عزاء وتخدير ومواساة وهمية وتعبير عن العجز وتبرير للبؤس والتعاسة، كما أنه يمثل شكلا مغتربا لوعي الذات، وهو وعي الذات عند الإنسان الذي لم يجد نفسه.
غني عن البيان"أن الدين هو النظرية العامة لهذا العالم وخلاصته الموسوعية ومنطقه في شكل شعبي وروحانيته وحماسته وعقوبته المهنية وأساسه الكوني من أجل العزاء." والمقصود بذلك أن الدين اغتراب إيديولوجي يجعل الذوات تشعر بقدرتها على الاستغناء عن الواقع والإذعان لسلطته بالاستناد إلى انفصال التجربة اليومية لدى الإنسان المضطهد الممزق والذي يحتاج إلى العزاء والتعويض.
إن الدين هو في معظمه إيديولوجيا تخفي مصالح ورغبات القوى التي أنتجتها وهي انعكاس زائف مشوه تظهر فيه العلاقات بين البشر مقلوبة وتجعل من الأوهام الذاتية وكأنها أفكار صحيحة تحدد نمط حياتهم وان المبادئ والأحكام اللاهوتية يمكن أن تقوم بالتعويض عن المهانة وتبرر الشرور وتفسر ذلك بالابتلاء والمحن وتتستر عن الاضطهاد بتصور قيام جزاء عادل في الماوراء وتدعو إلى احتقار الذات والجبن والضعة والذل والخنوع".
يقول ماركس:"إن المبادئ الاجتماعية للمسيحية قد بررت نظام العبودية البالي ومجدت في العصور الوسطى نظام القنانة السائد وقادرة على الدفاع على قمع البروليتاريا ولو أظهرت أثناء ذلك بعض الأشياء."،لكن ما المقصود بالاغتراب الديني؟ وبعبارة أخرى كيف يوقع الدين الإنسان في الاغتراب؟
إن الحقيقة المؤلمة لحياة الناس على الأرض هي واقع اغترابهم اليومي عن ذواتهم بحيث تمثل شخصياتهم صورة عن الإنسان المغترب الفاقد تماما لهويته. والمفارق أن الذي يقود إلى الاغتراب ليس الأفكار المجردة والغيبيات بعيدة المنال بل الأسس المادية للإنتاج الاجتماعي والشروط التقنية التي تتطور في المجتمع الحديث.
والاغتراب لم يعد يقتصر على العامل بل تعدى ذلك إلى قيمة العمل ذاتها ووصل إلى حد اغتراب الثقافة بأسرها لأن هناك تضامن عميق بين الاغتراب الاجتماعي والاغتراب الثقافي والاغتراب الديني .
في هذا السياق يقول أنجلز عن الانحراف الذي حصل في المسيحية الأولى:" هذا التعويض السماوي هو الذي أصبح ذات يوم أفيونا مدهش الأثر كانت السلطة تستخدمه لجعل الناس يقبلون تعاسة الدنيا بانتظار وعود الآخرة..." غير أن الاغتراب لما كان هو الفعل الذي تطرح بها الذات الموضوع وتتخارج معه فان الدين يمثل لحظة الاغتراب الذاتي والخضوع لقوانين الدولة الشمولية يمثل لحظة الاغتراب الجزئي أما نمط الملكية الخاصة وتراكم الثروة بشكل غير مشروع والاحتكار والتفاوت في تقسيم العمل وفي التوزيع واللاتكافىء في التبادل فهو يمثل لحظة الاغتراب الكلي.
على هذا النحو فان الاغتراب الديني هو اللحظة التي يحقق فيها الانعكاس المقلوب احتلاله الكلي للوعي وبالتالي لا تعود صلة الإنسان مع ذاته ومع الأشياء في صورة مطابقة وصحيحة بل في وضع مشبوه ومقلوب بحيث يقدم الوهم على الحقيقة والتعويض الخيالي بدل الإشباع الواقعي وعالم السماء على عالم الأرض وتنتصر لغة العجز والتمني والانتظار على المبادرة والفعل والانخراط.
إن الدين عند ماركس هو شمس وهمية تدور حول الإنسان بما أن هذا الأخير ظل منذ زمان لا يدور حول نفسه والحل هو أن يدور الإنسان حول نفسه لأن ذاته هي الشمس الحقيقية التي ينبغي أن يدور حولها وليس الأشياء الخارجية التي يضفي عليها طابع القداسة.
عندئذ" لا يحدث الاغتراب الديني في حد ذاته إلا في الوعي، في الضمير الباطني للإنسان، لكن الاغتراب الاقتصادي يحدث في الحياة الواقعية". لذلك يعرف ماركس الدين على أنه الوعي الذاتي للإنسان الذي أضاع ذاته، والغريب أنه كلما وضع أشياء أكثر في قوة مطلقة موجودة خارج العالم كلما حفظ أشياء أقل في نفسه وهو كذلك شمس وهمية تترك الناس يدورون حول أنفسهم عوض الدوران حول العالم.
إن ضياع الفلسفة في الدين هو انعكاس لضياع أعمق هو الاغتراب الديني الحقيقي الذي يتجلى في مفهوم الإيديولوجيا. لهذا فإن "ما يهم ماركس ليس الفرد المجرد ولا الوعي والنفس الزكية التي تتحدث عنها الأديان والفلسفات بل الإنسان الذي يعمل ويكابد والنفس التي تموت بسرعة وهي تبتعد عن الدين لأنه يعمل على تهميشها أو على الأقل سلب هذا الفرد هنا..." [5]
يربط ماركس بين الاغتراب الديني والاغتراب الاجتماعي ويحاول العثور على أسباب الاغتراب الاجتماعي في العامل الاقتصادي وضمن ظروف العمل وعلاقات الإنتاج ويربط بين مفهوم الاغتراب والاستغلال ضمن نظام الأجرة .
و"إذا كان الاغتراب وقع التطرق إليه كمفهوم نظري فان توسيعه المتزايد ينبغي أن يلزمنا بالقول أن كل عمل مغترب هو مستغل... إن هيمنة القبلية من طرف نموذج الاغتراب على كل النشاطات ليس له من نتيجة سوى الاستغلال" [6].لكن، كيف فعل ماركس آليته النقدية في قضايا الإيمان والاعتقاد؟
2- نقد الايديولوجيا الدينية:
"هذه الفلسفة تمتلك مقصد نقدي مزدوج: تأخذ شكل النقد الحقوقي عندما تواجه السلطة السياسية وتأخذ شكل نقد الدين عندما تواجه السلطة الروحية..." [7]
ظل ماركس مهتما بكيفية خلاص الإنسان ككائن منتج وعمل على تحريره من استعباده ومن اغترابه في نطاق علاقات الإنتاج الرأسمالية وتموضعه بواسطة شروط الإنتاج والبضائع ولذلك اقترح كحل نقد الدين وإلغاء الملكية والثورة الاجتماعية وإقامة دولة الطبقة العاملة حتى تحل النزعة الإنسانية والفكر العلمي محل الخرافة والوهم والميتافيزيقا والمثاليات.
" إذا كانت الطبيعة الإنسانية هي الأسمى بالنسبة للإنسان فإنه ينبغي حينئذ أن يكون أول قانون وأسماه هو حب الإنسان للإنسان، الإنسان هو اله الإنسان هذا هو المبدأ العملي العظيم..." وهو ما أكد عليه ذات مرة في بعض من مسوداته: "إن الفلسفة النقدية في كفاحها ضد العالم لا تقف فقط ضد هذا العالم وإنما أيضا ضد الفلسفة التي كانت تسوده إلى ذلك الحين" . "ماركس مثل بقية الهيجليين الشباب الآخرين يتصور النقد في علاقة مرجعية مع الفلسفة وبالتحديد كتحقيق للفلسفة". [8]
إن الإنسان لا يغترب في العالم الديني وفي دنيا الماوراء دون أسباب واقعية في المجتمع والدولة والثقافة ويكفي أن يسترد هذا الإنسان مادته التي خلصها عن ذاته وجسدها في الله حتى تظهر النزعة الإنسانية بجلاء، في هذا الإطار يقول ماركس:" إن إلغاء الحياة المثلى في السماء يستلزم حياة مثلى على الأرض تجعل من حلول مستقبل أحسن على الأرض لا موضوعا لإيمان أجوف بل إلزاما وواجبا على الإنسان تحقيقهما..."
وبالتالي فان نفي الماوراء يكون نتيجته الحتمية إقامة حقيقة العالم الدنيوي وبالتالي ينبغي أن نحذف الأساس الدنيوي الذي يرتكز عليه الاغتراب الديني ولن يكون ذلك ممكنا إلا بنقد الدين ، انه وادي الدموع الذي يمثل الدين هالته المقدسة ونقده يعني الهبوط من السماء إلى الأرض.
في هذا السياق يقول ماركس:" إننا نريد أن نحي جانبا كل ما يتلبس مظهر ما فوق الطبيعي وما فوق الإنساني لأن مثل هذا الادعاء هو مصدر كل زيف وكذب..."إن نفي الماوراء هو السبيل الوحيد لعودة الإنسان إلى حياة النوع لكينونته الحقيقية وتحقق الإنسانية مصالحة مع ذاتها لاسيما وأن الدين هو علاقة الإنسان بذاته أي طبيعته الذاتية.ألم يقل ماركس:" الدين حلم العقل البشري بيد أننا حتى في الأحلام قد لا نجد أنفسنا في الفراغ أو في السماء بل على الأرض وفي عالم الواقع..."؟
النقد هو موضوع الفلسفة وغايتها عند ماركس وهو امتحان موضوع ما بغية تحديد قيمته ونقد الدين يعني البحث عن مشروعيته الاجتماعية والسياسية من دونها وتحرير لقيم الأرض من مطلقات السماء ولاسيما وأن مسار الفلسفة النقدية عوض أن يصعد من الأرض إلى السماء يهبط من السماء إلى الأرض.
إن نقد الأوهام الذاتية يسبق حتما نقد الأوضاع الواقعية ولذلك فإن نقد الدين هو شرط انتقال أي جماعة من اللاعقل إلى العقل ومن الأسطورة إلى التاريخ وتحقيق المنعطف السياسي الذي يسمح بتعاصر اللامتعاصر وإتاحة الفرصة إلى الإنسان بأن يحتل مكانا يليق به في هذا العالم.
إن نقد الدين يسير جنبا إلى جنب مع نقد كل أشكال الوعي الزائفة الأخرى لاسيما وأن الظاهرة الدينية هي ظاهرة تاريخية إنسانية لا يمكن عزلها عن بقية الظواهر الأخرى.
من هذا المنطلق لا يخرج الدين عن كونه نتاجا تاريخيا للبشر في ظروف حياتهم اليومية وفي وضعهم التاريخي خاصة وأنه شكل اجتماعي للوعي وثيق الصلة بالحياة الإنسانية التي انبثق منها ويستمد تصوراته ومكوناته النظرية المقدسة والدنيوية من حاجات البشرية الواقعية وتطلعاتهم.يلبي الدين حاجتين .
الأولى نظرية وتتمثل في فهم الصلات التي تربط الناس ببعضهم البعض وبالعالم والثانية عملية وتتمثل في تأكيد سيادة البشر على حياتهم الفردية. ألم تنتزع كلمة الدين أفيون الشعب من سياقها الثقافي واللغوي والتاريخي ليبالغ في استعمالها في غير المعنى الذي جعلت له؟ ألم يشر ماركس هو نفسه إلى القاع الإنساني العميق في الدين وما تتضمنه لغته من رغبات إنسانية وتطلعات دنيوية؟
تبعا لذلك"إن نقد الدين يخلع السحر عن الإنسان من أجل أن يفكر ويفعل ويبدع حقيقته وهو يصبح عاقلا عندما يكون إنسانا مخلوعا من القداسة" وبالتالي "لا يمكن أن يختفي الانعكاس الديني للعالم الواقعي عند الإنسان إلا عندما تظهر له ظروف العمل والحياة العملية علاقات شفافة وعقلانية مع أمثاله ومع الطبيعة". [9]
لقد غادر النقد مع ماركس أرض الفلسفة المثالية والتمظهرات المجردة واصطف على يسار هيجل ليدخل أرض اللاهوت والتصورات الأخلاقية وينجز نفسه فعليا عندما ثار على ماهو قائم ويصبح في خدمة التاريخ والفعل السياسي والاجتماعي، إن النقد يتخطى مبادئ المعرفة وقوانين المنطق وأسس الأنطولوجيا ليشمل الشروط الاجتماعية والتاريخية من أجل القضاء على الأوهام اللاعقلانية والايديولوجيا المثالية ولكي يثبت أن المجتمع الأرضي هو مصدر الخير وأن الإنسان حامل قيم وأن الذات يمكن أن تكون مسؤولة عن وجودها في العالم.
"إن لفظ الإيديولوجيا في القاموس الفلسفي الفرنسي يمتلك دلالة سلبية. انه يفترض نوعا من التجريد من درجة ثانية بإشارته إلى خطاب حول الأفكار. لكنه سيعاد له الاعتبار في الفكر الماركسي رغم بقاء دلالته غامضة, انه يشير إلى الأفكار بوصفها وسائل في الفعل والسجال السياسي. هكذا نتحدث كثيرا عن الإيديولوجيا البرجوازية وعن الإيديولوجيا الاشتراكية " أو البروليتارية" وعن الصراع الإيديولوجي عندما يتعارض هذان الخصمان." [10]
لا يمكن تحقيق نقد الدين تماما دون الانتهاء من نقد الإيديولوجيا البرجوازية ومن نقد الفلسفة المثالية لكن ماركس يذهب إلى أبعد من ذلك بضمه نقده الجزئي للدين إلى نظريته الكلية في البراكسيس لاسيما وأن أوهام الاستلاب الديني لا يمكن تبديدها بمجرد نقد الدين وإنما عن طريق الثورة والتغيير الشامل للحالة الاجتماعية التي ولدت من تلك الأوهام، وهذا ما نعثر عليه عند ماركس في الإيديولوجيا الألمانية في قوله:"إن الثورة لا النقد هي القوة المحركة للتاريخ وكذلك للدين والفلسفة وكل الأشكال النظرية."
لكن إلى أي مدى يمكن أن نعتبر ماركس صاحب ديانة جديدة؟ أو بعبارة أخرى هل ترك للدين وظيفة ثورية ممكنة في إطار الحراك السياسي الذي يعرفه أي مجتمع؟
3- الدين دعامة رئيسية للثورة:
" إن الصراع ضد الدين هو بصورة غير مباشرة صراع ضد ذلك العالم الذي يمثل الدين أريجه الروحي، إن الشقاء الديني هو في الوقت نفسه تعبير عن الشقاء الواقعي واحتجاج ضده".
لعل فرادة الماركسية في كونها فلسفة ثورة خصوصا عند تبنيها لأطروحة 11 عند فيورباخ التي تعلن الأمر القطعي بالتوجه نحو البراكسيس:" ما فتئ الفلاسفة يؤولون العالم في حين أنه يجب تغييره" وتتوضح ضرورة الثورة في رغبة ماركس العارمة في قلب الأوضاع رأسا على عقب والشروع في صناعة الإنسان وفتح الآفاق أمام الكائن البشري من أجل انجاز ذاته وإعادة تأصيل علاقته بنفسه وبالطبيعة على نحو إنتاجي، في هذا السياق يقول جورج لابيكا:"لا يمكن للعالم في حالته الحالية أن يستمر.
إن العالم الحالي وأشكال وجوده وتفكيره وإحساسه أو فعله هو العالم الآخر، عالم الدين والفلسفة وما شابههما الذي احتل مكان العالم الأرضي. إن فعل التغيير هو العودة إليه ومحاولة العثور عليه..." [11]
إن ماركس ينقد الدين كإيديولوجيا وكأداة محافظة تبرر سيطرة طبقة على أخرى وليس الدين في حد ذاته كتجربة روحية يقيم من خلالها الإنسان صلة بالمطلق وفي نقده هذا يشير إلى الطابع المزدوج العملي والنظري للدين وعلاقة الوعي الديني بالصراع الاجتماعي والسياسي ويقر بأن الأديان تلعب دورا تاريخيا حاسما في الانتقال من حقبة معينة إلى أخرى.
إن الدين عند ماركس ليس مركب غيبي مثالي وخرافة تقيد الناس بنمط طفولي من التفكير والسلوك ويعبر عن علاقات بدائية بين الإنسان ونفسه والآخر والطبيعة بل هو احتجاج وتعبير عن اللحظة الفاعلة والرغبة الحثيثة في تخطي النظام القائم بصورة واقعية وفعلية ، وهو محفز تاريخي وواقعي يتحول إلى نهج للسلوك الفاعل والايجابي ودعامة أساسية للاحتجاج والرفض وقد قامت العديد من الثورات والانتفاضات تحت راية الدين مثل التمردات الفلاحية في العصور الوسطى وحركات التحرر الوطني في الأزمنة الحديثة.
لقد بين أنجلز أن المسيحية الأولى كإيمان ديني صافي قبل أن تأخذ شكل عقيدة ومؤسسة محافظة في يد السلطة منذ عهد قسطنتين وقبل أن تنقلب إلى حلم وهروب من الواقع التعيس وانتظار للوفاء بالوعد كانت احتجاجا وعنصرا ثوريا تعكس التوق العارم من قبل الطبقة الناشئة إلى التغيير وتأثيث عالم أفضل ولعل الثائر الألماني توماس مونزر هو خير مثال على ذلك الالتقاء بين الإيمان والثورة حيث لبس الدين ثوب النضال ضد الإقطاع والنبلاء.
" تحتل المسألة الدينية مكانة متصاعدة في كتابات أنجلز وأشكال المرور بالدين هي بالأحرى توصيفات وملاحظات. وقد كان أنجلز حساسا بالتأثيرات الاجتماعية والسياسية للدين. لقد كان الدين بالنسبة إليه قبل كل شيء واقعا اجتماعيا وليس مسألة دينية. وقد بدأ باكرا تعاونه مع ماركس وأخرجا من عملهما المشترك ليس نقدا للدين بل علما بالتاريخ يأخذ بعين الاعتبار الظاهرة الدينية كانعكاس خيالي للعالم الخارجي أي كإيديولوجيا..." [12].
في هذا السياق يصفه أنجلز في كتابه حرب الفلاحين في ألمانيا:"كانت تعاليم مونزر السياسية وثيقة الصلة بتصوراته الدينية الثورية ومثلما كان لاهوته يتخطى التصورات الرئيسية في عصره كذلك كانت تعاليمه السياسية تمضي إلى أبعد من الشروط السياسية والاجتماعية السائدة مباشرة وكانت فلسفته الدينية تتاخم الإلحاد مثلما كان برنامجه السياسي يقارب الشيوعية...
كان هذا البرنامج يطالب بإقامة مملكة الرب مباشرة على هذه الأرض...لقد رأى مونزر في مملكة الرب مجتمعا بلا فوارق طبقية ولا ملكية خاصة ولا سلطة دولة مستقلة أجنبية تفرض نفسها على أعضائها..."
لقد كان الفلاحون يطالبون بالعدالة والاعتراف بظروف المساواة التي شهدتها المسيحية الأولى فتصبح قواعد سائدة في المجتمع الذي يوجدون فيه وقد اعتمدوا على تساوي البشر أمام الله كحجة مقنعة في مطالبتهم بالمساواة على الأرض في الثروات وأمام القانون.، خاصة وأن شعار ثورتهم كان:" يا رب أيد عدالتك السماوية..."إن ازدهار الأديان مرتبط على نحو وثيق بتحول في المجتمعات ذات الامتيازات والمؤسسات الناظمة إلى مجتمعات طبقية وان الوعي الديني لتلك الطبقة الناشئة المتجهة نحو التمرد والثورة ينطوي في ظروف تاريخية واجتماعية معينة على معارف ومطالب مستمدة من قوانين الحياة اليومية." وفق هذا المنظور لم تتشكل الأديان من أجل أن تلغى بل من أجل أن تأخذ بعين الاعتبار الجهد الأرضي" [13].
من المعلوم أن ماركس ينقد الدين كإيديولوجيا وهمية مقيدة لسلوك الناس ولكنه مقابل ذلك يعترف بالبعد الإنساني المكنوز في العامل الديني بقوله:" كلما عمد الأفراد الفاعلون إلى الاحتجاج على ظروف واقعهم قلت حاجتهم إلى الدين كوهم بديل عن الواقع يبرر تعاستهم وعجزهم وشرعوا باستدعاء القاع الإنساني العميق في الدين وتمثيله نظريا".
إن العامل الديني هو منعطف قوي يمكن أن يتحول إلى طاقة رئيسية للايديولوجيا وتعمل على مخاطبة وحث الذوات الفاعلة تاريخيا من أجل حفز هممهم ودفعهم إلى البراكسيس وتلبي لديهم مستلزمات رغبتهم في الصراع والمقاومة وحاجتهم إلى الحماسة والإرادة.
على هذا النحو يقترح ماركس إخراج رجال الدين من دائرة الإيمان الخالص إلى دائرة الإيمان الفاعل وتحويلهم إلى قوة محركة للتاريخ.
ومن هذا المنطلق اعتبر ميشيل هنري:" ماركس واحد من المفكرين المسيحيين الأوائل","إن الإيديولوجيا نفسها في حد ذاتها تفرض قوة جذب نوعية ويمكن أن تكون ناجعة بشكل فوري،إنها نصف دين ويمكن أن ترضي الحاجيات الدينية وأن تحدث تحولات في الإيمان وتحديدا من خلال المسيحية وفي كل الأحوال نقلل من عدم القدرة على تجاوز اللاانطباق بين الإلحاد والإيمان " ربما هذا الأخير يصلح أيضا في الدول الإسلامية".
يمكننا أن نعثر بمعنى ما في الإيديولوجيا والتطبيق الحسن للماركسيين بالكاد في غير موضعها على الإيمان والأمل والمحبة وحتى أبعاد الرؤية والأخروية والإنتظارية." [14] " كتب بيير بيجو حول ماركس: إن تعبيره يقترب في بعض الأحيان وبشكل غريب من التعبيرات الدينية. وعندما يهب إلى البروليتاري "عيب في ذاته" عندما يرى فيه " الفقدان التام للإنسان" وينتظر من خلاصه "الاسترجاع الكامل للإنسان" ألا يجعل منه بطريقة ما إنسان الهي يكون في الآن نفسه ضحية ومخلص؟
خاتمة:
" لما نتحدث عن الأفكار التي تثور مجتمع ما برمته فإننا نعبر فقط عن أن عناصر المجتمع الجديد تتشكل في حضن المجتمع الهرم نفسه وأن انحلال الأفكار الهرمة ترافق انحلال ظروف الوجود القديمة... عندما كان العالم القديم في لحظة خسوفه فإن الديانات الهرمة قد اندحرت أمام الدين المسيحي.
وعندما تركت الأفكار المسيحية في القرن18 مكانها لأفكار التقدم وخسر المجتمع الإقطاعي معركته الأخيرة مع البرجوازية الثورية حينذاك فإن أفكار الحرية الدينية لم تتوان عن الإعلان عن مملكة التنافس الحر في مجال المعرفة..." [15]
هكذا يعمل ماركس على الاستناد على المقولات الدينية من أجل بناء نظرية ثورية وينطلق من أفكار المسيحية الاشتراكية من أجل تأسيس اشتراكية علمية وربما عوض المبدأ الديني: كل الناس أخوة بالشعار السياسي : يا عمال العالم اتحدوا."
لقد أنجز الجوهري من نقد الدين في ألمانيا كما يقول ماركس نفسه وكأن سيادته السياسية نزعت لمصلحة الدول القومية وسيادته العقلية لمصلحة العلوم الطبيعية والإنسانية أما عندنا فبعيدا من أن تكون المشكلة الدينية قد حلت يتراءى لبعضنا بالعكس أن الدين هو الحل لمشكلاتنا الوفيرة، الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها..."
ماركس لم يخش المقارنة بشكل علني بين البروليتاري والمسيح أين المعاناة هي أيضا في عيون المسيحيين معاناة كونية." في الواقع يوجد تيار فكري يحاول اختزال النظرية الماركسية في فكر ديني ويحاول أن يعتبر الماركسية كدين مضاد وشيوعية ماركس وانجلز هي استكمال علماني أي جسم صوفي للمسيح في حالة اكتماله أي وروحنة تامة لإنسانية شبه متألهة.
يؤول الأستاذ من جامعة برنستون الماركسية بألفاظ تكاد تكون دينية حيث يدرج ماركس ضمن مقولات المؤسسين للدين. وقد تمثل مشروعه في إماطة اللثام السميك عن المظاهر من اكتشاف ما يتضمنه أثر ماركس الديني من جوهري. فماهي نتائج بحثه؟
يثبت ر. توكير أن " الماركسية هي ديانة الثورة" وأن مذهب ماركس تشكل على غرار المذهب الديني ويذكر من جهة البنية بالتصورات الدينية الكبرى للغرب. تظهر الاشتراكية العلمية حسب الكاتب خصائص أساسية مشابهة لتلك التي نجدها في مسيحية القديس أوغسطين في العصر الوسيط.
انه لا ينبغي أن تغالطنا التصريحات بالإلحاد من ماركس لأن إلحاده كما يقول ر. توكير يترجم في نهاية المطاف بواسطة قضية دينية توكيدية. إن ديانة ماركس هي ديانة خلاص ولا نستطيع أن نفهم ماركس إذا لم ندرك فكرة الخلاص هذه التي توجد كأساس لنسقه" [16]
إن نقد الدين يؤدي إلى اكتشاف وإبراز الطابع الحقيقي لتعاسة الإنسان ولآلامه الواقعية الحسية ولكن نقد ماركس للدين مختلف عن نقد فيورباخ ونيتشه والماديين الموسوعيين لأن ماركس مع إبطال المعتقدات الغيبية والأفكار الماورائية ولكننا ينبغي أن نبتعد عن الرأي الذي يعتبره مجرد ملحد مناهض للدين فهو ينادي بتطهير الوعي من الأوهام والشوائب وإحلال الوعي العلمي والنزعة الدنيوية وترسيخها في الثقافة الإنسانية والحياة اليومية.
انه من التجني أن نعتبر ماركس مجرد منكر للدين أو صاحب دين وضعي جديد لأنه يتحرك فلسفيا ضمن أقطاب الظنة وكاشفي الأقنعة وهو ما يعني تجاوز الفرضيتين معا الإلحاد والإيمان،" ينزل ماركس في مخطوطات 44 في وجهة النظر الذي يصبح بمقتضاها الإلحاد فاقدا للمعنى.
إن معنى مقترح ماركس يكون هنا القول بأن الإلحاد قد أصبح من هذه الزاوية شيئا ثانويا وأنه أصبح نهائيا من غير النافع أن نصدح به. ويفسر ماركس بأن الإلحاد هو نفي لله وهذا النفي يطرح وجود الإنسان...
إن الله يستمر إذن بالنسبة إلى الإلحاد كوسيط وحد أوسط ضروري بما أنه من خلال المرور به يعود الإنسان إلى ذاته كشيء ضروري..." [17]
إن اعتراض ماركس على الدين ليس إنكار له وان نقده للتوظيف السيئ له لم يتخذ شكل مذهب عدمي للإلحاد بل كان ذلك من أجل تأكيد الإنسان المكتفي بإنسانيته الذي لا يدين في وجوده لأحد سوى لعالمه الإنساني ويعتبر نفسه المرجع والمصدر لقيمه الخاصة.
ان ماركس قد نظر الى الدين نظرة علمانية عقلانية متحررة من كل المعتقدات والبواعث ولم يأخذ هذه المسألة بجدية وكشيء يستحق المقاومة الضارية كما فعل لينين وستالين بل تبنى موقفا فلسفيا عقليا."ربما تقدر الماركسية أن تنفتح على الفكرة التي ترى بوجود مكان للقوى الروحانية التي تغير الإنسان نفسه وتقدم حلا نهائيا لمشكله إلى جانب القوى الزمنية التي تغير البنى المجتمعية.
ربما يمكن انجاز المتطلبات المشروعة التي تطرحها هذه القوى الروحانية باسم الإنسان عوض الخضوع لهذا التحول في البنى نفسها..." [18] ألا تعد الماركسية كما أكد برديائيف إيمانا علمانيا ودينا وضعيا جديدا؟
أليس دينها نفسه هو الذي جعلها ضد كل دين؟ وهل بالفعل أدى الإلغاء السياسي للعامل الديني عن طريق العلمنة الجذرية إلى إلغاء اجتماعي وثقافي له؟ ألم يستمر العامل الديني في التأثير على سلوكيات الناس من حيث طاقته التربوية والأخلاقية والتواصلية على الرغم من حملة التشكيك والإنكار التي تعرض لها خلال زمن الحداثة؟ لكن إذا كان العامل الديني لازمة من لوازم أية ثورة فألا يتحول إلى عائق يمنع تشكل دولة مدنية؟
ماهي وظيفة المعتقدات الدينية في تنظيم العلاقات بين البشر؟ كيف نفسر حكم ماركس على أن الدولة دنيوية من حيث الأصل والمبدأ وأن الدولة التي تجعل الدين وسيلة لإكمال ذاتها هي دولة مارقة وأسوأ دولة تتغلف بالطهرانية لإخفاء التناقضات وتجعل كل رغيف خبز رهنا بالإيمان؟
وإذا كانت سيطرة الدين لا تزيد عن تكون دين السيطرة فهل المطلوب هو موقف ديني راشد تجاه السياسة أو موقف سياسي حازم تجاه الدين؟ وبأي معنى تتصور الفلسفة الماركسية الدين السياسي؟ ألا تتجه نحو محاربة اليمين الديني السياسي والى الدفاع عن حق الوجود للسياسة الدينية من وجهة نظر يسارية؟ أليست الدولة الديمقراطية في حاجة إلى الجانب العقلاني الاجتماعي التقدمي من الدين من أجل تحقيق كمالها السياسي بما هي دولة الطبيعة البشرية وحرية العقل؟
__________
* الهوامش:
[1] André Comte-Sponville, l’esprit de l’athéisme, introduction à une spiritualité sans Dieu,Editions, Albin Michel,2006,p9
[2] Wackenheim, Ch , la faillite de la religion d’après Karl Marx, Paris, PUF,1963
[3] Pierre Bigo, Marxisme et humanisme, Paris, PUF, 3 éditions, 1961
[4] Marcel neusch , aux sources de l’athéisme contemporain, chretien malgré lui, Ed centurion, 1977.p77
[5] Marcel neusch , aux sources de l’athéisme contemporain, chretien malgré lui,Ed centurion, 1977.p80
[6] J .f. Lyotard ,dérive à partir de marx et freud, collection 10-18,UGE ,1973,pp141-142
[7] Emmanuel Renault, Marx et l’idée de critique, Ed PUF, 1995, pp7
[8] Emmanuel Renault, Marx et l’idée de critique, Ed PUF, 1995,pp17
[9] Karl Marx, le Capital,
[10] Henri lefebvre, problèmes actuels du marxisme, Ed PUF,1958, pp36
[11] Georges labica, Karl Marx, les Thèses sur Feuerbach, Ed PUF, 1987,pp129
[12] Nguyen Ngoc Vu, idéologie et religion, d’après Marx et Engels , edition Aubier Montaigne,1975 , p115
[13] René de lacharrière , la divagation de la pensée politique,Marx et la socialisation de dieu, PUF 1972,pp191
[14] Armand Guillaume, la séduction marxiste, un prêtre médite Marx, EMI, Bologna 1987, pp219
[15] Karl Marx, manifeste communiste, pp65 ,pp66
[16] Nguyen Ngoc Vu, ideologie et religion, d’après Marx et Engels , edition Aubier Montaigne,1975 , p157-158-159
[17] Franck Fischbach, la production des hommes , Marx avec Spinoza, Ed PUF,pp126.
[18] Pierre Bigo, Marxisme et humanisme, Paris, PUF, 3 éditions, 1961,pp220
كاتب فلسفي