ان عنونتنا لهذا المقال بعبارة "إذا لم تستطع إسعادي، فلا تسهم في تعاستي" مرده إلى كونها تعكس فعلا، في اعتقادنا، طبيعة النقاش الذي تضمنه مؤلف كارل بوبر "المجتمع المفتوح و أعداؤه" و الذي دارت رحاه بين نزعتين اثنتين؛ نزعة تاريخانية، في سعيها نحو تحقيق السعادة للمجتمع ككل – على حساب الأفراد الذين نُظر إليهم كأدوات أو وسائل فحسب – لم تقو على أكثر من إنتاج مجتمع مغلق ولَّد التعاسة لأفراده و أقحمهم في دوامة من البؤس، و نزعة إنسانية ناضلت و لا تزال من أجل مجتمع مفتوح يحاول على الأقل، متوسلا في ذلك بهندسة اجتماعية متدرجة، التخفيف من تعاسة الأفراد، حين لا يكون بمقدوره إسعادهم فعلا.
بناء عليه، يعد هذا المؤلَّف في مجمله نقدا لتلك الفلسفات الاجتماعية المسؤولة عن التحيز واسع الانتشار ضد إمكانيات الإصلاح الديمقراطي، و أكثر هذه الفلسفات قوة هي تلك التي سماها بوبر تاريخانية، كما مر معنا أعلاه.
و لأن بوبر يقيم تقابلا بين النزعة التاريخانية التي يرفضها و النزعة الإنسانية التي ينافح عنها، و جب، بادئ ذي بدء، أن نسلط الضوء بإيجاز شديد على ما يقصده بوبر بهاتين النزعتين؛ أما الأولى فهي تلك التي تزودنا بنبوءات تاريخية طويلة الأجل معتقدة أنها وضعت يدها على قوانين التاريخ التي تمكنها من التنبؤ بمسار الأحداث التاريخية، أو هي بلغة "يمنى طريف الخولي" في تصديرها لكتاب بوبر "أسطورة الإطار"، تلك النزعة التي لا يتوانى أصحابها في "الزعم بإيقاعات أو أنماط أو مراحل لابد حتما أن تحدث، الزعم بمسار محتوم للتاريخ يمكن التنبؤ به، و بالتالي قولبة المجتمع و الدولة و السياسة في إطاره".
و كأمثلة على هذه النزعة التاريخانية التي يتولد عنها المجتمع المغلق، الذي سنعود للحديث عنه لاحقا، يشير بوبر إلى فكرة شعب الله المختار (الفكرة التي حركت اليهود و جعلتهم يؤمنون بحتمية إيابهم إلى أرض الميعاد، فكانت وراء ميلاد الصهيونية) و فكرة الطبقة المختارة (التي نظر لها كارل ماركس حين تنبأ بأن الطبقة البروليتارية سترسخ أقدامها كطبقة تكرس نفسها كمنتهى للفكر الطبقي). ما يهم بوبر أنه في كلتا الحالتين هناك تنبؤ يفسر التاريخ على ضوء اكتشاف قانون يحكمه؛ التفوق العرقي البيولوجي لدم الجنس المختار في الحالة الأولى و القانون الاقتصادي في الحالة الثانية. إن رفض بوبر للنزعة التاريخانية المفرزة للمجتمع المغلق لم يكن يوما رفضا مجانيا، أو رفضا عنَّ له هكذا بطريقة فجائية، بل هو قد تشكل لديه و اختمر بعدما رأى فيه و عاين من صفات و خصائص لا يمكن إلا أن تعود على الإنسان بالبؤس، و بعدما ذاق بدوره مرارته و تلظى بناره إبان الحرب الكبرى الثانية، و هي خصائص تجسدت في ضراوة الحرب ووحشيتها (أرقام القتلى بالملايين) و إهدارها لكل ما بناه الإنسان و ناضل من اجل إرسائه لقرون من قيم العقل و الكرامة و المساواة و الحرية. لذلك نراه يُحمل الفكر التاريخاني مسؤولية الانتكاسة التي عرفتها هذه القيم و إفرازه، بالمقابل، لقيم مضادة من جملتها: وأد الفردانية و جعل الفرد في خدمة المجتمع (و قد كانت ألمانيا النازية شاهدة على هذا المعطى بشكل سافر و سافل) و اعتبار الفردية شر مستطير لا يخدم أهداف الدولة و غاياتها، فضلا عن طغيان الاستبدادية التي ليست سوى انعكاسا للأنانية الجماعية و ما ينجم عنها من اندثار لقيم المسؤولية و المساءلة.
في مقابل هذه النزعة التاريخانية التي كانت حسب بوبر إطارا للمجتمع المغلق الذي يرفضه في كل صوره، نجده يناضل بكل ضراوة لصالح نزعة إنسانية يتبلور من خلالها مجتمع مفتوح يؤمن بالاختلاف و بالآخر و يحمي المساواة، و يرسي دعائم الديمقراطية و حقوق الإنسان و يؤمن بالمسؤولية الفردية، شعاره الإيمان ليس بالقادة و لا بأي بشر كائنا من كان، بل بالعقل و الحرية و الأخوة لكل البشر.
لقد آمن بوبر على مدار سنوات حياته المديدة التي تجاوزت التسعين بالمنهاج العقلاني النقدي سبيلا لتأسيس المجتمع المفتوح وتقويض أركان الأطر المغلقة في مختلف أشكالها و تجلياتها، لذلك رأى ضرورة القيام بعودة أركيولوجية إلى الحضارة الإغريقية التي اعتبر أنها كانت الحاضنة لأولى مظاهر الفكر الشمولي من خلال تنظيرات و كتابات بعض من كنا ننظر إليهم باعتبارهم "عظماءها" و الذين يرغب في إعادة النبش و التنقيب في ما كتبوه أو قالوه بشكل من الأشكال مما يمكن أن يعد دفاعا عن المجتمع المغلق، دون أن يفوته، في إطار المقارنة، الإشارة إلى أولائك "العظماء" الذين كانوا وراء تشكل الإرهاصات الأولى للمجتمع المفتوح.
لنقدم اللحظة بعضا مما خلفه لنا هؤلاء قبل أن نقف أكثر عند ما تركه أولائك:
فممن رأى بوبر أن كتاباتهم تشي بميولات داعمة للمجتمع المفتوح و لقيمه التي عرجنا عليها أعلاه، نجد ديمقريطس الذي يقول في بعض شذراته:
· " تستند الفضيلة قبل كل شيء إلى احترام الناس الآخرين".
· "البؤس في ظل نظام ديمقراطي أفضل من الرخاء الذي يدعي أنه يرافق الارستقراطية أو الملكية، مثلما الحرية أفضل من العبودية".
· "ينتسب الرجل الحكيم إلى كل الأقطار، لأن موطن الروح العظيمة هي العالم كله".
على هذه الشذرات و أمثالها استند بوبر في الحكم على ديموقريطس بأنه من دعاة المجتمع المفتوح؛ و كيف لا يكون كذلك و هو يدعو إلى احترام الآخر، و يفضل الديمقراطية و يمجد الحرية و يخرج بالإنسان من ضيق التعصب (الديني أو العرقي أو الجغرافي أو غيره) إلى رحابة الكوني.
و انطلاقا من أقوال مشابهة يعتبر كذلك أن بركليس و ألخيداماس و أنتستين و أرسطو و سقراط من دعاة المجتمع المفتوح، و يكفي أن نذكر بنضالات الشهيد الأول للفلسفة (سقراط) الذي علمنا أن نضع ثقتنا في العقل الإنساني، و أن نحترس في الوقت ذاته من الدغمائية و ننأى بأنفسنا عن كل من كره التفكير أو النقاش، و عن الارتياب في أولائك الذين أقاموا صنما للحكمة، و هو الذي ظل ينافح و يدافع على أن روح العلم هو النقد، لكي نستدل على وجاهة بوبر في ما يتعلق بدفاع هذه الحفنة من الفلاسفة عن الفكر الحر و عن قيم المجتمع المفتوح.
أما أولئك الذين يعتبرهم من دعاة بل من منظري المجتمع المغلق فيأتي على رأسهم هيراقليطس إلى جانب أفلاطون الذي سنكتفي بالحديث عنه وحده بالنظر إلى الحيز الذي خصصه له بوبر ضمن مؤلفه هذا، حيث استحوذ على ما يزيد على ثلاث أرباع الكتاب، ثم بالنظر إلى النقد الشديد و اللاذع الذي خص به بوبر كتاباته، و هو نقد يمكن رده إلى مسوغين اثنين:
ü من جهة لأن بوبر يؤمن بالنزعة الإنسانية و لا يقبل المساومة عليها، و لا يثق بالمرة في النزعة التاريخانية التي تدعي كما أسلفنا وجود غاية للتاريخ و تبشر بميلاد المجتمع المغلق، و أفلاطون في اعتقاد بوبر مَثَّل تراجعا عن مكتسبات سابقيه من عظماء اليونان، بل و تراجعا خطيرا امتدت خطورته إلى أيامنا و ساهمت بشكل من الأشكال في تبلور بعض أشكال الأنظمة الشمولية. ثم لثقته الكبيرة في الديمقراطية، لا كمبدأ أجوف يقرر أن "الحكم للشعب"، و إنما كمبدأ يستند إلى الإيمان بالعقل و الإنسانية و هو ما لم يكن يلقى قبولا لدى فيلسوف المدينة الفاضلة كما سنرى.
ü و من جهة أخرى لأن برنامج أفلاطون السياسي كان في الأساس خطة لبناء دولة كاملة (مدينة فاضلة) معتمدا في ذلك على ما وسمه بالهندسة اليوتوبية التي تخالف الهندسة الاجتماعية المتدرجة التي يدعو إليها بوبر، و التي هي (أي الهندسة اليوتوبية) نزعة تاريخانية متطرفة تقضي بعدم القدرة على تعديل مسار التاريخ.
سنحاول اللحظة أن نقف باقتضاب شديد عند أهم النقط التي اعتبرها بوبر تشكل تُهما تزج بأفلاطون في خانة دعاة المجتمع المغلق:
لم يكن أفلاطون، حسب بوبر دائما، منهجسا في تنظيره لمدينته الفاضلة، بسعادة الفرد بقدر ما كانت تهمه سعادة الجماعة (سعادة المدينة)، فهو رغم ربطه السعادة بالعدالة، و هو أمر يبدو محمودا في الوهلة الأولى، إلا انه سرعان ما يبدو مذموما حين نعلم أ ن العدالة عند أفلاطون لا تعني المساواة بل اللامساواة، و هذه اللامساواة تستشف من خلال تقسيمه للمجتمع إلى ثلاث طبقات: طبقة الحكام و طبقة الجند و طبقة العمال، مشددا على ضرورة احتفاظ كل فرد بمكانته داخل طبقته، فالناس معادن (ذهب و فضة و نحاس) و لا يمكن لأي معدن أن ينقلب و يأخذ صورة معدن آخر، و إلا وقعت الفوضى و اختلت العدالة. و ما زاد الطين بلة، أن أفلاطون في سعيه نحو رفع إشكالية الصراع الطبقي الذي من المكن أن ينجم بين الطبقات المشكلة للنسيج الاجتماعي، لم يقل بإلغاء الطبقات، كونه أمر متعذر و يمكن أن تختل بموجبه العدالة و تزول السعادة المترتبة عنها، لذلك كان الحل الأمثل في نظره هو منح الطبقة الحاكمة تفوقا لا يمكن تحديده، ما أوقعه حسب بوبر في منظور استبدادي الطابع كشف عن سقطته الأولى الكبرى.
أما النقطة الثانية، أو السقطة الثانية لأفلاطون فيكشف عنها تقسيمه الرباعي الشهير لأنظمة الحكم، إلى نظام تيموقراطي (حكم النبلاء الطموحين) رأى فيه شبها كبيرا بالمدينة الفاضلة التي يحلم بها لولا أن هذه ثابتة و تلك محكومة بعدم الاستقرار، و نظام أوليجاركي (حكم الفئات الغنية) يتمخض عن انحلال النظام الأول، ثم نظام ديمقراطي (حكم الغوغاء) الذي ينشأ عن انحلال النظام الاوليجاركي و ينحل بدوره إلى نظام استبدادي يعكس حسب أفلاطون قمة الدناءة. أما المتحكم في المرور من نظام حكم إلى آخر حسب صاحب "المدينة الفاضلة" فهو المصلحة الشخصية المادية التي يعتبرها القوة الرئيسية للديناميكا الاجتماعية مثلما جعلها كارل ماركس في الصراع الطبقي. و بيت القصيد في هذا التعريج على أنظمة الحكم كما نظر لها أفلاطون يكمن في الإشارة إلى تبخيسه للديمقراطية و اعتبارها تأتي في المرتبة الثانية من حيث الدناءة. و السبب في ذلك حسبما استخلص بوبر بعد قراءته النفسية لأفلاطون يتمثل في ما يشبه ردة فعل من قبل هذا الأخير أو انتقاما منه من النظام الديمقراطي الذي أتى على حكم أسلافه و جعل أسافلة القوم أعاليهم بل و وجد نفسه خاضعا لهذا النظام الذي لم يسلم من شره، في اعتقاده، حتى معلمه سقراط.
السقطة الثالثة تمثلت في ربط أفلاطون بين التربية و تكوين قادة المستقبل، و الذي نلمس فيه نفحة ديكتاتورية تعطي موظفي الدولة، حسب بوبر، كامل القوة لتشكيل العقول، محطمة بذلك روح البحث عن الحقيقة باستعمال العقل بحرية و دونما وصاية كيفما كان شكلها.
إلى هذه السقطات يمكن أن نضيف سقطة أخرى كانت بمثابة حلم يراود أفلاطون في تخطيطه لمدينته الفاضلة، هو حلم منح السلطة للفيلسوف في إطار ما بات يعرف بـ "الملك الفيلسوف" أو "الفيلسوف الملك" و هي الفكرة التي راودت معلمه سقراط قبله، لكن مع اختلاف رئيس بين الرجلين، هو في الحقيقة اختلاف بين عالَمين: عالم التواضع المتفرد العقلاني (سقراط) الذي راهن على الفيلسوف المحب للحقيقة و الباحث الأكثر تواضعا الذي كل ما يعرفه انه لا يعرف شيئا، و بين عالم الشمولية و القداسة (أفلاطون) الذي راهن على الفيلسوف المالك المتغطرس للحقيقة، المجادل المجرب، القادر على الحدس العقلي و الاتصال بالصور أو المثل السماوية الخالدة. و رغم أن البعض ممن درسوا أفلاطون و افتتنوا بفلسفته السياسية رأوا في الفكرة إمكانية ممكنة التحقق، بل منهم من رأى أنها تحققت بالفعل في شخص "ماركوس أوريليوس" الامبراطور الروماني و الفيلسوف الرواقي الذي عاش في الفترة الممتدة ما بين (121 – 180)، إلا أن كانط وضع حدا لهذا السجال و ضرب فكرة أفلاطون هذه في مقتل حينما قال " أما تحول الملوك إلى فلاسفة أو الفلاسفة إلى ملوك فمن الصعب أن يحدث، و لن يكون مرغوبا فيه، لأن امتلاك القوة يعطل دائما العقل الحر...".
يخلص بوبر بعد تحليله بشكل مستفيض لفكرة الفيلسوف الملك أو الملك الفيلسوف و بعد تنقيب و بحث في دواعي و أسباب توق أفلاطون لجعلها فكرة ممكنة واقعيا، إلى نتيجة مؤداها أن الملك الفيلسوف ليس، في حقيقة الأمر، سوى أفلاطون ذاته باعتباره الحفيد الوارث الشرعي لكودورس الشهير، آخر ملوك أثينا الذي "ضحى بنفسه لكي يحافظ على المملكة لأطفاله". لكن إيمان أفلاطون بأن المريض هو من عليه أن يطرق باب الطبيب و ليس العكس، جعله ينتظر أن يطرق الأثينيون بابه و يهرعوا إليه متوسلين و مطالبين بأن يسوسهم باعتباره الفيلسوف ذائع الصيت، لكنهم لم يفعلوا، فبقي أفلاطون فيلسوفا يمارس سلطته و ملكه على مدينة فاضلة لم يكتب لها أن توجد اللهم إلا في ذهنه و كتبه.
إلى هذه السقطات التي أشرنا إليها باقتضاب شديد، يمكن أن نضيف نقطة أخرى (سقطة أخرى) جوهرية زادت من اتساع الهوة بين أفلاطون و بوبر، أو لنقل بشكل دقيق أنها اعتبرت الفيصل بين دعاة النزعة التاريخانية و دعاة النزعة الإنسانية، هذه النقطة تمثلت في تبني أفلاطون و من حدا حدوه لما يسميه بوبر بـ "الهندسة اليوتوبية" و دعوة بوبر و من سار على هديه، بالمقابل، إلى تبني ما يسميه بـ "الهندسة الاجتماعية المتدرجة". فما المقصود بالهندستين؟
أما الهندسة اليوتوبية فيرى بوبر أنها تعكس منظورا تاريخانيا متطرفا و خطرا يقتضي ضمنا أننا لا نستطيع تعديل مسار التاريخ و أن هذا الأخير سيؤول حتما، إن عاجلا أو آجلا إلى غاية لا محيد عنها. و ذاك كان شأن مدينة أفلاطون الفاضلة و دولة ماركس الخالية من الطبقية. و يكمن الخلل الذي يعتري هذه النزعة، حسب بوبر، في سعيها لتحقيق دولة مثالية مستخدمة خطة عمل للمجتمع ككل، و تتطلب حكما مركزيا للقلة (التي وحدها لها القدرة على معرفة ما يصلح و ما لا يصلح) فهي تعتمد في الحكم على ثورة كشفية نبوئية باستطاعتها تغيير شكل العالم الاجتماعي كله، و هنا يشترك أفلاطون مع ماركس مثلا، و مرد ذلك إلى الحلم "بتشييد عالم ليس فقط أفضل قليلا و أكثر عقلانية من العالم الذي نعيش في كنفه، بل هو عالم متحرر من كل بشاعته، ليس لحافا واهنا أو ثوبا قديما مرقعا على نحو رديء، و إنما رداء جديد تماما و جميل حقا". و هذا الحلم، يقول بوبر، "حين لا يكون ملجما بالعقل و بالشعور بالمسؤولية و بالدافع الإنساني على المعاونة، يتحول إلى حماسة خطيرة عرضة لأن تتطور إلى شكل من العصاب أو الهستيريا".
بالمقابل يدعو بوبر إلى التخلي نهائيا عن الهندسة اليوتوبية لأنها أفسدت من حيث أرادت أن تصلح، و لأن نوايا أصحابها الحسنة في إقامة الجنة على الأرض انتهت إلى جعلها جحيما اكتوى به ملايين الأبرياء (لنا أن نتذكر الاتحاد السوفياتي في عهد ستالين و الجرائم التي اكتشفت بعد موته على سبيل المثال لا الحصر)، و تبني هندسة اجتماعية متدرجة تهدف إلى التقليل من حدة البؤس التي تحاصر الإنسان، و خطة عملها بسيطة نسبيا، فهي تعتمد برامج عمل لمؤسسات منفردة كالصحة و تأمين العاطلين عن العمل و إصلاح التعليم و غيرها، فإن أخطأ مهندسوها فلن يكون الضرر فادحا، و لن يكون التعديل من جديد شديد الصعوبة. إنها هندسة يضيف بوبر تأخذ على عاتقها البحث و الكفاح ضد أعظم شرور المجتمع و أكثرها إلحاحا، أكثر من البحث و النضال من أجل خيره النهائي الأعظم، متخذة لنفسها شعارا واقعيا و معقولا قوامه: "إذا لم يكن في استطاعة أحد أن يسعدك، فينبغي على الأقل ألا يسهم في تعاستك".
صفوة القول، أن بوبر و على مدار صفحات كتابه التي تجاوزت المائتين، كان يحدوه و يتحكم فيه هاجس واحد تمثل في الدعوة إلى قيم المجتمع المفتوح التي تصون للفرد إنسانيته و تشعره بأنه إنسان يتمتع بحرية و كرامة و له الحق في العيش داخل مجتمع يتنفس هواء الديمقراطية الذي يكفل للجميع العيش في أمن و أمان دونما تمييز و لا تفاضل لا على أساس العرق و لا الدين و لا المال و لا غيرها، و بالمقابل نبذ قيم المجتمع المغلق التي أرستها الفلسفات التاريخانية و التي تولدت عنها أنظمة شمولية شهد التاريخ على زجها الإنسان في مهالك لا تليق حتى بقطعان حيوانية.
من هذا المنطلق نجد بوبر يحاول ما أمكنه ذلك إطلاعنا و إقناعنا بما خلص إليه بعدما تصدى لشكل من أشكال التنظير للفكر التاريخاني مجسدا في أفلاطون، يقول: "إن الدرس الذي يجب أن نتعلمه من أفلاطون هو تماما عكس ما حاول أن يقنعنا إياه، إنه درس لا يجب أن ينسى، و على الرغم من جودة التشخيص الاجتماعي عند أفلاطون، فإن تطوره أثبت أن العلاج الذي أوصى به أسوأ من الشر الذي أراد محاربته، فليس العلاج هو كبح التغير السياسي، إذ لا يمكن أن يجلب السعادة، فلا يمكننا أن نعود أبدا إلى البراءة و الجمال المزعومين للمجتمع المغلق، و لا يمكن أن يتحقق حلمنا السماوي على الأرض. إننا إذا ما رغبنا أن نظل بشرا، ليس أمامنا إلا طريقا واحدا ألا وهو الطريق إلى المجتمع المفتوح، و يتعين أن نثابر في المجهول و اللايقيني و غير الآمن مستعينين بما قد يخططه لنا العقل بقدر إمكاننا من أجل الأمان و الحرية معا".