كان من البيِّن أن يثير مشروع «نقد العقل العربي»، لمحمد عابد الجابري (1936- 2010)، إشكاليات كثيرة وبدءا من إشكالية «عصر التدوين»، الذي عدَّه صاحب المشروع «إطارا مرجعيا» للثقافة العربية، وانتهاء بدعوته إلى «تأسيس عصر تدوين جديد»، ومرورا بإشكاليات، فرعية، أخرى في مقدمها إشكالية «القطيعة الإبستيمولوجية» وإشكالية «العقل المكوِّن» و«العقل المكوَّن» وإشكالية «التوزيع المعرفي للنظم المعرفية»... إلخ.
وقد تمكن الجابري من أن يثير هذه الإشكاليات بسبب من تصوره المنهجي المحكم الذي أفاد فيه من المنجز الفرنسي الحديث سيرا على نهج أغلب أبناء جيله من مفكري الفضاء المغاربي. وهي الإفادة التي جعلته يقدم على تقديم «قراءة جديدة» و«مغايرة»... لكن دون أن يفيد هذا أن «الجديد» ينطوي، أبدا، على «الجدة» أو «المغايرة», وما أكثر المشاريع التي تنطفئ قبل أن ينطفئ أصحابها.
ونود، هنا، أن نتوقف عند أحد المرتكزات التي كانت في أساس الجدة سالفة الذكر. ونقصد، هنا، إلى «حفريات المعرفة» التي ترتبط بـ«النظرية الفرنسية» التي كانت، ومنذ فترات الستينيات والسبعينيات، قد فرضت نفسها على نطاق واسع، بل وامتد تأثيرها، وبشكل كاسح، داخل الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. وهو ما أضفى على بعض الأسماء الفرنسية، ومن رموز النظرية نفسها، وداخل هذه الولايات، «هالة» لم تكن مخصصة إلا لأبطال الميثولوجيا الأمريكية ونجوم رجال الأعمال كما قال François Cusset في كتابه «النظرية الفرنسية» (French theory) (ص11) المكرَّس لتأثيرات أعلام النظرية في «الحياة الثقافية» بالولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الرغم من التحفظ الذي قد يبديه الدارس بخصوص «حفريات المعرفة» فإن ذلك لا يحول دون القول بأن منهجيته تستند إلى نوع من التاريخ التكويني أو جينيالوجيا الأفكار أو حفريات المعرفة وعلى النحو الذي بموجبه يتكشف لنا كيف أن الجابري ينقل الصراع من مجال السياسة والإيديولوجيا إلى مجال النظم المعرفية للثقافة العربية في صلتها بالعقل العربي بأساسياته المعرفية ومستوياته الإيديولوجية. ولعل هذا ما قصد إليه الجابري في «تكوين العقل العربي» حين قال: «لقد استبعدنا مضمون الفكر العربي الآراء والنظريات والمذاهب وبعابرة عامة الإيديولوجيا من مجال اهتمامنا، وحصرنا محاولتنا هذه في المجال الإبستيمولوجي وحده، فقلنا ما نريد تحليله وفحصه هو الفكر العربي بوصفه أداة للإنتاج النظري، وليس بوصفه هذا الإنتاج نفسه» (ص14). وهذا المجال الإبستيمولوجي هو الذي قاده إلى أن يمحور مشروعه النقدي حول العقل وليس حول الفكر أو التراث.
والجابري لا يكتفي بعدم الميل إلى تسمية «الفكر» فقط، وإنما يرفض التسمية كذلك. والسبب أنها هي والإيديولوجيا، وخصوصا حين تقرن بشعب معين، اسمان لمسمى واحد. وهذا بالضبط وكما يواصل قائلا «أحد أنواع الخلط التي نريد تجنبه» (المرجع السابق، ص12). غير أن هذا لا يعفي مفكرنا من الحديث عن الثقافة العربية التي يتأطر ضمنها العقل العربي، وهي ثقافة لا تخلو من خصوصية وتحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام، وتعكس وتعبر، في ذات الوقت، عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن (صص 13 14).
وتوحي قراءة محمد عابد الجابري باستلهامها لـ«حفريات المعرفة»، بل إن البعض ربط جدتها الجذرية بهذه الحفريات. يقول إبراهيم محمود في كتابه «البنيوية وتجلياتها في الفكر العربي المعاصر»: «وأول ما يمكن إثارته هنا، هو أنه من الصعب فهم هذا المشروع، من دون ذكر المرتكز الفكري الأساسي الذي اعتمده الكاتب في بنائه، وفي معظم أعماله، وخاصة في هذا الكتاب، أي (فوكو). وذلك في كتابه المشهور (حفريات المعرفة) بالدرجة الأولى، وتحديدا ما يتعلق بمفهوم (الانفصال)» (ص133).
غير أنه تجدر الملاحظة، وابتداء، أن «النقد» الذي يزاوله مفكرنا يختلف، ومن وجوه عديدة، عن «النقد» الذي يرتبط بفلاسفة الاختلاف على نحو ما نجد في «جينيالوجيا نيتشه» و«حفريات فوكو» و«تفكيكية دريدا» و«فلسفة دولوز». فنقد هؤلاء يسعى إلى الحفر في طبقات النصوص بحثا في آليات إنتاج المعنى أو آليات توليد الحقيقة، ومع ما يرافق كل ذلك من عمليات طمس وحجب وتلاعب. وكل ذلك في المنظور الذي يجعل من النقد فلسفة ومن الفلسفة نقدا في آن واحد.
ومحمد عابد الجابري بدوره يأخذ بمفهوم «الخطاب» وبمعناه الفلسفي الإصطلاحي المعاصر، وهو مفهوم قاعدي في حفريات المعرفة. ومن المفيد الإشارة إلى كتاب الجابري «الخطاب العربي المعاصر» (1982) الذي كان قد مهَّد به لمشروع «نقد العقل العربي» (1984- 2001)، والذي ربط فيه «الإخفاق النهضوي» المتواصل حتى أيامنا هاته بـ«الخطاب» الذي صاغه الرواد والمفكرون العرب في مجال النهضة والقومية والتاريخ والفلسفة. وكل ذلك في دلالة على اندراج مشروعه في «مطلب النهضة»، القديم/ الجديد، لكن بالاعتماد على «زاد معرفي» و«عدة منهجية» مغايرتين.
ويعرِّف الجابري الخطاب بأنه «يعني الكلام المنظم عن أشياء بالسكوت عن أشياء وإبراز أشياء، وبعبارة أخرى: الاستدلال على أشياء بأشياء أخرى مع إغفال كثير من الأشياء» («تكوين العقل العربي»، ص61). غير أن المسكوت عنه، هنا، لا يفيد البتة ذلك النوع من «الحجب» (الأنطولوجي) المرتبط باللغة ذاتها وعلى نحو ما نجده عند فلاسفة الاختلاف وفي مقدمهم الفيلسوف نيتشه الذي لم يميز بين «الإظهار» و«الحجب» في اللغة.
والظاهر، كذلك، أن الجابري لا يوافق على أن يكون الخطاب «امتلاء وثراء لا حد لهما» كما يقول ميشال فوكو في «حفريات المعرفة» (ص110)؛ إضافة إلى أن هذا الأخير، وفي الكتاب نفسه، يرفض التمييز القائم بين أنماط الخطاب الكبرى (ص22). والجابري أقصى، وبدافع من «التحليل الإبستيمولوجي»، وباسم «غابة اللاعقل»، قارة بأكملها، في التراث، وهي قارة الخطاب الأدبي... مع أن الحفريات لا تقبل بـ«التمييزات الخطابية». ويمكن أن نرد ذلك إلى «الأنساق المغلقة» التي سعى مفكرنا، وعن قصد، إلى صياغتها، وبإحكام، حتى يقفل باب «التأويلات» في وجهها.
وليس غريبا أن يدرس بعض الباحثين العرب، ومن المتأثرين بفلاسفة الاختلاف، مشروع «نقد العقل العربي»، وفي دلالة على «إمكانية» قراءة المشروع ذاته في ضوء «فلسفة الاختلاف». وفي مقدم هؤلاء عبد السلام بنعبد العالي المعروف بأبحاثه الفلسفية الرصينة بصفة عامة وببحثه اللافت «الفكر الفلسفي المعاصر» (1991) بصفة خاصة. وهذا الأخير، بدوره، يؤثر، وفي مقال، خصصه لـ«تكوين العقل العربي»، وتحت عنوان «خلدونية جديدة»، وهو متضمن في كتابه «الهوية والتراث» (1987)، وهو المصدر الذي نعتمده هنا، تسمية «الفكر»، بدلا من «العقل» أو «التراث»، وكل ذلك بالاستناد إلى تصور يفارق دائرة «الأصالة» و«الكلية» و«الميتافيزيقية»... وكل ما له صلة بما هو «عرقي» أو «قومي» أو «جغرافي». «إلا أن النقد لا يعمل عندنا دوما بهذا الهدف وهو غالبا ما ينجر إلى البناء الإيديولوجي فيغدو، على العكس من ذلك، بناء للهويات الموهومة» كما يعترض بنعبد العالي (ص34).
ومن الجلي أن لا يوافق عبد السلام بنعبد العالي على النوع الأخير من النقد الذي يركز على العقل بدلا من الفكر أو التراث، هذا بالإضافة إلى السند الفلسفي للنقد ذاته. ومن ثم فإنه، وحتى إن كان بنعبد العالي يثمِّن مشروع «نقد العقل العربي»، ممثَّلا في «تكوين العقل العربي» الذي هو مدار قراءته، بل ويرى في العمل الأخير محاولة غير معهودة للقيام بتاريخ للفكر العربي، فإنه يركز على الاختلاف الجوهري بين العمل وحفريات المعرفة. ذلك أن صاحب «تكوين العقل العربي»، وفي تصور بنعبد العالي دائما، حاول أن يشتغل أساسا على ما حاول ميشال فوكو أن يعيد فيه النظر (أي العقل والمعقول). إضافة إلى أن مشروع الجابري يرمي إلى «البناء» و«النهضة» و«التوحيد» و«التقدم»، لذلك يرى أن الصواب يقتضي وضع المشروع في سياق التأليف العربي ومقارنته بالمشروع الخلدوني (ص29). ذلك أن الأركيولوجيا لا تعني الانتصار لقيمة على أخرى، وإنما البحث في قيمة القيمة وتحديد الخطاب وسياسة الحقيقة كما يضيف بنعبد العالي في دراسته «نحو سياسة المعرفة» المتضمنة في «إشكاليات المنهاج في الفكر العربي والعلوم الإنسانية»(ص9).
وكما أنه لا يمكننا أن نتغافل عن المفكر اللبناني علي حرب الذي كان من أوائل من التفتوا إلى مشروع الجابري. وكان قد خصّ «نحن والتراث» بدراسة متميزة في كتابه «مداخلات» (1985)، مثلما خص مشروع «نقد العقل العربي» بدراسة لافتة في «نقد النص» بل وميز بين مشروع الجابري ومشروع محمد أركون في الكتاب الأخير. هذا عدا العديد من الإشارات لكتابات الجابري. بل إنه علََّق على بعض القراءات التي جعلت من مشروع الجابري موضوعا دسما لها كما هي الحال بالنسبة لجورج طرابيشي.
وهو الآخر يميل بدوره إلى القراءة الفلسفية بدلا من القراءة الإيديولوجية. وأهم ما يميز قراءاته انتظامها في نطاق «نقد النقد» الذي لا نزال نفتقر إليه في الفكر العربي المعاصر بل وننظر إليه بوصفه عملا يقل أهمية عن عمل النقد. ولعل هذا ما قصد إليه طرابيشي عندما قال في مقدمة «إشكاليات العقل العربي»: «إن أي مشروع لنقد النقد ينطوي لا محالة، في شق منه على الأقل، على ضرب من الاسترقاق الذليل» (ص7). فنقد النقد لا يقل أهمية عن النقد، وهو بدوره يستند إلى مقولات نظرية ومستندات منهجية. وعلي حرب يزاوله بشكل قل نظيره في الفكر العربي، إضافة إلى أن نقده يعكس تصوره القائم على «فلسفة الاختلاف». ولعل هذا ما جعله واحدا من الذين أحدثوا رجة في هذا النقد، وأسهموا بالتالي في رد الاعتبار له داخل الفضاء العربي الذي لا يزال فيه المفكر لا يحاور المفكر الآخر، بل ويسعى إلى «طمسه» و«تدميره».
وعلي حرب هو الآخر يؤثر، وفي قراءة «نقد النص»، تسمية الفكر بدلا من العقل أو التراث (ص93). ويكشف مشروع «نقد العقل العربي»، في تصوره، عن «مركزية العقل العربي». والمركزية أو التمركز هو ما تسعى التفكيكة إلى نقضه وتقويضه والكشف عن تناقضاته وزرع الشك فيه. ويأخذ على الجابري «هاجس التصنيف وبناء الأنساق» (ص93، 97)، وبكل ما يترتب عن مثل هذا الهاجس من نتائج وخلاصات تكون موضع خلاف وخلاف حاد. وفي هذا الصدد يهتدي إلى أن الجابري لا يلتفت إلى «العقل الباطني»، وأنه يستبعد النتاج الصوفي العرفاني (ص120). وحين ينظر إلى هذا النتاج يقتصر على العالم العربي وضمن هذا العالم يركز على الدائرة السنية دون الدائرة الشيعية، وضمن الدائرة السنية يركز على عرب المغرب وسنته دون أهل المشرق (ص121).
وكما يأخذ على الجابري أنه «يعكسر» داخل العقلانية اليونانية»، وضمن هذه العقلانية يكتفي بأرسطو دون سواه (ص121). وفي مقابل ذلك يلتفت صاحب «نقد النص»، وهنا تتبدى أهمية نقد النقد غير الوصفية، أو «نقد النقد باعتباره «تدخلا»، إلى ابن سينا وابن عربي (دون الغزالي الذي ينتقده الجابري معهما) ليتحيز إليهما على حساب ابن رشد الذي ينحاز إليه الجابري. ومن هذه الناحية فإن «بقعة الإمكان أضيق عند ابن رشد مما هي عند الفلاسفة والمفكرين الآخرين، كابن سينا وابن عربي» (ص104).
وفي السياق نفسه لم يؤلف ابن رشد «أعمالا فلسفية افتتاحية أو تأسيسية، بل غلب على نتاجه الفلسفي الطابع السجالي الحجاجي» («مداخلات»، ص107). وهذا الموقف من ابن رشد، أو بالأحرى «ابن رشد الجابري»، كان علي حرب قد أبداه منذ أول قراءة له للجابري على نحو ما جاء في كتابه «مداخلات» (1985). وفي فصل من هذا الكتاب كان علي حرب قد ردّ على تركيز مفكرنا على «فصل» ابن رشد بين الدين والفلسفة، وناقش الموضوع. ومن هذه الناحية يرى أن فيلسوف قرطبة لم يفصل بينهما، وإنما استعاد مشكلة العلاقة بين العقل والنقل التي أثارها أسلافه من قبل محاولا إعادة تحديد هذه العلاقة في ضوء الظروف الثقافية والسياسية التي نشأت في المغرب.
وإذا ما استفسرنا علي حرب عن سر تحيزه لابن سينا وابن عربي فإنه سيحيلنا على «القراءة الأنطولوجية» التي يستند إليها. وإذا ما استفسرناه عن موقع القراءة نفسها داخل الفكر العربي المعاصر فإنه يمضي بنا إلى فهم معين للخصوصية. فهو من دعاة ممارسة خصوصيتنا لكن على نحو عالمي، ولذلك لا يبدو غريبا أن يرفض تسميات مثل «الغزو الثقافي» و«التسييج الحضاري».. ومن ثم أمكننا فهم ربطه للمفكريْن أو الفيلسوفين السابقين ابن سينا وابن عربي بمارتن هايدغر على نحو ما نقرأ في مقاله «غزو ثقافي أم فتوحات فكرية؟» (مجلة «الفكر العربي»، العدد 74، خريف 1993). وهو ما يساير منحى القراءة الأنطولوجية التي كنا قد عالجناها، وعلى مدار دراسة مستقلة، في كتابنا «سلطان التراث وفتنة القراءة» (2010).
ونجد المفكر الإسلامي العراقي يحيى محمد بدوره يأخذ، وفي كتابه «نقد العقل العربي في الميزان» (1997)، على محمد عابد الجابري «تجنيه على رجال العرفان»، وتجاهله للدور العقلي في الفكر الشيعي الإمامي... وكل ذلك، وفي نظره، لاعتبارات إيديولوجية. ولعل ما سلف، وفي تصور صاحب الكتاب، «مفارقة» ضمن مفارقات جعلت من المشروع عبارة عن أحلام فكرية لا تمت إلى الواقع بصلة (ص201). هذا وتجدر الإشارة إلى أن صاحب الكتاب يركز على الجزأين الأولين من مشروع الجابري دون الجزء الثالث (العقل السياسي العربي) لقناعته بأن الجابري أقام حاجزا فاصلا بين نقده للعقل النظري والعقل العملي. وكما أن أقنوم «العرفان من ثلاثية الجابري الأقنومية (البيان، العرفان، البرهان) هو ما جعلت منه الباحثة الشابة فاطمة سامي فرحات موضوعا لها في دراستها «الرؤية العرفانية في العقلية العربية» الذي خصصته لـ«نقد الجابري».
وحتى نبقى في نطاق «حفريات المعرفة»، أو على الأقل نحوم حولها، فإنه يمكن لنا أن نستأنس بـ«المشروع المضاد» لمشروع «نقد العقل العربي». وليس من شك في أننا نقصد إلى «نقد نقد العقل العربي» لصاحبه الكاتب اللبناني جورج طرابيشي الذي أمضى فيه ما يقرب من ربع قرن، وعلى حد قوله فقد سلخ من هذه المدة ثماني سنوات في إنجاز الجزء الأول من مشروعه. وللمناسبة هناك من رأى في العمل الذي تطلب من صاحبه جهدا تنقيبيا كبيرا «جهدا ضائعا» فيما رأى فيه آخرون نموذجا لـ«النقد المتهافت». والجابري بدوره لم يكتف بالقول بأنه لم يقرأه فقط، وإنما سخر من صاحبه في بعض حواراته.
ودون أن تفوتنا الإشارة إلى أن هناك من ذهب، وفي سياق الموقف المضاد، وفي أعقاب الردود التي تلت وفاة الجابري، وفي سياق «تمجيد طرابيشي»، إلى القول بأن «طرابيشية «نقد نقد العقل العربي» حررت جابرية «نقد العقل العربي» ونفضت عنها القيود الثقافوية وأطاحت بالحدود المُفتعلة التي أقامتها سواء مع حقب زمنية أو مفاهيم أو حضارات أخرى»، بل وتجاوز ذلك إلى التأكيد على أن «سلسلة «نقد النقد» للطرابيشي أهم بكثير من سلسلة «النقد» للجابري نفسه»، حتى وإن كان صاحب الموقف نفسه «لا يقلل من أهمية ومركزية مشروع الجابري الذي لولاه لما كان مشروع الطرابيشي» (جريدة «الحياة»، 13/6/2010).
أجل إن العمل لا يخلو من حشد من تصورات وإحالات... التي بلغت حد التكديس، بل ومن تعابير تعكس نوعا من الإصرار على السعي إلى «الإطاحة» بالجابري، وهو ما اتضح منذ الجزء الأول. غير أن هذا لا يعني أن العمل يخلو من أفكار مهمة تساهم، ومن وجوه، في إضاءة الإشكاليات التي طرحها صاحب المشروع. ومن ثم فصاحب المشروع المضاد لا يمكنه أن يكون من صنف الذي يلقي كلمته ثم يمضي أو من صنف الذي يعرض بضاعته على الناس كما قال الجابري في حوار معه (مجلة «الوطن العربي»، العدد 1138، الجمعة 25/12/1998، ص54).
ولقد تضمن مشروع طرابيشي ملاحظات عديدة بعضها ذا صلة بحفريات المعرفة التي تهمنا هنا. ومن هذه الناحية يتصور صاحب المشروع أن الجابري يصوغ الإشكاليات في قوالب مغلقة أشبه ما تكون بحبائس، وأن نقد النقد في نظره ينبغي له أن يتمحور حول تفكيك هذه الإشكاليات وتقديم بدائل لها، لأن الانطلاق من نتائجها يجعلها لصيقة بصاحبها. وهو النقد الذي كان قد سجلّه علي حرب بدوره على الجابري مثلما سجله آخرون، ولكن في هذه النقطة يمكن أن نرد بما كان الجابري نفسه قد سجله في الموضوع وعلى وجه التحديد في الرد على التعقيبات على دراسته «إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث والمعاصر» التي أسهم بها في الندوة الشهيرة «التراث وتحديات العصر» التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية ما بين 24- 27 أيلول/ سبتمبر 1984 والتي ظهرت بعد عام واحد في مجلد ضخم تحت العنوان نفسه. وفي هذه الندوة ردّ الجابري على السيد يسين الذي كان بدوره أخذ عليه «حرصه على إغلاق خطابه» قائلا: «فعلا أنا أميل، وبوعي، إلى التزام العمل بإغلاق خطابي، أنا أجتهد في تقديمه كخطاب مغلق، أي بدون ثغرات منطقية» (ص82/83).
وعلى طريق «حفريات المعرفة» التي قلنا بأن محمد عابد الجابري يوحي بما يشبه الإفادة منها فإنه لا بد من أن يستوقفنا مفهوم «الإبستيمي» (Epistémè) الذي وظفه ميشال فوكو. وعلى هذا المستوى يعلق جورج طرابيشي، في «إشكاليات العقل العربي»، قائلا: «فالإبستيمية عند فوكو من حيث هي بالتعريف سلك ناظم لجماع المعرفة في عصر معين ممتدة في المكان متحولة في الزمان. أما عند الجابري، الذي يقلب وظيفتها من توحيد المعرفة إلى تشطيرها وتبضيعها، فهي على العكس متغيرة في المكان ثابتة في الزمان» (ص280). ويواصل: «فالإبستيمية الجابرية لا تتصف بالمرونة ولا تعرف الحراك بين الأنواع المعرفية ولا تتسم بأية قابلية تشكيلية. فقوالبها ثابتة ونهائية كما لو أنها صبت من إسمنت مسلح» (ص284).
هذا بالإضافة إلى أن قراءة فوكو للعقل «سالبة»، ولا يمكن أن تفيد بشيء القراءة الجابرية. ثم إنها (أي القراءة الأولى) تهدف إلى أن تـُظهر تحت كثافة البنية تعدد الخطابات وتفارق المستويات وتعاقب الاختلافات» («نظرية العقل»، ص295). هذا بالإضافة إلى أن فوكو، وكما ينبهنا جورج طرابيشي، في «إشكاليات العقل العربي»، يمتنع عن إصدار حكم قيمة على التحولات الإبستيمية إلى حد ينكر معه وجود تقدم للعقل البشري بين عصر وآخر. فعنده أن لكل عصر معقوليته، بدون أن تكون متقدمة بالضرورة على معقولية العصر السابق لها (ص285). ولا داعي، هنا، للخوض في ميل الجابري للدولة الموحدية في سياق ميله للروح الرشدية الذي كان قد أبداه منذ «نحن والتراث»(ص252).
وعلى مستوى آخر لا يوافق طرابيشي على تقسيم الجابري «البنيوي» لأنظمة المعرفة (بيان، عرفان، وبرهان)، ويرى فيه تشطيرا وتقطيعا، وهو المأخذ ذاته الذي سجله المفكر أو المتفلسف المغربي طه عبد الرحمن الذي سنتحدث عن موقفه من عقلانية الجابري بعد قليل. كما أنه (أي طرابيشي) يتصور أن التقسيم قائم على أساس إقليمي (مشرقي، مغربي) أو قومي بل شوفيني (النظام البياني العربي، النظام العرفاني الهرمسي الفارسي، النظام البرهاني اليوناني) («إشكاليات العقل العربي»، ص69).
وكما يلتقي طرابيشي مع علي حرب في مركزية الجابري، لكنه يفضل الحديث عنها تحت عبارة «العين المركزية الإثنية للجابري» التي قادت صاحبها إلى أن يصطنع هوية ضدية بين العقل المشرقي والعقل المغربي ليدفع بـ«العقل الأول» نحو دائرة حضارات «اللاعقل» وبـ«العقل الثاني» نحو دائرة العقلانية اليونانية الأوروبية، وهو ما يدخل أيضا في نطاق «التوظيف الإقليمي لمفهوم القطيعة الإبستيمولوجية» الذي سعى طرابيشي إلى «تفكيكه» في كتابه «وحدة العقل العربي الإسلامي». وعلى مستوى آخر يرى أن الجابري يمدح العقل الغربي، وأنه ينحاز للحداثة اليونانية، وأنه لا يلتفت إلى ما قبل سقراط... («إشكاليات العقل العربي»، ص96، 60، 297).
وخلاصة «نقد نقد العقل العربي»، التي أكدها صاحبها منذ الصفحات الأولى من «نظرية العقل، والتي سعى إلى تسريبها على مدار مشروعه المضاد بأكمله، ومن خلال ما سماه بـ«محدودية إبستيمولوجيا الجابري وترسباتها الأيديولوجية»، هي أن محمد عابد الجابري:
انتصر إبستيمولوجيا للعقل البرهاني على العقل البياني بقدر ما انتصر للعقل البياني على العقل العرفاني
وانتصر إيديولوجيا للعقل «السني» على العقل «الشيعي»
وانتصر جغرافيا لعقل المغرب على عقل أو بالأحرى «لاعقل» المشرق (ص28).
وهناك من يتصور أن الجابري لم يتخلص من «انقسامية المشرق والمغرب العربيين» حتى في أبحاثه التي خصّصها للمشروع النهضوي العربي»، وصاحب كتاب «الرؤى المختلفة» سيار الجميل واحد من هؤلاء. وهو ما يمكن استخلاصه أيضا من «حوار المشرق والمغرب».
وفي نطاق «نقد العقل العربي» لا يمكن أن نتغافل عن ما قام به المفكر المغربي طه عبد الرحمن صاحب الأبحاث التجديدية والتأصيلية في مجال البحث الفلسفي. ولا يبدو غريبا أن يحتفظ هذا المفكر بمفردة «التجديد» على مستوى ثلاثة عناوين من كتبه يهمنا منها، وبالنظر لموضوعنا، كتابه «تجديد المنهج في تقويم التراث» (1994) الذي انتقد فيه منهجية محمد عابد الجابري.
ويتصور فيه أن «النظرة التجزيئية التفاضلية طغت طغيانا في التقويمات المعاصرة للتراث» (ص81)، إلا أنه يكتفي بمشرع «نقد العقل العربي» للبحث في هذا الطغيان. ومشروع الجابري يسعف على مثل هذا البحث بالنظر إلى «التأسيس النظري» الذي يدعمه، ولا نتصور أن مشروعا كان بإمكانه أن يتيح لطه عبد الرحمن ما أتاحه له مشروع الجابري. فمشروع الجابري دال على «جغرافية النص المختلف» بمعناها العام وليس بمعناه الدريدي أو الصفدي نسبة إلى مطاع صفدي. فالمشروع يحفِّز على الكتابة.
ويرى صاحب «تجديد المنهج في تقويم التراث» أن «زميله» السابق، في شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالعاصمة المغربية، يأخذ بالنظرة التجزيئية التفاضلية التي تنبني أساسا على النظرة في مضامين التراث من دون النظر في الوسائل أو الآليات الإنتاجية التي تم بها تشكيل هذه المضامين تكوينا وتطويرا وتلوينا وتوسيعا. ويشرح أن هذه النظرة قائمة على «العقلانية النظرية المجردة» و«الفكرانية التسييسية». و«التسييس»، هنا، إفراد الجانب السياسي بالقدرة على الوفاء بشروط النهضة الثقافية والحضارية (ص26). وفي مقابل ذلك يدافع صاحب «العمل الديني وتجديد العقل» عن «النظرة التكاملية» التي تنظر إلى التراث باعتباره «كلا موحدا لا جزءا مبتسرا، ووحدة متماسكة لا كثرة متداعية» (ص310). وتقوم هذه النظرة على العقلانية «العملية» أو «النافعة» كما ينعتها في «حوارات من أجل المستقبل» (صص 6 7)، مثلما تقوم على «الفكرانية التأنيسية» التي تولي أهمية للأخلاق والروح.
هذه، إذا، مجمل الأفكار التي ينتقد في ضوئها طه عبد الرحمن منهجية محمد عابد الجابري. وفي الحق تضمن كتابه أفكارا كثيرة، ونيّرة، بخصوص مشروع نقد العقل العربي يهمنا منها عدم موافقته على الأنظمة المعرفية الثلاثة التي يرى فيها «تقطيعا» (ص33). إضافة إلى ما تنطوي عليه من «تفاضل» حيث لا يرقى فيها العرفان إلى مستوى البيان، ولا يسمو فيها البيان إلى مقام البرهان، ولا ينزل الرتبة العليا في هذا المقام إلا الفكر الرشيد (ص37).
وبالجملة فإن الثابت الديني يعسكر، وبقوة، في تصور طه عبد الرحمن، ولذلك يذهب إلى أن «يكون المعيار الذي استبعد به الجابري العرفان واستضعف به البيان واستبقى به البرهان الخالص هو في نهاية المطاف، مبدأ العلمانية» (ص73). فالتراث حقيقة دينية قائمة على الوحي، وليس حقيقة تاريخية قائمة على «صيرورة الحقيقة» إذا جازت عبارة عبد الله العروي. غير أن الثابت الديني لدى طه عبد الرحمن يظل محكوما بعمق معرفي محكم ودال على تفرد صاحبه، ولعل هذا العمق ما ينتفي في منجز الكثير من الذين سعوا إلى قراءة الجابرية.
لقد أفاد الجابري من المنهجية الفلسفية المعاصرة، لكن في المنظور الذي يجعل الإفادة مقرونة بـ«التوظيف المنهجي». ذلك أن الجابري ليس من الصنف الذي يسارع نحو «الموضة المنهجية» أو «الفكرية»، هذا بالإضافة إلى أن الفكر عنده أبعد ما يكون عن «التوليف» أو «الترقيع». غير أنه سيكون من الصعب الإقرار على انتظام نقده ضمن «حفريات المعرفة»، ذلك أن ميشال فوكو يظل الغائب الأكبر في المشروع.
يحيى بن الوليد
ناقد وأكاديمي من المغرب