" الأفكار الدينية هي بالضبط العناصر الأكثر عمقا في تشكيل الذهنية الوطنية وهي تحمل في ذاتها قانون تطورها وتمتلك قدرة ضاغطة خاصة بها"[1]
ان التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تشهده المنطقة العربية يجب أن يرافقه تطور في نظرة العقل الاسلامي الى نفسه وتجديد في الرؤية الى العالم والموقف من الصراع الاجتماعي ويجب أن يشمل هذا التطور جميع المناهج والأدوات والآليات المستعملة وليس فقط الآراء والنظريات والرؤى وأن يطال البنية العميقة وليس فقط التمظهرات الخارجية.
ان انضواء القوى الاسلامية في الحراك الثوري لا ينبغي أن يتم بطريقة اعتباطية وجانبية ويؤدي الى ركوب الثورة أو الالتفاف عليها أو جني ثمراتها وقنص السلطة واحتكارها. وكلنا يعلم ما جرى للاسلام من سوء تقدير وبلاء وكوارث على من أساء فهمه وأخطأ في تطبيق تعاليمه في التجربة التاريخية وجعله في معسكر معادي للطموحات التقدمية والثورية التي تتوق اليها الشعوب المنتفضة وموالي لبعض التوجهات العولمية الاختراقية والتوسعية.
ليس صحيحا أن الاسلام لا يقوم بدور سياسي الا بطريقة غير مباشرة ورمزية وأنه يتمحور ضمن الحياة الشخصية للأفراد ويقف وراء الهوية الثقافية للمجموعات ويكتفي بالتبشير بالماوراء. ان دوره الحقيقي هو علاوة على ذلك الآن وهنا وهو دور مباشر وفعال في الحياة الاجتماعية والحراك السياسي وعليه أن يدخل المعترك ويقلع عن السجال في القوالب الجاهزة والأمور الهامشية ومسائل اللباس والمظهر والعبادات وأن يهتم بالجوهر والمسائل التشريعية والمعاملات ويفتح الطريق أمام المجتمع للخروج من المستنقع ويستنشق هواء الحرية وينطلق أفراده نحو الخلق والابداع والاقبال على العلم والتنوير والثقافة الحية.
اذا ما أراد الاسلام أن يكون منارا هاديا فيما يتعلق بالتأثير الثوري السياسي وأن يتحول الى أداة اجتماعية فعالة للانعتاق الطبقي من الاستغلال الرأسمالي والتحرر الشعبي من الهيمنة الامبريالية وجب عليه أن يصبح ثورة دائمة وأن يعمد بشكل متواصل الى عملية نقد ذاتي وأن يقيم مسارا جدليا في بيته ويتحمل صراعا بين قلاع اليمين وقوى اليسار في داخله.
" أسمي هذه الفترة فيما يخص شعورها العام أو القوى المحركة لها بأنها فترة سياسية دينية. السياسي لا ينقطع عن الديني، وهذه فكرة معروفة، لكن الأساسي هو أن يحدد المؤرخ ماهو دور السياسة ودور الدين، وكيف يقع التفاعل بينهما؟ أنا أقول ان السياسي يلعب دورا كبيرا لكن في جو وفي اطار اسلامي، في جو نفساني اسلامي حسب المرجعية اسلامية."[2]
ان الاسلام لا يدعو الى الجمود والابقاء على الأوضاع كما هي والمحافظة على الأنظمة الرجعية القائمة ولا ينصح الناس بالتأمل الرومانسي الحلم وانتظار الخلاص وانما يقطع مع مظاهر اليأس والقنوط والتشاؤم والتكلس التي تدب في النفوس وتحاصر العقول ويبحث عن الانضواء الوجودي والنظرة الحرة ويشجع التناقض والصراع والتحرك ضد الظلم والفساد واتخاذ موقف عادل من أمهات القضايا التي تحدث في الساحة ومناصرة القوى الثورية.
ان الاسلام يأبى أن يعامل الانسان المسلم أخيه غير المسلم على أنه غرض لمصلحته ومجرد آخر ووسيلة لتحقيق مآربه ويدعوه الى النظر اليه كشريك له في الانسانية ومساو في الحقوق والواجب وأن يحترم فيه الكرامة الانسانية ويبني معه النظام السياسي على أساس المواطنة.
ان الاسلام المستنير لا يكلف نفسه الدخول في نقاشات عقيمة حول ضروب الحياة الخاصة للناس والتمييز بين الايمان الفاسد والايمان النقي وانما يركز انتباهه على الحكم الرشيد والتسامح والديمقراطية وسبل العيش المشترك وتحمل مسؤولية وجود الانسان في الكوكب.
ان الاسلام المستنير اذا ادعا الأنسنة والعقلانية والديمقراطية فلأنه يرفض الوقوف في الصفوف المناهضة للتيار الثوري ويرى أن الموقف التقدمي الوحيد هو طرح على بساط البحث المشاكل العميقة للناس التي يعانيها العصر الراهن ومحاولة رصد حلول عاجلة لها.
ان الثورة الدائمة في الاسلام لا تعني نشر هذا الدين الحنيف في العالم وتبليغ رسالته الى مختلف الشعوب وانما تشير الى ديمومة الحراك الاجتماعي ومقاصدية انتفاضة الشباب وحلم الطبقات المضطهدة بعالم غير طبقي وتحول الاسلام من مسلك عقائدي طقوسي الى زخم نضالي انسي رافض للاستغلال والشمولية والارتداد العقيم نحو الماضي التليد.
ان النزعة الانسية في الاسلام هي فلسفة تسعى الى التدليل على حرية الانسان وكرامته وأنه سيد نفسه ومشرع قيمه وواهب الحياة للأشياء ويضفي المعنى على العالم الذي يعيش فيه وقادر على المباغتة والاختراع والتمرد والتجاوز والثورة على المألوف وتخطي السائد وتعدي المستهلك وتأثيث فضاء التجربة بالمختلف والفريد والمتنوع والعجيب والمدهش.
" كان الاسلام يمثل لحظة حداثة دون شك أي لحظة تغيير وتحريك لعجلة التاريخ، هذا شيء أساسي جدا لكي نفهم جوهر الحداثة انها تعني الحركة والانفجار والانطلاق. ولحظة انبثاق الخطاب القرآني كان يمثل تغيرا بل وتغيرا جذريا بالقياس الى ما قبله. وكان يمثل حركة تاريخية مندفعة بكل قوة وانطلاق على كافة الأصعدة."[3]
ألا يعمل الاسلام الحداثي في جوهره على طرد لليأس وتشجيع العمل وجلب للأمل؟ ألا يعني ذلك ربط الارادة الشعبية بالشرعية الثورية والتأليف بين الاستنارة العقلية والمصالحة مع التراث ضمن حركة تنويرية تأصيلية ودمج الحرية الانسانية في مشروع الثورة الدائمة؟
المراجع:
هشام جعيط، العقلانية العربية والمشروع الحضاري، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط 1992.
ماكس فيبر ، الأخلاق البروتستانية والروح الرأسمالية ، ترجمة معهد الانماء القومي، بيروت، 1990.
محمد أركون، الاسلام والحداثة، مجلة مواقف، عدد 59-60 1989.
كاتب فلسفي
[1] ماكس فيبر ، الأخلاق البروتستانية والروح الرأسمالية ، ترجمة معهد الانماء القومي، بيروت، 1990. ص.142.
[2] هشام جعيط، العقلانية العربية والمشروع الحضاري، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط 1992. ص.148.
[3] محمد أركون، الاسلام والحداثة، مجلة مواقف، عدد 59-60 1989.