أ-حكاية حقيقية
يروى في إحدى قرى المغرب العميق أن شخصا ذا جاه ومال، وعراقة وشرف، كان يعيش في قريته آمنا مطمئنا يحظى بمكانة عالية بين أهل القرية، يأتيه أهل القرية في كل شئ ويأخذون بمشورته ويتحدثون عن نبله وكرمه، وحينما توغل المخزن إلى تلك القرية الهادئة ازدادت شهرة صاحبنا حيث أصبح قبلة للمخزن وأعوانه يكرمهم ويعد لهم الولائم والسهرات... وبمرور الأيام تبددت ثروته، ومن حسن حظه أن سياسة الاقتراض قد امتد صداها وفتحت ذراعيها لذوي الاحتياجات، وأنقذت ماء وجه صاحبنا الكريم. نسي بسرعة ليالي ضيق ذات اليد ورجع مثل حاتم الطائي إلى عادة كرمه ينحر فرسه للمخزن وأعوانه إلى أن أفلس بالمرة ولم يجد درهما واحدا يسدد به ما اقترضه. تم الحجر عليه وصودرت أعراضه وممتلكاته واقتحم المخزن بيته وطارده في القرية. هكذا تبخست قيمة الكرم وانخدشت صورة الرجل وتعفنت سيرته وأصبح رمزا للخزي والمذلة، وعزا أهل القرية حاله إلى المخزن تارة والى سياسة الاقتراض تارة أخرى، أو إليهما معا. منذ ذلك الحين اقترنت لدى أهل القرية سياسة المخزن بسياسة الاقتراض وما يسببانه من إدانة وإهانة وصار يثير حديثهما التوجس والاشمئزاز، والضحك والسخرية... وعند الضرورة وأثناء نزول فترات القحط يتسلل أهل القرية خلسة وعلى مضض، خوفا من الفضيحة ومن سطوة المخزن، إلى مخادع الاقتراض أملا في الحصول على مبلغ من المال قد يحميهم ويشبع رغباتهم التي ما فتئت تتزايد يوما بعد يوم ويمدد لحظات انقراضهم.
ب- نبش في ذاكرة الاقتراض
كيف تولدت غريزة الاقتراض لدى الكائن البشري؟ ما الذي يدفعه إلى الاقتراض؟ ألا تشكل غريزة الاستهلاك مقدمة وسببا مباشرا للاقتراض؟ أم أن دافع الاقتراض استلزم غريزة الاستهلاك وحرص على تأجيجها مثلما أن دافع الميل إلى الأخر والفناء فيه أو الرغبة في إفنائه أديا إلى ميلاد غريزة الحب؟ وهل تقف غريزة الاقتراض عند إشباع ظمأ الطرف المقترض وإرضائه وبالمقابل تحقيق نوايا المقرض من ربح واعتزاز بالذات وريادة؟ وباعتبار الإنسان كائنا راغبا أو "آلة راغبة" هل في إمكان الاقتراض إشباع الرغبات اللامتناهية؟ لعل الحيرة تتملك كل مقدم على اقتحام البعد الغرزي في الإنسان بكونه يشكل مجال توتر وانجذاب قوى الإنسان وبؤرة علاقات اجتماعية وثقافية ويجر معه إرثا ومخيالا رمزيين.
يبدو من أول وهلة أن العلاقة الاقتراضية طرفاها متنافران ومتباينان من حيث الوضع والمقام ومن حيث الوجهة والقصد، يجسد الأول المقرض، شخصا كان أو هيئة أو منظمة....، مقام المعطي المطلوب، والمستكفي بذاته الشارط أما الثاني المقترض فيمثل وضع الآخذ الطالب، المحتاج لغيره المشروط المقيد وشتان بين المقامين. ثمة دواعي تدفع بالواحد منا طرق باب الآخر طلبا للاقتراض منه لعل أهمها خاصية الهشاشة التي تحاصر الوجود الإنساني سواء من حيث طبيعته كحالات العجز والمرض أو من حيث زمنيته وما تقتضيه من اكراهات وتحديات تاريخية تبدو موضوعية نتيجة تحولات كمية وكيفية كالتكاثر الديموغرافي والتحول التقني والتنافس الحضاري أو قيمية أخلاقية نتيجة للانحلال الخلقي. إلا أن أهم ما يميز هذا العصر هو الكيفية أو السياسة التي تم انتهاجها قصد توطين النزعة الاستهلاكية وترسيخها ليس فقط في جسد الجغرافيا وفي أرجاء الكون بل في جسد الإنسان ولغته وفكره ومخيلته مما أدى إلى مفارقة غريبة شكلت شرخا عميقا في صميم كينونة الإنسان، وتتمثل المفارقة في:
- من جهة اختراق كلي لفضاء وجود الإنسان بالسلع والأشياء والمنتوجات والمقتنيات بكيفية مقصودة ومدروسة مدججة بأحدث الآليات والتقنيات ومسندة نظريا بأقوى الخلاصات العلمية ومبررة أيديولوجيا وسياسيا بثقافة الحقوق ، كالحق في التمتع...، والمساواة، كوهم تكافؤ الفرص في التملك ومراكمة المقتنيات...(إلى درجة لا يمكن فهم مختلف الطفرات التي تحصل في علوم الاتصال والتواصليات والبيولوجيا والبيداغوجيات والسبيرنتيكا... إلا وفق المعطى السالف وضمن نفس السياق سواء من حيث شروط الإمكان والبروز والتطور أو على مستوي الاستخدام والتوظيف). وزامن هذا الاختراق استثارة محمومة لجسد الإنسان وميولاته ونزوعاته من خلال الصور والنماذج من الأمثلة النموذجية للإنسان المستهلك الناجح الملمع النجومية، قد يكون قريبا واقعيا أو بعيدا متخيلا أو متوهما، والتي لا تولد عند الراغب المقتني المقترض الرغبة في امتلاك الأشياء والموضوعات التي يتمتع بها نجمه أو نجمته فحسب بل تدفع للتشبه به والتماهي معه إلى حد التلاشي.
-من جهة ثانية وأمام صدمة المعروضات للعين واللسان الناطق والمتذوق وللأذن والتصاقها بالجسد وقربها من اليد ومغازلتها للفؤاد ومصاحبتها للإنسان في سكناته وحركاته فانه كلما سعى إلى الإمساك بها وتملكها يواجه بسلسلة من الإكراهات والموانع والإعاقات من أبرزها إعاقة الفاقة والحرمان، فمثلا هوس الحصول على جسد وعلى طراز صورة مستبطنة قد يحدث شرخا في حياة اللاهث خلفه يصل إلى الانتحار أو الموت وقس على ذلك سلم الحاجيات من أدنى حاجة إلى أعلاها رغم ما يعرفه ذلك السلم من اختلالات واضطرابات. فما أقسى وأجرم أن يحس الكائن البشري انه عاجزا وغير قادر على اقتناء ما يتمتع به غيره أو على تحصيل لقمة يسد بها رمقه أو كبشا للافتداء والتباهي أو تعليما يليق بأبنائه أو ركوب سيارة يسرق بها بصر من يحب ويرد بها الاعتبار.... خاصة أن الأمثلة والشواهد تخترقه عند كل لحظة. الإحساس بالعجز وعدم الاقتدار شكل من الإخصاء ويخلف انكسارات وشروخ تظل موشومة في الذاكرة وقد تؤدي إلى أعراض واضطرابات كالعنف والاكتئاب والانتحار الجماعي....الأمر الذي يزيد من تعميق هشاشة الكائن الإنساني ويفقده اتزانه وتوازنه وقدرته على التحكم ويتحول إلى صيد يقع بسهولة في الفخاخ التي ينصبها سماسرة الاقتراض ووكلائهم في كل مكان وبدون مقاومة أو قيد أو شرط .
ج- بين الاقتراض والانقراض
يتبين إذن بما لا يدع مجالا للتردد أن العقد الاقتراضي متهافت الأسس لا من حيث صيغته أو على مستوى شروطه أو في مضمونه ومآلاته، فالمقرض رغم ادعائه التنزه فان طي توقيعه يدس السم في العسل ويروم الإيقاع بمتعاقده وسلبه كرامته وإرادته وقدرته على الفعل وارتهانه مستقبلا وتشييئه وتلبيسه تبعات منظومته القيمية. كما أن المقترض ببصمه بالموافقة يصرح باستسلامه وباعترافه وبأنه رهن إشارة المقرض ومادام سيل لعاب رغباته يتزايد فان رباط العقد يشتد حول رقبته وتنغرس في جسده النحيل أنياب المقرض وتتسارع وتيرة انتحاره وانقراضه. يحمل العقد الاقتراضي في أحشائه بذور عهود ميثية أسطورية (يشبه العقد الذي أبرمته الآلهة مع الإنسان) ومخلفات كنسية(عقد الخلاص المبرم بين رجل الدين والإنسان العادي) وإقطاعية(العقد المبرم بين مالك الأرض ورب المعمل والعبد العامل) بكونه تتويجا وتحديثا لها. فالإنسان الراغب مافتئ يدفع ضريبة رغباته، مقابل رغبة الحياة حولته الآلهة إلى خادم في محرابها وأخضعته لأصناف الابتلاءات والاختبارات والتي قد تفوق طاقاته وإمكاناته، ومقابل الحصول على قطعة خبز استباح الإقطاعي جسده ودمه وعرضه وكرامته وتفنن في هتك عرضه، ومقابل الغفران والخلاص مسخته الكنيسة كلبا مطيعا وفيا لا يتوقف عن تحريك ذنبه معبرا عن أشكال الولاء والطاعة، ومقابل تموين ماكينة التقنية واقتناء مقتنياتها والاستفادة من خدماتها يتم الدفع بالكون والكائنات إلى مصير مأساوي محتوم لا يعرف احد منتهاه ولن يستطيع احد مواجهته أو دفعه ولا أدل على ذلك ما تعرفه القارة السوداء ونتيجة لعقد مأثوم لا تعرف عنه الأجيال الراهنة واللاحقة مصدره ولا من ابرمه ولا كيف تم برمه ومن استفاد منه سوى ما تتداوله المنابر من مديونيات تثقل كاهل شعوبها المقهورة وتجعله مشجبا تعلق عليه خسرانها ونكستها، ولا محالة أن مآلات أجزاء كبيرة من القارة السوداء آيلة للاندحار والتفسخ والانقراض مثلما تنقرض فيلها وأسودها وأشجارها وأنهارها وكل منابع الوجود فيها وان عقود الاقتراض والاستهلاك ستظل تلقي بظلالها على من سيفلت وينجو من المجاعات والقبليات والطائفيات ومختلف أشكال العصابات. لماذا هذه اللامبالاة تجاه ما تعرفه القارة السوداء؟ ربما أن القارة السوداء تمثل الوجه الأخر المخزي للإنسان الأبيض تذكره باستمرار بعقود عهود الرقيق وبتاريخ وحشيته وبالإنسان العاري وبالوجه الزائف والوعود الكاذبة لقيم الحداثة وما بعدها.