" الأفضل للإنسان ان يحكمه مبدأ الهي عادل ويجب أن يكون ذلك المبدأ في داخله ان أمكن."[1]
يُعتقد أن افلاطون هو مؤسس المثالية وأن نظريته السياسية تدرج في خانة اليوتوبيا وأفكاره هي تصورات مطلقة وغايات غير قابلة للتحقيق وبعيدة كل البعد عن عالم التجربة ولا يمكن تجسيمها في الواقع. غير أن ربط الفلسفة الأفلاطونية بالسياق الفكري والاجتماعي الذي ظهرت فيه يفند مثل هذا الاعتقاد ويعطي تأويلا آخر لها يقربها من المدينة الاغريقية ويربطها بطموحات الطبقة الصاعدة في أثينا وأسبرطة أنذاك.
وآيتنا في ذلك هو أن نظرية المثل عند افلاطون تقول بجملة من القيم والمعايير والحقائق الواقعية وتنفي أن تكون من صنع الخيال او الوهم، زد على ذلك أن أفلاطون نفسه يؤمن بالجدل الصاعد الذي يساعد العقل على بلوغ هذه المثل وبالجدل النازل الذي يدفع الناس الى معايشة هذه المعايير وتجسيمها في العالم.
هذا علاوة على نظرية المشاركة التي ترى بأن الحقائق العقلية تسكن في العالم المحسوس وأن الحقائق الحسية تدور في فلك وحدة الوجود وبالتالي هناك حركة من الواحد الى الكثرة ومن الكثرة الى الواحد.
لعل أهم كتاب تركه أفلاطون حسب القراءات المتداولة هو "الجمهورية" ولكن الجميع يتناسى عنوانه الثاني: "العدالة" على الرغم من أهميته وجدة أفكاره في كتبه السياسية الأخرى مثل النواميس والمأدبة والسياسي. ما طبيعة النظام الأنسب للمدينة حسب افلاطون؟ وكيف يعرف العدالة؟ وهل يشترط جملة من الخصال بالنسبة الى رئيس الدولة؟ وأيهم يحكم أفضل حكم من الآخرين؟
يرفض أفلاطون أن تكون العدالة هي "أن يرد للإنسان ماهو له" أي "حقه في التملك" وذلك ب"نفع الأصحاب ومضرة الأعداء"، ويرفض كذلك أن تحد بكونها "منفعة الأقوى" وبالتالي يتوقف عن "التشريع لحق للقوة". أما الأطروحة التي يدافع عنها فتتمثل في اعتبار العدالة فطرة صالحة وعلاقة متوازنة بين ملكات النفس وفضيلة سياسية بامتياز تؤدي الى الاتساق والوئام والاتحاد في العمل بين الأفراد والجماعات. كما أن العدالة "ليست أكثر ولا أقل من صدق المقال ورد ما للغير" وبالتالي هي اعطاء كل واحد ما يوافقه أو حقه. وكل انسان يحتاج الى أن يتعاون مع غيره من أجل تلبية حاجياته.
ان الاتصاف بالعدالة والعفاف هو أمر صعب وفضيلة عسيرة المرتقى ولكن الانسان العادل هو حكيم وصالح ويحيا حياة تتميز بالسعادة والبركة ، أما العدالة فهي فضيلة من فضائل النفس الى جانب العفة والحكمة والشجاعة وتعطى للمرء الكرامة والاحترام والرضا، وهي أيضا من الأشياء المرغوب فيها بالنسبة الى المدينة وتوفر لها النظام والتعاون، ولذلك فهي توجد في منطقة وسطى بين رذيلتين وتدرج ضمن الخيرات التي تطلب لنتائجها ولذاتها في نفس الوقت. وكل الفضائل هي فروع عن العدالة.
" هكذا نشأت العدالة وهي حلقة متوسطة بين الفضل وهو التعدي دون عقوبة، وبين الأردأ وهو اللانظام مع العجز عن الانتقام"[2]. كما أن العدالة هي أثبت من التعدي والظلم والغطرسة بالنسبة الى الذات وخير وأنفع للغير وبالتالي "العدالة في مرتبة أسمى الخيرات وأن امتلاكها بركة ثمينة لذاتها ولنتائجها"[3].
يميز أفلاطون بين عدالة في الفرد بين ملكات النفس وفضائلها من انفعالات وعقل ورغبة وعدالة في الدولة بين فئاتها وشرائحها من عمال وحراس وحكام. واذا كان الفدر يبتغي من العدالة الاستقلالية فإن مسؤولية الحكيم تجاه العدالة كبيرة وهو أكثر الناس حرصا على صيانتها والالتزام بها.
"فبعد اخراج الثلاث، الحكمة والشجاعة والعفاف، بقيت الرابعة، وهي تؤول الى تأصل الثلاث المذكورة في جسم الدولة وصيانتها. فهي، ولابد، العدالة. ويمكن تحديدها بأنها: التزام كل عمله الخاص، وعدم التدخل في شؤون غيره. فهي تمزج طبقات الأمة الثلاث معا. وتحفظ كلا منها في مركزها."[4]
لكن بماذا يتميز حاكم المدينة العادلة؟ ومنهم أفضل الحكام؟ وكيف تكون العدالة هي باب السلامة والحياة؟
" غرض العادل الخاص حفظ التلاؤم بين الظاهر والباطن وهو الذي يفرغ نفسه في قالب الجمهورية الكاملة ولاشك توجد في السماء ان لم يكن على الأرض."[5]
الحاكم العادل هو الذي يتم انتخابه واختياره ويخضع الى تهذيب موسيقي وتربية رياضية ويمتلك صفات فطرية على القيادة والمزايا الجسدية والعقلية ولكنه يحسن النضال ويتميز بالشجاعة واقتحام الأخطار ومتربصا بالعداء وقوي الشكيمة وتجتمع فيه الوداعة والحماسة والرقة والشدة. "فالحاكم الكفوء في عرفنا الذي تعد مواهبه بميسره نحو الكمال، فلسفي النزعة، عظيم الحماسة، سريع التنفيذ، شديد المراس."[6]
الحاكم العادل هو الذي يمتلك اقتناعا داخليا بضرورة أن يفعل ماهو أفضل لمصلحة الدولة وأن يتصف بالحرص والعناية بنفع الوطن وتوفير القوة التنفيذية لقراراتهم وبلوغ درجة الاتقان والانجاز في الحكم.
لماذا ربط أفلاطون عدالة الجمهورية ومتانة الدولة وسعادتها بصعود الفلاسفة الى الحكم؟
"لا يمكن زوال تعاسة الدول وشقاء النوع الانساني ما لم يملك الفلاسفة او يتفلسف الملوك والحكام فلسفة صحيحة تامة."[7] وهذا لن يحصل الا باتحاد القوة السياسية والقوة الفلسفية في شخص واحد بغية حصول الفرد والدولة على السعادة ومساهمة ابداء الرأي الفردي في صناعة الرأي العام. ان طلب الفلسفة هو حق طبيعي لهؤلاء الناس وأن يتقلدوا زمام الحكم."[8] والسبب هو تميز الفلاسفة الحكام من حكمة وصدق.
أن أفضل الحكام هم الأكثر قدرة على تسيير شؤون الناس وعلى ادارة أمور الدولة العادلة. وبالتالي " يجب أن يكون الحاكم منذ الحداثة حرا من هذا الاختبار ( اكتشاف زلات الآخرين بقياسهم على نفسه) بمعزل عن عوامل الشر والفساد اذا أريد أن يتصف بالكمال الفائق ويحسن رعاية العدالة."[9]
ولكن ألا ترتبط الجمهورية العادلة بأحكام الدستور الجيد؟ وماهي القيم التي يجب أن يتضمنها الدستور الملائم لحياة الموطنين في المدينة العادلة؟ وهل الحكم العادل يقوم بالوراثة أم حسب الجدارة؟
يجب أن يتضمن دستور المدينة الالتزام بقيم الشجاعة والبطولة بالنسبة الى الأفراد والانتصار على الموت بالتشبث بالحياة و واحترام حرية النفس باعتبارها اساس العظمة وركن الرجولة وقول الحق والتحلي الصدق والابتعاد على التضليل والكذب واشتراكية المال وتوزيع الثروة بالعدل على الناس وتفضيل المصلحة العامة كغاية للنظام السياسي والقانوني للجمهورية والاحتكام الى الخطاب والقول الفصل والتريث في شن الحروب والنظر الى الحاكم على مجرد انسان يخطئ ويصيب ويمكن استبداله والتشجيع على تربية الرجل الصالح والايمان بالاختصاص في كل مهنة أو فن وتقديس الانسجام والتصميم والاتزان والتخلق بالجمال والحب والحق ووضع العقل في منزلة مرموقة على مستوى المعرفة والوجود.
لقد بَيَّنَ أفلاطون أنه" اذا أريد انتظام الدولة أفضل انتظام وجب تقرير... شيوعية المناصب في حالتي السلم والحرب وان يكون الملوك ممن اظهر اعظم مكانة في الفلسفة وأشد ميل الى الحرب."[10]
أن الحكومات الدنيا التي يظهر فيها الانسان الفاسد ويعم فيها الجهل والحماقة والدجل والعنف هي الأوليغاركية والاستبداد والتيموكراسية والديموقراطية، وان الحكومة الأرستقراطية هي الدولة الكاملة التي يظهر فيها الانسان العادل الصالح. غني عن البيان أن" الذين تفاقم شَرَّهم وفقدوا العدالة والإنصاف كل الفقد يستحيل عليهم التعاون والاتفاق"[11].
من المعلوم أن الفقراء هم الذين يشكلون النظام الديمقراطي حسب أفلاطون عندما يفوزون في ثورتهم ويتخلصون من خصومهم ويتفقون من بقية شرائح المجتمع على اقتسام الحقوق والمناصب بالتساوي ويحتكمون الى الاقتراع. ويعترف بأنها أجمل الأنظمة بقوله:" قد يكون هذا النظام أجمل النظم، لأنه مزخرف بكل أنواع السجايا فيلوح جميلا...وقد يعجب الكثيرون بهذه الجمهورية كأجمل الأشياء."[12]
غير أن الاباحة التي تحرص عليها الحكومة الديمقراطية وتعطشها الى الحرية تدفع الناس الى التنصل من القوانين وعدم الخضوع الى الحكومة والوقوع في الفوضى عندما تعامل جميع الناس بالمساواة.
ان عظمة الدول تقوم على نبل وسمو المبادئ التي تتأسس عليها وان المدينة المزدهرة هي المدينة المحكومة بفطنة وعلى شاكلة كتلة واحدة منقسمة والمعتنية بحياة سكانها وأغراضهم والمحكمة الاتصال وقوية الاعالة والتهذيب والتنظيم. وبالتالي" ما دامت المدينة محافظة على وحدتها فلا بأس في نموها."[13]
ان العدالة لا تتمثل في اقتصار الانسان على ما يخصه والتمتع به بل أن يلوذ كل المواطنون بما تميل اليه فطرتهم ، أي القانون الذي وضع في بدء تأسيس الدولة. كما الفرد العادل لا يختلف عن الدولة العادلة طالما أن الفرد هو نموذج مصغر عن الدولة والدولة هي الفرد الانساني مكبرا. وبالتالي الدولة شخص كبير والفرد دولة صغيرة. من هذا المنطلق " اذا تقيد كل منهم بعمله الخاص المنوط به، معرضا عما لا يعنيه، في دائرة الصناعة والحرب والحكم، فذلك التصرف عدالة وبه تكون المدينة عادلة."[14]
لكن الاشكال الذي تركه قائما وسيحاول أرسطو تفاديه هو:
ماهو الدور الذي يلعبه العقل في تدبير مصالح النفس ؟ وكيف أعطى أفلاطون الحكم للقوة الذهنية؟ وألا تمثل عدالة أفلاطون عدالة اللامساواة والتفاوت حسب كارل ماركس؟ وأليست جمهورية المدينة هي دكتاتورية المجتمع المغلق حسب نقد كارل بوبر؟ لماذا اعتبر أفلاطون الديمقراطية الشكل السيء من الحياة السياسية ورأى في الحرية التي امتازت بها هي تهيئة للطريق نحو الاستبداد؟ وما معنى وضعه للمشرعين على رأس الدولة في كتاب السياسي مكان الفلاسفة الحكام؟
المرجع:
أفلاطون، الجمهورية، ترجمة حنا خباز، دار القلم، بيروت، لبنان، دون تاريخ.
كاتب فلسفي
[1] أفلاطون، الجمهورية، ترجمة حنا خباز، دار القلم، بيروت، ص.259.
[2] أفلاطون، الجمهورية، ص.45.
[3] أفلاطون، الجمهورية، ص.53.
[4] أفلاطون، الجمهورية، ص.111.
[5] أفلاطون، الجمهورية، ص.259.
[6] أفلاطون، الجمهورية، ص.64.
[7] أفلاطون، الجمهورية، ص.169.
[8] أفلاطون، الجمهورية، ص.169.
[9] أفلاطون، الجمهورية، ص.101.
[10] أفلاطون، الجمهورية، ص.229.
[11] أفلاطون، الجمهورية، ص.39.
[12] أفلاطون، الجمهورية، ص.243.
[13] أفلاطون، الجمهورية، ص.116.
[14] أفلاطون، الجمهورية، ص.129.