* س:بداية نريد أن نعرف من هو محمد الأشهب؟
ج:أنا من مواليد سنة 1972 بتاونات تابعت دراستي الابتدائية بقرية عين اجنان ، أما المرحلة الإعدادية كانت ببني وليد ، بعد ذلك التحقت بثانوية الوحدة بتاونات المركز حيث حصلت على شهادة الباكالوريا ثم بعد ذلك التحقت بجامعة سيدي محمد بن عبد الله التي تابعت بها دراستي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ، تخصص شعبة الفلسفة ، علم الاجتماع ،علم النفس، حتى حصلت على شهادة الدكتوراه الوطنية في الفلسفة في موضوع " مذهب التواصل في الفلسفة النقدية ليورغن هابر ماس" 2008. قبل التحاقي بالجامعة السنة الماضية سبق لي أن كنت مدرسا لمادة الفلسفة بالتعليم الثانوي لمدة ثلاثة عشر سنة. وقد كانت تجربة غنية بالنسبة لي على المستوى البيداغوجي بالرغم من الصعوبات المتعلقة بالتوفيق بين البحث و التدريس بالثانوي. أما حاليا فأنا أشتغل بجامع بن زهر بأغادير كأستاذ مساعد لمادة الفلسفة في شعبتي الآداب العربي و علم الاجتماع. و في نفس الوقت لازلت أتابع دراستي في الفصل الثالث شعبة الأدب الألماني بكلية الآداب بفاس .من أهم اهتماماتي الفلسفية : الفلسفة العملية الأخلاقية و الفلسفة السياسية و خاصة الفلسفة الألمانية المعاصرة. وقد جاء اهتمامي بهذا المجال نظرا لغياب متخصصين بالفلسفة الألمانية خاصة المعاصرة منها، و طموحي هو أن أكون أحد المتخصصين في هذا المجال وذلك من خلال الاشتغال بشكل مباشر على النص الألماني. فأنا لست مقتنعا بأن أكون متخصصا في هيدجر أو هابرماس دون العودة إلى النص الأصلي و هذا عيب لدى العديد من الباحثين في المغرب و العالم العربي،فمن المستحيل أن تجد مثلا متخصصا ألمانيا في الفلسفة الفرنسية وهو لايتقن اللغة الفرنسية و العكس صحيح. بينما هذه القاعدة عندنا شبه ثابتة في المغرب . فالمتخصص في هيدجر لا يعرف الألمانية و الباحث في الفلسفة الأمريكية ناذرا ما يتقن اللغة الانجليزية.
* س:باعتبارك من الباحثين المتخصصين في فلسفة هابر ماس ، نتساءل معك عن دوافع هذا الاهتمام من جهة، و ماذا يمكنك أن تقوله لنا باختصار حول فلسفته من جهة أخرى؟
ج:بالنسبة للشطر الأول يمكن القول أن الجواب عنه يجرني للحديث عن مساري الدراسي . فاهتمامي بالفلسفة المعاصرة لم يبدأ فقط مع إعدادي لشهادة الدكتوراه الوطنية التي اشتغلت فيها حول المتن الفلسفي ليورغن هابر ماس ، بل يعود اهتمامي بها إلى مرحلة الإجازة . فالبحث الذي أنجزته في هذه الفترة كان حول " إبستمي الحداثة لدى مشيل فوكو" و الذي أشرف علية الأستاذ المحترم عبد الحميد المرسلي جازاه الله خيرا و أطال الله في عمره. بعد هذه المرحلة أعددت أيضا بحثا للتخرج بالمدرسة العليا للأساتذة بمكناس سنة 1996 وكان حول السؤال الفلسفي و الذي كان فيه حضور مهم للفلسفة المعاصرة . في الفترة اللاحقة أعددت بحثا أخر لنيل شهادة دبلوم الدراسات العليا المعمقة حول موضوع " سؤال الحداثة في الفلسفة المعاصرة: نموذجا مشيل فوكو و يورغن هابر ماس" و الذي اشرف علية الدكتور عز العرب لحكيم بناني و ذلك سنة 2001 . و قد كان هذا البحث تتمة لبحث الإجازة إذ قمت بمقارنة بين تصور فوكو للحداثة الذي كنت مطلعا عليه و معجبا به و أيضا تصور هابر ماس الذي لم أكن اعرف عنه سوى القليل نظرا لغياب المراجع الفلسفية حول هابرماس في تلك الفترة . و قد كان فضولي المعرفي هو أن أتعرف على جوهر الخلاف الذي كان بين هابر ماس و فوكو بخصوص تصورهما للحداثة . و بالفعل تمكنت بعد إنجازي لهذا البحث من الاقتناع بأن الاختلاف بين مشروع فوكو النقدي للحداثة الذي ينطلق من نقد جذري للحداثة ينبني على أساس تصور ما بعد الحداثة الذي يجد جذوره في فلسفة هيدجر و نتشه ،و تصور هابرمس النقدي للحداثة الذي ينطلق من التراث الكانطي دون القطع معه وعيا منه بأن الحداثة مشروع غير مكتمل. و بالتالي فنقد الحداثة عنده يتأسس على رؤية تهدف إلى إبراز سلبيات الحداثة مع تقويم اعوجاجها، و من هنا جاء نقد هابرماس لما أسماه بالعقل الأداتي و تعويضه بالعقل التواصلي بديلا له. و في هذا الإطار انتقد هابرماس رواد الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت : هوركهايمر ، أدورنو،ماركوزه .. و أيضا رواد ما بعد الحداثة : هيدجر ، فوكو، دريدا، ليوطارونيتشه...
بعد هذا العمل المتواضع الذي قمت به و الذي شجعني عليه أستاذ ي عز العرب لحكيم بناني بدأت أبتعد شيئا ما عن ذلك الحماس الذي كان لدي تجاه مشيل فوكو و بدأت أميل أكثر إلى مشروع هابرماس الذي بدا لي أكثر عقلانية و ملاءمة لواقعنا التقليدي الذي لم يلج الحداثة بعد . في المقابل قل اهتمامي بفلسفة فوكو النقدية للعقلانية التي تميل إلى النقد الجذري للعقل . و بحكم مجتمعاتنا لم تدخل بعد عهد الحداثة أعتقدت و لا زلت أعتقد أن تصور هابرماس اقرب لواقعنا من تصور فوكو . خاصة و أن هابرماس يعتبر أن لكل عصر حداثته مادام أن كل عصر يمكنه من بناء معاييره اعتمادا على عقل تواصلي يسمج للجميع بالمشاركة في الفضاء العمومي .و بناء على هذه القناعة الفلسفية التي خلصت لها بدأت أفكر في مواصلة الاشتغال حول المتن الفلسفي لهابرماس . و بعد استشارة الأستاذ عز العرب لحكيم بناني شجعني على ذالك و اتفقنا على موضوع " مذهب التواصل في الفلسفة النقدية ليورغن هابرماس". وهنا و جدت نفسي أمام هذا النص المتشعب، أي أمام فيلسوف أسميته في إحدى مقالاتي بالفيلسوف الخرائطي. و قد استغرقت في انجاز هذه الرسالة حوالي سبع سنوات إذ نلت بها شهادة الدكتوراه سنة 2008 . و في الوقت الذي كنت أعد هذه الرسالة نشرت مقالات و ترجمات حول هابرماس و كتيب للجيب تحت عنوان " الفلسفة و السياسة عند هابرماس" و هو الكتيب الذي لقي نجاحا كبيرا إذ بيعت منه حوالي 10000 نسخة في بلد يقال إن الكتاب فيها لا يسوق .
إن هذه النظرة البانورامية تبين أن اهتماماتي بالفلسفة المعاصرة ترجع إلى فترة مبكرة و أنا لازلت أواصل هذا الاهتمام . فحاليا أنا عضو بمجموعة فلسفة الحق السياسي و الأخلاقي التي يشرف عليها الأستاذ محمد المصباحي و اغلب الندوات التي تعقد تدور حول الفلسفة المعاصرة و قضاياها و قد شاركت في ندوتين الأولى حول " فلسفة الحق عند هابرماس " و الثانية حول " الحق في العدالة" . و قد كانت مساهمتي في الندوة الأولى حول فلسفة الحق في نظرية الفعل التواصلي و هي متوفرة في ملف متكامل ، أما الثانية كانت مداخلتي منصبة على المقارنة بين تصوري هابرماس و جون رولز بخصوص العدالة السياسية . فأنا شخصيا من خلال هابرماس استطعت أن اطلع على العديد من الفلاسفة المعاصرين لأن مجمل كتابات هابرماس هي عبارة عن حوارات و مراجعات للفلاسفة السابقين له أو الذين عاصروه وهذه إحدى الصعوبات التي تواجه قراء المتن الفلسفي لهابرماس ،إذ يفترض في القارئ الاطلاع على هذه النصوص التي يحاورها حتى يتمكن من معرفة الأطروحة التي يدافع عنها.
أما بخصوص الشطر الثاني المتعلق بفلسفة هابرماس فالمجال لايتسع هنا للحديث عن فلسفة هابرماس. ولكن لتقريب القارئ من هذا الهرم الفلسفي للقرن العشرين و الواحد و العشرين . يمكن القول إن هابرماس هو صاحب نظرية في الحداثة التي تنطلق من مكتسبات العقل الكانطي الحديث من جهة و من مكتسبات العقل النقدي للرواد النظرية النقدية. فهابرماس يعد ممثلا للجيل الثاني للنظرية النقدية إلى جانب زميله كار اتو أبل. و هابرماس يتميز في فلسفته العملية بالابتعاد عن العقل الترنسدنتالي، كما أدمج المقاربة التداولية في فلسفته التواصلية .و في هذا الإطار كانت استفادته من المنعطف اللغوي في فلسفة اللغة المعاصرة و العقل التأويلي مع غادمير، كما أنه أدمج العلوم الاجتماعية في فلسفته لاكتشاف ما أسماه بأمراض المجتمع الحديث .ما يميزه أيضا هو اهتمامه الكبير بالفلسفة الأخلاقية و السياسية و فلسفة الدين خاصة في كتاباته المتأخرة ما بعد انهيار المعسكر الشرقي. فكتاب " الحق و الديمقراطية بين المعايير و الوقائع" يعد أهم إنجاز في الفلسفة السياسية المعاصرة بعد كتاب "نظرية العدالة " لجون رولز. و هو الكتاب الذي قدم فيه هابرماس نظريته في دولة الحق و القانون الديمقراطية التي تقوم على مايسميه هاربرماس ببرادايم الديمقراطية التشاوريةDeliberative Demokratie هذا البرادا يم الذي يقوم على المشاركة الفعالة للمواطن في الفضاء العمومي من أجل تشكيل الإرادة السياسية و المساهمة في اتخاذ القرار.وهذا البراديم الذي ينادي به هابرماس له ارتباط وثيق بالمجتمع المدني الفاعل، كما أنه يشكل بديلا للديمقراطية التمثيلية التي أبانت عن حدود تمثيلها للمواطن و دفاعها عن المصلحه العامة ، كما أبانت أيضا عن عجزها في تدبير الشأن العام بطريقة ناجعة تجعل الموطن دائما في صلب العملية السياسية و الديمقراطية.
* س: بالرغم من هذه الأهمية لماذا لانجد له حضورا قويا في الساحة المغربية مثلما هو الأمر بالنسبة لفلاسفة الاختلاف.أمثال فوكو ودريدا ؟
ج:هذا سؤال مهم. فانا شخصيا لم أسمع بالفيلسوف هابرماس في بدابة التسعينات حينما كنت بالجامعة و لم يسبق لأي أستاذ أن درسه لنا في الجامعة في هذه الفترة . فالمكتبة الفلسفية في المغرب و العالم العربي لم يكن فيها سوى كتاب واحد حول هابرما س بالعربية الذي أصدره الباحث نورالدين أفاية و هو في الأصل رسالة لنيل شهادة دبلوم الدراسات العليا,، و للأسف أن هذا الباحث لم يواصل بحثه في هذا الفيلسوف فيما بعد .فهذا الحضور الباهت لفلسفة هابرماس كان يقابله حضورا قويا لفلسفة فوكو و دريدا . و أعتقد أن عامل اللغة يعد عاملا حاسما في هذا الإطار. فأعمال هابرماس نفسها لم تكن مترجمة إلى العربية ، بل إلى الفرنسية نفسها لم تترجم إلا بشكل متأخر. أضف إلى هذا أن الباحثين في الفلسفة المتمكنين من اللغة الألمانية لايتجاوز أصابع اليد في المغرب. وهذا ما يجعل الباحث المغربي ينتظر دائما الترجمة الفرنسية للنصوص الفلسفية الألمانية، و هذه إحدى المعيقات الرئيسية في نظري في عدم مواكبة ما يجري في الساحة الفلسفية في العالم الألماني والأنجلوساكسوني عموما. فالفرانكفونية تشكل إحدى العوائق في هذا الباب. و عليه أناشد شخصيا الشباب الباحث اليوم أن يهتم بلغات أخرى، و أن يفك الارتباط بهذه الوسيلة لأنها وحدها غير كافية لمتابعة ما ينشر في مجال الفلسفة في البلدان الأخرى .
و بحكم أن فلسفة فوكو و دريدا مكتوبتين باللغة الفرنسية و أن مجمل الباحثين في المغرب تابع دراسته في فرنسا، فمن الطبيعي أن تجد حضورا قويا للفلسفة الفرنسية على حساب التقاليد الفلسفية الأخرى . و هذا لا ينطبق فقط على الفلسفة الألمانية التي ينتمي لها هابرماس ، بل ينطبق أيضا على الفلسفة المكتوبة باللغة الإنجليزية . قل مثلا هل هناك كتاب واحد بالعربية تعرفه حول ا الفلاسفة الأمريكيين أمثال جون رولز، رتشارد رورتي،مايكل ساندل، ماك اينتر،دووركين،فرايزر،ديوي.لا أخفيك أنني أعرف صديقا أعد بحثا لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة بجامعة فاس حول فيلسوف أمريكي و باللغة الانجليزية مع العلم أنه لاينتمي لشعبة الأدب الإنجليزي . أليست هذه مهزلة علمية في نظرك.لو كنت أنا مشرفا لرفضت تاطير هذا البحث ، لأنه لن يضيف أي شيء يذكر للحقل الفلسفي المغربي ، كما أن عملا مثل هذا لن يضيف شيئا للأمريكي . أنا شخصيا أعتبر عملا مثل هذا احتقارا للغة العربية.
أعتقد أنه قد حان الوقت للانفتاح على مرجعيات فلسفية أخرى لإغناء الحقل الفلسفي المغربي و العربي عوض الاكتفاء بالمرجعية الفرنسية التي ندعو للاهتمام بها دون أن نرهن أنفسنا بها. فلا يمكن تصور تطور للفكر الفلسفي دون عملية الترجمة و خاصة الترجمة عن الأصل , وهذا ما لم يتم لحد الآن بخصوص نصوص هابرماس. باستثناء بعض الأعمال المترجمة عن الألمانية ، مع تحفظى على بعضها، لأن ترجمتها تمت على يد مترجمين غير متخصصين أصلا في الفلسفة .إن بعض هذه الترجمات التي أنجزت من الأحسن عدم قراءتها و أخص بالذكر كتاب " القول الفلسفي للحداثة" الذي تعد ترجمته كارثية بكل معاني الكلمة.أعتقد أن ترجمة هابرماس أو أي فيلسوف من حجمه ،ليست مسالة هواية، بل ترجمة مثل هذه الأعمال تحتاج إلى تخصص في الفيلسوف قبل الشروع في ترجمته. فلا يكفي أن تكون متمكنا من الألمانية لترجمة نص هابرماس ، بل المطلوب الإحاطة الشاملة بفلسفته و بالمرجعيات الفلسفية التي ينطلق منها، ونفس الأمر ينطبق على هيدغر و هوسرل.وبصدد هذا الأخير أعطيك مثالا واضحا، خذ الترجمة الرائعة التي أنجزها الأستاذ إسماعيل المصدق لكتاب" أزمة العلوم الأوربية و الفنومنولوجيا لترنسندنتالية" لهوسرل الصادر عن المنظمة العربية للترجمة ، وهو كتاب ضخم استغرق في ترجمته أربع سنوات ،هذا مع العلم أن الأستاذ مصدق من أهم المتخصصين في العالم العربي بهوسرل انطلاقا من النص الألماني.
أعتقد أن عامل الترجمة ساهم بشكل كبير في غياب النص الهابرماسي عن الساحة الفلسفية المغربية و العربية عموما . فلا أخفيك انه في فترة إعدادي لشهادة الدكتوراه كنت مضطرا للعودة إلى المراجع الإنجليزية ،لأن ما كتب حول هابر ماس بهذه اللغة يعد بالمئات، بينما ما كتب حوله بالفرنسية يعد على رؤوس الأصابع ،أما بالعربية فكادت تنعدم مراجع تعرف بفلسفته.
*س: لقد أشرت إلى ترجمة بعض أعمال هابرماس الفلسفية ، و لاشك أنك تقصد " التقنية و العلم كإديولوجيا " "و المعرفة و المصلحة" و" مستقبل الطبيعة الانسانية" ،لكن الملاحظ أن كتبه الرئيسية لم تترجم بعد مثل " تحول بنية الفضاء العمومي" و "نظرية الفعل التواصلي" في جزأين و " الحق و الديمقراطية" . لماذا في نظركم هذا التأخير في ترجمة هذه الأعمال؟
ج:أعيد القول أن ما ترجم لهابرماس لم يترجم لحد الآن من طرف متخصصين في فلسفته ،و أنا أعرف كل ما ترجم لحد الآن و أعرف حتى سيرة المترجمين . فباستثناء العمل الذي ترجمه الباحث لبناني جورج كتورة " مستقبل الطبيعة الإنسانية " و الذي ترجمه عن الألمانية و هي ترجمة جيدة، و مقالات أخرى ترجمها نفس الباحث و نشرها تحت عنوان " الخطاب الفلسفي للحداثة'" و هو بالمناسبة ليس عنوانا لأي من كتب هابرماس. ما عدا هذا فإن ما ترجم يحتاج إلى إعادة الترجمة من جديد . أما بخصوص الأعمال الرئيسية فهذه مهمتنا نحن، و أعدك بأنني سأقدم شيئا من هذا مستقبلا إنشاء الله . فشخصيا أرى أن كتاب " الحق و الديمقراطية " أهم كتاب لهابر ماس يجب أن يترجم في الوقت الراهن ، وليس" نظرية الفعل التواصلي " و ذلك نظرا لأطروحته المتميزة في الفلسفة السياسية المعاصرة ،و لراهنيتها في ظل التحولات التي يعرفها العام العربي حاليا.
* س: كما تعرف فقدت الساحة العربية والمغربية الكثير من رموز البحث الجامعي في مجال الفلسفة : محمد عابد الجابري ، محمد أركون،فؤاد زكرياء،عبد الرحمان بدوي ،لكن هناك من الباحثين الشباب من يحاول أن يكمل المسير، وهل من تفاؤل بمستقبل البحث الفلسفي ؟
ج:صحيح أن لكل عصر أجياله . أنا شخصيا لست متشائما ، ولكن ما ألاحظه هو أن كل باحث من هؤلاء لم يترك خلفا ليتابع المشوار من بعده، لأن هناك غياب لبحث فلسفي ممأسس في عالمنا العربي . أعطيك مثالا من الضفة الأخرى . خذ مثلا مدرسة فرانكفورت. فهذه المدرسة الفلسفية العريقة تأسست سنة 1923 في إطار "معهد البحث السوسيولوجي"Institut für Soziale Forschung ". و هي مدرسة فلسفية نقدية تستلهم أسسها من الفلسفة الاجتماعية ،تعاقب عليها مجوعة من الأجيال . فقد أخذ المشعل في البداية كل من هوركهايمر ، ادورنو، ماركوزه ،و إرنست بلوخ ، أو ما يسمى بالجيل الأول. و هو الجيل الذي كان ينطلق من الرجعية الماركسية لمقاربة القضايا الاجتماعية . وقد عانى هذا الجيل من ويلات الحرب العالمية الثانية ومضايقة النازية ،إذ تم نقل المعهد إلى الولايات المتحدة الأمريكية . و قد واصل هذا المشروع ما يعرف بالجيل الثاني مع هابرماس و اتو أبل . وحاليا نتحدث عن الجيل الثالث للمدرسة مع أكسيل هونث مدير المعهد و زملائه.هذا المعهد الذي لازال قائم الوجود إلى يومنا هذا بجامعة غوته بفرانكفورت . ومنه اتخذت اسم مدرسة فرانكفورت النقدية. و ما ينطبق على هذا النموذج نجده في جميع التيارات و المذاهب الفلسفية. هذا النوع من التقليد للأسف غائب في عالمنا العربي .و لهذا فالشباب الباحث إذا لم يؤطر في إطار مؤسسات من هذا النوع ،و التي يكون لها مشروع للبحث طويل الأمد، فلن يمكننا من تخطي هذه الوضعية.وستظل المجهودات الفردية وحدها غير كافية لمواصلة ما بدأه السلف.
· س: هناك الكثير من مراكز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ، في المقابل لانجد مراكز مختصة في الفلسفة . إلى ما ذا تعزو في نظرك هذا الغياب ؟
ج:أعتقد أن حتى مراكز البحث في العلوم الاجتماعية قليلة و تعد على رؤوس الأصابع و هذا راجع إلى نظرة القائمين على الشأن العام إلى العلوم الاجتماعية باعتبارها علوما مزعجة على حد تعبير بيير بورديو .و إذا رجعنا إلى الوراء شيئا ما ، فأنت تعرف أن الدولة أغلقت معهد البحث السوسيولوجي ، و هو بالناسبة لا زال مغلقا مع العلم أن مبررات إغلاقه لم تعد قائمة. لا شك أن إغلاقه كان له تأثير على تطور البحث السوسيولوجي بالمغرب. فالعلوم الاجتماعية من مهامها تعرية المجتمع و كشف تناقضاته. فعالم الاجتماع هو طبيب المجتمع الذي يشخص أمراضه بطريقة علمية و موضوعية في أفق اقتراح العلاج الملائم لها.وهذا ما كانت ترفضه الدولة خاصة ي فترة السبعينيات و الثمانينيات .أما الآن فاعتقد انه لم يعد هناك من مبرر للاستمرار في التشبث بهذه النظرة المتجاوزة ، لأن مساهمة السوسيولوجي يمكن أن تكون لها فائدة على الدولة و المجتمع في الآن نفسه. و لهذا حان الوقت لتشجيع الأبحاث الاجتماعية و الإنسانية عموما ودعمها لإيجاد حلول للعديد من الظواهر التي تواجه مجتمعنا . فإذا كان هذا هو واقع العلوم الاجتماعية، فان واقع الفلسفة أسوء بكثير، فلا وجود إطلاقا لمعاهد و مؤسسات البحث الفلسفي كما نجد في أوربا و أمريكا باستثناء بعض المراكز الموجودة في الكليات و التي لم تستطع أن تقدم الشئ الكثير مثل "مركز الدراسات الرشدية" بكلية الآداب بفاس الذي يعيش حاليا في مرحلة الاحتضار بعد وفاة المرحومين جمال الدين العلوي و محمد ألوزاد . فالبحث الفلسفي لازال مهمة فردية يقوم بها الباحث لوحده في عزلة تامة. فما حققه المرحوم محمد عابد الجابري يرجع إلى مجهوده الشخصي و هذا هو السبب الذي جعلنا الآن نفتقد لمدرسة فلسفية تكمل ما شرع فيه الجابري و الشيء نفسه سينطبق على عبد الله العروي وطه عبد الرحمان....
صحيح أنه اليوم بدأت تظهر بعض مجوعات البحث في بعض التخصصات الفسلفية، و لكن هذا غير كاف . و ما ينطبق على المغرب نجده في جل الدول لعربية ، بل بعض هذه الدول لاتدرس أصلا الفلسفة ،فبالأحرى أن توجد بها مراكز للبحث الفلسفي . فنظرة الدولة في العالم العربي إلى الفلسفة و العلوم الاجتماعية النقدية لا زالت نظرة مشوبة بالحيطة والحذر . و لهذا أعتقد أن تطور الفكر الفلسفي رهين بمأسسته من جهة، ارتباطه بحضور الفكر الديمقراطي في مجتمع يؤمن بحرية التعبير والتفكير. و مادام هذا الأمر لم يحدث بعد فإن على المهتم بالفلسفة أن يضاعف مجوداته حتى يغير من واقع حال الفلسفة .
محمد الأشهب: أستاذ الفلسفة بجامعة بن زهر بأغادير