في المُلتقى العالمي للفلسفة الذي عُقِد بمدينة اسطنبول، ألقى الفيلسوف الإيطالي جانّي فاتيمو (Gianni Vattimo)، مُحاضرة بعنوان استفزازي (كلام فاتيمو) "هايدغر فيلسوف الديموقراطية". وللتدليل على ديمقراطية هايدغر فإنه أجرى مقارنة بين أفكار شيخ الليبرالية كارل پوپر (Karl Popper)، من خلال كتابه "المجتمع المنفتح وأعداؤه"، وبين أطروحات هايدغر انطلاقا من محاضرته "نهاية الفلسفة ومُهمّة الفكر".
وقد اعترف فاتيمو، منذ البداية، بأن الجَمع بين مفكر مثل كارل پوپر مشهور بتعصّبه للنظام الّليبرالي، وبين فيلسوف كاره للديمقراطية مثل مارتن هايدغر هو من الخلف بمكان « خصوصا وأن هايدغر لا يَبدو، طبعا، مفكرا ميّالا إلى الديمقراطية».
أين يَكمُن التوافق بين پوپر وهايدغر؟ يقول فاتيمو بأن « الأسباب التي حرّكت پوپر لمناهضة أفلاطون هي نفسها، وبالأساس، الأسباب التي حرّكت هايدغر في صراعه ضدّ الميتافيزيقا». فاتيمو يعترف، مرة أخرى، بأنه يُفكّر في صُلب المفارقات ويلتجئ إلى ما أسماه بالعنف التأويلي (violenza ermeneutica)، وهذا العنف التأويلي مُتأتٍّ، أساسا، من تقريبه بين مصطلحات ومفاهيم تبدو، للوهلة الأولى، بعيدة كلّ البعد عن بعضها: مثل عبارة پوپر "مجتمع منفتح" بـ"حدث" (Ereignis) الهايدغارية. ولطمأنة القارئ الرّيبي يقول: « إننا لا نخون أغراض پوپر ولا هايدغر، على الرغم من أنه لا أحد منهما يقبل بهذا العنف التأويلي الطفيف».
فاتيمو يؤيّد موقف پوپر من أفلاطون حينما اعتبره أحد الأعداء الخطرين للمجتمع المنفتح، ذلك لأنّ أفلاطون، كما بيّن ذلك پوپر، لديه « تصوّر مَاهَوي للعالم (concezione essenzialista del mondo)». وطبقا لهذه النظرة فإن كلّ ما هو واقعي يَخضع لقانون مُعطَى كبنية ثابتة للوجود، وبالتالي فإن المجتمع ذاته عليه أن يَنصاع إلى ذاك التصوّر الماهوي. وبما أن الفلاسفة فقط هم الذين يَستطيعون تَعقّل ذاك النظام الدائم للأشياء، فإن مُهمّة قيادة المجتمع تعود إليهم بالدرجة الأولى. هذه المهمّة التي يزعمها الفلاسفة ـ اليوم العلماء وأصحاب الإختصاص ـ مرتبطة وثيق الإرتباط بالإقتناع المبدئي التالي: ألا وهو أنّ بالنسبة للفرد والمجتمع ينبغي عليهما أن يتطابقا دائما مع نظام مُعطى موضوعيا يَصلح أيضا كمِعيَار (Norma) أخلاقي؛ الوحيد الممكن. فاتيمو، على لسان پوپر، يُمعن في المفارقات والإستفزاز، يقول بأن هناك مبدأ محوريا في الحقل السياسي ـ التشريعي مفاده أن « "السلطة، وليست الحقيقة، هي التي تسنّ القوانين" (auctoritas non veritas facit legem)»، هذا المبدأ ـ يُضيف فاتيمو « كان دائما عُرضة للنقد العقلاني ذي النفس الميتافيزيقي». فالعقلانيون، حسب هذا الطرح، يتعاملون مع أمور السياسة بذهنية علمية، راغبين في التوصل إلى حقائق نهائية وادراك الأشياء كما هي في ذاتها. لكن، حسب أطروحة فاتيمو، هذا هو الخطأ الأكبر الذي يداهم الممارسة السياسية، ذلك لأنه « كُلّما أولِجَ مطلب الحقيقة في السياسة، إلاّ وبرز أخطر أنواع التسلّط (الاستبداد autoritarismo)، أي الإنغلاق الذي حذّر منه پوپر».
2 - الحقيقة والسلطة في المجتمع المنفتح:
أطروحة پوپر ـ فاتيمو التي ترى أن السلطة وليست الحقيقة هي مبدأ التشريع، مقبولة إلى حدّ ما. فعلا، لا أحد ينكر، مبدئيّا، أن السلطة الشرعية هي التي تسنّ القوانين، والأمر يَنبغي أن يكون كذلك. لكن السلطة ليست هي بالإرادة العمياء التي لا همّ لها سوى الحفاظ على سيادتها وإعادة إنتاج ذاتها باستعمال كل الوسائل حتى اللاأخلاقية منها. بل يجب أن تكون محكومة بالعقل ومُقيّدة بمبادئ العدل والحقّ. المبدأ الذي أشاد به فاتيمو، إن أخذ على حرفيته، يؤدي فعلا إلى عكس النتائج التي يود الوصول إليها، لأنه يبرّر الأمر الواقع، ولا يعترف إلاّ بالأقوى وبالتالي فهو يَصلح كذريعة لكلّ الأنظمة الشمولية الدكتاتورية التي لا ترى نفسها مُجبَرة على التقيّد بمعايير الحقيقة والحكمة.
أمّا بخصوص أفلاطون، فما كتبه پوپر هو كاريكتور أفلاطون، لقد أصبح النقد العشوائي لهذا الفيلسوف شبيها بالرياضة الروحية التي يتعاطاه الكثير من المفكرين المعاصرين. وبسبب هذا المنحى الجدالي فإن التطاول عليه أخذ يتجذر في أذهان المفكرين بجميع مشاربهم، وأصبح أفلاطون حجر عثرة يجب إزاحتها قبل أي تنظير سياسي. لكن، في حقيقة الأمر، پوپر سقط في نفس تلك الشناعات التي نسبها إلى أفلاطون، ويكفي تتبّع مساره الفكري، ورصد مواقفه السياسية كي نتحقق من ذلك.
الحصيلة السلبية لكل أعمال أفلاطون يَرسمها في كتاب "المجتمع المنفتح وأعداؤه" على هذا النّحو: « لقد رفض سقراط الاخلال باكتماله الشخصي. لكن أفلاطون، مع كل صرامة تنظيفه للواجهة، كان مدفوعا نحو طريق أخلّت باكتماله في كل خطوة أقدم عليها. كان مدفوعا نحو التهجم على الفكر الحرّ والتوصّل إلى الحقيقة؛ دَافَع عن الكذب، المعجزات السياسية، المحرّمات، انتزاع الحقيقة، وفي النهاية، العنف الشرس. ورغم تحذير سقراط من كره البشر وكره العقلانية، فإن أفلاطون كان عديم الثقة بالإنسان ويهاب البرهان العقلاني. وعلى الرغم من كرهه للطغيان، كان مدفوعا لرؤية الطغيان كمساعد ممكن والدفاع عن الاجراءات الأكثر طغيانا ».
كل هذه السلبيات التي لفّقها على كاهل أفلاطون حاضرة في پوپر سواء من خلال سيرته الذاتية أو من جهة تنظيره الفكري السياسي: اكتماله الشخصي أصابه الخلل في كثير من جوانبه سواء بتناقضاته أو بولاءاته السياسية المشكوك في نزاهتها؛ تهجّم على المثقفين اليساريين المخالفين لنهجه السياسي؛ رفَضَ أن يكون العلم مُوصلا إلى أية حقيقة ثابتة؛ المعجزات السياسية يؤمن بها أكثر من أي فيلسوف آخر، أعني الليبرالية الشرسة واقتصاديات السوق؛ أما الدفاع عن الكذب فيمكن إرجاع هذه التهمة عليه لأنه أنكر أبسط الحقائق العلمية التي أثبتت التلازم السببي بين التصنيع والتلوث البيئي؛ لديه نوع من كره للبشرية، أعني عنفا تجاه كل من يتجرّأ على نقد أفكاره أو رَفضَ الانزواء تحت راية الليبرالية الاستعمارية؛ يَهاب البرهان العقلاني لأنه أنكر أن تكون نظرية التكذيب خاضعة هي بدورها للتكذيب؛ أخيرا إذا أبدلنا كلمة الطغيان، التي اتهم بها أفلاطون، بكلمة حرب، فإننا سنحصل على صورة قريبة جدّا من مواقفه إزاء السياسة العالمية وحروب أمريكا: على الرغم من كرهه للحرب، كان مدفوعا لرؤية الحرب كمساعد ممكن والدفاع عن الاجراءات الأكثر حربية.
ليس هذا فقط بل إن في نفس الكتاب، الذي اعتُبر مانيفستو الليبرالية وإدانة، بدون رجعة، للطغيان والتقوقع المنافيان للإنفتاح الديمقراطي، فإن پوپر يصدمنا بقناعته النّخبوية، وبتأكيده على وجود أفراد لهم ميزات عالية ترفعهم على مستوى الناس العاديّين. ولا يُغنِي عنه شيئا القول بأن هؤلاء الرجال الخارقين للعادة لا ينبغي عليهم أن يُطالبوا بامتيازات سياسية خاصة: « أودّ أن أعبّر عن اقتناعي بأن السموّ الشخصي، سواء كان عرقيا أو فكريا أو أخلاقيا أو تربويا، لا يمكن أبدا أن يُبَرِّر مطلب امتيازات سياسية، حتى وإن كان ذاك العلوّ شيئا متحقّقا». فعلا تلك النخبوية هي شيء معاين في الواقع على الرغم من أن « الكثير من الناس اليوم في البلدان المتحضرة يُسلّمون بأن العلوّ العرقي هو أسطورة». پوپر لا ينقض هذه الأسطورة ولا يودّ معارضتها على الرغم من أن الكتاب نشر في سنة 1942 حيث كانت تعتمل في صلب ذاك العالم الذي أسماه بـ"العالم المتحضّر" جدّا، أفكارا عنصرية تُروّج لفكرة علوّ العرق الآري والمطالبة بحقه في ريادة العالم. پوپر يَكتفي بالقول بأن ذاك السموّ، حتى وإن افترضنا أنه أمر متحقق على أرض الواقع، فهو لا يُحتّم امتيازات سياسية خاصة. ماذا يحتم إذن؟ « مسؤوليات أخلاقية مُناطة بأصحاب الرّفعة. ونفس هذا الخطاب يُقال على أولئك الذين يَتسامون ذهنيا، أخلاقيا وتعليميا». أما الرأي النقيض، أي رأي الذين يُنكرون أي نوع من أنواع التفاضل بين الناس، ويحاولون التمسّك بمبدإ المساواة اللامشروط فإن پوپر، كعادته في سلاطة اللسان، يتهجّم عليهم قائلا: « أعتقد أن الادعاءات المخالفة، لبعض المثقفين والأخلاقيين لا تبرهن إلاّ على نقصان الجدّية في تعليمهم، نظرا لأن [تعليمهم] لم يُمكّنهم من الوعي بمَحدوديتهم ونفاقهم (فِرّيسيّتهم)». هذا الصنف من الردود تعجّ بها كُتبه ومقالاته طوال حياته الفكرية.
پوپر لا يلتقي مع هايدغر في التمسّك بأسس الديمقراطية، بل في العداء للعلوم الصحيحة وللعقلانية الوضعية. لقد أثنى على نفسه مدّعيا بأن الفضل في قطع رأس فلسفة الوضعية المنطقية لمجموعة فيينا، يعود إليه هو بالذات. لكن الكثير من مؤرخي الفلسفة شكوا في هذه المعلومة؛ فمعارضته لمجموعة فيينا لم تكن من الجدّة والتفرّد بحيث أنها تستحق هذه الإشادة الذاتية. ومجمل نقده كان مركّزا على منهج الاستقراء، وهو الركن الأساسي في منهجية الإكتشاف العلمي. انتقاداتها للإستقراء أفضت به إلى معارضة أي رأي يقول بإمكانية التوصل إلى حقائق علمية ثابتة، وفي هذا الشأن فإن پوپر، كما قدّمتُ أعلاه، سقط في نفس الشناعة التي لفقها على كاهل أفلاطون: « أنا أستخدم عبارة الجوهرانية المنهجية لوصف التصوّر، الذي اعتمده أفلاطون والعديد من أتباعه، من أن مهمّة المعرفة المحضة أو "العلم" هي اكتشاف وإدراك الطبيعة الحقيقية للأشياء، يعني واقعها الصميمي أو ماهيتها». قد يكون هذا هو النص المحوري الذي اعتمده فاتيمو في تحليله أعلاه، وهو في حقيقة الأمر يُصوّر ابستيمولوجيا پوپر الريبية: ابستيمولوجيا ليست فيها يقينيات البتة، وخالية من مطلب الحقيقة. لقد اعترف هو نفسه بهذا المنعرج الريبي المدمّر وقال: « ثمة اتهام آخر كثيرا ما يُوجّه ضدي...أعني اتهامي بأنني ارتيابي»، لكنه لم يفعل شيئا لدحضه، هذا إن لم يعمل على ترسيخه بقوّة. الديناميكية العلمية، لا تسير بحسب نمط تراكمي، بل هي سلسلة لا متناهية من التكذيبات المُتتالية، إلى درجة أن تاريخ العلم يغدو كما قال جيمس وارد (J. Ward) « مَقبَرة نظريات علمية». ليس هناك يقينيات البتّة وإنما توجد مشاكل مطروحة للحل لا نخلص منها إلاّ إلى مشاكل أخرى وهكذا دواليك: « العلم يبدأ بمشاكل ذات علاقة بتفسير سلوك بعض جوانب العالم أو الكون. الفرضيات القابلة للتكذيب يقترحها العالم من حيث هي تُقدّم حلولا للمشكل. وبعد ذلك يتمّ نقد التنبؤات واختبارها. فسرعان ما يتم اقصاء بعضها بينما يبدو البعض الآخر أكثر نفعا. وهذه الأخيرة ينبغي اخضاعها لنقد أكثر صرامة ولاختبارات. وعندما يتم تكذيب فرضية اجتازت بنجاح جهازا من الاختبارات الصارمة، يظهر مشكل يُؤمَّل فيه أن يكون بعيدا جدّا عن المشكل الأصلي الذي تمّ حلّه. وهذا المشكل الجديد يؤدي إلى صياغة فرضيات جديدة يتلوها النقد والتجريب مجدّدا. ولا يُمكن أبدا أن نقول عن نظرية بأنها صادقة حتى وإن اجتازت، ظافرة، اختبارات صعبة. إنما يمكن أن نقول، دون أن نجانب الصواب، بأن نظرية حالية تتفوّق على النظريات التي سبقتها، بمعنى أنها تستطيع مواجهة الاختبارات التي كذبت تلك التي سبقتها».
لقد صرح پوپر، وأعاد تصريحه في العديد من مؤلفاته، بأنه استمد قناعته المعارِضَة لما أسماه بالجوهرانية المنهجية من مطالعته العميقة لكتب الفيلسوف الألماني عمانويل كانط، ومفادها أن القوانين العلمية التي يكتشفها العالم ليس لها وجود في الواقع الخارجي وإنما هي مجرّد إسقاطات لقوالب ذهنية إنسانية على الطبيعة، ولا تكشف فعلا عن الأشياء في ذاتها.
پوپر يُعارض ما أسماه بالجوهرانية المنهجية، أي تلك النظرية التي ترى أن مهمّة النشاط العلمي هي الكشف عن ماهيات الأشياء ووصْفِها عن طريق تعريفات ثابتة، بنظرية أخرى في الطرف النقيض منها، أي بما دعاه "الإسمية المنهجية": « عوضا عن إرادة اكتشاف ماهية الأشياء الواقعيّة وتعريف طبيعتها الحقيقية، الاسمية المنهجية تضع هدفها في وصف كيفية تصرّف شيء ما في ظروف مختلفة، وخصوصا، معرفة هل هناك انتظام في تصرّفه. بعبارة أخرى، الاسمية المنهجية ترى أن مهمّة العلم هي توفير وصف للأشياء والحوادث التي تقع تحت تجربتنا واعطاء "تفسير" لتلك الحوادث، يعني رسمهما بمساعدة قوانين كلية. وهي تعتمد على نظام لغتنا، وخصوصا على القواعد اللغوية التي تميّز الجُمَل وتبيّن الاستنباطات المستَخرَجة بدقة من مجرد كومة بسيطة من الكلمات، من حيث أنها الوسيلة الكبرى للتفسير العلمي؛ فالكلمات طبقا لهذا الطرح تغدو وسائل مساعدة مرتبطة بهذه المهمة، عوضا عن أن تكون أسماء ماهيات».
إذن، عوضا عن الأحداث العينية ومحاولة استقرائها عن طريق الملاحظة والتجربة للوصول إلى حقائق علمية ثابتة، الباحث عليه أن يكتفي فقط بالوصف التقريبي مستخدما الكلمات المُجمَع عليها، لأن النظريات العلمية هي مجرد اصطناعات اعتباطية مفروضة من طرف الذاوات العارفة ومحدودة بنظرتهم للعالم، وهي على كل حال نظريات في طريقها إلى التكذيب، وإن لم تكن قابلة منذ البداية للدحض والتفنيد فهي ليست بنظريات علمية: مجرد استيهامات خارجة عن مجال العلم، وبالتالي فهي إيديولوجيا مثل الماركسية أوالتحليل النفسي.
إن هذه العدمية النظرية التي اخترقت تفكيره وغدت عنده كقناعة ثابتة غير قابلة للدحض، أدت به إلى التشكيك في مطلب الحقيقة العلمية، الشيء الذي استفز حذاق القوم من العلماء الذين يباشرون بالفعل دراسة الظواهر الطبيعة واكتشاف قاونينها. وهنا أقدم شهادة/اعترافا للعالم الكبير شرودنغر (Schrِdinger) تضرب في العمق ادعاءاته العلمية، وتبيّن أن الرجل لم يحز حتى في المجال الفلسفي على مصادقتهم. في رسالة بعث بها فايرباند (Feyerabend) إلى لاكاتوس (Lakatos) سنة 1974 قال له فيها: « أنتَ تقول بأن السيد كارل پوپر همّش إشكالية هيوم. هذا بالضبط ما قاله شرودنغر وكنتُ حاضرا حينما قاله. إنها حكاية جدّ مُهمّة. كارل كان يرغب في إهداء الطبعة الإنجليزية من "منطق الاكتشاف العلمي" إلى شرودنغر، وقد أعطاه الكتاب كي يقرأه وكان يريد بفارغ الصبر أن يعرف رأيه فيه. كارل كان جالسا في رواق الـ(Bِglerhof) يرتجف من الجزع، شرودنغر كان مُعكّر المزاج، جالسا في مطعم آخر بـ(Alpbach) [فقال لي]: " پوپر هذا! يعطيني كتابه المشوّش ويريد مني أن أمنحه الرخصة كي يضع اسمي على أول الصفحة. يقول بأنه توصل إلى نتائج بخصوص إشكالية هيوم؛ لكن ليس صحيحا، يُثرثر، يثرثر، يثرثر وكفى، وإشكالية هيوم دائما غير محلولة"».
پوپر لم يكتف بتبني تلك العدمية لنفسه، بل إنه نسبها أيضا إلى الفلاسفة اليونانيين القدامى وقرأ على ضوئها تاريخ الفلسفة برمّته. ثم كعادتها، فإنه تحيّز إلى الجانب الذي يوافق مساره الفكري ويتماشى وخياره اللاعقلاني. لقد أعجبه من سقراط خطابه الذي جاء في "الدفاع" حيث يقول: « الحقيقة هي أن الإله وحده هو الحكيم، وأنه يقصد بإجابته أن يبيّن أن الحكمة الإنسانية قليلة أو معدومة القيمة. عندما تكلّم عن سقراط، فقد استعمل اسمي على سبيل المثال، كما لو أنه قال " إن أحكمكم هو مَن، مثل سقراط، يعلم أنه بالمقارنة مع الحكمة الحقيقية، فإن حكمتكم لا قيمة لها». أو الأخرى التي أوّل فيها قولة العرافة بأن سقراط أعلم من الآخرين لأنه "يعرف أنه لا يعرف".
لكن هذا القول لا يُبرهن على أن صاحبه يَتبنّى مواقف ريبية تامّة، لأن سقراط يَعلَم الكثير من الأشياء ومتيقن منها، أو على الأقلّ مُتيقن من نجاعتها العملية. المثال المضادّ لپوپر يُمكن استمداده من أقوال سقراط الصريحة، حسب ما أورده عنه أفلاطون في محاورات الشباب، حيث يتبنّى هذه الحقيقة الأولية التي شيّد عليها كل فلسفته: الفضيلة هي العلم. ما كان لسقراط أن يتفوّه بهذا القول وأن يَصمد على فكرته هذه لو أنه فعلا تشبث بمدإ "أنا لا أعرف شيئا، أو لستُ متيقنا من شيء". فعلا، لو لم يكن لديه يقين تام بأن العلم يساوي الفضيلة وبأن هذه الفكرة تُعبّر عن حقيقة أوليّة لأصبحت حياته برمتها كارثة: بما أنه جاهل فهو فاقد للفضيلة، وبالتالي فإنه فاقد لأسباب السعادة. كيف يمكن لسقراط ، إذن، أن يكون مقتنعا بامتلاك كليهما (الفضيلة والسعادة) وهو لا يعرف شيئا في هذه الدنيا؟
أنا متأكد من أن سقراط ليس هو بالصورة العدمية التي رسمها له پوپر، فهو على الأقل يمتلك حدّا أدنى من اليقينيات التي لم يَتخلّ عنها طوال حياته، والبعض منها كان محدّدا في مسار حياته الفكرية والعملية، مثل اقتناعه الشديد من أنه لا يعرف الأشياء الغيبية، ولكنه بالمقابل فهو يملك معرفة إيجابية مبنية عن قناعة صادقة، ومفادها أن: « الجور والتمرّد على مَن هو أفضل منّي، إن كان إلاها أو إنسانا، هو أمر خبيث وشرّير (الدفاع، 29ب 6 ـ 7)». وكما يُعلّق فلاسطوس (Vlastos) أحد إختصاصيي الفلسفة القديمة: « هذا المقطع فقط، منظور إليه في جوهره، قد يكون كافيا للبرهنة على أن سقراط يَنسب لنفسه مَعرفةَ حقيقةٍ أخلاقيةٍ ما». لكن پوپر افتتن بالأطروحة النقيض، أي باعتراف سقراط بالجهل، على الرغم من أن الفيلسوف اليوناني اعتبر حالة من هذا القبيل منبعا للشرّ في الإنسان، وحائلا دونه ودون تحقيق الفضيلة ونيل السعادة.
لقد جعل پوپر من هذه الأطروحات التشكيكية في قدرة الإنسان المعرفية محور فلسفته، وسنرى كيف أنها أنقذته، في نهاية المطاف، من مفاراقات عَمَلية وسياسية رهيبة. فعلا، حسب رأيه: « حَدسُ سقراط حول لا معرفتنا ... له معنى عظيم». ولكن أوّل مَن همّش فلسفته وخرج عن طاعته، هو تلميذه أفلاطون الذي « تَخلّى عن أطروحة سقراط حول عدم معرفتنا وضرورة التحلّي بالتواضع الفكري، الذي نصح به سقراط. فسواء بالنسبة لسقراط أو أفلاطون، كلاهما يفترضان في رجل السياسة أن يكون حكيما؛ لكن "حكيما" يعني لكل منهما شيئا مختلفا للغاية. فحكيم بالنسبة لسقراط يعني أن رجل الدولة يجب أن يكون واعيا بلامعرفته؛ بالنسبة لأفلاطون يجب أن يَتمَرّن بعمق وبأعلى درجة: يجب أن يكون فيلسوفا متمرسا».
إذن، الكل يُرَدّ إلى مواقف شخصية، والنصيحة هي ضرورة التحلي بروح التواضع في ادّعاء المعرفة. فنظرية العلم، بالنسبة لپوپر، لا ينبغي أن تتموقع في حقل النظر المتفائل، أي تلك التي تزعم قدرة الإنسان على معرفة العالم، ولا هي من باب التشاؤم، أي عدم إمكانية المعرفة إطلاقا؛ مثاله الابستيمولوجي يكمن بين الطرفين، ولكنه منحاز إلى الجانب الريبي التشاؤمي أكثر منه إلى الجانب المتفائل. لقد عبّر عنه، حسب زعمه، فيلسوف يوناني عاش منذ ألفين وخمسمائة عام، وهو كسينوفان الذي قال: لا نملك أي معيار للحقيقة، أية معرفة أكيدة؛ ومع ذلك نستطيع البحث، وبمُرور الزمن يمكننا أن نعثر على ما هو أفضل.
كما يلاحظ القارئ، پوپر يتفادى ذكر كلمة الحقيقة بمعناها الإيجابي؛ لا يقول بأن بعد البحث نحصل بالفعل على حقيقة ما، بل على ما هو أفضل، ولا ندري أفضل من ماذا، وهل هناك معيار موضوعي نقيس به الأفضلية. من الواضح، كما يقول أحد الفلاسفة الإيطاليين، أن باتّباع منهج بحث من هذا القبيل « فإنه لا مكان اطلاقا حتى لفكرة الوصول إلى "اكتشاف" يَخلص إلى معرفة علمية».
لستُ أدري ماذا تُقدّم هذه الابستيمولوجيا من مواساة للباحث، وهل أنها تبثّ في العارف روح الفضول النظري والإقدام على دراسة الطبيعة إن وَضَع في ذهنه مسبقا، أنه متعذر عليه الحصول على حقيقة ثابتة. البديل الوحيد الذي يمكن تقديمه على أنقاض القناعات العلمية، هو الاعتباط الشخصي، أو على أحسن حال التخمين الذي لا يصل إلى نتيجة نهائية. منطوقات الملاحظة، أو ما يمكن تسميته بالقاعدة الامبيريقية التي يُبنى على أساسها أي تنظير علمي، هي نفسها يعتريها الاعتباط « إن قبولنا للمنطوقات الأساسية يترتب عن قرار أو اتفاق، وبهذا الاعتبار تكون هذه المنطوقات مواضعات». وهذه الصفة التي يضفيها على العلم قد شدّت انتباه النقاد الذين رأوا فيها نوعا من التناقض مع المقدمات. يقول شالمرز: « إن الاهتمام الذي يُوليه پوپر لقرارات الأفراد الواعية، لَيَحمِل عنصرا ذاتيا في تضادّ مع الصفة اللاحقة التي سيخصّ بها العلم واصفا إياه بأنه: "فعل من غير فاعل"».
رغم كل الضمانات التي حاول تقديمها، فإن نتائج الاكتشافات العلمية، بالنسبة لپوپر تبقى، على كل حال، نسبية بل إن العلم ذاته هو بناء وهمي بلا قرار: « إن القاعدة الاختبارية للعلم الموضوعي لا تشتمل، إذن، على أي شيء مطلق. فالعلم لا يقوم على قاعدة صخرية صلبة. فالبنية الجريئة لنظرياته قائمة، إن شئنا، على مستنقع. إن العلم كالبناء المشيّد على أوتاد؛ والأوتاد مغروزة في مستنقع، دون أن يصل انغرازها إلى حدّ اتصالها بقاعدة طبيعية ما، أو "بمعطى" ما. وإذا كنّا نكف عن غرزها أكثر، فليس لأننا مقتنعون بأنها من الثبات بحيث تستطيع حمل البناء مؤقتا على الأقلّ».
لكن، من وجهة نظر تاريخية، هذه الأطروحة تمسّكت بها كل التيارات المؤمنة من الفلاسفة المسيحيين في عصر انتشار الفلسفة الوضعية التي سادت القرن التاسع عشر. لقد حاولوا التصدي للحقائق العلمية ومعاندة الروح الوضعية المصاحبة لها، لانقاذ التعاليم الدينية وتأمين ترسانتها الأسطورية من الاندثار النهائي. فتحصّنوا وراء هذه السفسطة، وهي أن العلم لا يملك أي أساس موضوعي، وقوانينه لا تنفذ إلى جوهر الأشياء. ويكفي الاطلاع على أطروحات معاصريه من أمثال بوانكاريه (Poincaré)، ميلهو (Milhaud)، دوهيم (Duhem) برغسون وغيرهم حتى نتأكد من ذلك. لقد تفطّن آنذاك الفلاسفة العلمانيون إلى البعد الجدالي الديني من أطروحات أولئك المفكرين، وجابهوهم على الأرضية النظرية أوّلا، فالعَمَلية ثانيا. وقد انصبّ نقدهم على تصوراتهم للنشاط العلمي، خصوصا الفيزيائي حينما أدخلوا فيه عنصر المواضعة، واختزلوه إلى مجرّد انشاءات حرة لنسق رياضي منسجم لا علاقة له بالواقع الطبيعي. فهذا دوهيم مثلا يقول بأن: « في الفيزياء من المستحيل ومن غير المُجدي لنا معرفة التكوين الحقيقي للمادة. نحن نحاول فقط انشاء نسق مجرد يعطينا صورة عن خاصيات الجسم». لقد أشار آبل راي (Abel Rey) في مراجعته النقدية لأفكار دوهيم أن تعريفاته للطاقة، لكمية الحرارة، للتغيرات الديناميكية، مُقدَّمة من قِبَلِه « كما لو أنها مواضعات مُنزّلة اعتباطيا من طرف الذهن، دون أن يرجع هذا الأخير إلى التجربة». فمصادرات الديناميكية الحرارية، مبدأ حفظ الطاقة، ومصادرة كارنو (Carnot) أدخلها في تصوراته الفيزيائية كما لو أنها مُستنتَجة تحليليا من هذه المواضعات العامة. المصادرات والتعريفات تنتظم على شكل سلسلة من المعادلات الرياضية ولكن دوهيم، كما يعترض ناقده « لا يُقدّم أبدا ـ ويجب التأكيد على هذا، فهو القاعدة ذاتها للتصوّر العلمي بالنسبة لعالِمِنا هذا ـ التعبيرات الرياضية التي يقترحها على أنها تفترض كمّيات واقعيّة مُستمَدّة من طبيعة الأشياء، كضرورات مفروضة من بنية الموضوع». العلم الحقيقي يتردّى إلى قوالب رياضية فارغة أو، كما وصفها راي (Rey)، أصبح مجموعة من الإطارات ذات الأحجام المختلفة لِلَوحات يَضعُها الرسّام على جهة، ريثما يُصوّرها في وقت لاحق. إنه أمر غريب أن تؤول مُجمل القوانين الفيزيائية والنظريات العلمية إلى شكلانية فارغة دون أن تأخذ بعين الاعتبار التجربة والواقع الخارجي. فنظرة دوهيم للنشاط العلمي تتنزل في إطار استحداث قوالب صورية يلعب فيها الاعتباط الدور الرئيسي، بل هو مركزها ونقطة تمفصل عناصرها: « المَسلَك المُتّبَع يعتمد فقط على المواضعة، والمواضعة تعتمد على اختيار العالِم». لقد وجد الرجل نفسه في مأزق لأنه قال بأن هذا الإعتباط الذي يلف الفرضيات الأولية لا يعني السقوط في التناقض، إنه اعتباط عقلاني، دون خلف ودون معضلات. لكن الاعتباط موقعه في نقطة البداية؛ في رأس النسق، من حيث الاختيار الحرّ؛ فقط بعد الانتهاء من انشاء النسق ذي المقدمات الاعتباطية يُسمح بمقارنة النتائج بالتجربة. إنها مجرد شكلانية رياضية "formalisme mathématique"، هذا هو النعت المناسب لنظريات دوهيم، شكلانية انحدرت إلى مستوى لعبة رموز رياضية خالية من أي مضمون تجريبي. لكن دوهيم يزعم بأن في نهاية هذه العملية، يتم الرجوع إلى الواقع العيني للتحقق، قدر الإمكان، من مدى اقتراب النسق الرياضي المجرد منه. الاعتراض هو: ما المغزى من استحداث شبكة اعتباطية من الرموز المجردة تضاعف مجهود العالم عوضا أن يكتفي بالمرجعية التجريبية؟
قاعدة التكذيب التي استحدثها پوپر هي خلف لا يفيد في شيء: فعلا لقد أنزل هذه القاعدة المابعدية على تاريخ العلم، بصورة غير مشروعة، بحيث أنه سقط في دور منطقي وخلف زمني. لا يمكن للنظريات أن تُكَذب بكيفية مُقنِعة، لأن منطوقات الملاحظة التي تشكّل قاعدة التكذيب، يُمكن أن تغدو هي نفسها خاطئة في مرحلة تالية. فالمعرفة السائدة في عهد كوبرنيك، لا تسمح بنقد وتكذيب استقرار الأبعاد الظاهرية لكوكبي المريخ والزهرة، ولذلك، فإن التكذيبات المُقنِعة « لا يمكن أن توجد، لكون قاعدة الملاحظة المضمونة التي تتوقف عليها، غائبة». ولو كانت صادقة أطروحة پوپر في التكذيب، لتخلى العلماء منذ الوهلة الأولى عن حساب التفاضل والتكامل في الرياضيات، إثر النقد المدمّر الذي وجهه إليه باركلي، ولتخلوا أيضا عن نظرية نيوتن، لكونها لا تستطيع تفسير ظاهرة تزحزح مسار كوكب عطارد. بل لو كان التطوّر العلمي يسير طبقا لقواعد بوبر لَما كتب الفيزيائي بُوهر (Bohr) مقاله لسنة 1913، نظرا لأن خلاصته مبنية على النظرية الكهرومغناطيسية لماكسويل. النتيجة التي نستطيع استخلاصها من تاريخ العلم تَذهب رأسا ضدّ مبدأ التكذيب، وهي أنه يُمكن لأي نظرية علمية ما، أن تكون، دائما، في مأمن من التكذيب، وذلك بتحريف اتجاه التكذيب نحو جزء آخر مختلف تماما من أجزاء عقدة مركّبة من الفرضيات.
التكذيب محال، كما قال لاكاتوس (Lakatos): فهو اصطناعُ أنساق اعتباطيّة على شكل أَسِرّة بروكوست لإرغام الواقع وتطويعه. إنه صيغة جديدة من التحالف المقدّس بين اللاعقلانية البراغماتية لجيمس (James) وإرادوية برغسون، حتى وإن راوغ صاحبه وأراد الجمع بين الأداتوية، أو المواضعة، وبين ضرورة التجريب. في نسق من هذا القبيل، وكما بينّا من قبل بخصوص مواضعية دوهيم، التجريب لا يلعب أي دور حاسم، فالعامل الأول والأخير هو الإرادة والاعتباط الحرّ. هذه الأطروحة تُجمّع في ذاتها كلّ العناصر الايديولوجية التي تقف عليها التيارات اللاعقلانية في الفلسفة الفرنسية، وپوپر تبنّى خلاصتها، ويَعرضها علينا كما لو أنه أتى بالشيء الجديد. لم يحدس الأمر على حقيقته آنذاك إلاّ راسل الذي لخّص نقده للتيار اللاعقلاني، بقوله إنه بقدر ما تَصعد الإرادة في سلّم القيم بقدر ما تنزل المعرفة. هذه، حسب رأيه، هي أبرز التغيّرات التي طالت طبيعة الفلسفة في وقتنا الحالي.
منطق الكشف العلمي، كما قلت سابقا، يَغيب فيه مطلب الحقيقة، فمعيار الفصل بين العلم واللاعلم الذي زعم تقديمه ، يبدو، كما وصفه لاكاتوس، أفقر من كل المعايير السابقة. فمعظم العلماء منذ القديم يرون أن غاية العلم هي معرفة نظام الكون، وكل اكتشاف جديد هو لبنة تُوضَع في صرح المعرفة، وخطوة موصلة إلى الهدف أي امتلاك معرفة حقيقية بالعالم. لكن ـ يتساءل لاكاتوس ـ« ما هو هدف "لعبة العلم" عند پوپر؟» لعبة العلم، كما هو معروف من منهج الاستقراء، مرتبطة شديد الارتباط بالهدف المعرفي وتابعة له. إلاّ أن « في فلسفة پوپر هذا الرباط يبدو أنه قد قُطِع. فقواعد اللعبة، والمناهج، تَسِير إلى الأمام بِأرجُلها؛ لكن هذه الأرجُل تتأرجَح في الفراغ دون سند فلسفي». لقد حلّ معضلة الفصل بين العلم واللاعلم بضرب منهج الاستقراء، مدّعيا أن اللعبة، لعبة العلم، خالية من أي هدف؛ فهي لعبة مكتفية بذاتها، بحيث عوّض الطموح الحقيقي الذي يصبو إلى غرض معرفي ما، بمجرّد الأمل في أن تكون الأشياء على هذه الشاكلة.
المؤكد جدّا هو أن هذا الرجل يرفض، بل يُدين بشدّة العقلانية المكتفية بذاتها، ويقول بالحرف إن « اللاعقلانية هي منطقيا أرقى من العقلانية اللانقدية»، ولقد توصّل إلى هذه النتيجة عن طريق حفنة من السّفسطة، مُقدّما صورة خيالية لعقلاني لا وجود له في الواقع، أي عقلاني دوغمائي يرفض مناقشة آرائه أو مراجعتها وتفنيدها. ليس من الصعب جدّا تحطيم نموذج إنسان من هذا القبيل، لأنه معدوم الوجود ولا يعدو أن يكون مجرد وَهمٍ مُختلق كلّه.
والغريب في الأمر أن پوپر يعمد في كثير من الأحيان إلى هذه التقنية دون التفطّن للخلف الثاوي وراءها: أعني نقض كيانات مصطنعة من محض خياله، مثل نقضه لنموذج التاريخانية الخاوية، كما هي خاوية النماذج المثالية التي قال عنها ماكس فيبر بأنها مجرد طوباوية. السؤال، هو هل من المناسب أو من المجدي علميا، أن يشقى أحدهم للبرهنة على بؤس شيء طوباوي، شيء لا مكان له في العالم؟ ليس هناك من حالة ملائمة وصالحة، كتلك التي يُقدِم فيها شخص ما على دحض أشياء لا وجود لها. لكن الرجل حتى في هذا الشأن ومع كل التناقضات فإنه لم يفلح ـ كما حدث له مع أفلاطون ـ وسقط في نفس الفخ الذي أراد الخروج منه: لقد رفض أن تكون كتابة التاريخ لها زاوية مبجّلة تُرصد من خلالها موضوعية الأحداث، لأن العامل الشخصي واختلاف وجهات النظر الذاتية متكافئة، وبالتالي لا يمكن دحضها أو تفضيل إحداها على الأخرى بسبب درجة اقناعها. الخيارات المنهجية تعود، في نهاية المطاف، إلى محض إرادة الباحث وإلى رغبته الشخصية في إضفاء التاريخ معنى يختاره هو نفسه. لكن « أليست مفارقة هذه النتيجة (Ma non è paradossale questa conclusione?)» ـ يصرخ أحد المُفكّرين الإيطاليين ـ « أليست مفارقة أن نقدا للتاريخانية، وبالتحديد في أكمل أشكال تطوّرها التي يريد پوپر أن يعرضها، تؤول إلى واحدة من أكثر الأطروحات كلاسيكية للتاريخانية، أي النسبيّة المنهجية؟».
3 ـ نقاط الإلتقاء بين الفيلسوفين:
لقد أسقط پوپر نظرته العدمية هذه على مسار الفلسفة اليونانية، كما قلتُ سابقا، وقرأ تاريخيها على أساس أنه تراجع عن البذرة الأولى التي زرعها الفلاسفة السابقون لسقراط. وفي هذا المجال يلتقي هو وهايدغر في نقطة موحدة، أعني النظرة إلى تعاليم الفلسفة اللاحقة على أنها ديناميكية تقهقر، وانفصال عن مواقف كانت رائدة وسبّاقة في ابداع نظريات متقدمة؛ وهذه الحقيقة توصلا إليها هما (پوپر/هايدغر ) في القرن العشرين.
في كتاباته اللاحقة عمد إلى التلطّف نوعا ما بأفلاطون حينما اكتشف أن هذا الأخير في محاورة "طيماوس"، نفى اليقين العلمي عن المباحث الطبيعية واعتبر القوانين المستمدة منها، في أحسن الحالات، مُجرّد آراء شبه حقيقية، خالية من اليقين العلمي وغير معبرة عن حقيقة الأشياء في ذاتها.
لكن بعد سقراط وأفلاطون، لم يَبق من المدافعين عن حصون العقل، والمتفائلين بالعلم البرهاني وإمكانية التوصل إلى حقيقة ثابتة في ميدان البحث الطبيعي إلاّ أرسطو. لقد دَشن هذا الأخير قطيعة كبرى في المسار السّوي للفلسفة اليونانية، بحيث أنّ نظرته الابستيمولوجية تعكس، من الزاوية العلمية، صورة أفلاطون بالنسبة إلى سقراط، في الحقل السياسي. پوپر، بعجرفته المعهودة، يُصرّح بأنه لا يحبّ أرسطو، والسبب الأساسي هو أن أمير الفلاسفة « يَدّعي بأنه يعرف: يَعتقد بأنه مكتسب لعلمٍ، لمعرفة علمية قابلة للبرهان. هذا هو السبب الرئيسي الذي جعلني لا أحبّ أرسطو: ما كان بالنسبة لأفلاطون فرضية علمية أصبح عند أرسطو علما، معرفة برهانية. ومن ذلك الوقت غدا هذا التصور مُتَقاسَما من طرف أغلبية فلاسفة العلم الغربيين».
لكن بالنسبة لپوپر هذه أكبر خطيئة اقترفها أرسطو في حياته، أي ترويجه لفكرة أن الإنسان يستطيع الوصول إلى علم يقيني وبمقدوره، عن طريق ملكاته العقلانية والتجربة، أن يكتشف قوانين ثابتة ونهائية للطبيعة « لقد قطع أرسطو مع ذاك التراث المعقول الذي يرى أننا نعرف النزر القليل». هذه هي مساوئ فيلسوف العلم أرسطو، ولذلك فإن وصف الشاعر الإيطالي دانت (Dante) لأرسطو بأنه « مؤدب العارفين»، حتى وإن كان صحيحا، فهو لا يجعله يستأثر باعجابه « لأن المعرفة، بالمعنى الأرسطي، ليست في الواقع متاحة للإنسان». ما المتاح لنا إذن؟ أضغاث حقائق، مجرّد حثالة هزيلة من التخمينات القابلة للدحض والتكذيب في أي وقت؛ الرجل لا يملّ من تكرار هذه "الحقيقة العظيمة" التي عبّر عنها فلاسفة اليونان القدامى: « كسينوفان وسقراط (وأفلاطون أيضا، فيما يخص اشكاليات العلوم الطبيعية) هم على صواب حينما صرّحوا "بأننا لا نعرف؛ نحن نُخمّن فقط" ... أرسطو كان بالفعل أول دوغمائي حقيقي ـ وحتى أفلاطون، على الرغم من أنه كان دوغمائيا في السياسة، لم يكن كذلك في الابستيمولوجيا». الحل الأقوم، لتجاوز هذه الأزمة ـ وهو حل هايدغر أيضا ـ ضرورة العودة إلى فلاسفة ماقبل سقراط وإحياء عقلانيتهم النزيهة المتواضعة، على عكس عقلانية أرسطو المتعجرفة التي قضت على العلم النقدي الذي ساهم هو نفسه في تشييده.
غريب جدّا أن يتعامل المؤرخ الحديث أو أي مفكر ليبرالي مع الفلاسفة بمنطق الكره والمحبّة، أو أن يُقيّم أعمالهم بحسب قُربهم أو بُعدهم من نموذجه المعرفي. كان عليه أن يكتفي بمناقشة أرسطو على الأرضية الفلسفية البحتة وأن يترك مشاعره الشخصية، من كره ومحبّة، في قرارة نفسه. أعتَرفُ بعجزي عن هضم هذا الصنف من التفكير؛ إنه أمر مُخيّب للآمال أن يُصرّح هذا الرجل، دون الشعور بخطورة أحكامه المسبّقة، بكُرهه لأرسطو فقط لأن هذا الأخير اعتقد بإمكانية التوصّل إلى معرفة الكون. فهذا الحكم هو من النّشاز إلى حدّ أننا نستغرب من مأتاه، وفعلا لو لم يكن هذا الكلام صادرا من فيلسوف مثل بوبر لما توقفنا عنده، ولما ألزمنا أنفسنا عناء مناقشته ودحضه.
أرسطو على كلّ حال أنتج معرفة واكتشف حقائق علمية، ويكفي الاطلاع على أي مبحث من بحوثه العلمية، خصوصا البيولوجية منها، حتى يصيبنا الذهول من الدقة والصرامة التي تميزت بها أعماله. وما كان لأرسطو أن يُقدِم على دراسة الطبيعة لو انطلق من فكرة أننا غير قادرين على معرفة الطبيعة، وأن النشاط العلمي لا يسمح بتراكم المعارف ولا يفيد في التوصّل إلى الحقيقة. التوجّه الابستيمولوجي لپوپر يسعى، في مقابل ذلك، إلى تحييد عامل التراكم المعرفي وإخراج الاستقراء من مجال البحث العلمي، لكن أرسطو، على الرغم من الوسائل البدائية التي اعتمدها، فإن جل اكتشافاته كانت نابعة من معاينة مباشرة للظواهر الطبيعية، ومن تطبيق للمنهج الاستقرائي.
العالم الذي ينتهج منهج الاكتشاف على طريقة پوپر، أعني طريقة الفروض الاعتباطية، لا يتحقق في حياته من شيء، وبالتالي فإن النشاط العلمي لا يؤدي به إلى أي اكتشاف لحقيقة يمكن أن يركن أليها أو يُعلّمها للآخرين بصدق؛ كل شيء سراب ونحن مُتيقّنون فقط من لاعلمنا الدائم. أقول: لو كُتب لهذا الصنف من التفكير الرسوخ والثبات في التاريخ لما أنتجت الإنسانية علما ولما راودتها فكرة الانبهار أمام الظواهر الطبيعية، ولَهَوَت إلى حالة من البؤس الفكري لا مثيل لها. فعلا، لِمَ الكتابة والتنقيب والبحث، ونحن مضروبون في العمق بحالة من الجهل الدائم؟ ما الذي يرغمنا على التنظير العملي أو محاولة إصلاح الأوضاع الراهنة إن كانت السياسة تخضع، مثل العلم، إلى مبدأ الافتراض الاعتباطي؟ لن يتجرّأ أي أحد في هذا العالم أن يقول شيئا على يقين، أو حتى الالتفات إلى ظواهر الطبيعة لدراستها ومحاولة التعرّف على قوانينها.
أنا لا أكره هذا الرجل، ولا يعنيني منه إلاّ ما خَطّه من كتابات وما طرحه على الساحة الفلسفية من أفكار، أمّا العوامل الذاتية من سيرته فلا تهمّنا في ذاتها، ما عدا ذاك النزر القليل الذي استطاع تشريط منظوره وانتاجاته الفلسفية.
الليبرالي المتعصّب أدخل الاستياء في قلوب الليبراليين، لأنه نادى في آخر حياته بضرورة فرض المراقبة على البرامج التلفزية، وهو الأمر الذي ينافي إحدى الركائز الأساسية للنظام الليبرالي، ألا وهو حرية الصحافة ونزع فكرة الرقابة. الفلاسفة أيضا أصيبوا بخيبة أمل. لقد همّش الفلسفة: دخل في كلّ المعمعات الفكرية، من الابستيمولوجيا، إلى السياسة، فنظرية العقل، فالتاريخيانية، ثم أخيرا طلع عليهم بنظرية الحرب الدائمة، وضرورة نَشرِ الحرية والديمقراطية عن طريق القوة، والتي تلقفها منه تلاميذه الذين هم الآن يحكمون العالم.
وأظنّ أن الرجل يَسخر من قرّائه، حينما يصف نفسه بهذه العبارات: « بما أنني واحد من آواخر المُتبقين من أتباع العقلانية والتنوير، فأنا أعتقد بالتحرّر الذاتي للإنسان عن طريق المعرفة». هذه صفعة أخرى في وجه القراء. أية معرفة هذه؟ وأية عقلانية؟ أرى أن مصطلحات پوپر لها معانيها الخاصة به هو وحده في تاريخ الفلسفة. فالتنوير الذي يقصده لا يعني التنوير المتعارف عليه؛ والمَعرفة التي يتبناها تختلف، إلى حدّ التناقض، مع المفهوم المتداول للمعرفة.
وحسب ما قدّمته سابقا، لا يمكن تفادي الرأي التالي، وهو أن پوپر لا تعزّ عليه المعرفة العلمية الكاشفة والمحرّرة، بل إن التصورات التي يروّج لها هي سحق للمعرفة في معناها الأكثر اجماعا بين المفكرين. وليس من الإجحاف في شيء القول بأن العقلانية التي يتبناها هذا الرجل هي مسخ للعقلانية: فهو يُعرّفها بطريقةٍ صحفية قائلا بأنها « ليست شيئا أكثر من القناعة بأننا نستطيع التعلّم من نقد أخطائنا وأغلاطنا، خصوصا، من النقد المُوجّه لنا من طرف الآخرين، وأخيرا، حتى من الذات». إنه خطاب غريب، هذا إن لم يكن هزيلا؛ أجرؤ القول، بأنه من صنف خطابات المقاهي، أو خطابات الهواة المبتدئين، لا يرقى إلى المستوى الفلسفي بتاتا. انظر إلى هذا التوضيح لمعنى العقلانية: « الموقف العقلاني يُمكن أن نقدّمه بالصيغة التالية: ربما أكون مُخطئا وأنت مُحقا، على كل حال كلانا يجب أن يتمنّى، بعد نقاشنا، رؤية الأشياء بأكثر وضوح مما كانت عليه من قبل، وعلى أية حال، كل واحد منا يمكن أن يتعلم من الآخر، فقط على شرط ألاّ ننسى أن الأهم ليس مَن لديه الحق، بل الوصول أقرب ما يمكن من الحقيقة».
رجل العلم لا يقبل بهذه العقلانية المتنكّرة لذاتها، ولا يعترف بهذا التواضع العدمي: حينما بعث العالم الإنجليزي ادنغتون (Eddington) في سنة 1919 إلى آينشتاين رسالة يُعلمه فيها بأن التجربة أكّدت ما كان قد تنبّأ به نظريا (انحناء أشعة النجوم في مجال جاذبية الشمس)، لم يَصطدم آينشتاين بهذا الخبر لأنه متيقّن من أن الظاهرة على ما وصفها هو. فلنتصوّر آينشتاين وعلمه وعقلانيته على الشكل الذي رواه پوپر: ربما أكون على خطأ وأنتَ محق، أو العكس، أليست هذه بالفعل كاريكاتور العقلانية العلمية؟
4 ـ من المعرفة إلى السياسة:
لا يخفى على أحد أن الصورة التي رسمها پوپر للعقلانية وللمعرفة الإنسانية ككلّ، تحمل في ذاتها سمات عدمية تشكيكية، ولكن إن بقيت مغروسة في مجال الابستيمولوجيا البحتة، لما استوقفتنا طويلا، لأنها رائجة ومعروفة في تاريخ الفلسفة. إلاّ أن خطرها الأكبر يكمن أساسا في تأثيرها السلبي على الحياة السياسية، وخصوصا على تصوّر مواصفات رجل السياسة والشروط اللازمة للمسك بزمام الحكم. لقد وصف الفيلسوف الإيطالي فاتيمو موقف پوپر من رجل السياسة دون أن يتفطّن إلى المخاطر الثاوية فيه، بل إنه عمل على تزكيته وتأهيله. لكن يكفي أن يُعمِل أحدنا حسّه النقدي حتى يحدس مدى خطورة تحاليله السياسية واستتباعاتها السلبية في المجال العملي والتي يمكن استمدادها من صريح أقواله المبثوثة في العديد من محاضراته حول العالم. في احداها التي ألقاه بإيطاليا، يقول: المستقبل مفتوح؛ المستقبل يعتمد علينا جميعا، اليوم وغدا وبعد غد. وكل ما نفعله يعتمد بدوره على أفكارنا، وتمنياتنا، ومخاوفنا، وبالجملة يَتوقّف على نظرتنا للعالم، وعلى كيفية تقييمنا للإمكانيات المتاحة لنا في المستقبل. كل هذا يعني أننا جميعا نواجه مسؤولية كبرى، وهذه المسؤولية تصبح أعظم كلما أدركنا « حقيقة أننا لا نعرف شيئا؛ أو نملك نزرا قليلا إلى درجة أننا مبرّرون في تعريف ذاك القليل بأنه "عدم". لأنه لا شيء بالمقارنة مع كل ما يجب علينا معرفته لكي نأخذ القرارات الصائبة».
أول من تفطن إلى هذه الحقيقة هو سقراط، الذي قال بأن السّياسي يجب أن يكون حكيما، ـ حكيما جدا إلى درجة وعيه التامّ بأنه جهول لا يعرف شيئا. لكن أفلاطون أدخل بدعة في السياسة، حينما قال بأنه يجب على رجل السياسة أن يكون حكيما، أي أن الملوك عليهم أن يصبحوا فلاسفة أو أن يذهبوا إلى مدرسة الفيلسوف، أي مدرسة أفلاطون لتعلّم الجدل الأفلاطوني. لقد خرج أفلاطون عن السبيل القويم الذي خطه سقراط: « القاعدة التي تقول: "رجل السياسة يجب أن يكون حكيما" بالنسبة لأفلاطون تعني أن الفلاسفة المتعلمين يجب أن يستأثروا بالسلطة السياسية ـ ومن هنا إدعاء الهيمنة السياسية من طرف العلماء، المثقفين، النخبة. وفي الطرف النقيض من أفلاطون، نفس هذه القاعدة "رجل السياسة يجب أن يكون حكيما" تعني عند سقراط أن رجل السياسة يجب أن يعرف القليل مما يعرف؛ وبالتالي يجب أن يكون على غاية التواضع في مطالبه ... هذا هو موقف سقراط، هذه هي حكمة سقراط "اعرف نفسك ، واعترف لِنفسك بجَهلك"».
أقول، دون أن أتجنى على أحد: هذا الحاكم الجاهل؛ هذا الحاكم الذي لم يدخل قط مدرسة الفلاسفة، لا يعرف التاريخ ولا الجغرافيا، ولا أبجديات السياسة؛ هذا الرجل الذي لا يملك من "فضيلة" إلاّ الجهل، موجود ومتمظهر أمامنا وهو الفاتق الناطق في العالم الآن، أعني جورج بوش. بعد أن تربّع هذا الرجل على سدّة الحكم، البشرية تجرّب الآن على كاهلها نموذج الحاكم الذي يطمح له پوپر. والجميع قادر على رؤية المنعرج الذي آلت إليه الأحداث العالمية في يد هذا الحاكم الجاهل، ومقدرته على التسبّب في كوارث قد تؤدي إلى فناء الإنسانية جمعاء.
البداهة السقراطية هي هذه: الجهل هو العدوّ الأكبر للإنسان، والمعرفة العلمية هي المخلص الأكبر للإنسان. أنا لا أعيب على پوپر آرائه العدمية هذه، بل أحاول مناقشتها وتعريتها، ولكنني أتساءل كيف يَنظمّ مفكر يساري مثل فاتيمو إلى هذه النظرة الرجعية؟ أتعجّب كيف يصادق على أطروحات من هذا القبيل دون أن يرى استتباعاتها، أو حتى يَستشعر مخاطرها العملية المباشرة.
كارل پوپر يلتقي مع هايدغر في نقطة أخرى، ألا وهي التمجيد المفرط للغرب، واستخدام عبارات نابعة من صلب القاموس الشوفيني. وأظنّ أن المُنظّر اليميني المتطرّف هانتغنتون، الذي طلع على الناس بفكرة صراع الحضارات وأصبحت الآن حصان طروادة في يد بوش وأتباعه، لم يأت بالشيء الجديد لأن پوپر كان قد سبقه إليها منذ سنين. فالرجل مقتنع أشد الاقتناع من أن « الحضارة الغربية...هي الأكثر تحررا، هي الأكثر عدلا، هي الأكثر إنسانية، هي الأفضل من بين كل ما عُرف من حضارات عبر تاريخ البشرية كلّه. إنها الأفضل لأنها الأكثر قابلية للتحسين». هذه القناعة متّصلة ودائبة عند پوپر ولم يتخلّ عنها اطلاقا، بل إنها زادت من حدّتها في سنواته الأخيرة خصوصا بعد تذوّقه نشوة انهيار الاتحاد السوفياتي، وبداية الهجمة على العراق ومنها على العالم العربي الاسلامي. ومَن اطّلع على نصوصه التمجيدية للغرب فكأنه يقرأ افتتاحية ماكس فيبر لكتابه "البروتستانتية وروح الرأسمالية". كل شيء نبع من الغرب وأفضل ما في هذا العالم، من قيم أخلاقية، ومن علوم وتنظيمات سياسية، صدرت منه وبقيت فيه. تلك هي الحال أيضا عند پوپر: « حضارتنا الغربية وحدها هي التي اعترفت على نحو واسع بالمطلب الأخلاقي للحرية الشخصية، بل وحقيقته إلى حدّ كبير، وبمطلب المساواة أمام القانون، وبمطلب الحرية، وبمطلب ألاّ تستخدم القوة إلاّ في أضيق الحدود. هذا هو السبب في أنني أعتبر أن حضارتنا الغربية هي الأفضل حتى الآن...إذا وضعنا كل شيء في الاعتبار، فإنها الحضارة الوحيدة التي يتعاون فيها كل الناس تقريبا لتحسينها، إلى أقصى مدى ممكن».
بالاضافة إلى هذا التمجيد الشوفيني، (وأركّز على كلمة الشوفيني العنصري، لأن پوپر مرّة أخرى استبق، أو قد يكون قد فتح الباب أمام أرذل أنواع العنصرية التي رأتها أوروبا القرن الواحد والعشرين، كالتي نجدها مثلا عند الصحفية الإيطالية، أوريانا فالاتشي، التي سبّت المسلمين وقذفتهم بأفضع النعوت، وقالت مثل پوپر بأن الحضارة الغربية هي أرقى الحضارات في العالم)، بالاضافة إلى هذا التمجيد الشوفيني، فإن پوپر وجد أعداءه في الداخل من بين المثقفين اليساريين أو ذوي النزعة الكونية المعادية للاستعمار. وبخصوص هذه النقطة بالذات، فإن الرجل زاد من حدّة انتقاداته وتجاوز، حقا، حدود اللياقة الفكرية والذوق الأخلاقي.
العالم الغربي بالنسبة إليه هو واحة سلام؛ جنّة على وجه الأرض، لكن المثقفين هم أكبر خطر يهدد هذه الجنّة. لقد زعم، بكل اعتداد، أن المثقفين تسبّبوا، منذ آلاف السنين (هكذا)، في كوارث مُرعبة؛ المثقفون كانوا ولا يزالون السبب في التقتيل الجماعي باسم فكرة ما، باسم تعاليم معينة، أو نظرية سياسية مصطنعة. بعد الحرب العالمية الثانية صَنَعَ رجلان، وهما تشرشل وروزفلت (يُسمّيهما أبطال الحرب)، عالما جديدا، ولكن الذين جعلوه ممكنا هم الطيارون الحربيون الذين كسروا ألمانيا ودمروا بالقنابل الذرية مدينتين يابانيتين، قتلوا فيهما خلقا كثيرا (لم يُعرّج على الجريمة الأخيرة). إلاّ أن العالم الغربي الجديد البديع، بعد أن استتب فيه الأمن وأصبح الرخاء شاملا للجميع « بدأ يَعلو تذمّر المثقفين بإدانتهم لزماننا الشرير، لمجتمعنا، لحضارتنا ولبيئتنا. بدأت المبالاغات اللامعقولة بشأن تدمير وتلويث البيئة، التي قمنا بها لأجل تكديس الأموال». المثقفون الغربيون (وهو يعني هنا اليساريون)، الذين ما فتئ في كل المحافل يكيل لهم من أبشع النعوت ويتهمهم بأنهم كارثة أنثربولوجية، لا ينبغي عليهم أن يُنبّهوا على مخاطر التطوّر الصناعي المتوحش الذي لا يراعي النظام الهش للبيئة، والذي قضت الطبيعة ملايين السنين لكي تشكله في هذه الصورة الرائعة. التلوّث الهوائي، الانحصار الحراري، ثقب الأوزون، كلها متأتية حسب علماء الطبيعة من الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية ومن نظام صناعي استهلاكي غربي يفكر في الربح فقط. لكن پوپر يَجحَد هذه البداهة، ويُنكر الوقائع العلمية مفترضا أن يكون ثقب الأوزون قد وُجد منذ ملايين السنين، وليس لديه علاقة بالتصنيع أو بالتلوث البيئي.
أما بحوث العلماء التي أثبتت بالتجارب ذاك التلازم السببي بين التصنيع والتلوّث فأمره هيّن، يَكفِي تفعيل تصوّره الابستيمولوجي العدمي حتى تُحيَّد نظرياتهم بالكامل: « العلماء المشاهير ليس لديهم الحق دائما. أنا لا أقول بأنهم مخطؤون، أقول فقط بأننا غالبا ما نعرف أقلّ مما نَعتقد معرفته». كل ما يُواسِي به المثقفين والعلماء يُلخصه في هذه القولة ذات النفح الرواقي: « صحيح أن الحياة هي دائما في خطر. أعتقد أننا جميعا، سنموت، عاجلا أم آجلا. الخطر حاضر دائما، وهو كذلك باستمرار منذ بداية الحياة، حتى بالنسبة للبيئة». ولذلك فإنه لا مبرر للجزع والتهويل، والمثقفون لا يجب عليهم أن يَنقدوا الغرب أو يدينوا استخدامه للقوة ضد الشعوب الأخرى، وذلك لسبب بسيط وهو أن الغرب يعلو على كل أمم العالم والدليل على ذلك أننا إن قارنا الإيديولوجيا الغربية بإيديولوجيا النازية مثلا فسَنتيقّن من الفكرة التالية وهي أن « الايديولوجيا الغربية، على الرغم من كل الاستهزاء والأكاذيب التي لفقت عليها، كانت هي الحقيقة. الغرب كان يحارب من أجل السلم، وقد توصل إليه في أوروبا ... وتقريبا في كل مكان، مارس فيه الأوروبيون الغربيون تأثيرهم الفعلي».
ألا يخجل من هذه التفاهات؟ ألا يكف عن تزييف التاريخ؟ لقد نسي هذا الرجل أن الإيديولوجيا النازية جاءت من الغرب وهو مَوطنها ومرجعها الذي نبعت منه؛ الإستعمار أيضا مُورس من طرف الغرب، التاريخ يشهد بهذه الحقائق. لكن بالنسبة لذهنية الليبرالي پوپر، وخصوصا بشأن هذه النقطة، فإن موقفه يذكّرنا بموقف المراجعين للتاريخ: الاستعمار لا وجود له ومَن ينقد التاريخ الإستعماري فهو عدوّ للغرب (كما قال أحد الساسة الإيطاليين، برلسكوني، الذي سبّ العرب والمسلمين قاطبة). في خضمّ هذا التفسّخ المسيطر على عقول المثقفين، أعني المثقفين الذين ليسوا بليبراليين استعماريين مثله، تبقى على كل حال صامدة وثابتة الحقيقة التالية: « في الغرب نعيش في السماء، طبعا في السماء الأولى وليس في السماء السابعة بعد. وسماؤنا قابلة لتحسينات عديدة. ليس هناك من سبب للتذمّر منه ووصفه بالرداءة. عالمنا هو أحسن العوالم الذي لم يوجد على وجه الأرض». وفي محاضرة أخرى ألقاها بألمانيا، سنة 1991 اعترف بأنه صُعق حينما زار الولايات المتحدة، (سنة 1950) وكانت زيارته تلك سببا في بث روح التفاؤل فيه. ومنذ ذلك الحين عاد إلى أمريكا عشرين أو خمس وعشرين مرة، وفي كل مرة زادت قناعاته تمتينا، وقناعته هي دائما هذه: « نحن نعيش في أحسن العوالم الاجتماعية التي لم توجد في أي مكان من العالم ـ هذا على الرغم من خيانة أغلب المثقفين». إيديولوجيا المثقفين اليساريين هي العائق الأول، والعدوّ الأكبر للغرب وبالتالي فهي « شريرة أخلاقيا. إنها كذبة بلقاء». أما العبودية التي سادت لمدة أكثر من قرنين من الزمن في البلد الذي يَتغنّى به، فإن هذا الرجل يعارض حتى كتب التاريخ والوثائق التي تبيّن أن الحل الأمريكي للعبودية بعد الحرب الأهلية لم يكن إلاّ حلاّ ظاهريا، كما قال أحد المؤرخين الألمان. هذه الحقيقة التاريخية أفقدته رصانته لأنها تُدمّر مثاله الأعلى في الحياة؛ الحَكَم الفصل هنا ليس كتب التاريخ، ليس الوقائع الثابتة، بل تجربته الشخصية، التي غدت المعيار الأوحد للفصل بين الصواب والخطأ، ومكّنته من نكران البداهة « إن تاريخ جامعة أطلنتا (Atalanta) أثر في، على كل حال، كما أثرت في مبادرات عديدة، كنت قد عاينتها شخصيا».
لا نعجب إذن، إن قوبل جَحده للتاريخ البشع لمؤسسة العبودية والتمييز العنصري الذي تواصل في أمريكا حتى الخمسينات من القرن المنصرم، من طرف رجل أصبح نبيّ الليبرالية، ومُنظّر المجتمع المنفتح، بنوع من الذهول والاستياء من قِبل المثقفين الغربيين الذين يقفون على أرضية مغايرة لأرضيته الاستعمارية. ولكن هذه التنديدات والانتقادات لم يُعرها أية أهمية ولم يناقشها بجدية كافية، بل استثارت فيه نوعا من السخرية المقيتة. لقد اعترف، بشيء من الاستهزاء أمام جمع من المثقفين الذين كانوا يستمعون إلى مَدحِه لأمريكا وتوريَته الحقائق التاريخية، قائلا: « منذ ثلاث سنوات، في لقاء بهانوفر (Hannover)، حينما دافعتُ عن أمريكا، بما أنها كانت قد هوجمت في محاضرات سابقة، حدثت قلاقل وصراخات تنديد، فغادرتُ المكان متبوعا بجوقة من الصّفير. لقد رأيت في هذا الحدث دليلا على أن مُستمعيّ لم يصبهم الضجر». دعابة سمجة حقا؛ الرجل معروف بعُنفه اللفظي.
لكن في حقيقة الأمر عجرفة هذا الرجل، تجاوزت حدودها، وانصبّت علينا نحن العرب، وجميع شعوب العالم التي لا تنتمي إلى الغرب. فخطابه، على الرغم من جميع تطميناته، هو خطاب عدائي حربي، ولا يزيد أو ينقص أي شيء عن خطاب هايدغر، حتى وإن واراه هذا الأخير خلف كومة من الألغاز اللغوية. فلسفة پوپر السياسية هي هذه: الصراع لا بدّ منه في هذا العالم، ومجتمع كوني بدون صراع هو مجتمع لاإنساني، وبالتالي علينا أن نُعلّق طموحنا الطوباوي في السلم الدائم ونسير في طريق تربيع الدائرة، أي الاعتراف معه « بأن كل رجال السلام كانوا أيضا مقاتلين، حتى المهاتما غاندي كان مُقاتلا: مقاتلا من أجل اللاعنف».
أنا أشفق على هذا الفيلسوف الذي له دراية بكل شيء؛ بالعقلانية والمنطق والعلوم الصحيحة، كيف انحدر إلى هذا المستوى من التفكير. كيف يجرؤ على تسمية من دعا، بالقول والفعل، إلى اللاعنف والتسامح، مقاتلا. أستسمح أتباع پوپر للنبرة التي استعملها في نقدي هذا، وقد يعترضون عليّ بأنني اخترتُ نصوصي بدقة ولم استشهد إلاّ بما يؤيّد تأويلاتي. قد يكون صحيحا؛ ربما؛ لا أودّ أن أزكّي نفسي، لكن الحَكَم الأوّل والأخير بيننا هو النصوص. وقد عملتُ كل ما في وسعي حينما تصفحتُ كتبه عَلِّيَ أجد أفكارا مغايرة تعمل على التخفيف من حدة آرائه، فلم أعثر على شيء منها. كلّما فتحنا نصا من نصوص پوپر إلاّ وارتطمنا بأفكار من الصنف الذي عرضتُه أو ما شابهه. لقد قال بالحرف إنّ الإمبريالية هي عبارة « لا معنى لها أصلا» ، وهي من اختلاق المثقفين، ويكفي مصدرها هذا كي تصبح مبالغة أو كذبة سافرة. والسبب في ذلك هو « أن التصنيع لا يعني زيادة التفقير، الشيء بديهي. وحتى في المستعمرات فإن الوضع كان في تحسّن مستمرّ». هذه ليست بالأطروحة الجديدة، لقد رددها كل التيار الرجعي من معتنقي الماركيسة سابقا، برنشتاين وأتباعه.
ثم يضيف بأن الهدف الأساسي للسياسة الغربية الراهنة هو تجنّب الصراعات وإحلال السلام، ولكن هذا الهدف صعب التحقيق في داخل المجتع الغربي نفسه لأن « مجتمعا دون صراعات هو مجتمع لا إنساني، لن يكون هذا مجتمعا إنسانيا، إنما هو مستعمرة نمل»، هذا بالنسبة للداخل، أما في الخارج أي، حسب زعمه، في عالم مثل عالمنا الحالي الذي « يوجد فيه أشخاص مثل صدّام حُسين وأمثاله من الدكتاتوريين»، فإن السلم هو هدف بعيد المنال حقا. ما الحلّ إذن؟ الحل الوحيد هو إشعال نار الحرب الدائمة: « نحن لا يجب علينا أن نَتراجع أمام القيام بالحرب من أجل السلم. في الحالات الراهنة لا يمكن تفاديها. إنه شيء تعيس، لكن يجب القيام به، إن أردنا تخليص العالم. الحَزم هنا له أهمية محدِّدة». لقد قال هذا الكلام في سنة 1992، بعد أن دمّرت أمريكا العراق تدميرا، وأرجعته إلى ماقبل التاريخ. أتَدرون كيف وصف حرب أمريكا على العراق في ذاك الوقت؟ قال بالحرف إن أمريكا أظهرت في حربها تلك مشاعر إنسانية لا مثيل لها.
ثم إنه عن سؤال هل أن الأمريكان يجب عليهم مهاجمة صدّام حسين مرة أخرى، إن كانت هناك مؤشرات تدلّ على أنه يحاول امتلاك السلاح النووي؟ لم يُفَعّل مبادئ إبستيمولوجيته الريبيّة لكي يفسح المجال للتثبّت والتحقيق، وإحالة المسألة إلى منظمة عالمية، بل إنه دون تردّد أجاب: « ليس صدّام فقط. في هذه الحالات قد يكون لازما إحداث نوع من فيلق التدخل السريع للعالم المتحضر». لقد أدته قناعته الحربية مرة أخرى إلى ضرب الحركات السلمية في العالم، كما يفعل الآن المحافظون الجدد، وقال بأنه من الجنون مواصلة الدعوة إلى السلام دون القيام بالحرب. ولا ينبغي حسب رأيه على المفكرين الغربيين أو غيرهم أن يشكّوا في نوايا أمريكا، أو أن يَنظروا إليها من جهة الدوافع الاقتصادية أو يَختزلوا تحركاتها في البعد الاستراتيجي، لأن الأغراض الإقتصادية والهموم الاستراتيجية لا دخل لها بهذا الشأن: خَلاصُنا الوحيد في هذه الدنيا، الآن وفي المستقبل، هو أن نتماهى بالكامل مع المخطّط الأمريكي وأن نجعل منها المثال الحضاري المطلق في السلم والحرب: « ينبغي علينا أن نلتزم إيجابيا بهذا السِّلم الأمريكي (Pax americana) لكي نجعل منه سِلم الحضارة (Pax civilitatis)». وعلى أساس هذه الاستراتيجية الحربية فإن الرجل أخلص إلى الاستنتاج التالي وهو أن الاستعمار الغربي ما كان عليه أن ينقضي مُبكّرا لأنه ترك الشعوب المُستَعمرة بمفردها قاصرة عن إدارة شؤونها بنفسها مثل الأطفال الصغار في الروضة.
لقد بث، مرّة أخرى، مشاعر الاستياء والخيبة في الكثير من المثقفين الذين كانوا يعتقدون في حصافة آرائه بشأن الديمقراطية، وتأكيداته على ضرورة الضمانات الدستورية في حق الحريات العامة، إثر تصفيقه للحرب ودعوته لإدامة الصراع مع قوى الشر التي لا تريد الانصياع للسلم الأمريكي. فالرجل لا ينكسر أبدا بشأن الحقوق الفردية في داخل المجتمع الغربي: « إننا نُفضل نظاما يضمن الحماية القانونية الكاملة حتى للمجرمين الأشرار، فلا يُعاقبون في حالة الشكّ، ونحن نفضل هذا النظام عن آخر لا يجد فيه حتى الأبرياء الحماية القانونية، فيُعاقبون حتى عندما تكون براءتهم أمرا لا يقبل الجدل». هذا شيء جيّد، وهو من روح الليبرالية ودعامة أي نظام ديمقراطي، لكن من المفروض أن ينسحب على الجميع، وأن يكون مبدأ راسخا غير قابل لأية مساومة. لكن النظام الليبرالي الغربي، كما هو دَأبه، يُدخل استثناءات، ويُقِيم تمييزات، محتفظا بالحق في خرق تلك المبادئ التي أرساها هو نفسه، ومعاملة الشعوب الأخرى بمنطق مغاير يخجل من تطبيقه في الداخل، أعني منطق الديكتاتورية العنصرية. ولو أن پوپر كان حيا وشهد فضيحة غوانتانامو وغزو العراق لصفق لهذه الاجراءات ولوجد لها، للتّوّ التبرير الفلسفي والذريعة القانونية.
أرى، على كلّ حال، أن مواقفه الحربية هذه لا تتنافى وتنظيره "الفلسفي"، وخصوصا هي في أتم الانسجام مع مجمل أطروحاته الابستيمولوجية: فموقفه المتحمّس، أيّام حرب الخليج الأولى، ودعوته لمواصلة الحرب وتوسيع رقعتها لتشمل الصين أيضا لهي دليل على أن الرجل لا تعز عليه فكرة السلام، وأن مواقفه العدوانية تنبع من صلب فلسفته أو هي ثاوية فيها منذ البداية. وكما قد يحدس القارئ فإن پوپر بشأن هذه النقطة هو في موقف رجعي حتى بالنسبة إلى أرسطو الذي قال في بعض صفحات كتاب السياسة أشياء مرعبة في حقّ العبيد ولكنّه نقدََ الحكومات التي تقوم دساتيرها على الحرب مثل سبارتا، وقال بأن من يُربّي الشباب على روح الصراع فإن مآله الدمار. أمّا القول بأن الشعوب المستعمرة سابقا تشبه الأطفال الصغار فهذه لم يصل إليها لا أفلاطون، الذي اعتبر المصريين أرقى حضارة من اليونان، ولا أرسطو الذي اعترف بأن الرياضيات نشأت في مصر. ولكن پوپر وصل إليها لأنه أطلق العنان لتداعياته الحرة وزجّ بنفسه في متاهات المواضع الكلاسيكية للعنصريين والشوفينيين الذين يعتبرون الشعوب الأخرى قاصرة وغير بالغة سنّ الرشد.
5 ـ ديمقراطية الأستاذ پوپر:
يمكننا أن نوجّه كل أصناف النقد والمعارضة لفلسفة پوپر، والاختلاف معه في جلّ مواقفه العلمية واستتباعاتها السياسية في إطار نظرته للعالم، ولكن لا يمكننا التشكيك في قدرة پوپر كأستاذ جامعي على تربية العديد من الطلبة على حبّ الفلسفة والغوص في اشكالاتها بجدّية. وبالتالي ينبغي، في هذا الإطار، الإشادة بتصرفاته ذات البعد الديمقراطي المنفتح والتأسي بها في معاملة الراغبين في العلم. قد يكون هذا هو الملجأ الأخير لمُحبّيه وأتباعه، إن اقتنعوا بالمعضلات الخطيرة التي تُصيب في العمق مجاله التنظيري. إلاّ أنه حتى من هذه الزاوية فإن منهجه البيداغوجي مُعَرَّى، وطريقة معاملته للطلبة عُرضة لكثير من التساؤلات التي حيّرت كتّاب سيرته وأربكتهم. فالرجل كان، بشهادة أصحابه، صعب المراس، متعجرفا مع أقرانه وطلبته على حدّ سواء. كانت لديه مقدرة لا تُضاهى على زرع الرعب في قلوب مستمعيه ومحاوريه: پوپر، مثله مثل فيتغنشتاين، عنيف ومتعصّب لآرائه ومفرط في الإعجاب بنفسه، ذو نزعة تسلّطيّة. استراتيجيته في التحاور مع الآخرين، وصفها أحد المعجبين هكذا: « عوضا أن يُهاجم الخصم في نقاط ضعفه الثانوية، فهو يُقوّي، عن قصد وبعناية فائقة، أطروحته لكي يحطّم النقطة الأساسية منها». حينما قابلته لأوّل مرة، اعترفت الفيلسوفة الانجليزية ماجي (Magee) بأنها قد صُدمت « بِعُنف فكري لم تَر له مثيلا من قبل. كلّ شيء يُدحر إلى أبعدِ ممّا يُجيزه النقاش...هذا يعني عمليّا إرادة قهر الأشخاص. كان هناك شيء من الحنق في الطاقة التي يُسيِّرُ بها هجماته على الخصم: الإصابة الدقيقة والمناسبة، مثل اللهيب، تبدو وكأنها شعلة أوكسيجينية». لقد شيّد بنيانه الابستيمولوجي على أساس مبدأ التكذيب، واعتبر أي نظرية علمية غير قابلة، مبدئيا، للخضوع إلى مبدأ التكذيب مجرّد نظرية وهمية، لكنه رفض من الأساس إجراء هذا المبدأ على نظريته. وقد ذهب أحدهم إلى أن "المجتمع المنفتح وأعداؤه"، كان من الأجدر أن يُسمّى "المجتمع المنفتح حسب واحد من أعدائه".
تصرفاته الشخصية كانت متعجرفة إلى حدّ أنها أذهلت زملاءه في الجامعة. الأستاذ ج. واتكنس (Watkins)، اعترف بأن پوپر، من وجهة نظر فكرية، طاغية استبدادي: « في الدروس التطبيقية مثلا، هناك حالات شهيرة حيث يُعلِن فيها أحد الطلبة عنوان بحثه: "ما هي س؟" پوپر يقاطعه مباشرة: "الأسئلة من نوع ما الشيء؟ هي خاطئة تماما ومُضلّلة". هكذا لا يذهب الطالب أبعد من العنوان». برنارد ليفين، أحد الكتاب المعجبين بپوپر، أبدى نفس الانطباع: « ذات يوم في درس تطبيقي، عبّر أحد أصدقائي عن رأيه بصطلحات مشوّشة، فما كان من الحكيم الكبير پوپر إلاّ أن عبس وقال باقتضاب: " لا أفهم عمّ تتكلّم"، لكن زميلي المسكين ارتبك وأعاد طرح القضية. "آه ـ تنهّد المعلّم متعجبا ـ فهمتُ الآن عمّ تتحدّث، يبدو لي حماقة"».
وفي شهادة أخرى لأحد طلبته الأمريكيين ـ عن حادثة وقعت لطالب آخر لم يكن أسعد حظا من السابق: راوغ سؤالَ پوپر، غيّر من وجهته تحت هرسلة الأستاذ، أحال إلى شهادة الحاضرين، تلكأ، أخيرا طلب منه پوپر مغادرة القاعة، لكنّه رفض، فما كان من الأستاذ إلا أن قام، جذبه من رقبة قميصه ورماه خارج الفصل.
الشهادات والاعترافات الشخصية تسترسل بلا هوادة: المستمعون لمحاضرات پوپر يُصيبهم الرعب فقط من محاولة إلقائه مجرّد سؤال، أما الذين حدث لهم واستشهدوا بأقواله خطأ، فهو يُقيّدهم على "عَجَلة التعذيب" ويُنكّل بهم حتى يَبوؤوا بإثمهم ويُذعنوا صاغرين لإرادته، حينها وحينها فقط يقول الحكيم، بكلّ سادية: "الآن يمكننا أن نصبح أصدقاء". كانت لديه نزعة قاهرة إلى إشعار طلبته بأنهم حشرات عديمة القيمة، لا يفقهون شيئا، وجاهلين بخبايا الفلسفة. كارثية طريقته في التدريس: أغاسي (Agassi)، أحد مقرّبيه، يصفها هكذا: كل درس من دروسه يبدأ بتألّق وينتهي بحقارة، لأن ذاك المَعتوه (أحد الطلبة) اقترف خطأ جسيما، ومن حينه يَتدَحرج عليه الأستاذ پوپر كجُلمُود صَخر، مُحوّلا جوّ الوئام إلى قتامة، وقالبا الوضعية رأسا على عقب. ومن المتوقّع والحال على هذه الشاكلة أن يهجر العديد من الطلبة دروسه وينفضّوا من حوله، وفعلا الأمر كان كذلك: لورد داهرندورف (Lord Dahrendorf) سوسيولوجي ألماني قال بأن الطلبة الإنجليز الذي كانوا غير معتادين على معاملتهم بتلك الطريقة المهينة، كفوا عن التردّد على دروسه.
أما زملاؤه في التعليم فهو، كعادته، يتصرّف معهم كديكتاتور وبكلّ صلافة. الرياضي إيفور غينس (Ivor Grattan-Guinnes) كان يذهب لاستماع دروسه، لكنه اعترف يوما ما قائلا: « صراحة، تصرفاته بدت لي مُرعبة. لم يكن مشجعا للطلبة، لأنه كان يعرف الكثير ويضغط بمعرفته هذه عليهم. وكيف كان يشتم مساعديه من الأساتذة أمام طلبة مثلي! هناك شاب لَبِق اسمه ج. ويزدوم (Wisdom) مُهتمّا بالتحليل النفسي، پوپر يَعمد إلى سبّه دائما على أعين الطلبة: "أوّاه، لدينا هنا أحد الهائمين بالفرويدية". عجيب أن يتكلّم شخص مثله هكذا أمام الطلبة».
الفيلسوف الليبرالي لا يُبدي أي تسامح وهو غير مستعدّ للتنازل أو فتح باب التواصل بينه وبين خصومه، فقناعته الراسخة هي أنه على حقّ، وأفكاره هي الطريق المستقيم ومن حاد عنها، ولو قيد أنملة، فإنه سيُطحن في مَكَنَتِه الجهنمية. الفيلسوفة دوروتي إمّيت (Dorothy Emmet) جرّبت على كاهلها مفعول تلك المَكَنَة: لقد استضافته في إحدى الليالي، بعد صدور كتابه "المجتمع المنفتح وأعداؤه"، كانت « دعوة خطِرة على تلك المرأة». لقد زعم پوپر في كتابه أعلاه أن تعليم "الجمهورية" لأفلاطون في المدارس العامة يعني تحويل الشباب إلى فاشستيين، لكن من سوء حظ هذه الفيلسوفة أنها كَتَبت مراجعة تدافع فيها عن أفلاطون، مُبرئة ساحته من تهمة الفاشستية. حينما حضرت المرأة لمرافقته أوّلا إلى مكان انعقاد ندوة فكرية، هجم عليها مباشرة، دون تردّد وبشراسة مفرطة، واستمرّ كذلك ولم ينقطع إلاّ حين تناول العشاء صحبة جمع من الأساتذة. ثم عند وصولهما إلى منزلها، أعاد الكرّة وقالت بأنه « واصل تهجماته عليّ وشتمي حتى غاية منتصف الليل، حينها أحسستُ بالتعب الشديد واقترحتُ الانسحاب».
الرجل لا يقبل النقد، وهو مستعدّ لمُجَافاة أي أحد من تلاميذه السابقين أو حتى الفلاسفة الذين تجرّؤوا مرة واحدة في حياتهم على وضع فكرة من أفكاره موضع شكّ أو نقد. إمري لكاتوس (Imre Lakatos) أحد طلبته القدماء، اقترف جرما عظيما حينما عمد، في مقال له ورد في كتاب جماعي مخصّص لمناقشة فلسفة پوپر، إلى أثارة بعض الشكوك حول منهجية پوپر في رسم الخطّ الفاصل بين العلم واللاعلم، وعبّر عن تحفظاته إزاء ادعائه تقديم الحلّ الأقوم لمشكلتي الاستقراء ـ الدحض. لقد كان أخطر عمل يستطيع أن يتجرأ عليه تلميذ سابق، لأن الإقدام عليه « يعني وضع علّة وجود پوپر موضع الشكّ. فحياته هي أعماله: مماحكات من هذا القبيل لا تُحتَمل أبدا». وفي هذه الحال أيضا فإن مَكَنة السباب والشتم انصبّت على تلميذه السابق لاكاتوس، حتى بعد مماته بوقت طويل. لقد أطلق على نُقاده لقب "عشّ الزنابير". الطلبة إما أن يكرّروا حرفيا ما قاله أستاذهم ويعيدوا نشره وتعليمه، أو، إن سمحت لهم أنفسهم باستخدام عقولهم بحرية، أن يكون مآلهم اللعنات والسباب. هذه الحادثة وأمثالها تَكرّرت في مجمل مساره التعليمي: أغاسي (Agassi) هو أيضا خضع لهذه التجربة، لكن بشأن تلميذه الذي أصبح أستاذا فيما بعد، فإن التجربة كانت أنكى وأشدّ وقعا. الجريمة التي اقترفها هي نفسها: لقد وجّه بعض الاعتراضات ضد إحدى كتابات پوپر؛ الصداقة قُطعت في حينها، وانظمّ الناقد مباشرة إلى قبيلة "عش الزنابير". ولم يُجْدِه نفعًا أنه في فترة لاحقة باء بإثمه وطلب المصالحة، فپوپر، وقد تجاوز سنّ الثمانين، رفض الطلب وسدّد له «إجابة مسمومة» كاتبا له ردّا من هذا القبيل: « بعد المراجعة المُشِينة (لأنها عنيفة على المستوى الشخصي) التي كتبتَها على "المعرفة الموضوعية (Objective Knowledge)" (كُتبت، حسب مقدّمتك، عن مضض، وفقط لأنك تشعر أكاديميا بأنك مُجبر على فعله) وبعد سلسلة طويلة من التهجمات الأخرى، دون أية استثارة، عمومية وخاصة، على شخصي (لم أجب عليها قطّ) صُدِمت كيف مازلتَ تملك الشجاعة لكتابتي الرسالتين حيث تُصرّح بأنك واع من أنك مدان لي بكل شيء، وتُنكِر أنك هاجمتني اطلاقا حتى في تلك المراجعة. أنا الآن رجل عجوز ولكنني حارص على قول الأشياء التي أعتقد أنها مُهمّة (وإن كنتُ أدركُ جيدا أنك لن توافقني الرأي). بما أن وقتي محدود، لا أريد مواصلة هذه الرسالة».
هذا هو شيخ الليبرالية أسعد فيلسوف في العالم، كما حكى على نفسه، والذي لم يجرّب التعاسة إلاّ مرّة واحدة حينما قدّمت مثاله الأعلى، أعني مارغريت ثاتشر، استقالتها أيام حرب الخليج الأولى. كانت أتعس أيام حياته لأن الرجل تحمّس لتلك الحرب، وأراهن على أنه لو كان حيا أيام الحرب الأخيرة، ولو شاهد شنق الرئيس العراقي الذي جعل منه عدوّه الشخصي، لسعد أشدّ السعادة ولرأى بأمّ عينيه كيف أن نظريته السياسية في الحرب الدائمة لم تُستبعد قطّ، بل تم تبنّيها حرفيا من طرف واحة السلام، الغرب المتحضّر، وأخذت تعطي أكلها بوفرة.
محمد المزوغي. أستاذ الفلسفة بمعهد الدراسات العربية والإسلامية. روما ـ إيطاليا
الهوامش :
[1] انظرمثلا التهجمات التي وردت في كتاب برادو: أفلاطون، الديموقراطيون والديموقراطية، حيث يركز على الجانب النخبوي في بعض محاورات أفلاطون، ويبالغ في تصوير نظامه السياسي على أنه تسلطي استبدادي، ثم يخلص إلى النتيجة التالية وهي أن الفلسفة هي عدوّة الديمقراطية.
J-F. PRADEAU, Platon, les démocrates et la démocratie. Essai sur la réception contemporaine de la pensée politique platonicienne, Bibliopols, Napoli 2005. p. 17, suiv.
[2] K. POPPER, The Open Society and its Enemies, Routledge & Kegan Paul, trad., it. La società aperta e I suoi nemici, a cura di Dario Antiseri, Armando Editore, Roma 2003 (rit.), p. 245.
[3] K. POPPER, ibid. 74.
[4] Ibid, p. 75.
[5] Ivi.
[6] Ibid, p. 54.
[7] B. LAI, a cura di, Contro Popper, Armando Editore,1998, p. 72.
[8] آلان شالمرز، نظريات العلم، ترجمة الحسين سحبان وفؤاد الصفا، دار توبقال للنشر، المغرب 1991، ص، 54.
[9] K. POPPER, Unended quest, An Intellectual Autobiographie. The Library of Living Philosophers In., 1974 (trad., fr, La quête inachevée. Autobiographie intellectuelle, Calmann-Lévy, Paris 1981, p. 79-80).
« في تلك الفترة كنتُ أقرأ باستمرار نقد العقل لكانط. وبسرعة أدركتُ أن فكرته المركزية هي أن النظريات العلمية مصطنعة، ونحن هم الذين يحاولون فرضها على العالم: "عقلنا لا يستمدّ القوانين من الطبيعة، بل يفرض قوانينه على الطبيعة". بجَمع هذه مع أفكاري الشخصية، أخلصت نوعا ما إلى الفكرة التالية ألا وهي أن نظرياتنا، التي كانت في البداية أساطير بدائية، وأصبحت فيما بعد نظريات علمية، هي فعلا اصطناعية، مثلما قال كانط. فعلا، نحن نحاول فرضها على العالم ... أعتقد أن كانط محق حينما قال بأنه من المستحيل على المعرفة، أن تكون، نوعا ما، نسخة أو بصمة للواقع. إنه محق في اعتقاده بأن المعرفة هي مبدئيا انشائية أو سيكولوجية ... نظرياتنا هي من اختراعاتنا. لكنها يمكن أن تكون مجرد تحكمات غير معقلنة، اعتباطات جريئة، فرضيات. بواسطة هذه الفرضيات نحن نخلق عالَما: ليس بالعالم الواقعي، لكن شبكاتنا التي بها نحاول صيد العالم الحقيقي».
[10]K. POPPER, The Open Society and its Enemies, Routledge & Kegan Paul, trad., it. La società aperta e I suoi nemici, pp. 54-55.
[11] Riflessioni critiche su Popper, a cura di Daniele Chiffi e Fabio Minazzi, FrancoAngeli, Milano 2005, p. 7.
[12] أفلاطون، الدفاع عن سقراط، 23أ 5 ـ ب4.
[13] لا آخذ بعين الاعتبار اعتراضات سقراط ضد طبيعيات أنكساغور
[14] G. VLASTOS, Socratic Studies, edited by M. Burnyeat, Cambridge University Press, Cambridge 1994, trad., it., Studi socratici, traduzione di F. Filippi, Vita e pensiero, Milano 2003, p. 52.
[15] K. POPPER, Die Beiden Grundprobleme der Erkentnisstheorie, Mhor, Tübingen 1979, [trad. it, I due problemi fondamentali della teoria della conoscenza, EST, Milano 1997].
[16] Ibidem.
[17] A. NEGRI, Caduta e conoscenza. Interventi sul razionalismo critico, Pellicani Editore, Roma 1997, p. 20.
[18] آلان شالمرز، نظريات العلم، م. س، ص، 70.
[19] K. POPPER, The Logic of Scientific Discovery, trad, it, Logica della scoperta scientifica, a cura di Giulio Giorello e Mario Trinchero, Einaudi, Torino 1998, pp. 107-108.
[20] A. REY, « La théorie physique » de M. Duhem et les mathématiques, in « Revue de métaphysique et de morale » T. XII. – 1904, p. 717.
[21] Ibidem.
[22] « Ce sont en quelque sorte des cadres de grandeurs différentes qu’un peintre tient en réserve, pour les tableaux qu’il peindra ensuite ». ibidem.
[23] « Le chemin suivi dépend uniquement de la convention, et la convention, du choix du savent ». Ibid, p. 719.
[24] آلان شالمرز، نظريات العلم، م. س، ص، 70.
[25] انظر آلان شالمرز، م. س، ص، 73، حيث يقدّم شهادة تاريخية على استحالة التكذيب، وكيف يمكن أن تُصنع فرضيات مساعدة لتفاديه « ثمة واقعة تاريخية محرجة للقائلين بالتكذيب: لو أن العلماء انخرطوا انخراطا تاما في مبادئهم الميتودولوجية، لما أمكن أبدا للنظريات التي تُعدّ، بصورة عامة، أصدق الأمثلة على النظريات العلمية، أن تنمو وتكتمل، لأنها، حينئذ، سوف تُنبَذ منذ بدايتها الأولى. فبوسعنا أن نجد، بالنسبة لأيّ نظرية كلاسيكية، سواء في لحظة صياغتها أو في عصر لاحق، تقارير مستمدّة من الملاحظة، ويتمّ قبولها بوجه عامّ، يُحكَم بأنها متناقضة مع النظرية، إلاّ أن هذه النظريات، لم تُنبَذ، مع ذلك، ومن حسن حظ العلم أن الأمر كان كذلك. وهذه بعض الأمثلة على ذلك مستقاة من تاريخ العلم. لقد تمّ تكذيب نظرية الجاذبية النيوتنية في السنوات التي أعقبت صياغتها، بواسطة ملاحظات تتعلّق بمدار القمر. وبعد ذلك بخمسين عاما، انهارت تلك الملاحظات، قبل إلغاء هذا التكذيب نهائيا بعد ارجاعه إلى عوامل أخرى مغايرة للنظرية النيوتنية. وبعد ذلك تبيّن أن هذه النظرية غير متوافقة مع القيم العددية التي تمّ التوصّل إليها في حساب مسار الكوكب عطارد، ومع ذلك فإن العلماء لم يتخلّوا عنها بسبب ذلك، إلاّ أن هذا التكذيب لم يُتوصّل، أبدا، إلى تفسيره على نحو من شأنه أن يحفظ نظرية نيوتن».
[26] انظربهذا الصدد،
I. LAKATOS, The Methodology of Scientific Research Programmes. Philosophical Papers Volume I and II, Cambridge University Press, 1978, [trad., it. Metodologia dei programmi di ricerca scientifici, EST 2001, p. 105]
[27] I. LAKATOS, Metodologia dei programmi di ricerca scientifici, op. cit, p. 195.
[28] K. POPPER, The Open Society and its Enemies, Routledge & Kegan Paul, trad., it. La società aperta e I suoi nemici, p. 515.
[29] C. MONTELEONE, Filosofia e politica in Popper, Guida Editori – Napoli 1979, p. 85.
[30] K. POPPER, The World of Parmenides. Essay on the Presocratic Enlightenment, The Estate of Sir Karl Popper, 1998, trad. it, Il mondo di Parmenide. Alla scoperta della filosofia presocratica, Piemme, Casale Monferrato 1998, p. 22.
[31] Ibidem.
[32] Ibidem.
[33] Ibid, p. 26.
[34] Ibidem.
[35] K. POPPER, Alles Leben ist Problemlösen. Über Erkenntnis, Geschichte und Politik, Karl Popper Estate, UK 1994 (trad., it, Tutta le vita è risolvere problemi, a cura di Dario Antiseri, Edizione CDE, Milano 1996, p. 148.
[36] K. POPPER, Tutta le vita è risolvere problemi, ibid, p. 149.
[37] Ibid, p. 150.
[38] هذه السمات التشكيكية في نظرية العلم عند بوبر لم يتفطّن لها فقط كاتب هذه السطور، بل إن العديد من دارسي أعمال بوبر أخلصوا إلى هذه النتيجة. انظر مثلا:
A. O’HEAR, Karl Popper, Routledge & Kegan Paul - London, Boston and Henley, (trad., it., Karl Popper, a cura di S. Sacchitella e G. Boniolo, Borla, Roma 1984, p. 284)
[39] K. POPPER, Alles Leben ist Problemlösen. Über Erkenntnis, Geschichte und Politik, (trad., it, Tutta le vita è risolvere problemi), op. cit, p. 219.
[40] K. POPPER, Ibid, p. 220.
[41] كارل پوپر ، بحثا عن عالم أفضل، ترجمة د. أحمد مستجير، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر العربية 1999، ص، 151.
[42] كارل پوپر، بحثا عن عالم أفضل، ن. م، ص، ن. ص.
[43] الدارسة يُمنى الخولي، المختصة في فلسفة كارل پوپر، في كتابها "فلسفة العلم في القرن العشرين" وتحديدا في الفصل السادس، عددت الفضائل الفلسفية التي تميّز أعمال پوپر وكالت له شيئا من المديح مثل قولها: «أتت فلسفة بوبر قادرة على دفع فلسفة العلم إلى آفاق أبعد لأنها انطلقت من موقف الاستيعاب والاستشراف لآفاق ثورة العلم العظمى، ثورة الكوانتوم والنسبية، بعقل تحرّر تماما من رواسب المرحلة النيوتنية الحتمية. فاستطاع بوبر أن يُقدم صياغة دقيقة لمنطق الكشف العلمي في أعقد وأدق تفصيلاته، حققت استفادة بالغة من تقنيات المنطق الرياضي...وتتفق الأطراف المعنية على أن كارل بوبر فيلسوف المنهج العلمي الأول وبغير منازع على هذه الأولوية». ثم في موضع آخر تزيد في الاطراء مستخدمة لغة أدبية خطابية: « تترسّم فلسفة كارل بوبر كاتجاه قوي مترامي الأطراف، متعدد الجوانب متسق الأبعاد، شديد الولاء والإخلاص لمنطلقات وتوجهات فلسفة العلم، يوسم بالعقلانية النقدية، ويعدّ من أهم تيارات فلسفة القرن العشرين وأكثرها خصوبة وأعمقها تأثيرا...ولا غرو مادام بوبر عملاق المنهج العلمي، داعية المجتمع المفتوح، نصير الديمقراطية الليبرالية في أكثر صورها إنسانية، مهاجم الماركسية ذا البأس الشديد الذي سبق الأحداث بنفاذ بصيرة رائع، واستبصر ذاك المآل للأنظمة الشمولية المغلقة في أوروبا، العدو الشرس للفلسفة التحليلية والوضعية المنطقية بانكبابها على تحليل عبارات العلم لتنزع عن الفلسفة بهاءها السرمدي، وتحاول سحق الميتافيزيقا. كان بوبر مُجيدا ومَجيدا وهو يدافع عن الميتافيزيقا». أغرب من هذا هو قولها التالي: « والحق أن كل ما في سيرة الفيلسوف مدعاة للإجلال والإكبار. فهو ذو حس إنساني رفيع، شديد التعاطف مع مظاهر البؤس والحرمان والشقاء». لكن بعد هذا السيل من التمجيد والإطراء، أخيرا أقرّت بحقائق مرّة تناقض كل ما جاء في أقوالها السابقة، وأعطته صفاته الحقيقية كما هو في الواقع: استعماري شوفيني عنصري. قالت: « وفي هذا يعد بوبر نفسه آخر التنويرين العظام ولا مفرّ من الاعتراف بأنه بهذا المنظور كان أيضا آخر الاستعماريين. إنه شوفيني الإعجاب بالحضارة الغربية...والحضارات الأخرى في ناظريه بمنزلة أطفال نفكّر ألف مرّة قبل إعطائهم أي قدر من الحرية والاستقلال!». ثم في موضع آخر تستنكر على هذا العلامة الذي بالغت في مدحه وتكشف عجرفته قائلة: «إن بوبر ـ بصراحة ـ يتجاوز حدود اللياقة حين الحديث عن فيتجنشتين أو معه، فهو خصمه الفلسفي اللدود..». لقد راوحت الكاتبة بين الاعجاب والتبرير، ولكن حينما تكون أقوال بوبر صريحة وغير قابلة للإعجاب أو التبرير فإن الكاتبة لا تتوانى من التعجّب والتنديد، لكنها تعود، بعد بضع فقرات، إلى عرض آرائه كأن شيئا لم يكن. مرّة أخرى انصبّ استياؤها على شوفينية بوبر: « مرحلة التفكير الدوجماطيقي أي القطعي الجامد الجازم تتمثل في الحضارات البدائية "السابقة على حضارات الإغريق" بتعبير بوبر!! فهو يجهل تماما الميراث الشرقي العظيم وكل ما هو خارج حدوده الغربية التي صنعت العلم الحديث!! ... لو كان بوبر قد اطلع مثلا على شكوك قدماء المصريين في الآلهة ونقدهم للديانات والأفكار المطروحة، وعلى تقدّمهم العلمي لما قال هذا ولما جرؤ على ضمّ هذه الحضارات إلى المرحلة البدائية، ولما واصل طريقه ليعتبر الإغريق هم الذين بدأوا مرحلة التفكير العلمي النقدي». أنا أستغرب كيف يسقط هذا الفيلسوف العبقري، الذي وصفته الكاتبة بأنه مدعاة للإجلال والإكبار، في أحكام شوفينية واستعمارية وحتى عنصرية، وماذا تبقى من عبقريته أو انجازاته في الفلسفة؟ انظر، يُمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين. الأصول ـ الحصاد ـ الآفاق، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2000، صص، 329، 332، 333، 337، 342، 364.
[44] K. POPPER, Alles Leben ist Problemlösen. Über Erkenntnis, Geschichte und Politik, trad., it, Tutta le vita è risolvere problemi, op. cit, pp. 226-227.
[45] Ibid,p. 228.
[46] Ibid, p. 266.
[47] Ibid, p. 228.
[48] Ibid, 230.
[49] Ibid, p. 231.
[50] Ibid, p. 250.
[51] Ibid, p. 252.
[52] Ibid, p. 257.
[53] Ibidem.
[54] ن. م، ن. ص.
[55] K. POPPER, Alles Leben ist Problemlösen. Über Erkenntnis, Geschichte und Politik, trad., it, Tutta le vita è risolvere problemi, op. cit, p. 260.
[56] انظر بخصوص هذه النقطة، جورج بليخانوف، المادية والمثالية في الفلسفة، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة ـ بيروت 1982.
[57] كارل پوپر، بحثا عن عالم أفضل، ن. م، ص، 152.
[58] K. POPPER, Alles Leben ist Problemlösen. Über Erkenntnis, Geschichte und Politik, trad., it, Tutta le vita è risolvere problemi, op. cit, p. 263.
[59] Ibid, p. 264.
[60] Ibidem.
[61] Ibid, p. 265.
[62] كارل پوپر، بحثا عن عالم أفضل، ن. م، ص، 10.
[63] D. EDMONDS – J. EIDINOW, Witgensteins’ Poker, Deutsche Verlag, Stuttgart-München, 2001; trad., it. La lite di Cambridge, Garzanti, Milano 2005, p. 143.
[64] D. EDMONDS – J. EIDINOW, La lite di Cambridge, ibidem.
[65] Ibid, p. 145.
[66] W. W. BERTLEY, Un uomo difficile. Profilo di Karl Popper, in Filosofi del Novecento, a cura di Anna Maria Marietti, Einaudi, Torino 1988, p. 33.
[67] D. EDMONDS – J. EIDINOW, Witgensteins’ Poker, Deutsche Verlag, Stuttgart-München, 2001; trad., it. La lite di Cambridge , op. cit, p. 144.
[68] Ibid, p. 146.
[69] Ibid, p. 147.
[70] Id, pp. 147-148.