تصدير مقتضب : قرأت عبارة جدا مختصرة تنم عن عبقرية فيلسوف اللغة الامريكي وليفريد سيلارز 1912- 1989 قوله (الوجود لغة) وارجو ان لا يفهم منها انها تفكير مثالي يعني ما ليس له وجود ادراكي بالذهن لا وجود له بعالمنا الخارجي.. فالعقل في تجريدنا له من تعبيراته اللغوية الصورية عن موضوعاته يصبح عجينة بيولوجية وظائفية تزن كيلو غراما وربع تحتويها جمجمة الانسان تسمى الدماغ. الذي في حال نزعنا عنه خاصية التفكير وتعبير اللغة يصبح عندها اننا بذلك نحصر فاعلية العقل انه جوهر بيولوجي فيزيولوجي مهمته اشباع حاجات الجسد الفطرية الغريزية منها والبيولوجية التي تديم حياة الانسان في صمت تفكيري لغوي غير صوتي. طبعا لا يفهم من هذا أن الصمت ليس لغة أبجدية صورية.
الوجود في الكوجيتو
ورد في كتاب جان فال ( الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر) ترجمة فؤاد كامل مسالة تحقق الوجود في عبارة ديكارت "انا افكر اذن انا موجود" التي اشبعت تفسيرا وتقويلا ومترادفات وتحويرات على امتداد اربعة قرون من تاريخ الفلسفة.
كما اشرنا والعهدة على جان فال ان تحقيق الوجود ويقصد به وجود الانسان انطولوجيا كينونة قائمة مستقلة بذاتها من خلال تفسيره للكوجيتو الديكارتي انه جعل من التفكير (وسيلة وموضوع) معا وبذلك تنتفي المطالبة السفسطائية بماذا كان يفكر ديكارت. فقال لنقل – الكلام لجان فال – ان ديكارت كان يفكر بالتفكيركموضوع. يعني التفكير بالتفكير. وبهذا التخريج السفسطائي قضى جان فال على مصطلح الوعي القصدي لبرينتانو الذي اعتمدته فينامينالوجيا هوسرل وكذلك الفلسفة الوجودية.
حسب جان فال فقد جعل من الذات وعيا تفكيريا تجريديا ففي الوقت الذي تحقق الانا ذاتيتها تفكيريا تجريديا فانها تحقق بذلك الوجود الانطولوجي للجسد كاملا حينما تجعل التفكير موضوعا منفصلا عن ماهية الذات او الانا. من جهة اخرى فتحقيق الذات لوجودها الانطولوجي لا يحصل بالتفكيرالمجرد بليتم بالمغايرة الموجودية مع الآخر ضمن مجتمع.
من التلاعب العبثي ان تكون الانا منقسمة على نفسها في خاصية التفكير الى انا ذاتا منفصلة عن موضوعها مفكّرة به بغية تحقيق وجودها الانطولوجي، والى موضوع منفصل عن الانا المدركة هو خاصية التفكير ايضا. بدليل توفر إعتراض وجيه هو بديهة فلسفية تقول الانا هو موضوعها والموضوع هو الانا التي تدركه.
طبعا هذا يختلف عن درجات الانا حسب تصنيف فرويد الانا ذاتا واعيا والانا العليا والانا الهو.
حسب ماكنت ذكرته في احدى مقالاتي أن ديكارت لم يكن مخطئا في الكوجيتو من حيث طبيعة العقل البيولوجية وخاصيته التفكير، العقل لا يفكر بغياب موضوعه من جهة. كما ولا يفكر بما لامعنى له من جهة اخرى فهو محال تعجيزي للعقل يدركه تفكيرا تجريديا. مثل باقي تفكيرات العقل بمدركاته من اشياء وموجودات وموضوعات مادية او خيالية على السواء. اعتقد اني بهذه التخريجة كنت اكثر واقعية منطقية فلسفية من تخريجة مقولة جان فال التفكير بالتفكير يتحقق الوجود الفردي التي تدخلنا بمتاهات من طرق مسدودة للبرهان على ما لا حاجة تستوجب صرف جهودا سفسطائية لا نهاية لها من اجله.
رب تساؤل يوجه لي اذن على ماذا انت تعترض اذا كان كوجيتو ديكارت صحيحا من حيث الصياغة اللغوية الفلسفية وحمولته التفسيرية منطق المعنى؟ الاعتراض المشروع هو على التفسير والتاويل والحمولة التي لم يعد يستطيعها حمار ديكارت السير بها في عبارته الثقيلة التي اصبحت منذ القرن السابع عشر زاد من لازاد له في رحلته الفلسفية الشاقة عبئا لا تخلص منه الفلسفة.
حسب رأيي المثبت في احدى مقالاتي ديكارت لم يكن جاهلا بمضمون عبارته في الكوجيتو لكنه كان متغافلا عما يتوقع ما سوف تثيره من تاويلات متناقضة موزعة بين القدح والمدح وهو ماحصل. في اسقاطنا تهمة بماذا كان يفكر ديكارت لاثبات وجوده الانطولوجي نكون الغينا أهم ثيمة فلسفية تداوالها تاريخ الفلسفة منذ بداية القرن العشرين هي " الوعي القصدي" الذي كان اخترعه برينتانو الفيلسوف السويسري في تضاده مع كانط.
الوعي القصدي استعاره هوسرل وفلاسفة الظاهراتية (الفينامينالوجيا) مثل سارتر وهيدجر وميرلوبونتي وجيل ديلوز وغيرهم في ادانتهم المزدوجة لكل من كانط وديكارت. معتبرين تفكير العقل بلا موضوع محدد هو إخلال بوظيفة العقل الادراكية وهو منطق فلسفي سليم. ومقولة ديكارت كانت ناقصة لا معنى لها في انعدام موضوع تفكير ديكارت بماذا كان يفكر لتحقيق كينونته الانطولوجية.
سورين كيركجورد الفيلسوف الدنماركي الذي توفي في الثلاثينيات من عمره تداخل مع عبارة ديكارت قائلا " انا افكر فاذن انا غير موجود" هنا تناقض صياغة عبارة كيركجورد الذي تنسب له بذرة الوجودية الحديثة لا يمكن انزلاقه بهذا التعبير العبثي في تغليبه التفكير على نفي الوجود الذي هو خطأ من زاوية الوجود سابق على التفكير او عدم التفكير بشيء ولو ان عدم تفكير العقل بشيء يكون تعجيزا له وتعطيل فاعلية العقل البشري الذي يكون شغّالا حتى اثناء النوم.
التساؤل المنطقي المشروع كيف يمكننا التوفيق بين التفكير ناتجه اثبات الوجود الانطولوجي لدى ديكارت. وبين التفكير الذي يلغي تحقق الوجود كما ذهب له سورين كيركجورد.؟
لا فرق بينهما في اثباتهما الوجود فهما في كلا التعبيرين كان يرومان تاكيد الوجود (النوع) – لا يصح القول تاكيد الوجود الانطولوجي كما هي في عبارة ديكارت ولاغبار عليها لكن غياب الوجود الانطولوجي لدى كيركجورد لم يكن يهمّه التفكير يلغي الوجود الانطولوجي وهو مخترع الوجودية بالفلسفة في ثيمته الوجود يسبق الفكر وهو اول فيلسوف تمرّد على ديالكتيك هيجل - .
اعود لتوضيح اكثر فكلاهما ديكارت وكيركجورد انطلقا من التسليم التفكير هدف قصدي ووسيلة معرفية معا. التاكيد الوجودي الانطولوجي عند ديكارت جاء نتيجة لتفكير تجريدي في حضور موضوع تفكيره المعلن او الخفي. بمعنى علائقي ارتباطي مع مقولة ديكارت يعطي لعبارة جان فال ارجحية صادقة حتى لو افترضنا ديكارت كان يفكر بموضوعه غير المعلن هو التفكير نفسه كما ذكر جان فال. ديكارت واضح ان تحقيق وجوده انطولوجيا يأتي نتيجة تعالق التفكير مع العقل وليس تعالق التفكير مع انطولوجيا الوجود كما يرغبه كيركجورد.
توضيح الحال مع سورين كيركجورد فنفي الوجود (الانطولوجي) لوجوده هو من اعتباره موضوع التفكير يلغي الوجود المادي كينونة مستقلة ويحققه تفكيرا صوفيا مؤكدا روحانية الوجود الارضي اذا جاز التعبير اثناء القيام بالتجربة الصوفية التي تصب كامل موجوديتها من عقل وجسد ومشاعر روحية نفسية في التفكير بالذات الالهية والانجذاب النوراني لها. التفكير الصوفي هو الغاء الوجود الانطولوجي.
هذا التحليل الذي ذهبنا له يتأتى من الخلفية الدينية الصوفية لسورين كيركجورد فهو اول من اطلق تجنّب عدم الايمان بالعقل وسيلة ادراك الخالق وان الايمان القلبي الغيبي يقي المؤمن الديني الانزلاق في براثن تيه الميتافيزيقا. واختصر كيركجورد ذلك بقوله الانسان يحتاج الى قفزة ايمانية نوعية في المطلق الروحي. وقد جيّرت الماركسية هذه المقولة في تطور حركة التاريخ في المسار الخطّي له الذي تتخلله قطوعات تحتاج معالجتها الى نوع من القفزات النوعية التي ترجع مسار التاريخ لوضعه الطبيعي.
سورين كيركجورد ونفي انطولوجيا الوجود الفردي
عود على بدء فان سورين كيركجورد قصد ان مجرد التفكير تجريدا يلغي انطولوجيا الوجود وإن لم يفصح عنها هي صحيحة. حسب تفسيري هنا كيركجورد ينطلق من مسلمة بديهية في منطق الفلسفة ان التفكير الذي لا يلازمه موضوعه غير موجود وتعّطل خاصية العقل التفكيرية. كما هو يذهب اعتباره موضوع التفكير يلغي الوجود المادي للفرد الذي يعي موضوعه. بمعنى الوجود تحققه فاعلية التفكير حتى لو جاء التفكير بموضوع التفكير نفسه حسب ما ذهب له جان فال. لكني ارجح ان تغييب الوجود الانطولوجي لدى سورين كيركجورد هو نتيجة التفكير إيمانا دينيا (صوفيا) ترانسدتاليا متعاليا على موضوعة التفكير ذاتها.
كما اشرت له سابقا كيركجورد تحكمه الخلفية الايمانية الدينية بأن تحقق اليقين من الوجود الالهي يكون الاستدلال له بالقفزة النوعية في المطلق الايماني. القفزة التي يمليها القلب وليس العقل. بناءا عليه كيركجورد يميز بين الوجود المادي للانسان كينونة انطولوجية باختلاف عن تاكيد وجود ثاني لا مادي الذي هو الوجود الصوفي المفكر روحيا الذي هو يفّكر ابعد من موضوع التفكير القائم على الانا المفكرة في موضوع كما يمارس عامة الناس.
وهذا هو غير الوجود الانطولوجي المادي للانسان المبني على تجريد اللغة التصوريّة لموضوعها. أجد من غير التوفيق المنطقي الفلسفي قولي أن الوجود المفكر هو وجود إعتباري معنوي روحاني غير واقعي كما يحتمله تعبير كيركجورد انا افكر فاذن انا غير موجود..
الوعي القصدي دوره في تحقق الوجود
يذهب هوسرل مع تلامذته فلاسفة الظواهر ان الوعي القصدي يحمل هدفه المسبق بالذهن قبل وصوله لمدركاته. ويؤكدون ليس هناك وعي قصدي لا يحمل الهدف من وعيه لموضوعه الذي يختزنه مسبقا بالذهن قبل وصول الوعي معرفة مدركاته وليس ادراكها فقط الذي هو خاصية الحواس وليس خاصية الوعي (المعرفة).
الادراك خاصية الحواس والوعي تجريد عقلي معرفي. الفرق بين الادراك والوعي هو الادراك خاصية حسية وخيالية معا. ما تنقله الحواس من مؤثرات موجودات العالم الخارجي هو ما يسميه ديفيد هيوم الانطباعات الاولية الزائلة اي التي لا يختزنها الذهن بل ينقلها عبر منظومة الاعصاب الى الدماغ للنظر والبت بها. بينما الوعي هو وسيلة العقل في معالجة المدركات المنقولة له.
الوعي القصدي لا يحدد هدفه المعرفي مسبقا بالذهن كما يذهب له اصحاب الفينامينالوجيا. صحيح جدا ان الوعي القصدي يحمل مقولات العقل تجاه مواضيعه ومدركاته ليس لادراكها بل لمعرفتها واخذ المعاني الدفينة منها. وليس شرطا أن الوعي الذي خاصيته معرفة الشيء وليس ادراكه فقط كما تفعل الحواس يستطيع بلوغ ماهية الشيء او جوهره.
ولو نسّلم خطأ أن وظيفة الوعي هو إضفاء حمولته على مدركاته أي على مواضيعه وقتها لا يبقى معنا معنى حقيقي ولا حاجة للوعي أن يكون وسيلة العقل معرفة الاشياء بعلاقة معرفية تخارجية. الوعي لا يدخل بعلاقة جدلية مع موضوعه تحتاج التضاد والنفي واستحداث الظاهرة الجديدة. بل الوعي يدخل بعلاقة تخارجية تكاملية معرفية مع موضوعه.(أخذ وعطاء).
الوعي لاتجمعه علاقة تضاد جدلي ديالكتيكي مع موضوعاته بل يحتاج الوعي علاقة تخارجية معرفية مع الاشياء بما يرغبه العقل معرفته في مقولاته عن موضوع إدراكه. اشرت بسرعة سابقا ان وعي العقل هو التفكير بالاشياء المادية، وايضا التفكير في التفكير المجرد بالموضوعات الخيالية التي تبدعها المخيلة. كما والوعي هو الناقل للاستشعارات التي ترسلها موجودات العالم الداخلي الذي هو حاجة الجسم لاشباع حاجاته الضرورية لبقائه حيا سواء اكانت غريزية مثل الاكل والعطش والالم والحزن والفرح والجماع الجنسي بمعنى اشباع حاجات الجسد البيولوجية مثل سلامة عمل اجهزة الجسم الباطنية داخله.
التفكير بالتفكير
حين إعتبر جان فال الانا هي موجود تفكيري قائم بذاته. واعتبر التفكير بالتفكير هي فاعلية الانا في اثباتها لوجودها الانطولوجي. ويضيف " لكن ماهو الوجود الذي يعنيه بعبارة (انا موجود) انه كائن مفكر، وحتى هذه اللحظة لا نعرف وجودا سواه. ولهذا كان ديكارت ابا المثالية الحديثة يبدا من الفكر وينتهي الى الفكر كما يقول هاملان" 1ص10 المصدر المشار له بداية المقال.
لنا الملاحظات التالية :
- مثالية ديكارت لا خلاف عليها ومحاولة توظيف الفكر لاثبات الوجود الجسدي هو ايغال خاطيء بالتجريد الفلسفي المثالي. الفكر لا يخلق الموجودات ولا المواضيع في وجودها المادي او الخيالي.
- التفكير يخلق التفكير في مجانسة نوعية تجريدية هو الانفصال التام عن التداخل مع الواقع. المتواليات التفكيرية التي يكون موضوعها التفكير لا تخرج ولا يترتب عليها نتيجة اثبات لوجود مادي.
- التفكير يصنع المادة بالفكر صوريا لكنه يعجز عن خلقها في العالم الخارجي باستقلالية موجودية. التفكير يصنع موضوعات الخيال لكنه لا يلزم منه أي من التفكير بجعلها موضوعات يمكنها التعايش في عالم الموجودات.
- الاجناس الادبية من شعر وقصة ورواية وفنون تشكيلية تقوم على ملكة التفكير الخيالي لكنها تعجز ان تجعل تلك الموضوعات التي ابتدعتها المخيّلة ان تكون جزءا من موجودات الحياة.
- التفكير هو سمة عقلية لغوية تجريدية. والتفكير هو وسيلة العقل الادراكية وليس هدفا ولا موضوعا مستقلا بذاته. التفكير مطلق مفهومي وليس مصطلحا نسبيا محصورا في فهم موضوعا بعينه فقط. لذا يكون مطلق التفكير لا ينبجس ولا يتخلق عنه تحديد وجود مادي جسدي كاملا يدعى الانسان كينونة موجودية. كما ان التفكيير الذي يكون موضوعه التفكير من نوعه عاجز عن تاكيد حضور الانا سوى على الصعيد الفردي.
- التفكير وسيلة اثبات وجود انطولوجي فردي لا تربطه علاقة تواصل مع منهج الشك عند ديكارت. الشك المنهجي هو نسف اليقينيات القبلية من التحكم والهيمنة على التفكير العقلي الخاطيء المضلل في تعبير اللغة ومتراكم الخبرة خارج منهجية الشك الديكارتي.
للمقال صلة
علي محمد اليوسف