دروب لا تفضي إلى أي مكان" (Holzwege) كتاب فلسفي من تأليف مارتن هيدجر. يتعلق الأمر بمجموعة من الدراسات، وهي: "كلام أناكسيمندر"، "تصوراتنا للعالم"، "أصول العمل الفني"، "هيجل وتصوره للتجربة"، "لماذا الشعراء؟" و"عبارة نيتشه".
ورغم أن هذه الدراسات تبدو متفرقة من خلال عناوينها، إلا أنها تشترك في كون "هيدجر يضع فيها خلاصات فكره، ويحدد علاقة كل مفهوم أو تصور مما يبحث، بالعنصرين الأساسيين اللذين شغلا همومه وفكره على الدوام: "الكينونة والزمن."1
بعد "الكينونة والزمن" (1927) و"كانط ومشكلة الميتافيزيقا" (1929)، لم ينشر هيدجر، لأسباب لا تتحمل الفلسفة بأي حال مسؤوليتها، أي كتاب. اكتفى فيلسوف الكينونة خلال هذه المرحلة بكتابة عدد من البورتريهات القصيرة وبإلقاء المحاضرات في جامعة فرايبورغ. إلا أنه تمكن من كسر حاجز الصمت في سنة 1947 بنشر كتاب حول النزعة الإنسانية، وفي سنة 1950 بنشر هذه الكتاب الذي جمع فيه ستة نصوص كتبت بين 1934 و1946 تتعمق في مجال الفكر غير المستكشف.
طلبا للاختصار، سوف نكتفي بالحديث عن أحد هذه النصوص، وهي "كلام أناكسيمندر".
كلام أناكسيماندر" عبارة عن تعليق مكون من 60 صفحة كتبه مارتن هايدجر حوالي عام 1946، ويركز فيه على شذرة قصيرة واحدة منسوبة إلى مفكر من اليونان القديمة، يُقال إنه من فلاسفة ما قبل سقراط، وهو أناكسيماندر الملطي (610 ق. م - 546 ق. م).
هذه الشذرة التي تعود إلى ما قبل سقراط، والتي سقطت في غياهب النسيان في العصور القديمة، كان من الممكن أن يعيد أرسطو اكتشافها، إذا أردنا أن نصدق سيمبليسيوس. نصها غامض، لكنه يمثل، بالنسبة لهيدجر، كما يشير فرانسوا فيدييه، بداية التقليد الفلسفي الغربي.
كرّس هايدجر العديد من الأعمال لأناكسيمندر. لا تخفى علينا تلك المحاضرة التي ألقاها عام 1941 والتي تشتمل على جزء مهم بعنوان "القول الأولي في خطاب أناكسيمندر" الذي تم نشره وترجمته إلى الفرنسية في كتاب "المفاهيم الأساسية" لباسكال ديفيد عام 1991.
يعكس الاهتمام المستمر لهيدجر بهذه الشذرة القديمة حقيقة أنه اعتبرها النص الأول الذي أصبح فيه الفكر اليوناني واعيا بذاته، وأنه على هذا النحو يمكن اعتباره مظهرا لـ "بداية التقليد الفلسفي" كما مر بنا.
في التعليق المنشور في "دروب لا تفضي إلى أي مكان"، سعى هايدجر أولاً إلى تمييز الطريقة التي تكون بها هذه البداية هي الأولى حقا. ليس هذا النص هو الأول من نوعه بمعنى التعداد البسيط ولكنه كذلك من حيث الأهمية. يستحضر فرانسوا فيدييه "البداية" التي هي أيضا "رحيل"؛ رحيل سيتحكم في مصير أولئك الذين اكتسبوا هذا الميراث يشكل مشترك.
يقسم جوليان بيرون، في مقال منشور بمجلة كليسيس الفلسفية، تعليق هيدجر إلى ثلاث لحظات رئيسية: "في اللحظة الأولى يعيد هيدجر بناء الأفق المنهجي الذي سيتم من خلاله تفسير شذرة أناكسيمندر، مع المضي قدما في تحديد النص. وفي اللحظة الثانية يحاول توضيح معنى المصطلح اليوناني «أون» الوارد في فقرة لهوميروس، وذلك لتوضيح ما سيتم تناوله في الشذرة. أما في اللحظة الثالثة، فيقدم تفسيراً لما قيل في الشذرة، وذلك بترجمة الجملة الثانية ثم الأولى.
ماهي المقاربة الهيدجرية في التعامل مع هذه الشذرة؟ بالنسبة إلى هيدجر، كان الأمر يتعلق بغزو، ضد كل الرؤى الاختزالية التي تدعي أنها تدرك، انطلاقا من اهتماماتنا الحديثة، عالما آخر تماما، وهو البعد الذي يستوعب "اهتمامات" مفكري اليونان القديمة.
في نظر هيدجر، لن نكون قادرين على الدخول حقا في علاقة مع اليونانيين إلا إذا تمكنا من تحرير أنفسنا من طريقة التفكير الاسترجاعية التي تميل إلى تفسير ما كان في ضوء إطار فكري لم يتشكل إلا بعد ذلك، كما تكتب فرانسواز داستور .
يتخذ هايدجر عمل نيتشه أساسا للمناقشة، باعتباره تفسيرا صالحا لجميع الآخرين، بما في ذلك تفسير أرسطو . ووفقا لفيلسوف الديزاين، فإن التفسيرات المتعددة تتشابه في الأساس مع بعضها البعض. يصف الجميع أناكسيمندر بأنه فيلسوف طبيعي .
تقول مارلين زرادر : "وفقا لهذه الافتراضات،
تتحدث الشذرة عن أشياء من الطبيعة وتنظر إلى الكون والفساد، الولادة والانحطاط، باعتبارهما السمة الأساسية لجميع العمليات الفيزيائية. وهكذا تقترح بدايات نظرية في الطبيعة، من الواضح أنها ما قبل علمية، لأنها متشابكة مع تمثلات أخلاقية وقانونية: ارتباك حيث يتعين علينا أن نرى عمل فكر لم يتم تنقيته بعد، وبالتالي عفا عليه الزمن".
ويلاحظ جوليان بيرون في مقالته: "إن الفهم المتداول لهذه الشذرة يرى فيها تعبيرا لا يزال غير سليم عن البحث في الطبيعة، وهو تعبير "شعري" ومجسم في كثير من النواحي، بقدر ما يصف العمليات الطبيعية باستخدام المفاهيم المتعلقة بالشؤون الإنسانية والمجال الأخلاقي والقانوني".
تلاحظ فرانسواز داستور، من جانبها، أن نيتشه يعزو إلى أناكسيمندر ميزة وصف هذا الأصل للأشياء بأنه "تحرر مذنب تجاه الكائن الأبدي، "اضطهاد" يجب دفعه بالموت"، مخفضا هذا الفكر بشكل نهائي إلى المستوى الأخلاقي والقانوني.
من جانبها، تفسر مارلين زارادر فكر هايدغر، وتتحدث عن هذا الشذرة من "الكلام الأساسي".
من خلال هذا الأخير، يجب علينا، وفقا لها، أن نفهم "الكلمات منذ البداية التي تفتح جميع مجالات التساؤل التي ستعترف بها الفلسفة على أنها ملك لها؛ تقول "الوجود"، "الحقيقة"، "القدر"، "اللغة"، "الزمن".
كتب فرانسوا فيدييه قائلا: “هذا النص (بقلم أناكسيمندر) هو الأول الذي يمكن فيه بحق اعتبار الفكر اليوناني قد جاء إلى الوجود لذاته (أصبح شفافا لذاته). وعلى هذا النحو، فهو ليس أقل من بداية التقليد الفلسفي .
يستمع هيدجر إلى هذه الكلمة الأولية، ليس من باب الفضول التاريخي، ولكن للتعرف على التجربة التي تظل محمية (محفوظة) هناك.
باعتبارها كلمات البداية، فهي لا تنتمي فقط إلى أولئك الذين نطقوا بها، "إنها في النهاية، وبشكل أكثر جوهرية، كلمات الوجود كأصل".
إن السعي إلى العودة إلى المعنى «الأصلي» سيشكل، عند هيدجر، أحد تجليات «التحول» في فكره. بينما في "الكينونة والزمن"، يتمتع الدازاين بالتفوق في عملية انفتاح الكينونة. بعد التحول، نشهد انقلابا كليا منه يتلقى الإنسان تفويض الوجود، لا سيما في "مساهمات في الفلسفة: في الانتقام".
منذ ذلك الحين، فإن الوجود هو نفسه الذي يجعل فهمه ممكنا أو غير ممكن، اعتمادا على الطريقة التي يعطي بها نفسه. عندها ستشهد “كينونة” الإنسان على الطريقة الصحيحة التي يقف بها، إلى حد ما، داخل “الفسحة”.
يشير فرانسوا فيدييه إلى أن العنوان الألماني (Der Spruch) له معنى مهيب يجب ألا يضيع أثناء ترجمته وأن هذا المعنى ضروري "لنص اعتبره هيدجر بحق أول نص أمكن فيه للفكر اليوناني بحق أن يبدأ تفقيسه”.
سواء كانت ملاحظاته فقهية أو علمية، فإن عمل هيدجر يؤدي إلى قلب الترجمات والتفسيرات الحالية، والتي لم تكن لتضع في ذهنها مسبقا ما يمكن أن يكون موضع تساؤل في ذهن اليوناني القديم.
بالنسبة إلى جوليان بيرون، "الرهان الهيدجري هو أنه في هذه اللحظة المحورية من تاريخ العالم، يمكن أن يحدث أو يتم إطلاق شيء مثل الوضع التاريخي الجديد"، لأنه إذا لم نتمكن من إثارة وضع جديد، فربما يمكننا أن نستيقظ على "احتمال" أن تكون هذه الكلمة القديمة المنسية محفوظة.
__________________
1) إبراهيم العريس: دروب لا تفضي إلى أي مكان لهايدغر: أصول فلسفية https://www.aljaml.com/%C2
2) "كلام أناكسيمندر": https://fr.m.wikipedia.org/wiki/La_Parole_d%27Anaximandre